الوقف خيرٌ للحي والميت
شُرع الوقف لحكم عظيمة؛ ففيه منافع للعباد والبلاد، تنمو بوجوده وحسن رعايته وإدارته المجتمعات، وتحفظ بمؤسساته كرامة الأمة وعزها، وترتقي في العلم والتعليم.
الوقف الإسلامي تشريع رباني، يجمع بين الرحمة والنعمة، فمقاصده عظيمة، ومنافعه وفيرة، ومجالاته متعددة، وحاجاته متجددة، يحقق للعباد المنافع الدنيوية والأخروية. فهو سبيل من سبل السعادة في الدنيا والآخرة، ترفع فيه الدرجات، وتكفر فيه السيئات، ويدوم معه الأجر بعد الممات.
وقد حبس زيد بن ثابت رضي الله عنه [1] داره التي في البقيع، وداره التي عند المسجد [2].
وروي عن زيد بن ثابت رضي الله عنه أنه قال: "لم نر خيراً للميت ولا للحي من هذه الحُبُس الموقوفة؛ أما الميت فيجري أجرها عليه، وأما الحي فتحتبس عليه، ولا توهب، ولا تورث، ولا يقدر على استهلاكها"[3].
وأضاف الخصاف: "وأن زيد بن ثابت جعل صدقته التي وقفها على سنة صدقة عمر بن الخطاب ا، وكتب كتاباً على كتابه"[4].
لقد جعل الإسلام من الوقف بلسماً شافياً لقضاء مصالح البشر في الدنيا والآخرة، وهو من أعظم القربات التي يتقرب بها العبد إلى مولاه، ومن أهم السبل التي يحقق بها سعادته في الدنيا، والأجر في الآخرة، ويطمئن لمستقبل ذريته الأحياء في الدنيا؛ وخاصة الضعفاء منهم بعد موته وانتقاله إلى الدار الآخرة، وزاد من اهتمام المسلمين بالوقف أثره الدائم، وأجره المتواصل.
وشُرع الوقف لحكم عظيمة؛ ففيه منافع للعباد والبلاد، تنمو بوجوده وحسن رعايته وإدارته المجتمعات، وتحفظ بمؤسساته كرامة الأمة وعزها، وترتقي في العلم والتعليم.
وفيه: إعانة الأرملة والمسكين، والمجاهد والقاعد، الصغير والكبير، الصحيح والمريض، كلٌ بما يحتاجه.
وقد انتشرت الأوقاف بين المسلمين خير انتشار، الغني منهم، ومتوسط الدخل والحال، بل ومحدود الدخل، فمنهم من أوقف عقاراً، ومنهم من أوقف مصحفاً أو كتاباً، ومنهم من أوقف نخلةً، بل ومنهم من أوقف قدراً للطبخ.
وكذلك أوقف الصحابة رضي الله عنهم امتثالاً لأمر الله العام بالصدقة، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم، وحثه على الوقف.
فالوقف نظام يُصلح كل زمان ومكان، والمصلحة تقتضيه؛ لما فيه من منفعة للواقف باستمرار وصول الثواب إليه، ومن المنفعة: الوقوف عليه بانتفاعه بالموقوف، مع حفظه وعدم تمكينه من استهلاكه.
وقد أدركت الأمم غير الإسلامية ما في الوقف من مزايا قيمة، وأغراض سامية؛ فعني كثير منها وضع نصوص في قوانينه؛ لتنظيم نوع من التصرف يشبه الوقف في معناه، وأغراضه، وآثاره عندنا[5].
ومن خلال التشريع الرباني، والامتثال لهذا التشريع؛ وثق التاريخ منذ القرن الأول وإلى أيامنا التي نعيشها أوقافاً شهد لها القريب والبعيد.
وقد أولى فقهاء الأمة ومحدثوهم العمل الوقفي اهتماماً واضحاً؛ فبوبوا له الأبواب وقعدوا له القواعد، وبحثوا في مسائله ومستجداته، فأصلوه تأصيلاً شرعيّاً، وحددوا له الشروط والضوابط والمقاصد والغايات، وطرق إحيائه في النفوس، وفنون رعايته وحسن إدارته.
فالوقف ضمان لاستمرار عطاء المؤسسات التطوعية والخيرية، هذا ما أثبته التاريخ والواقع في عهود الخلافة الإسلامية، فالأوقاف هي حجر الأساس الذي قامت عليه الكثير من المؤسسات الخيرية في ديار المسلمين، فمن أجل نجاح واستمرار مشروع خيري كانوا يقيمون له الوقف لينفق عليه من إيراده، ولا يكتفون بإنشاء المشاريع دون التفكير في مستقبلها وضمان استمرار تشغيلها.
لذلك كانت هذه المؤسسات تقوم بدورها في المجتمع بغض النظر لما يحصل لها من طوارئ الزمان، أو لانصراف الاهتمام عن المشروع إلى غيره.
فالوقف حفظ للمال، وضمان للبقاء، ودوام الانتفاع، وفيه من الخير الكثير، فهو امتثال لأمر الله في الإنفاق والتصدق والبذل في سبيل الله، ومنفعة الآخرين، وامتثال لأمر النبي محمد صلى الله عليه وسلم في حثه وتوجيهه للصدقة والوقف.
والوقف ثوابه للحي وللميت، فهو من العمل الذي لا ينقطع في أجره وفي نفعه للموقوف عليه، في زمنه وزمن غيره، فأوقاف الصحابة استمر نفعها لمئات السنين، وبعض منها ما زال نفعها إلى الآن؛ كبئر عثمان ا -بئر رومة-، ووقف سعد بن عبادة بستانه كصدقة لأمه الذي توفيت وهو غائب عنها.
والوقف سبيل للذكر الحسن، والدعاء والثناء لواقفه على ألسنة الناس، والأهم من ذلك: استمرارية وصول الثواب والأجر للواقف؛ ما دام الوقف قائماً يستفيد منه العباد، فالثواب مستمر بديمومة الوقف.
والوقف بر للرحم والأقارب؛ لتدوم الصلة، وتتآلف القلوب، وتنزع الضغينة من القلوب، وهذا ما يحقق الترابط بين الأبناء والأقارب والأسر.
فالوقف فيه: تحقيق التكامل والتآلف بين المسلمين، والتكافل الخاص في نطاق الأسرة، والوقف لا تقتصر منفعته على الفقراء وحدهم وإنما يمتد نفعه ليشمل كثيراً من المجالات التي تخدم البشرية.
لقد استمر عمل الأمة الإسلامية في وقف الأوقاف من عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين ومن بعدهم جيلاً بعد جيل، واستمرار الوقف مطلب يبتغيه الواقف؛ لأن مقصده: دوام وصول الثواب إليه، والواقف محتاج إلى دوام وقفه ليدوم معه وصول الثواب إليه.
______________
[1] - هو: زيد بن ثابت بن الضحاك الأنصاري الخزرجي، أبو خارجة (11هـ-45هـ)، صحابي، كان يكتب الوحي، وكان أحد الذين جمعوا القرآن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وعرضه عليه، وهو الذي كتب في المصحف لأبي بكر ثم لعثمان.انظر: «الإصابة» (1/561)، و«غاية النهاية» (1/296).
[2] - انظر: «السنن الكبرى» للبيهقي، (كتاب: الوقف، باب: الصدقات المحرمات)، (6/ 161).
[3] - ذكره الخصاف في «أحكام الأوقاف»، فيما رُوي في صدقة زيد بن ثابت، (ص12)، وفي كتاب «الإسعاف في أحكام الأوقاف»، إبراهيم الطرابلسي، (ص 9)، وسنده ضعيف.
[4] - «أحكام الأوقاف» للخصاف، (ص 12).
[5] - كتاب «الوقف» للشيخ عبد الجليل عبد الرحمن، اعتنى بإخراجه د.عبد الله مزى، المكتبة الملكية، (ط1/ 1430هـ-2009م)، مكة المكرمة، (ص 43).
عيسى صوفان القدومي
- بكالوريس - تربية 1987م . - ماجستير - دراسات إسلامية 1998م . - دكتوراه - التاريخ والفكر الإسلامي 2012م.
- التصنيف: