عمل القلب - الفريضة الغائبة - [21] الارتباط بين الظاهر والباطن

منذ 2015-11-11

إن الظاهر لابد له من باطن يحققه ويصدقه ويوافقه، فمن قام بظاهر الدين من غير تصديق بالباطن فهو منافق، ومن ادعى باطنًا يخالف ظاهرًا فهو كافر منافق، بل باطن الدين يحقق ظاهره، ويصدقه ويوافقه وظاهره يوافق باطنه، ويصدقه ويحققه، كما أن الإنسان لا بد له من روح وبدن، وهما متفقان فلا بد لدين الإنسان من ظاهر وباطن يتفقان، فالباطن للباطن من الإنسان، والظاهر للظاهر منه، والقرآن مملوء من ذكر أحكام الباطن والظاهر، والباطن أصل الظاهر.

تقدم في المطالب السابقة ما يبين عظم قدر الأعمال القلبية وأنها أصل لأعمال الجوارح، ولا يعني هذا التهوين من أعمال الجوارح الظاهرة؛ إذ إن هناك ارتباطًا قويًا بين الظاهر والباطن.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "وهذه الأمور الباطنة والظاهرة بينهما ارتباط ومناسبة؛ فإن ما يقوم بالقلب من الشعور والحال يوجب أمورًا ظاهرة، وما يقوم بالظاهر من سائر الأعمال يوجب للقلب شعورًا وأحوالاً" (اقتضاء الصراط المستقيم).

ويقول: "إن الظاهر لا بد له من باطن يحققه ويصدقه ويوافقه، فمن قام بظاهر الدين من غير تصديق بالباطن فهو منافق، ومن ادعى باطنًا يخالف ظاهرًا فهو كافر منافق، بل باطن الدين يحقق ظاهره، ويصدقه ويوافقه وظاهره يوافق باطنه، ويصدقه ويحققه، كما أن الإنسان لا بد له من روح وبدن، وهما متفقان فلا بد لدين الإنسان من ظاهر وباطن يتفقان، فالباطن للباطن من الإنسان، والظاهر للظاهر منه، والقرآن مملوء من ذكر أحكام الباطن والظاهر، والباطن أصل الظاهر" (مجموع الفتاوى).

ويقول ابن القيم: "والله تعالى أمر عباده أن يقوموا بشرائع الإسلام على ظواهرهم، وحقائق الإيمان على بواطنهم، ولا يقبل واحدًا منهما إلا بصاحبه وقرينه"، وفي المسند مرفوعًا: «الإسلام علانية، والإيمان في القلب» (أخرجه أحمد وصحح إسناده أحمد شاكر في تحقيق الطحاوية وضعفه الألباني في تخريج الأيمان لابن تيمية).

فكل إسلام ظاهر لا ينفذ صاحبه منه إلى حقيقة الإيمان الباطنة، فليس بنافع حتى يكون معه شيء من الإيمان الباطن، وكل حقيقة باطنة، لا يقوم صاحبها بشرائع الإسلام الظاهرة، لا تنفع لو كانت ما كانت، ويبين شيخ الإسلام التأثير المتبادل بين أعمال القلوب وأعمال الجوارح فيقول: "إذا قام بالقلب التصديق به والمحبة له، لزم ضرورة، أن يتحرك البدن بموجب ذلك من الأقوال والأعمال الظاهرة".

فما يظهر على البدن من الأقوال والأعمال هو موجب ما في القلب ولازمه ودليله ومعلوله، كما أن ما يقوم بالبدن من الأقوال والأعمال له أيضًا تأثير فيما في القلب، فكل منهما يؤثر في الآخر، لكن القلب هو الأصل، والبدن فرع له، والفرع يستمد من أصله، والأصل يثبت ويقوى بفرعه.

وما قرره شيخ الإسلام في النقول السابقة من أن القلب هو الأصل بينه في موضع آخر مفصلاً، فذكر أن "كل ما أوجبه الله على العباد لا بد أن يجب على القلب؛ فإنه الأصل وإن وجب على غيره تبعًا، فالعبد المأمور المنهي إنما يعلم بالأمر والنهي قلبه، وإنما يقصد بالطاعة والامتثال القلب، والعلم بالمأمور والامتثال يكون قبل وجود الفعل المأمور به كالصلاة والزكاة والصيام، وإذا كان القلب قد أعرض عن معرفة الأمر وقصد الامتثال كان أول المعصية منه بل كان هو العاصي وغيره تبع له في ذلك، ولهذا قال في حق الشقي {فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى . وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [القيامة:31:32]، وقال في حق السعداء: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا} [الكهف:107]، في غير موضع والمأمور نوعان:

(1) نوع هو عمل ظاهر على الجوارح، وهذا لا يكون إلا بعلم القلب وإرادته؛ فالقلب هو الأصل فيه، كالوضوء والأغسال وكأفعال الصلاة، من القيام والركوع والسجود، وأفعال الحج : من الوقوف والطواف، وإن كانت أقوالا، فالقلب أخص بها، فلا بد أن يعلم القلب وجود ما يقول، أو بما يقول ويقصده، ولهذا كانت الأقوال في الشرع لا تعتبر إلا من عاقل يعلم ما يقول ويقصده.

(2) ما يكون باطنًا في القلب: كالإخلاص وحب الله ورسوله، والتوكل عليه، والخوف منه، وكنفس الإيمان القلب وتصديقه بما أخبر به الرسول، فهذا النوع تعلقه بالقلب ظاهر؛ فإنه محله، وهذا النوع هو أصل النوع الأول، وهو أبلغ في الخير والشر من الأول" (دقائق التفسير الجامع لتفسير ابن تيمية) .

ومن خلال النقول السابقة يتبين أنه من حيث اللزوم، فإن الإيمان الباطن يستلزم العمل الصالح الظاهر، ولا عكس كما هو شأن المنافقين، وأما من حيث التأثير فإن كلاً من الظاهر والباطن يؤثر أحدهما في الآخر.

ومن أدلة كون الباطن يؤثر في الظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: «ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب» (صحيح مسلم[1599])، ومن عظم خطر المعاصي القلبية آثارها السيئة على الأعمال الظاهرة، فكم من مكثر من العمل الصالح الظاهر، حرم خير عمله بدسيسة في قلبه.

ومن شواهد ذلك أن الرياء سبب في حبوط العمل وعدم قبوله، وفي الحديث القدسي: «أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري، تركته وشركه» (صحيح مسلم[2985])، والكبر -لو كان قليلاً- مانع من دخول الجنة، فمن أتى بسبب دخول الجنة وهو العمل الصالح فليحذر المانع، يقول صلى الله عليه وسلم: «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر» (صحيح مسلم[91])، والمن بالقلب واللسان مبطل الصدقات قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ} [البقرة:264].

وأما كون الأعمال الظاهرة تؤثر في الباطن، فمن أدلته قوله سبحانه: {وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ * فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [المائدة:12-13].

وقوله صلى الله عليه وسلم: «لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه» (السلسلة الصحيحة[2841])، وقوله صلى الله عليه وسلم: «لتسوون صفوفكم، أو ليخالفن الله بين وجوهكم» (صحيح مسلم[436])، وقوله صلى الله عليه وسلم: «من ترك ثلاث جمع تهاونًا، طبع الله على قلبه» (صحيح الجامع[6143]).

وقد ورد أن رجلاً شكى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قسوة القلب، قال له: «إن أردت أن يلين قلبك، فأطعم المسكين، وامسح رأس اليتيم» (السلسلة الصحيحة[854])، وبهذا يتبين أنه لا غنى للمسلم عن أعمال القلب وأعمال الجوارح، فبيان عظم قدر أعمال القلوب لا يعني التقليل من أهمية أعمال الجوارح.

والناس في هذا بين إفراط وتفريط، وقد أورد ابن القيم قول بعض السلف: "ما أمر الله تعالى بأمر إلا وللشيطان فيه نزغتان: إما إلى تفريط أو تقصير، وإما غلو أو مجاوزة، ولا يبالي بأيهما ظفر"، ثم ذكر أمثلة على ذلك من واقع الناس، ومنها قوله: "وقصر بقوم أهملوا أعمال القلوب، ولم يلتفتوا إليها، وعدوها  فضلاً، أو فضولاً، وتجاوز بآخرين حتى قصروا نظرهم وعملهم عليها، ولم يتلفتوا إلى كثير من أعمال الجوارح، وقالوا: العارف لا يسقط وارده لورده" (إغاثة اللهفان).

خالد أبو شادي

طبيبٌ صيدليّ ، و صاحبُ صوتٍ شجيٍّ نديّ. و هو صاحب كُتيّباتٍ دعويّةٍ مُتميّزة

  • 7
  • 1
  • 44,911
المقال السابق
[20] عرض الفتن على القلوب
المقال التالي
[22] حكم تعلم علم القلب

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً