صراع!

منذ 2016-03-07

الصراع بين البشر ليس هو الأصل المشروع، بل المشروع التكامل، والتعارف، والتعاون، والتواد، والتراحم، والتعاطف، والدفع بالتي هي أحسن، وما شاكل هذا من المعاني الواردة بنصوصها في القرآن والسُّنة، وهو المطلوب من العباد.

مضى زمن كنا نسمع فيه وصف التوجه السياسي لشخص ما فيقال: هو تَقَدُّمي أو رَجْعِي (وهذه صارت قديمة.. لأنها حكم على الآخر بالنظر إلى موقفك أنت منه)، أو يميني ويساري، وهذه قسمة من زمن الثورة الفرنسية؛ حيث كان أهل الجانب الأيمن مؤيدين للملكية بخلاف الضفة الأخرى، أياً ما كان فهي جهات أربع توعَّد الشيطان بني آدم بإتيانهم منها.

{ثُمَّ لَآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ ۖ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف:17].

{مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ}؛ بالتسويف، والأمل الكاذب، والغفلة، والإحالة إلى المستقبل.

{وَمِنْ خَلْفِهِمْ}؛ باستحضار الماضي وإشغالهم به، وتزيين ما وقع فيه من الغيِّ، والدعوة لتكراره، والتعلق بالأموال والأولاد، وكم من الناس يعوقهم الالتفات الدائم إلى الماضي وعثراته وأخطائه ومشكلاته عن الانطلاق والنجاح!

{وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ}؛ بالإعجاب بالنفس والعمل، والرياء، وتبغيض الطاعات إليهم، وتشجيعهم على استثقال الصلوات والخلوات والأذكار.

{وَعَن شَمَائِلِهِمْ}؛ بالمعاصي والإغراء بها، وتحسينها وتزيينها.

ولذا كان من دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم-: «اللَّهُمَّ احْفَظْنِى مِنْ بَيْنِ يَدَىَّ وَمِنْ خَلْفِى وَعَنْ يَمِينِى وَعَنْ شِمَالِى وَمِنْ فَوْقِى وَأَعُوذُ بِعَظَمَتِكَ أَنْ أُغْتَالَ مِنْ تَحْتِى» (رواه أبو داود، وابن ماجه، وابن حبان، والحاكم).

هذا التوعُّد قاله إبليس لربه انتقاماً من آدم حيث أدرك أنه سيكون له ذرية تهيمن على الأرض وتخلف فيها، فهو وعيد بالثأر من الهزيمة التي حاقت به وبمجموعته!

لم يتوعَّد إبليس آدم شخصياً في هذا الموضع؛ لأن آدم قد تاب وأناب وتلقَّن الدرس جيداً!

كان الوعيد للذرية:

{قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَٰذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء:62].

الاحتناك: وضع اللجام في حنك الدابة؛ ليركبها ويقودها ويُسيِّرها حيث شاء! وهو تمثيل غريب من الشيطان في وعيده أن يتحكَّم بالبشر، وأن يتفنَّن في وسائل الإغراء والافتتان.

وأوضح ما يكون هذا في سيطرة العادات الشريرة على الإنسان، واستسلامه للإدمان على مشروب أو ممارسة أو انفعال يقود إلى تكرار الذنب والوقوع في شباكه وشراكه، حتى ربما فقد الإنسان الرغبة والدافع الفطري للفعل، ولكنه يظل يمارسه بحكم العادة والحنين والشعور بأنه لا يزال في نفس مرحلة الشباب!

المعركة صاخبة وشديدة، وتستخدم فيها الأسلحة المختلفة؛ الخفيفة، والثقيلة، والمتوسطة!

{وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُم بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ ۚ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا} [الإسراء:64].

قال ابن عباس: {بِصَوْتِكَ}:كل داعٍ إلى معصية، ويدخل فيه الصوتان الأحمقان الفاجران: صوت الشهوة والإغراء والإثارة والفتنة، وصوت التسخُّط والصياح والاحتجاج على القضاء والقدر.

الصراع قائم إذاً ولابد بين الخير والشر حتى بين الناس بعضهم وبعض: {بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} [البقرة من الآية:36]؛ كما في قصة قابيل وهابيل.

والمقاومة تكون منذ اللحظة الأولى، منذ الخاطرة والنية والتردد، والله مع العبد ما لم يعجز أو يستسلم، فمَنْ هَمَّ بحسنة فلم يعملها كُتبت له حسنة، ومَنْ هَمَّ بسيئة فلم يعملها كُتبت له حسنة!

الصراع بين البشر ليس هو الأصل المشروع، بل المشروع التكامل، والتعارف، والتعاون، والتواد، والتراحم، والتعاطف، والدفع بالتي هي أحسن، وما شاكل هذا من المعاني الواردة بنصوصها في القرآن والسُّنة، وهو المطلوب من العباد.

والصراع هو نتيجة البغي والعدوان وطاعة الشيطان، حتى إنه يكون بين الزوجين عداوة أو بين الأولاد والآباء: {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} [التغابن من الآية:14].

البشر فقط هم الذين يقتل بعضهم بعضاً بخلاف الوحوش والذئاب والأسود من جنسٍ واحد!

وَلَيسَ الذِئبُ يَأكُلُ لَحمَ ذِئبٍ *** وَيَأكُلُ بَعضُنا بَعضاً عَيانا

الإنسان وحده من يُحرِّض الوحوش والثيران والإبل والدِّيَكَة؛ لتتناطح وتتقاتل وتهلك!

وَمُرادُ النُفوسِ أَصغَرُ مِن أَن *** نَتَعادى فيهِ وَأَن نَتَفانى

صناعة المعارك وإدمان الغارات يمنح الإنسان شعوراً مؤقتاً بالرضا، ويعطيه مكانةً متميزة لدى مجموعته أو طائفته، ولكنه يحرمه من العمل والإنجاز، ويجعله رهناً لردود الأفعال، ويلغي شخصيته، ويجور على إنسانيته.

والحق ركنان بناءٌ وهدّامُ، والهدم لا يراد لذاته إنما يراد للتشييد والبناء.

تعلّمت من تجربتي الصغيرة أن أفضل طريقة للفوز بالحرب هو ألا أخوضها، ومن حِكَم العرب: "أَبْقِ لِلصُّلْحِ مَوْضِعاً". وتعلّمت أن الصبر على أذى خصم أحمد عاقبةً وأروح للنفس وأبرأ للذمة من الدخول معه في عراكٍ لا طائل من ورائه، ولو كانت النجاحات بالخصومات لكنا اليوم فوق أهل الأرض جميعاً!

والله ولي الصابرين.

----

الجمعة 17 جمادى الأولى 1437، الموافق 26 فبراير 2016

المصدر: موقع الشيخ سلمان العودة

سلمان بن فهد العودة

الأستاذ بكلية الشريعة وأصول الدين بالقصيم -سابقًا-

  • 0
  • 0
  • 1,812

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً