التعبد بالأخلاق (1)
صلاتك لك وصيامك، ولكن أخلاقك للناس، رغم أن المتعبدين بالصلاة والصيام لعلى خير كثير، لكونهم يؤديان ركنين من أركان الإسلام، ومع ذلك يدركهم صاحب الخلق الحسن، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم»
لا شك ولا نزاع في تعظيم قدر الصلاة... وقد جاءت نصوص القرآن والسنة وأقوال السلف الصالح في تعظيم جرم تاركها، بل وصلت به إلى التكفير، في حين لا أجد في أخلاق الإسلام ما حكمت النصوص بالتكفير به تركا أو فعلا.
غير أنك تجد في آيات كثيرة وفي أحاديث عديدة تقديم الأمر بالتخلق على الأمر بالتعبُّد، أو قلْ: تقديم الأمر بالتعبد بالأخلاق على الأمر بالتعبد بالصلاة، وليس في نصوص الوحي ما لا حكمة فيه أو ما لا قصد فيه، فما دلالة ذلك؟
{وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ}[البقرة:83] فقدَّم الإحسان إلى الناس بالقول على إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، وفي صفة عباد الرحمن: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا، وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا، وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا، إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا، وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا}[الفرقان:63- 67]. فلاحظ أنهم كانوا عبادًا للرحمن-سبحانه- بالمشية المتواضعة الهينة، والإعراض عن اللغو والخطاب السالم السليم بالقول أو الإعراض، ثم بعد ذلك جاءت عبودية الصلاة وقيام الليل.
ورغم أن المتعبدين بالصلاة والصيام لعلى خير كثير، لكونهم يؤديان ركنين من أركان الإسلام، ومع ذلك يدركهم صاحب الخلق الحسن، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: « »(أبو داوود، السنن، برقم:[4798]).
وما ذاك إلا لأن الإسلام يقصد إلى بناء المجتمع ببناء الفرد، وأن الأصل في التعبد بالصلاة والصوم بناء الفرد ابتداءًـ فهي في الأصل كالأفعال اللازمة وأثرها المباشر قاصر على الفرد، وإن كان يتعدى بعد ذلك، ككونها تنهى عن الفحشاء والمنكر، أما التعبد بالأخلاق فهي كالأفعال المتعدية؛ تحتاج إلى مفعول، ولا يمارسها الفرد بمفرده، فكان الأصل في أثرها التعدي إلى المجتمع، وبها تسع الناس لا بصلاتك فحسب، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «
»(الحاكم في المستدرك:1/ 212 وصححه، وأخرجه البزار في مسنده، وحسنه ابن حجر في الفتح: 10/ 459].فإن لم يلتفت الملتزمون إلى هذه العبودية، فلن تقوم لدعوتهم قائمة، وإن لم يلتفتوا إلى هذا الزاد فلن تطول بهم طريق، ولن يلتف حولهم جمعٌ: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ}[آل عمران: 159]، ويُروى عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله أنه قال: : " كونوا دُعاة إلى الله وأنتم صامتون " فقيل: كيف ذلك ؟ قال: بأخلاقكم..
وإن لم يلتفت المسلمون إلى هذا الالتزام - على أساس أنه الإيمان والعقيدة - فلن يَحسُن لهم إسلام ولن يحلّ في مجتمعهم وئام.
اللهم اهدنا لأحسن الخلاق فإنه لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصر عنا سيئها، فإنه لا يصرف عنها سيئها إلا أنت
أبو محمد بن عبد الله
باحث وكاتب شرعي ماجستير في الدراسات الإسلامية من كلية الإمام الأوزاعي/ بيروت يحضر الدكتوراه بها كذلك. أستاذ مدرس، ويتابع قضايا الأمة، ويعمل على تنوير المسيرة وتصحيح المفاهيم، على منهج وسطي غير متطرف ولا متميع.
- التصنيف:
- المصدر: