إذ هما في الغار
تلوح في التداول اليومي بوادر الشكوى من تردي العلاقات الإنسانية أمام هيمنة القيم المادية البغيضة التي يحتكم فيها الفرد إلى ما يجلبه الرابط الإنساني من منفعة،أو مصلحة،أو لذة.وفي سياق اجتماعي مضطرب كالذي نعيشه ،لا يُخفي المسلم توتره وحيرته إزاء المفارقة المؤلمة بين معالم الصداقة وآدابها وشروطها كما يحددها النص الديني،والمنظور المادي الذي يبذل وسعه اليوم لتحييد شبكة العلاقات الإنسانية،وعزلها عن الثوابت والمرجعية الدينية.
يزخر التراث الإنساني بكتابات حول الصداقة والصديق,بدءا من أرسطو ووصولا إلى مبحث قائم بذاته في علم النفس المعاصر يصطلح عليه "سيكولوجية العلاقات بين الأشخاص".وباستعراض أهم المصنفات في هذا الباب،يقف المرء على محددات للصداقة،ونماذج لخبرات شخصية وانطباعات لا تخلو من وجاهة في الكشف عن قوانين التفاعل بين الأفراد,و الوظائف النفسية التي تتولى الصداقة الاستجابة لها.وكعادة السلف في تتبع آثار الحكمة والسعي خلف منابعها أنى وُجدت، فإن المكتبة الإسلامية لم تخل بدورها من انشغال بهذا المبحث,وحرص على تحديد خواص الصداقة وأسسها وفق منظور قرآني يتيح نفاذا أعمق إلى جوهر النفس الإنسانية وتقلباتها.نستحضر في هذا الباب ما كتبه الإمام ابن حبان البُستي في (روضة العقلاء ونزهة الفضلاء) عن الحث على صحبة الأخيار والزجر عن عشرة الأشرار،وحديث الإمام أبي حامد الغزالي عن حقوق الصحبة في( بداية الهداية)، ناهيك عن الآراء الفريدة التي يعرضها أبو حيان التوحيدي في كتابه (الصداقة والصديق).هذا الانشغال إنما يعكس في الحقيقة امتثالا للتوجيه القرآني والنبوي في حثهما على جعل المسلم إنسانا اجتماعيا يستشعر مسؤوليته الكاملة تجاه الآخر،ويتجاوز بتدينه حدود الذات وما تنطوي عليه من أنانية و انطواء وتقوقع ليندرج في شبكة من العلاقات الإنسانية التي تحفظ التماسك الاجتماعي.
إن في علاقة النبي صلى الله عليه وسلم بالرعيل الأول من المسلمين مجالا رحبا للتأسي،والتقاط الإشارات الدالة والنماذج التطبيقية التي تسهم اليوم،ولا شك،في إيقاظ الوازع الداخلي،والالتحام بالآخر ضمن علاقات منزهة عن الأغراض الضيقة والمنفعة الشخصية.فقد حفظ لنا التاريخ مواقف جليلة يستحثنا الحاضر المثقل بعوامل التفسخ والضياع على استدعائها،صونا لكيان الأمة,وسعيا لاستكمال شروط انبعاثها وتجديد البنيان.ومن نماذج الصداقة التي تسترعي انتباه كل متصفح لتاريخ الدعوة الإسلامية,صحبة أبي بكر رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم التي مهرها القرآن الكريم بتوقيع خالد {ثاني اثنين إذ هما في الغار} [التوبة : 40] .تلك العلاقة التي حوت من السمات المميزة ما يضعها خارج المألوف في علاقة تابع بمتبوع،وتحددت من خلالها مكانة أبي بكر كصاحب للنبي الخاتم.ومن الشواهد التي تؤكد هذا التشريف ما حكاه أبو الدرداء رضي الله عنه قال: « » . [ صحيح البخاري: 3661 ]
إن ما حظي به أبو بكر رضي الله عنه من شرف الصحبة لم يكن سوى تتويج لأداء حقوقها في ظروف عصيبة قلما يلزم فيها المرء غُرز أخ أو صديق! فهاهنا نبي يُكذبه قومه بعد أن وشحوه ردحا من الزمن بوسام الصدق والأمانة.و يلي التكذيب تضييق واضطهاد وحصار، ثم سعي مشؤوم لاغتياله لولا العصمة والتأييد الإلهي.وفي خضم هذه الأهوال و الأحداث يبذل أبوبكر ثروته ومكانته الاجتماعية، ويعرض نفسه للأذى أداء لحقوق الصحبة، وما تلزمه به من تصديق ومؤازرة.قد يقول قائل بأن أي رجل من القلة المؤمنة آنذاك سينهض بمثل ما قام أبو بكر من التضحية والبذل,غير أن في الحديث النبوي شواهد تؤكد عمق الصلة وتميزها عما يمكن أن يحتمله أي تابع لهذا الدين من أعباء النصرة.يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث المرفوع الذي رواه القاسم بن محمد بن أبي بكر:(ما عرضت الإسلام على أحد إلا كانت له عنده كبوة,غير أبي بكر فإنه لم يتلعثم).
ولما أذن الله لنبيه بالهجرة تولى أبوبكر وضع الترتيبات اللازمة،وتشكيل خلية يقظة قوامها الابن والابنة والخادم. وأظهر استعدادا لمواجهة كل المخاطر التي يمكن أن تعيق المسير إلى يثرب، فكان رضي الله عنه يمشي بين يديه ومن خلفه,ودلف الغار قبله ليقي صاحبه من مكروه قد يصيبه.وحين وقف الكفار في مدخل الغار تملك الخوف أبا بكر خشية أن يقع النبي صلى الله عليه وسلم في أيديهم فجاء التشريف من السماء ليرقى بهذه الصحبة إلى المعية الإلهية: {إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم } [ التوبة:40 ] ولحظة الغار هذه من أشد المواقف التي تُمتحن فيها الصداقة،وتظهر مؤشرات عمق أو سطحية التفاعل بين شخصين أو أكثر.ولعل من أهم ما خلصت إليه الدراسات المهتمة باستكشاف مظاهر الارتقاء الاجتماعي،هو التأكيد على شرط التماثل والتقارب في تشكيل الصداقات,إذ يسهم تماثل الأصدقاء من حيث سمات الشخصية والاتجاهات والمعتقدات في تعميق الصداقة و استمرارها وصمودها أمام المحن والتقلبات(1).وهو التماثل الذي يلمسه كل دارس لشخصية أبي بكر الصديق ومواقفه التي تعكس ثقة وتصديقا لا حدود لهما بكل ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم،لذا لما دخل النبي دار أبي بكر وقال:إن الله قد أذن لي في الخروج والهجرة،بادر أبوبكر إلى التماس ما لا يمكن أن يصدرإلا عن صديق حميم: الصحبة يا رسول الله ! يقول شوقي أبو خليل: (الصحبة كلمة عظيمة فيها سر عظيم،وصحبة الجسد صحبة جيدة فيها بركة وخير,ولكن صحبة الروح إلى الروح هنا السر الأعظم، إنها صحبة تلق وتعلم،وصحبة إيمان،وصحبة نور و عروج. صحبة أبي بكر للنبي الكريم صحبة تلميذ لمعلم،وصحبة طالب لمطلوب.فوقر في قلب الصديق نور وإيمان ما لو وُزع على الخلق لوسعهم(2).
شكلت مرحلة ما بعد الغار منعطفا جديدا في مسار الدعوة الإسلامية،ارتقت خلاله الصحبة بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر رضي الله عنه إلى تشابه ملفت في الاختيارات والغايات،ومستوى من التفاهم تكفي فيه اللمحة والإشارة التي لا يقف على معناها سواهما. « » [ صحيح البخاري:3691]
إنها الصداقة المتينة وصحبة الخير التي تؤثر سمو الروح على متاع الدنيا وزخرفها.
صحبة تجلت أبهى معانيها في طمأنة النبي صلى الله عليه وسلم لصاحبه لحظة الغار والترقب والقلق: ما ظنك باثنين الله ثالثهما ؟
صحبة هي المثال الذي نرجو اليوم أن يُحتذى في زمن عز فيه الصديق وقل الوفاء، حتى أن فيلسوفا سئل: من أطول الناس سفرا؟ فأجاب: من سافر في طلب صديق !
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) د.أسامة سعد : الصداقة من منظور علم النفس.عالم المعرفة.عدد179.الكويت 1993 . ص 74
(2) شوقي أبو خليل : الهجرة حدث غير مجرى التاريخ. دار الفكر.دمشق 1985 .ص 84
- التصنيف: