ليته كان حيوانًا
للأسف فقد أبى بعض بني آدم هذا التكريم، وقرر أن يتخلى عن هذا التكريم، فانسلخ من آدميته، وانغمس في البهيمية، بشكل من الأشكال أو وصف من الأوصاف. في المقابل ارتقى بعض بني الحيوان إلى الآدمية الكريمة، في صورة من الصور، أو شكل من أشكال الكرامة، حتى صرنا نتمنى لو أنَّ بعض البشر كان حيوانًا مثل هذا!
ليته كان.. حيوانًا
بسم الله والحمد لله الذي خلقنا بشرا وفضَّلنا على كثير ممن خلق تفضيلا: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا}[الإسراء:70]. كلنا -بإذن الله- ينال هذا التكريم إلا مَن أبى!
وللأسف فقد أبى بعض بني آدم هذا التكريم، وقرر أن يتخلى عن هذا التكريم، فانسلخ من آدميته، وانغمس في البهيمية، بشكل من الأشكال أو وصف من الأوصاف.
في المقابل ارتقى بعض بني الحيوان إلى الآدمية الكريمة، في صورة من الصور، أو شكل من أشكال الكرامة، حتى صرنا نتمنى لو أنَّ بعض البشر كان حيوانًا مثل هذا!
ليته كان هدهدًا، كم نتمنى أن يكون كثيرٌ من البشر حيوانًا كالهدهد، الذي يغار على التوحيد، ويكفر بالشرك ويحاربه، ويخاطر بحياته من أجل الدعوة إلى الله تعالى، فقد عرَّض نفسه للعذاب الشديد أو الذبح على يد سيدنا سليمان عليه السلام: {وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ، لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} [النمل:20-21]، فكان عذره ما تقدَّم به قائلا في يقين: {فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ، إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ، وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ، أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ، اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [النمل:22-26].
بينما كنتُ سائرًا في أحد شوارع مدينتنا، وإذْ بغلام في حدود العاشرة من عُمُره، يسب الله تعالى سبًّا قفَّ منه شعري واقشعر منه جلدي، فلم أتمالك نفسي فجريت وراءه فدخل بيته مُسرعًا صارخًا، فخرج إلىَّ أبٌ مطموس النور، معدودٌ في مليار المسلمين، فقال: لِمَ ضرَبتَ الولد؟!، فقلتُ: ما ضربتُه، ولو أمسكت به لفعلت، فقال: وما الذي فعله؟ فقلت: لقد سب الله عز وجل، فقال: وما دخلك في ابني يسبُّ ربِّي؟؟!! بينما حيوان الهدهد يغار على التوحيد، فأيهما الكريم، وأيهما الحيوان المُهان؟ وأيهما: {أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ}[الأنعام:179]؟ فكم هي أنعام: "خلِّيه يْدَبَّر راسوا" "مادَخْلك" "ما يهمكش"!!
ليت بعض البشر كانوا قردةً في غيرتهم على نسائهم وبناتهم، فها هي مظاهر قلة الغيرة تنتشر في ديار المسلمين، بينما القِردة تغار على إناثها، وتقيم حدَّ الزنا، فقد روى البخاري في صحيحه عن عمرو بن ميمون، قال: «رأيت في الجاهلية قِرْدَةً اجتمع عليها قِرَدَةٌ، قد زنت، فرجموها، فرجمتها معهم» »(البخاري، صحيح البخاري، رقم:[ 3849])، قال ابن حجر في فتح الباري: "وقد ساق الإسماعيلي هذه القصة من وجه آخر مطولة من طريق عيسى بن حطان عن عمرو بن ميمون قال: " «كنت في اليمن في غنم لأهلي وأنا على شرف فجاء قرد مع قِرْدَةٍ فتوسد يدها، فجاء قرد أصغر منه؛ فغمزها، فَسَلَّتْ يدها من تحت رأس القرد الأول سَلًّا رقيقًا وتبعته فوقع عليها، وأنا أنظر، ثم رجعت فجعلت تُدْخِل يدها تحت خَدِّ الأول برفق؛ فاستيقظ فَزِعًا فَشَمَّها فصاح؛ فاجتمعت القرود، فجعل يصيح ويومئ إليها بيده، فذهب القرود يمنة ويسرة فجاءوا بذلك القرد أعرفه، فحفروا لهما حفرة فرجموهما، فلقد رأيت الرجم في غير بني آدم» "(ابن حجر، فتح الباري، 7/ 160].
فليت بعض الناس- بله بعض المسلمين- قردة تغار، وليت بعض حُكَّامِنا قردة يقيمون فينا حدود الله!
ليت بعض البشر كانوا حيوانات في تعظيم الحرمات وتحريم المحارم، ففي الوقت الذي تكاثرت وقائع السوء في الوقوع على المحارم وتوليد الأصول والفروع- والعياذ بالله- في أبناء المسلمين، فضلا عن تحليل نكاح إلمحارم في بعض قوانين الكفر.. ففي هذه اللحظات البهيمية التي يهبط إليها الإنسان، ترتقي بعض الحيوانات إلى لحظات آدمية خَلوقة، ففي قصص الحيوان أن الحصان لا يأتي أمَّه، وإذا ضَلَّلهُ (البشر) فنزا على أمِّه فاكتشف ذلك فإنه يموت كمدًا أو ينتحر، وفي بعض القصص أن أحد مُلَّاك الخيول العربية الأصيلة حاول الاستفادة من حصان يملكه وهو من سلالة عربيه أصيله في إنجاب من صلب هذا الحصان بأن يقوم الحصان بتلقيح والدته إلا أنه كان يرفض ثم (اهتدى) هذا المالكُ إلى طريقة يجعل الحصان يلقح والدته بوضع قناع على وجه الحصان وتم له ما أراد ولكنه بمجرد أن خلع القناع عن وجه الحصان ورأى الحصان والدته وقع ميتا مما جعل صاحبه يندم ندما شديدا على فعلته التي خسر من خلالها أيضا حصانه الأصيل، وقصة ذلك الحصان الذي قيل إنه جامع أمه دون أن يدري وعندما اكتشف هذه الحقيقة صعد إلى مكان عال وألقى بنفسه حيث دق عنقه فمات؟
ليت بعض بني جلدتنا أبعرة، ففي قصص الإبل أن الجمل يستتر مع أنثاه، فإذا اكتشف أن بشرًا ينظر إليه فإنه ينتقم منه، بينما بعض البشر يأتي فاحشته على قوارع الطريق وشواطئ البحار.. بل على شاشات الفضائيات ليشاهدها مَن في أقاصي الدنيا، وتبقى أيضًا مذخورة يشاهدها من لم يولَد بعد!! ليته كان بعيرًا يحتشم!
ليت بعضهم كانوا قططا، فقد عهدنا القطط العربية حين تفعلها تحفر ثم تدفن فضلاتها، وكأنها تميط الأذى عن الطريق، أو تعطي الطريق حقه، أو كأنها تستحي! في حين نرى بشرا كثيرا، وبعضهم مسلمون يفعلونها ولا يستحون ولا يدفنون، فترى بعضهم يدخل مرحاضا عموميّا أو حتى مسجديًّا، ثم لا يردم همَّه بأقل مما تفعله القطط جهدا، بإهراق دلوِ ماءٍ لا حفر الأرض ولا إهالة التراب! فليته يدفنها حِسبة حتى لا يُرمى المسلمون لأجله بالعفن والوسخ، بل ليته ردمها حتى لا يجلب لنفسه لعنة الناس، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «اتَّقوا الملاعنَ الثَّلاثَ قيل : ماالملاعنُ الثَّلاثُ يا رسولَ اللهِ ؟ قال : أن يقعُدَ أحدُكُم في ظِلٍّ يُسْتَظَلُّ بهِ ، أو في طَريقٍ ، أو في نَقعِ ماءٍ»، فهاهم يكشفون عوراتهم ولا يتقطَّطون، فليتهم كانوا قططا.
ليته كان سَلوقيًّا، فإن السلوقي كلب الصيد... ذلك الكلب المُعلَّم، نفع فيه التعليمُ وصان العلمَ فصانه وزانه، وحفظ للعلم مكانه، فحجزه علمه عن خيانة الأمانة وأكل الحرام.. فليت حتى بعض ( المنتسب للعلم أو المتشبه بأهله) يحجزه علمه عن أن يأكل به حراما، أو يستخدمه في صرف الوجوه إليه، أو يستأمنه الناس لعلمه فيخونهم بعلمه، منسلخا منه: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَٰكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ ۚ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ۚ ذَّٰلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا ۚ فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ(177) مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي ۖ وَمَن يُضْلِلْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (178)}[الأعراف].. فليت بعض أشباه العلماء كانوا سِلاقًا..
ليت بعض البشر كانوا غِربانا، {فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ ۚ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَٰذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي ۖ فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31)} [المائدة]، نعم هم يشمئزون من الغراب لونا، لكنه كان مُعلما للقاتل الأول كيف يواري سوءة أخيه... فهاهم أشباه البشر يقتلون بعضهم البعض، ويفجرونهم بالبراميل، أو ينشرونه بالمناشير، ويقتلون البشرية معهم.. حين غربت من قلوبهم الإنسانية واسودَّت أحلكَ من غُراب، ثم يتركونها أشلاء تتخلل ركامها.. فمتى تنزل الغربان لتبحث في الأرض لتريهم كيف يوارون أنفسهم في التراب، أو تبحث في ضمائرهم لعلها تنشر منها بقية من إنسانية.. الله يرحم الإنسانية..
هذا والقائمة تطول، نكتفي منها بما بهذا القدر ..والحمد لله وأستغفر الله ولا حول ولا قوة إلا بالله..
كل ذلك وفي الأمة بقية خير لا يخلو منهم زمان ولا مكان، حاى لا نقول " هلك الناس"، اللهم كثرهموبارك فيهم.
أول نشر 05/ 08/ 2015م الموافق لـ 30 شوال 1436هـ
أبو محمد بن عبد الله
باحث وكاتب شرعي ماجستير في الدراسات الإسلامية من كلية الإمام الأوزاعي/ بيروت يحضر الدكتوراه بها كذلك. أستاذ مدرس، ويتابع قضايا الأمة، ويعمل على تنوير المسيرة وتصحيح المفاهيم، على منهج وسطي غير متطرف ولا متميع.
- التصنيف:
- المصدر:
Na Dir
منذ