أعمال القلوب - [02] التوكل

منذ 2015-11-17

التوكل مقام جليل عظيم الأثر، بل ومن أعظم واجبات الإيمان وأفضل الأعمال والعبادات المقربة إلى الرحمن، وأعلى مقامات توحيد الله سبحانه وتعالى، فإن الأمور كلها لا تحصل إلا بالتوكل على الله والاستعانة به، ومنزلة التوكل قبل منزلة الإنابة لأنه يتوكل في حصول مراده فهي وسيلة والإنابة غاية، وهو من أجل المراتب وأفضلها وأعمها قدرًا.

التوكل مقام جليل عظيم الأثر، بل ومن أعظم واجبات الإيمان وأفضل الأعمال والعبادات المقربة إلى الرحمن، وأعلى مقامات توحيد الله سبحانه وتعالى، فإن الأمور كلها لا تحصل إلا بالتوكل على الله والاستعانة به، ومنزلة التوكل قبل منزلة الإنابة لأنه يتوكل في حصول مراده فهي وسيلة والإنابة غاية، وهو من أجل المراتب وأفضلها وأعمها قدرًا.

قال ابن القيم رحمه الله: "التوكل نصف الدين والنصف الثاني الإنابة، فإن الدين استعانة وعبادة، فالتوكل هو الاستعانة والإنابة هي العبادة". والتوكل متعلق بكل أمور العبد الدينية التي لا تتم الواجبات والمستحبات إلا بها. ومنزلته أجمع وأوسع المنازل، ولا تزال معمورة بالنازلين لسعة متعلق التوكل وكثرة حوائج العالمين!

التوكل يتعلق بكل شيء؛ واجبات ومستحبات ومباحات، ولقد كثرت حوائج الناس ولا بد لهم من التوكل على الله في قضائها. فمنزلة التوكل تشتد الحاجة إليها، وعباد الله تعالى حقًا إذا نابهم أمر من الأمور فروا إلى الله منيبين إليه ومتوكلين عليه، وبذلك يسهل الله الصعاب وييسر الله العسير ويحقق العبد ما يريد وهو مطمئن البال هاديء النفس راضٍ بما قضاه الله عز وجل وقدره.

قال ابن القيم رحمه الله: "ولو توكل العبد على الله حق توكله في إزالة جبل من مكانه وكان مأمورًا بإزالته لأزاله". فالمسلم لا يرى التوكل على الله في جميع أعماله واجبًا فقط، بل يراه فريضة دينية ليس متعلقًا فقط بالأمور الدينية بل بالأمور الدنيوية، وليس بالأمور الدنيوية وطلب الرزق فقط، بل بعبادة الله سبحانه وتعالى فهو عقيدة {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنكُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [المائدة:23]، ولهذا كان التوكل على الله نصف الدين، بل هو الواجب لأنه أصل من أصول الإيمان.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "فإن التوكل من على الله واجب من أعظم الواجبات، كما أن الإخلاص لله واجب، وقد أمر الله بالتوكل في غير آية أعظم مما أمر بالوضوء وغسل الجنابة، ونهى عن التوكل على غيره سبحانه". قال ابن القيم رحمه الله: "والتوكل جامع لمقام التفويض والاستعانة والرضا لا يتصور وجودٌ بدونها".

وقال الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب: "الأصل الجامع الذي تتفرع عنه الأفعال والعبادات هو التوكل على الله وصدق الالتجاء إليه والاعتماد بالقلب عليه، وهو خلاصة التفريد ونهاية تحقيق التوحيد الذي يثمر كل مقام شريف من المحبة والخوف والرجاء والرضا به ربًا وإلهًا والرضا بقضائه، بل ربما أوصل التوكل بالعبد إلى التلذذ بالبلاء وعدّه من النعماء، كما في حديث السبعين ألفًا الذين يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب، فسبحان من يتفضل على من يشاء بما شاء والله ذو الفضل العظيم".

فالتوكل هو أحد مباني التوحيد الإلهية كما يدل على ذلك قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]. وأيضاً يدل عليه قوله تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ ۚ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [هود:123]. وقوله تعالى: {فَإِن تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۖ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ ۖ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [التوبة:129].

وهذا التوكل لا يقوم به على وجه الكمال إلا خواص المؤمنين كما في صفة السبعين ألفًا، فالذي يحقق التوكل ليس كل الناس بل هم طائفة قليلة من الناس ذكرهم النبي صلى الله عليه وسلم : «ويدخلُ الجنةَ مِن هؤلاء سبعون ألفًا بغيرِ حسابٍ. ثم دخلَ ولم يُبَيِّنْ لهم، فأفاضَ القومُ، وقالوا: نحنُ الذين آمنَّا باللهِ واتبعْنا رسولَه، فنحن هم، أو أولادُنا الذين وُلِدوا في الإسلامِ، فإنا وُلِدْنا في الجاهليَّةِ. فبَلَغَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم فخرجَ، فقال: هم الذين لا يَسْتَرْقون، ولا يَتَطَيَّرون، ولا يَكْتَوون، وعلى ربهم يَتَوكلون. فقال عُكَّاشَةُ بنُ مِحْصَنٍ: أَمنهم أنا يا رسولَ اللهِ؟ قال: نعم. فقام آخرُ، فقال: أمنهم أنا؟ قال: سبقَك بها عُكَّاشَةُ» [صحيح البخاري:[5705]).

وكان من الصحابة المتوكلين عمران بن حصين وهو من سادات المتوكلين رضي الله عنه، الذي كان به بواسير وكان يصبر على ألمها فكانت الملائكة تسلم عليه فاكتوى فانقطع تسليم الملائكة عليه ثم ترك الكي وصبر على الألم فعاد سلام الملائكة عليه.

كما جاء في حديث مسلم عن مفرّق قال لي عمران بن حصين «أُحدِّثك حديثًا عسى اللهُ أن ينفعك به: إنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ جمع بين حجةٍ وعمرةٍ. ثم لم ينه عنه حتى مات. ولم ينزل فيه قرآنٌ يُحرِّمُه. وقدكان يُسلِّمُ عليَّ حتى اكتويتُ. فتركتُ. ثم تركتُ الكيَّ فعاد» [صحيح مسلم:[1226])، أي السلام عليه من قِبَل الملائكة.

فالتوكل على الله صفة علية من صفات عباد الرحمن وشعار يتميزون به عمن سواهم وعلامة بارزة لأهل الإيمان كما قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال:2]،لا يرجون سواه ولا يقصدون إلا إياه ولا يلوذون إلا بجنابه ولا يطلبون الحوائج إلا منه ولا يرغبون إلا إليه ويعلمون أنه ماشاء كان وما لم يشأ لم يكن وأنه المتصرف بالملك لا شريك له ولا معقب لحكمه وهو سريع الحساب كما قال ابن كثير رحمه الله، وقال سعيد بن جبير: التوكل على الله جماع الإيمان.

وقال عزوجل عن أوليائه إبراهيم والذين آمنوا معه: {رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [الممتحنة:4]. أي توكلنا عليك في جميع أمورنا وسلمناها إليك وفوضناها إليك. ولقوة إيمانهم وتوكلهم أمر الله أن نتخذهم أسوة حسنة {إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ} [الممتحنة:4]، هكذا توكلوا على الله وسلموا لله الأمور تسليمًا مطلقًا. صحبوا التوكل في جميع أمورهم مع بذل جهد في رضا الرحمن.

وأصحاب نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في غزوة أحد، {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:173]، ولذلك قال ابن عباس رضي الله عنه: "حسبنا الله ونعم الوكيل، قالها إبراهيم حين ألقي في النار، وقالها النبي محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانًا". فالتوكل هو عدة المؤمنين يوم يتوعدهم الناس ويخوفونهم بكثرة الأعداء. فكان أول شيء وآخر شيء قاله إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار حسبنا الله ونعم الوكيل.

هو القريب المجيب المستغاث به *** قل حسبي الله معبودي ومُتّكلي

من الآيات الدالة على فضل التوكل قوله تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ۚ قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ ۚ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ ۖ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} [الزمر:28]. فإذا كان المؤمنون دائمًا متوكلون على الله ملتجئون إليه بقولهم حسبنا الله ونعم الوكيل، فأولى بأنبيائه أن يكونا أكمل توحيدًا أو توكلًا من غيرهم. وقد أمر الله بالتوكل وحث على ذلك في مواضع كثيرة كما في قوله تعالى {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران:122]، في سبعة مواضع في القرآن الكريم:

1- { فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ} [النمل:79].

2- { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود:123].

3- {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ} [الفرقان:58].

4- {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران:159]. فالتوكل سبب لنيل محبة الله وهي الصفة التي تميز بها المؤمنون عن غيره ولذلك أوجب الله التوكل.

5- وإذا قيل ما حكم التوكل؟ فيقال واجب مثل أصل محبة الله والصبر والإنابة، بل إن التوكل شرط الإيمان. والمفهوم من الآية {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [المائدة:23]، أنه إذا انتفى التوكل انتفى الإيمان.

6- أمر الله بالتوكل وقرنه بالإيمان ليدل بذلك على أنهما جزءان، إذ التوكل على الوكيل هو الإيمان، فأمر بالتوكل قولاً وعملاً بعد الإخبار عن محبته للمتوكل عليه {قُلْ هُوَ الرَّحْمَٰنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا ۖ فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} [الملك:29]. واشترط للإيمان التوكل {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [المائدة:23]، وهذه جاءت في قصة موسى عليه السلام {يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ} [يونس:84]. إذ لابد من هذا لهذا. قال الشيخ سليمان بن عبدالله بن محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: "معنى الآية أن موسى عليه السلام أمر قومه بدخول الأرض المقدسة التي كتبها الله لهم ولا يرتدوا على أدبارهم؛ خوفًا من الجبارين بل يمضوا قدمًا لا يخافونهم ولا يهابونهم، متوكلين على الله في هزيمتهم مصدقين بصحة وعده لهم إن كانوا مؤمنين.

7- وصار المتوكل على الله من عباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونًا، ونعتهم الله بالمقام الجليل العظيم. وضمن الله لمن توكل عليه القيام بأمره وكفايته أي أن يكفيه همه وأن ينصره ويحفظه، فالله ناصر دينه وكتابه والله كافٍ عبده بأمان، قال تعالى: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا . وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ۚ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ ۚ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق:2-3]. يقول ابن كثير رحمه الله: "ومن يتق الله فيما أمره به وترك ما نهاه عنه، يجعل له من أمره مخرجًا ويرزقه من حيث لا يحتسب أي من جهة لا تخطر بباله. وفي هذه الآية فضل التوكل، وأنه من أعظم الأسباب في جلب المنافع ودفع المضار، فقد قال صلى الله عليه وسلم: «لَو أنكُم توكَّلْتُم علَى اللهِ حقَّ تَوَكُّلِهِ لَرَزَقَكُم كما يَرْزُقُ الطَّيْرَ تغدُو خِمَاصًا وتَروحُ بِطَانًا» (مسند أحمد[1/181]). فأفئدة الطير مليئة بالتوكل على الله، ولو أننا توكلنا على الله كما يتوكل الطير لرزقنا مثل ما يرزق الطير، وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم المتوكل على الله بوصفين:

أ‌- السعي في طلب الرزق.

ب‌- الاعتماد على مسبب الأسباب.

وهذا الحديث مهم في فهم قضية التوكل وفي الأخذ بالأسباب، لأن الطير تغدو أي تذهب في الصباح وتبحث عن الرزق وتخرج من أعشاشها وهذا عمل وسعي وجهد وهو الطيران وترجع محملة بالطعام لنفسها ولأفراخها، إذاً فالسعي في طلب الرزق هو الاعتماد القوي على مسبب الأسباب المباحة، وقد قال تعالى: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:49]، والعزيز هو الارتباط ما بين نهاية الآية والتوكل، والعزيز الذي لا يذل من استجار به ولا يضيع من لاذ بجنابه، حكيم يدبر من توكل عليه بحكمته تدبيرًا حسنًا. قال ابن كثير رحمه الله: "ومن يتوكل على الله أي يعتمد على جنابه فإن الله عزيز حكيم، والتوكل مركب السائر الذي لا يتأتى السير إلا به ومتى نزل عنه انقطع فورًا وتوقف عن السير وهذا ما لاحظه ابن القيم رحمه الله وهذا يبين منزلة التوكل وفضل التوكل".

ومما يدل على فضله وعلو منزلته أن الله أمر به في أكمل الأحوال والعبدات والمقامات:

1- مقام العبادة {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود:123]، فأمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين والخلق بالعبادة والتوكل. وقال تعالى: {وَاتَّبِعْ مَا يُوحَىٰ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا . وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ وَكِيلًا} [الأحزاب:2:3]، توكل على الله في جميع أحوالك وأمورك، فهذا التوجيه لرسول الله صلى الله عليه وسلم ليتوكل على الله ويتقيه ويعبده ويتبع ما يوحى إليه من ربه فهو أمر له ولأمته من بعده إلى يوم القيامة.

2- في مقام الدعوة، فجاء الخطاب لرسول الله والأصل هو خطاب لأمته إلا إذا دل الدليل على تخصيص له فقال تعالى: {فَإِن تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۖ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ ۖ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [التوبة:129]. فهو الذي تنتهي إليه القوة والملك والعظمة والجاه، وهو حسب من لاذ به ويكفي من استجار به ويدفع عنه الشر عز وجل ويحميه، ونوح عليه السلام أيضًا في مجال الدعوة: {يَا قَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُم مَّقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ} [يونس:71]. فهذه الدعوة من نوح عليه السلام والإنذار الطويل والتذكير المستمر الذي رافقه وقابله من قومه تكذيب وإعراض بعدما بلغ الضيق منه، توكل على الله وفوض الأمر إليه وهو ماضٍ في الدعوة. إذاً الداعية إلى الله إذا جُوبه بالإعراض من المدعوين والصدود والرد وعدم الاستجابة فإنه يتوكل على الله والله يكفيه شر هؤلاء المعرضين. ويوسع صدره الذي ضيقوه بإعراضهم.

3- في مقام الحكم والقضاء، قال تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ۚ ذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [الشورى:10]، فالرسول صلى الله عليه وسلم أمره كله إلى الله، أناب إلى ربه وتوكل عليه وفوض أمره لله، كيف يتحاكم الناس لغير الله إذا اختلفوا بشيء من الأمر، وهذا النبي الذي أرسله يُترَك ولا يتحاكم إليه وهو أولى أن يتحاكم إليه ليقول قول الفصل فيما اختلفوا فيه وكيف يتوجهون في أمر من الأمور إلى جهات أخرى، والنبي موجود يقضي، فما دام القاضي والحاكم على الحق المبين فلا يبالي بما يعوقه وبمن يرد حكمه وبمن يرفض التحاكم إلى الشريعة التي يقتضي بها فإذا الحاكم والقاضي عليه التوكل على الله.

4- في مقام الجهاد وقتال الأعداء، قال تعالى: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ . إِذْ هَمَّت طَّائِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا ۗ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران:122-123]، فمع أنه يعد العدة ويجهز الجيش ويعيّن الأماكن ويرتب الجيش، أي يأخذ بالأسباب ومع ذلك أمر بالتوكل لأن النصر بيد {الله إِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران:160]، فكأنه يقول لهم إن كنتم في حال ضعف فالنصر بيد الله فتوكلوا {عليه يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [المائدة:11].

ولوكنتم في حال الكثرة والقوة أيضًا فيجب عليكم أن تتوكلوا فإنكم إذا ماتوكلتم على الله فلن تنفعكم الكثرة {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ ۙ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا} [التوبة:25]، ولو كانوا في معركة وأرخى لهم العدو جناح الذل وريش الوداعة وظن المؤمنون أن المعركة قد انتهت فلابد أن يبقى الارتباط والتوكل على الله ولو قال العدو نريد السلم وخنعوا {وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنفال:61].

التوكل لا ينقطع مع أن المعركة انتهت والحرب وضعت أوزارها وخنع الأعداء للسلم و ذلوا واستسلموا، وفي الحديبية كان الرسول صلى الله عليه وسلم قادرًا على مواصلة الجهاد والقتال بل كان مستعدًا لاقتحام مكة وقال بايعوني على الموت، ولكن جنح للسلم لما جنحوا لها لعل أن تكون فرصة الدعوة مواتية، لذلك فقد دخل في الإسلام بعد الحديبية أضعاف أضعاف ما كان قبله وفي سنوات أقل، إذاً لو طلبوا السلم والحرب الآن توقفت فتوكل على الله، وإن أرادوا خداعكم فإن الله حسبك ولابد من استمرار التوكل على الله حتى في حال الغلبة والانتصار على العدو، وفي قصة موسى قال تعالى: {قَالُوا يَا مُوسَىٰ إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىٰ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ . قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ ۚ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [المائدة:22-23].

5- في مقام المشورة، قال تعالى:  {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران:159]، فأخذ المشورة من باب الأخذ بالأسباب، فآراء الناس أسباب تعين على الاهتداء إلى الصواب وأخذ القرار الصحيح، ولكن لا ينفك المؤمن في هذه الحالة حتى لو عندهم كبار المستشارين عن التوكل على الله. ولذلك بعض هؤلاء يغترون ويظنون أن وجود آراء المستشارين يغني عن التوكل وأنه عنده الخبراء الكبار وعنده المستشارون العظماء ونقول يمكن أن يضل هؤلاء كلهم ويأمرون بقرارات خاطئة، وقد يشيرون لأمر صائب ويخطئون في تنفيذه، إذاُ لابد من التوكل على الله حتى مع أخذ الآراء.

6- في مقام طلب الرزق، قال تعالى: {فَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الشورى:36]، وقال: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا . وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ۚ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ ۚ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق:2:3].

7-  في مقام العهود والمواثيق، وقد أخبر الله عن يعقوب عليه السلام في قصة يوسف وأخوته: {قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّىٰ تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِّنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَن يُحَاطَ بِكُمْ ۖ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَىٰ مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} [يوسف:66]، والموثق هو العهود والأيمان المغلظة، {وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ ۖ وَمَا أُغْنِي عَنكُم مِّنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ ۖ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ۖ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ ۖ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} [يوسف:67].

8- في مقام الهجرة في سبيل الله، وهو عظيم وأليم على النفس أن يترك الإنسان مأواه وداره وأمواله ويتغرب ويضحي بعشيرته وبذكريات حبيبته ولكن يهوّن عليه التوكل على الله، قال تعالى: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً ۖ وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ ۚ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [النحل:41]. ومن الذي يهون الهجرة والفرقة هو التوكل على الله. مهاجرة الحبشة الذين اشتد عليهم الأذى هاجروا هجرتين مشهورتين، والنبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه أيضًا هاجروا وفي طريق الهجرة حصل ابتلاء وخوف {إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ۖ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا} [التاوبة:40].

9- في مقام إبرام عقود البيع والإجارة والزواج، موسى عليه السلام لما اتفق مع الرجل الصالح، على أن يزوجه ابنته على أن يأجره ثماني حجج أجير وراعي غنم وإذا أتم عشراً فهذا حسن وليس بواجب {فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِندِكَ ۖ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ ۚ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ* قَالَ هَٰذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ ۚ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا} [الكهف:77-78]، وقد قضى موسى العشر وأتمها، والأليق بالنبي هو الأكمل.

تعريف التوكل

في اللغة: هو الاعتماد والتفويض وتوكيل الأمر إلى الشخص، أي تفويضه به والاعتماد عليه فيه، ووكل فلان فلانًا إذا استكفاه واعتمد عليه وفوض الأمر إليه ووثق به، والتوكل إظهار العجز والاعتماد على الغير، وأصله من الوكول ويقال وكلت أمري إلى فلان أي اعتمدت عليه.

وقد ورد لفظ التوكل بالإفراد والجمع والماضي والمضارع والأمر في القرآن في اثنان وأربعون موضعًا، كلها جاءت بمعنى الاتكال والاعتماد على الله وتفويض الأمر إليه فالاسم التكلان، وورد في حديث الترمذي وفيه ضعف «وهذا الجهد وعليك التكلان» (سنن الترمذي[3419]).وفي حديث عثمان «اللهمَّ! صبرًا. أو اللهُ المستعانُ» (صحيح مسلم[2403])، وأيضًا من الأسماء الوكالة ووكيل الرجل الذي يقوم بأمر فهو موكول إليه الأمر.

قال ابن القيم رحمه الله: "والوكالة يراد بها أمران، أولاً التوكيل وهو الاستعانة والتفويض، والثاني التوكل وهو التصرف بطريق الإنابة عن الموكل وهذا عن الجانبين، فإن الله تبارك وتعالى يوكل العبد في حفظ ما وكله فيه والعبد يوكل الرب ويعتمد عليه.

فأما وكالة العبد لربه {فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَٰؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} [الأنعام:89]، قال قتادة: "وكلنا بها الأنبياء الثماني عشر الذين ذكرناهم قبل هذه الآية"، وقال أبو رجاء العطاردي: "إن يكفر بها أهل الأرض فقد وكلنا بها أهل السماء وهم الملائكة". وقال ابن عباس ومجاهد: "هم الأنصار أهل المدينة، والصواب أن من قام بها إيمانًا ودعوة وجهادًا ونصرة فهؤلاء الذين وكلهم الله بها".

لما قام المعتز على الإمام أحمد فسجن واضطهد ومنع من التحديث على شأن أبي دؤاد المبتدع، فيقال أن النبي صلى الله عليه وسلم رؤي وهو يقرأ قوله تعالى: {فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَٰؤُلَاءِ} ويشير إلى أحمد بن أبي دؤاد المعتزي (فقد وكلنا) ويشير إلى أحمد، و هذه من صالح الرؤى.

هل يصح أن تقول أن الله وكل أو يوكل أحداً من العباد؟

نعم بإقامة الدين، لكن هل يصح أن يقال أن أحدًا ما وكيل الله؟ لا.. لأن الوكيل من يتصرف عن موكله بطريق النيابة، والله لا نائب له ولا يخالفه أحد ولا يخلفه أحد بل هو يخلف عبده (اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل)، يخلف العبد في أهله وماله الذين غاب عنهم. أما أن العبد يوكل ربه فنعم بتفويضه إليه وعزل نفسه عن التصرف، لهذا قيل في التوكل أنه عزل النفس عن الربوبية وقيامها بالعبودية. ومعنى كون الرب وكيل عبده أي كافيه والقائم بأمره ومصالحه فوكالة الرب عبده أمر وتعبد وإحسان لا عن حاجة بل منّة وافتقار منهم إليه وأما توكيل العبد ربه فتسليم لربوبيته، وقيام بعبوديته وحسبنا الله ونعم الوكيل أي كافينا ونعم الكافي يكفينا من كل شر والحسب هو الكافي والله وحده كافٍ عبده.

والتوكل في الاصطلاح الشرعي: هو صدق اعتماد القلب على الله عز وجل في استجلاب المصالح ودفع المضار من أمور الدنيا والآخرة كما ذكر ابن رجب، وقال الحسن أن يعلم أن الله هو ثقته..! وقال ابن عثيمين رحمه الله: "صدق الاعتماد على الله عزوجل في جلب المنافع ودفع المضار مع فعل الأسباب التي أمر الله بها، وهذا تعريف جيد جامع".

وهذا التوكل لا ينقطع ولا يخلو من اتخاذ الأسباب، فهو ثقة بالله واعتماد عليه مع الأخذ بالأسباب، فهو يلتئم هذين الأصلين، يقول ابن القيم رحمه الله: "سر التوكل وحقيقته هو اعتماد القلب على الله وحده، فلا يضره مباشرة الأسباب مع خلو القلب من الاعتماد عليها والركون إليها".

إذا كان معتمد على الله بالكلية فلا يضره لو كان لديه عشرين طريقة وسبب، لأن يفعل شيئًا فإذا قال العبد توكلت على الله مع اعتماد القلب على غير الله كمن يقول تبت وهو مستمر على المعصية، فتوكل اللسان مختلف عن توكل القلب، وهذا فعل الكفرة والغربيين إذا انهارت الأسباب انهاروا أما المؤمن فلا ينهار إذا أفلس من الأسباب فلا يزال يرجو الفلاح.

حقيقة التوكل:

قال الزبيدي في تاج العروس: الثقة بما عند الله واليأس مما في أيدي الناس، فالتوكل على الله اعتماد القلب على الله مع الأخذ بالأسباب، مع كامل اليقين أن تعلم أن الله هو الرازق الخالق المحيي المميت لا إله غيره ولا رب سواه.

والتوكل يتناول التوكل على الله ليعينه الله على فعل ما أمره والتوكل على الله ليعطيه ما لا يقدر عليه، وكلاهما كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية، فالاستعانة تكون على الأعمال والتوكل أعمّ من ذلك فالتوكل مجلبة لمنفعة، ودفع لمضرة. {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} [التوبة:59].

 

إذا ما حذرت الأمر فاجعل ازاءه رجوعًا إلى رب يقيك المحاذر

ولا تخش أمرًا أنت فيه مفوض إلى الله غايات ومصادر

وكن للذي يقضي به الله وحده وإن لم توافقه الأماني شاكر

ولا تفخرن إلا بثوب صيانة إذا كنت يوماً بالفضيلة فاخر

وإني كفيلٌ بالنجاة من الأذى لمن لم يبت يدعو سوى الله ناصر

فإذاً كن شاكرًا لله ولا تخشَ شيئًا إذا فوضت أمرك لله

 كن رجّاعًا لله متكلًا عليه؛ حينها ينصرك الله.

حقيقة التوكل عبادة واستعانة {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود:123]، {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [الشورى:10] {فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا} [المزمل:9]، انظر للمقارنة للتوكل مع العبادة والاستعانة بالله، فالتوكل أعمّ في جلب المنافع وهو دفع المضار حتى لو كانت في أشياء دنيوية والاستعانة على العبادة.

التوكل أعم من الاستعانة، و قد جمع الله بين الأصلين في غير موضع كقوله {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]، فالعبادة له والاستعانة به والتوكل عليه وحده لا شريك له، الله عزوجل إذا توكل عليه العبد يكفيه وهو حسب من توكل عليه والحسب هو الكافي، يمنع الشر عنك، يكفيك ما أهمك، يكفيك عدوك.

لما قال الله لنبيه {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال:64]، بعض الناس يظنون أن المعنى حسبك الله والمؤمنون حسبك أيضًا، يعني يكفونك مع الله، هذا خطأ بل حسبك الله وحسب من اتبعك، يكفيك ويكفيهم..حسبك وحسبهم..كلكم..أنت وهم، ولا يجوز حمل الآية على المعنى الآخر.

ولذلك الآية الأخرى {وَإِن يُرِيدُوا أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ ۚ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال:62]،نعم هنا ممكن، فرق بين الحسب والتأييد، هل المؤمن يكفي يكون حسبًا؟ لا، لكن يكون ناصرًا ومؤيدًا، نعم، أيدك بالمؤمنين، أن يؤيدونك وينصرونك،هذه لا إشكال فيها ولا تضاد التوحيد، ولكن إذا قلت يكفونك من ذا يقدر على الكفاية؟ من الذي يستطيع أن يكون حسبًا يكفي غيره كل شر من الشرور؟ ما يقدر على هذا إلا الله سبحانه وتعالى، قال ابن القيم رحمه الله في معنى الآية: " حسبك الله أي كافيه ومن كان الله كافيه و واقيه فلا مطمع فيه لعدوه ولا يضره إلا أذى".

مامعنى {لَن يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى} [آل عمران:111]، مثل أذى الحر والبرد والجوع والعطش أما أن يضره العدو بما يبلغ به مراده (يعني الشيء الذي يريده العدو فيه) لايعني إذا توكلت على الله لن يضروك إلا أذى، يعني الشيء الذي لابد منه ولكن ليس على مايشتهي ويريد العدو، يعني أثر خفيف مثل مايحدث لك من الحر والبرد والجوع والعطش، لكن لا يستطيعون أن يبلغوا ما يريدونه ويتمنونه إذا توكلت على الله. وإذا كان الله قد جعل لكل عمل جزاء من جنسه فقد جعل جزاء التوكل عليه الكفاية، ومن يتوكل على الله فهو حسبه، ولو كاده كل من في الأرض جميعًا!!

وإذا دجى ليل الخطوب وأظلمت سبل الخلاص وخاب فيها الآمل

وأيست من وجه النجاة فما لها سبب ولا يدنو لها متناول

يأتيك من ألطافه الفرج الذي لم تحتسبه وأنت عنه غافل

والثقة بالله سبحانه وتعالى والتوكل عليه وتفويض الأمور يليه يريح العبد نفسيًا، لأنه الواحد مهما بذل أسباب ستبقى ثغرات يتحسب منها، ويبذل كذا وكذا لكن هذه لا يستطيع أن يفعل فيها شيء، ولو جاءوا ما استطعت، ولو كادوا لي من هذه الجهة ما لي حيلة، وضعنا احتياطات من هنا ومن هنا ولكن لو جاءوا من هنا لو فعلوا من هنا ماعندنا احتياطات!!، فيصبح العبد مهمومًا حتى مع اتخاذ بعض الأسباب، هناك أشياء لا يقدر عليها فالتوكل يريحه نفسيًا، الأشياء التي لا حيلة له فيها؛ الذي لا يتوكل قلق منها قلق جدًا منها لأنه لم يعمل شيء في الموضوع، لكن من يتوكل على الله كفاه الله ما أهمه.

قال لي أحدهم بعد الحج من أهل الشيشان: "جاء الروس اقتحموا علينا، وكنا في بيت فحاصرونا، وهرب من هرب، وبقيت أنا ذهبت إلى حفرة بجانب البيت يلقى فيها محصول البطاطس، ألقيت نفسي فيها ثم اقتحموا البيت و ابتدؤوا التفتيش و علا صياحهم واقتربوا من مكاني وأنا ماعندي سلاح ولا أستطيع أن أهرب، حفرة، قال لا عندي إلا التوكل على الله وتذكرت موقف من السيرة وآية من القرآن وجعلت أقرأها فسمعت القائد يقول للجندي اذهب وفتش الحفرة، وسمعت وقع خطواته وهو يقترب شيئًا فشيئًا من الحفرة وأنا في الحفرة وأنا مثل الفأر بالمصيدة، وأطل عليّ ونظر إليّ وذهب وقال لا يوجد أحد في الحفرة!، أنا استغربت عيني في عينه!، قلت له: وماذا كنت تقرأ؟، قال :إني تذكرت والذي خطر على بالي في ذلك الموقف القصة في سورة يس {وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} [9].

ما عندي إلا التوكل على الله، فهناك أحوال كثيرة المخلوق لا يستطيع أن يفعل فيها شيئًا ماديًا، ماعنده إلا هذا التوكل، والتوكل على الله لابد من تحقيق مراتب فيه:

1- معرفة الرب وصفاته، من قدرته وكفايته وقيوميته، أنت تتوكل على الله وتعتمد عليه يجب أن تكون مؤمنًا بقوة الله وقدرته وأنه يكفيك، فالذين يعطلون أسماء الله وصفاته ويلحدون فيها سيخلون بهذه المرتبة.

2- إثبات الأسباب والمسببات وأنها لا تستقل بنفسها في التأثير، وإن جحد الأسباب وقال كل سبب معطل، هذا غبي مجنون، هناك أسباب، تنكح ليأتيك الولد وتبذر ليخرج الزرع، ولذلك جاء رجل للنبي صلى الله عليه وسلم فقال «يا رَسولَ اللَّهِ أعقِلُها وأتوَكَّلُ، أو أطلِقُها وأتوَكَّلُ؟ قالَ: اعقِلهاوتوَكَّلْ» (سنن الترمذي[2517])، وأحيانًا لا يجد الواحد إلا الدعاء، ونعم السبب، والله عزوجل علم عباده الأخذ بالأسباب فقال: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ ۖ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك:15]، وقال: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة:10]، فالذي يقول لا أعمل شيئًا حتى يأتيني رزقي جاهل بشرع الله وجاهل بقدر الله.

الله قال في سورة المزمل {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ} [20]، يضربون: يسافرون و يذهبون ويتاجرون، وكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يتاجرون في البر والبحر،ويعملون في نخيلهم وكان غسل الجمعة، لماذا أمروا به؟ لأنهم كانوا عمال أنفسهم، يعملون في الحر والنخيل، العرق يرشح على ملابس الصوف فيكون لها رائحة كريهة في المسجد، فقيل لهم «لو اغتسَلتُم» (صحيح البخاري[2071])، ولما سئل الإمام أحمد رحمه الله عن هؤلاء الذين يزعمون أنهم متوكلة ويقولون نقعد وأرزاقنا على الله عزوجل، قال الإمام أحمد: هذا قول رديء أليس الله قد قال {فَاسْعَوْا إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ۚ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ . فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة:9-10]، وقال صالح بن أحمد بن حنبل: "سئل أبي عن قوم لا يعملون ويقولون نحن المتوكلون فقال: هؤلاء مبتدعون".

3- ومن المقامات التي يجب تحقيقها رسوخ القدم في طريق التوحيد، فالعبد إذا حقق التوحيد كان له من التوكل النصيب العظيم ، {حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۖ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ ۖ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [التوبة:129]، توحيد وتوكل بعده.

4- الاعتماد على الله عزوجل في كل الأمور، بحيث يفوض إليه سائر أموره.

5- أن يحسن الظن بالله عزوجل وتفويض الأمور إلى الله عزوجل كلها ويكون بيد الله أوثق منه بما في يده، لا يضطرب قلبه ولايبالي بإقبال الدنيا وإدبارها لأن اعتماده على الله، فحاله كحال إنسان أعطاه ملك درهم فسرق منه، فقال الملك عندي أضعافه فلا تهتم، متى جئت أعطيتك أضعافه من خزائني، فمن يعلم أن الله ملك الملوك خزائنه ملأى فلا يقلق إذا فات شيء فإن الغني يعطيه الله بدلاً منه، وأما حسن الظن بالله عزوجل فإن الله عزوجل كما جاء في الحديث القدسي قال: «أنا عند ظن عبدي بي» (السلسلة الصحيحة[4/225])، فحسن الظن يدعو إلى التوكل على الله، أنت تتوكل على من تظن أنه سينفعك، وإن الإنسان إذا علم وتيقن أن الله هو الغني القادر الحسب الكافي فيتوكل عليه.

6- استسلام القلب لله سبحانه وتعالى، فإذا استسلم كاستسلام العبد الذليل لسيده وانقياده له حصل التوكل.

7- التفويض {فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ ۚ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ} [غافر:44]، أي أتوكل عليه وأستعينه مع مقاطعتي و مباعدتي لكم خدعتموني، قال اين مسعود: "إن أشد آية في القرآن تفويضًا {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق:3]، قال ابن القيم رحمه الله نقلًاعن شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "المقدور يكتنفه أمران: التوكل قبله والرضى بعده، من وجهة نظر الدين والتوحيد، فمن توكل على الله قبل الفعل ورضى بالمقضي بعد الفعل فهذا إنسان قائم بالعبودية فعلًا"، ولذلك انظر إلى دعاء الاستخارة: (واقدر لي الخير حيث كان كله ثم رضني به)،فالتوكل إذاً على الله تفويض قبل وقوع المقدور ورضى بعد وقوع المقدور.

فعرفنا إذاً أيها الأخوة الفرق بين التوكل والتواكل، فالتوكل فيه أخذ بالأسباب الشرعية، فبعض الطلاب قد يذهب لاختبار ويأخذ معه أشياء للغش ويقول هذه أسباب!، فهذا التوكل بمعصية، ولكن التوكل الصحيح أن يأخذ بالأسباب الشرعية المقدور عليها. التواكل ترك الأسباب، ومن ترك التوكل طعن في التوحيد، ومن ترك الأسباب نقص في العقل. والأسباب ولو كانت يسيرة وضعيفة؛ يبذلها العبد والله سبحانه وتعالى يبارك فيها ويجعل فيها أثرًا، والله علمنا ذلك في قصة مريم.

توكل على الرحمن في كل حاجة *** ولا تؤثرن العجز يومًا على الطلب
ألم ترَ أن الله قال لمريم *** إليك فهزي الجذع يساقط الرطب
ولو شاء أن تجنيه من غير هزها *** جنته ولكن كل شيء له سبب  

فتخيل حال امرأة ضعيفة في حال النفاس، أضعف ماتكون المرأة، والنخلة شجرة قوية، جذعها قوي، ولكن الله قال: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ} [مريم:25]، ولكن بالسبب الضعيف جعل النتيجة!، كان من الممكن أن يسقط الثمر بلا هز، وماذا يغني الهز من امرأة ضعيفة لشجرة قوية، ولكن ليعلم العباد الأخذ بما أمكن من الأسباب، هذا مبدأ مهم في قضية التوكل، والنبي صلى الله عليه وسلم ظاهر بين درعين ولبس لئمته و وضع الخوذة على رأسه(المغفر)ماهذا؟ أخذ بالأسباب، وطريق الهجرة وأخذ دليل وتعمية الأثر، كل هذا أخذ بالأسباب، وخرج في وقت يغفل فيه الناس من طريق غير متوقع وهو نبي {حَسْبُكَ اللَّهُ} [الأنفال:64]، {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:67]، ولكن الله علمنا التتبع، الهجرة أخذ بالأسباب مع التوكل على الله.

والتوكل على الله عز وجل يجمع علم القلب وعمل القلب. أن يعلم بأن الله مقدر الأشياء ومدبر الأشياء، وعمل القلب سكون القلب للخالق والاعتماد عليه والثقة به، فهذان أمران مهمان في التوكل يشمل التوكل علم القلب وعمل القلب:

1- أن يعلم بالأسماء والصفات.

2- أن يسكن ويفوض ويستسلم لله سبحانه وتعالى.

إذا ابتليت فثق بالله وارضَ به *** إن الذي يكشف البلوى هو الله

إذا قضى الله فاستسلم لقدرته *** ما لامريء حيلة فيما قضى الله

اليأس يقطع أحياناً بصاحبه *** لا تيأســــــن فنعم القادر الله

والتوكل على الله سبحانه وتعالى يكون في تحصيل الحظ من الرزق والعافية ومتع الدنيا وجلب الحوائج ودفع المكروهات والمصائب الدنيوية. كما يكون التوكل أيضًا في عبادته عز وجل و العبد إذا كان الله عزوجل غايته فإنه يسكن ويهدأ ولا يضطرب ويسأل ربه ويدعو، والتوكل على الله مع اسقاط الأسباب طعن في العقل والدين أيضًا لأننا قد أمرنا بالعمل، مثل هؤلاء الذين يظنون أنهم يريدون أن يدخلون الجنة بدون أعمال ويقولون ندخل برحمة الله!، كما قال أحدهم: جاهدت مع أهل زوجتي في إخراج المنكر من البيت ومن الوسائل والأجهزة المفسدة وأحاول فيهم، وأبو زوجتي يتدخل ويقول لماذا تفكر تخرج الأجهزة هذي؟ كلنا في رحمة الله، نعم كلنا في رحمة الله ولكن أليس هناك أسباب لدخول الجنة! واجتناب أسباب دخول النار! مافي ابتعاد عن المحرمات! قيام بالواجبات! كذا برحمة الله بدون اتخاذ أسباب! {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف:56]، يا أخي، ليست قريب من الفاجرين الفاسقين!.

فمشكلة أن يوجد مثل هؤلاء الذين لا يريدون لابذل أسباب دنيوية ولا شرعية، وبعضهم يبذل أسباب دنيوية ولايبذل أسباب شرعية، في الدنيا والدراسة والتحصيل والفن والأجهزة ممتاز، وفي الصلاة تقصير والمحرمات يقع فيها، فيأخذون بالأسباب في الدنيا ويتركون أسباب الدين، كيف تنجو في الآخرة بدون أن تأخذ أسباب الجنة!  «اعمَلوا فكلٌ مُيَسَّرٌ» (صحيح البخاري[4947]).

الأمور التي تضاد التوكل

1- التطير والتشاؤم، قال صلى الله عليه وسلم «لا طيرة» (السلسلة الصحيحة[783])، التطير والتشاؤم من الشيء المرئي أو المسموع، كمن يرى أعور فيتشائم به، ويرى طيرًا ذهب شمالًا فيتشاءم به، يريد أن يذهب لسفر أو زواج فيلغي المشروع، هذا ينافي التوكل على الله، قال مثلًا كرسي الحجز في الطائرة 13! هذا ما أركب فيههذا شؤم، تجنب الرقم 13 ليس من الأسباب المشروعة إطلاقًا، ذهب يضرب صفقة مع رفيقه فرأى حماته، فقال هذا نذير شؤم ما دخلها!، فالتطير والتشاؤم منافي للتوحيد.

ولما جاء أحد المنجمين لعلي رضي الله عنه وهو خارج لقتال البغاة، قال هنا الآن نوء العقرب إذا خرجت ياعلي ستخسر في المعركة وتنهزم فخرج علي ثقة بالله وتوكلًا عليه، وكتب الله له في تلك الغزوة والخروج البركة والخير والفلاح والانتصار، ولذلك المرء يتعمد مخالفة العرافين والكهنة، فإذا قال له كاهن خروجك هذا شر والنجم كذا فليقل بل مخالفة لك وإيمانًا بالتوحيد وإيمانًا بالسنة سأخرج و أخالفك يا أيها الدجال والمشعوذ، وإتيان الكهان والتعلق بهم، تعليق التمائم يخالف التوكل، لأن الإنسان «من تعلق شيئاً وكل إليه» (سنن الترمذي[2072])، لذلك الإنسان لو علق أشياء ولو بالقرآن يتعلق قلبه بالجلد هذا والورق والحبر المكتوب مع أن المفترض أن يتعلق قلبه بالله وليس بأوراق وجلود يجعلها على معصمه أو يعلقها في رقبته، وبعضهم يقول هذه أسباب!،هذا خلافنا مع بعض الناس أمرنا باتخاذ أسباب شرعية أو أي أسباب!، التوكل لابد أن يكون معه أسباب شرعية، فالذي يلبس حلقة أو خيط أو يتبرك بالأشجار ويكتب التعاويذ ويعلقها هذه أسباب غير مشروعة فكيف تتخذها؟! «من تعلق شيئاً وكل إليه» وحرم من التوكل على الله وصار توكله على هذا الشيء الموضوع، لذلك ترى الناس الذين توحيدهم ضعيف يكثر من هذه الأشياء، يعلق في السيارة والبيت وعلى رقبته وأولاده ومنها أشياء شركية وكذا، لأنه يريد أي أسباب، ماعنده توحيد وتوكل قوي فهو خائف ويريد أي سبب فيفعل أي شيء ولو كان غير مشروع، لذلك ينقلب على عقبيه ويرتد على دبره ولا يحصل له ما يريد ويبقى في خوف وهم.

2- ولابد في التوكل على الله من السعي في طلب الرزق، وهذا مهم جدًا في عصر شاعت فيه البطالة، بعض الناس يتواكلون على بعض، والابن على أبيه والأخ على أخته الموظفة، وكثير منهم لا يريدون العمل، والله أرشدنا وفتح أبواب لطلب الرزق وأشياء مذكورة في الكتاب والسنة.

‌أ- فأول وأعظم سبب للرزق وأحل الحلال في الأرض هو غنائم القتال {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا} [الأنفال:69]، فالعلماء تناقشوا في قضية ماهو أطيب الرزق وأحل الحلال تجارة زراعة وصناعة، قالوا: إن أحل الحلال على وجه الأرض غنائم المعارك في سبيل الله لأن الله قال {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا} والرسول صلى الله عليه وسلم قال: «جُعِلَ رِزْقي تحت ظِلِّ رُمْحي» (صحيح الجامع[2831]).

‌ب- العمل باليد فالرسول صلى الله عليه وسلم قال: «ما أَكَلَ أَحَدٌ طعامًا قطُّ، خيرًا من أن يأكلَ من عملِ يدِه» (صحيح البخاري[2072]، وقال: «لأن يَحتطبَ أحدُكم حُزمَةً على ظهرِه، خيرٌ من أن يَسألَ أَحَدًا، فيُعطيَه أويمنعَه» (صحيح البخاري[2074]).

‌ج- التجارة وهذي عمل كثير من المهاجرين وكذلك الأنصار {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة:10]، وعبدالرحمن بن عوف قال: "دلوني على السوق"، كان الصحابة يغدون إلى السوق ويشترون ويبيعون.

‌د- الحرث والغرس والزرع، وقال أن الزراعة فيها ميزة في التوكل على الله أكثر من غيرها فالمزارع إذا بذر عنده في قلبه توكل على الله أكثر من التاجر، كلهم يحتاجون التوكل لكن الزارع أكثر، فبعضهم قدم الزراعة من هذه الجهة لما فيها من مزيد تعلق القلب من الله في رجاء حصول النماء والنبات لهذا المحصول و بأن الثمرة تظهر ولا يصيبها آفة وهكذا.

ثم إن الإنسان يبذل الأسباب في العلاج، غير طلب أسباب الرزق، فمثلاً قال النبي صلى الله عليه وسلم: «فإنَّ اللهَ لم يُنزِلْ داءً إلَّا أنزَل له دواءً» (صحيح ابن حبان[486])، «فتداووا» (سنن أبي داود[3874]، والتداوي ماهو إلا أخذ بالأسباب في هذا المجال.

فوائد التوكّل

1- بسببه النصر على الأعداء {وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ . فَانقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ} [آل عمران:173:174]، {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَٰذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ۚ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب:22].

2- يجلب المصالح ويدفع المضار والمصائب ويجلب الرزق ويعجل الشفاء.

3- التوكل على الله سبب لقوة القلب ونشاطه.

4- وقاية من الانهيارات النفسية والعصبية.

5- يباعد بين الإنسان والانتحار، وما يفعله هؤلاء الذين عدموا التوكل فيئسوا وأصيبوا بالإحباط فلم يبق لهم في الدنيا مكان في نظرهم.

6- سبب للحفظ في النفس والمال والولد والأهل {وَاللَّهُ عَلَىٰ مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} [القصص:28]، يعقوب قالها لبنيه..! {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ۖ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ ۖ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} [يوسف:67]، وقال: {إِنَّمَا النَّجْوَىٰ مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ۚ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [المجادلة:10]، وعندما يخرج الإنسان من بيته يقول: (بسم الله توكلت على الله) فماذا يحدث له؟! يقول له ملك: (هُدِيت، وُقِيت،كُفيت من كل شر).

7- التوكل على الله يبعث في القلب الحماس والعزيمة للعمل لأنه فيه فتح لباب الأخذ في الأسباب، والأسباب المشروعة، لما يفهم المرء التوكل فهمًا صحيحًا ينطلق للعمل ويأخذ بالأسباب، وهذا فيه انتاجية وفيه ثمار تحدث.

8- والتوكل على الله يرفع الروح المعنوية حتى لو أصاب الإنسان مصائب وشدائد، ففي الجراحات والقتل الذي أصابهم مصيبة فوقها يأتي خبر أن المشركين جمعوا عليكم ليعيدوا الكرة عليكم {قَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ . فَانقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ} [آل عمران:173-174].

9- التوكل على الله يجلب الرزق كما يرزق الطير وقد تقدم الكلام في هذا.

10- التوكل على الله يحقق النتيجة، فالطالب يريد النجاح والتاجر يريد الربح وطالب الوظيفة يريد التعيين في العمل وهكذا.

11- من توكل على الله يشعر بمعية ربه له أنه معه ناصره مغنيه كافيه واقيه.

خالد أبو شادي

طبيبٌ صيدليّ ، و صاحبُ صوتٍ شجيٍّ نديّ. و هو صاحب كُتيّباتٍ دعويّةٍ مُتميّزة

  • 15
  • 4
  • 85,106
المقال السابق
[01] الإخلاص
المقال التالي
[03] الرجاء

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً