خطوات في التربية - (45) قواعد في طلب العلم (3)
يقول ابن القيم رحمه الله: فإن من استعد للقاء الله انقطع قلبه عن الدنيا وما فيها ومطالبها، وخمدت من نفسه نيران الشهوات، وأخبت قلبه إلى الله، وعكفت همته على الله وعلى محبته وإيثار مرضاته..
ومن أحسن ما تعرف هنا أن للناس فيما عَلِموا أحوالًا ثلاثة:
الحال الأول: من يخالف عملُه علمه.. وهذا كاليهود، وهو وصف المغضوب عليهم، وكذا كل من خالف عملُه علمه فله من وصف المغضوب عليهم بحسب ما قام به من المخالفة.. بخلاف من افتقد للعلم أصلًا فهو سبيل الضالين، قال سفيان الثوري: "من فسد من علمائنا ففيه شبه من اليهود، ومن فسد من عُبّادنا ففيه شبه من النصارى".
الحال الثاني: من يوافق أحيانًا ويخالف أحيانًا أخرى، فهو يحمل العلم لكن ضعفه في إرادته، فمعه من الهدى ما يبصر به لكن يفتقد للصبر والقيام بالحق بحسب ما ضعف.. وكثيرٌ هم هؤلاء.
ومثل هذا يُخشى عليه؛ فإن بقي العلم فهو حجة عليه، وأيضًا فهو مهدد بنسيان العلم وضياعه فيعود بعد حين منكرًا لما كان به عارفًا وجاهلًا بما كان به عالمًا، قال تعالى: {وَنَسُوا حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} [المائدة من الآية:13]، قال ابن مسعود: "إني لأحسب الرجل ينسى العلم بالذنب يصيبه"، ثم تلا تلك الآية الكريمة.
الحال الثالث: هو حال الراسخين في العلم، وهو غاية طالب العلم وهو أن يصبح العلم له معنى راسخًا، يعمل على وفقه بدون تكلف فيصبح العلم له كالطبع الجبلّي والميول الغريزية، كأنه خُلق على هذا الحال، فيعمل على وفق علمه بيسر ودون مشقة حتى تصعب عليه مخالفة العلم، فيصير العلم له طبعًا وسجية كأنه من الأخلاق الجبلية الطبيعية كالطعام والشراب والوقاع، فيتصرف بالعلم تلقائيًا بلا تكلف حتى يصير وصفًا ثابتًا ولازمًا له.
وعلى هذا قال بعض العلماء: "إني لا أُحسن أن أعصي الله" يعني لا يستطيع فعل هذا حتى لو أراد، فقد ضبط نفسه وإراداته وشهواته تبعًا لما جاء به علم رسول الله صلى الله عليه وسلم..
وهنا كلام حسن جدًا للإمام ابن القيم رحمه الله حيث يقول: "وفي كتاب الزهد للإمام أحمد أن المسيح عليه السلام قال للحواريين: "إنكم لن تلجوا ملكوت السموات حتى تولدوا مرتين"، وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول هي ولادة الأرواح والقلوب من الأبدان وخروجها من عالم الطبيعة كما ولدت الأبدان من البدن وخرجت منه، والولادة الأخرى هي الولادة المعروفة. والله أعلم" (مدارج السالكين؛ ج: [3]، ص: [140]).
ويقول رحمه الله: "فإن من استعد للقاء الله انقطع قلبه عن الدنيا وما فيها ومطالبها، وخمدت من نفسه نيران الشهوات، وأخبت قلبه إلى الله، وعكفت همته على الله وعلى محبته وإيثار مرضاته، واستحدثت همة أخرى وعلومًا أُخر، وولد ولادة أخرى تكون نسبة قلبه فيها إلى الدار الآخرة كنسبة جسمه إلى هذه الدار بعد أن كان في بطن أمه؛ فيولد قلبه ولادة حقيقية كما ولد جسمه حقيقة، وكما كان بطن أمه حجابًا لجسمه عن هذه الدار فهكذا نفسه وهواه حجاب لقلبه عن الدار الآخرة، فخروج قلبه عن نفسه بارزًا إلى الدار الآخرة كخروج جسمه عن بطن أمه بارزًا إلى هذه الدار، وهذا معنى ما يذكر عن المسيح أنه قال: يا بني إسرائيل إنكم لن تلجوا ملكوت السماء حتى تولدوا مرتين.
ولما كان أكثر الناس لم يولدوا هذه الولادة الثانية، ولا تصوروها فضلًا عن أن يصدقوا بها؛ فيقول القائل كيف يولد الرجل الكبير أو كيف يولد القلب؟ لم يكن لهم إليها همة ولا عزيمة؛ إذ كيف يعزم على الشيء من لا يعرفه ولا يصدقه، ولكن إذا كشف حجاب الغفلة عن القلب صدق بذلك وعلم أنه لم يولد قلبه بعد" (طريق الهجرتين؛ ج: [1]، ص: [276]).
ويقول رحمه الله عن القلب الذي يحاول الاستقامة وهو ما بين دواعي أمر ربه ودواعي طبعه المخالف، ويطلق عليه أنه في "برزخ" ينتظر حياة جديدة تشرق عليه: "فهو في البرزخ كالحامل المقرب ينتظر ولادة الروح والقلب صباحا ومساء، فإن من لم تولد روحه وقلبه ويخرج من مشيمة نفسه ويتخلص من ظلمات طبعه وهواه وإرادته، فهو كالجنين في بطن أمه الذي لم ير الدنيا وما فيها، فهكذا هذا الذي بعد في مشيمة النفس والظلمات الثلاث، ظلمة النفس وظلمة الطبع وظلمة الهوى، فلا بد من الولادة مرتين، كما قال المسيح للحواريين إنكم لن تلجوا ملكوت السماء حتى تولدوا مرتين".
يتبع إن شاء الله تعالى..
- التصنيف: