الشَّجَرة المَلعُونَة!
الأكل من الشجرة ذنب وهو من الصغائر أو اللَّمم، وسمّاه آدم معصية في حديث الشفاعة، ولم يترتب على فعله عقاب محدد، والهبوط إلى الأرض مكتوب من قبل، ولذا سبق قول ابن عباس: "إن الله أهبط آدم إلى الأرض قبل أن يخلقه"، يعني خلقه للأرض، ولذا يجب التمييز بين كيد الشيطان وبين فعل الإنسان وبين قدر الرحمن.
خُلِقَتْ شجرة آدم وحواء ابتلاءً وامتحاناً، وخُلِقَتْ قضاءً مقضياً وقدراً مقدوراً؛ لاستكمال نزول الأبوين إلى الأرض، وحصول الوصال الجسدي، وتوالد الذريّة، والشيطان كان يدري أن ذلك حاصل، ولذا كان يهدد الذرية {لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إَلاَّ قَلِيلاً} [الإسراء من الآية:62].
وفي هذا إلماح وإلهام ألا يضيق الإنسان بالمعصية إذا أعقبها توبة، فربما كانت خيراً، كما قال صلى الله عليه وسلم: « » (رواه مسلم).
ولذا خلق الله المحرَّم من الشجر وغيره، وكان ابن القيم يقول:
وَرُبَّمَا كَانَ مَكْرُوهُ النُّفُوسِ إلَى *** مَحْبُوبِهَا سَبَبًا مَا مِثْلُهُ سَبَبُ!
وكان ابن تيمية يرى عموم الحديث حتى في قدر الذنب والمعصية إذا تاب منها وأناب!
وقد يكون الشيء محرَّم الأكل ولكنه نافع لمصالح الناس؛ كاستخراج علاج أو زينة أو ظل، أو للمخلوقات الأخرى غير الإنسان.
الأكل من الشجرة نقلهما إلى مرحلة التكليف وهي اللحظة المناسبة لسكنى الأرض، ولذا أبلغهما ربهما بأنه سوف يبتليهم وذريتهم ويرسل إليهم الهدى ويخضعهم للحساب والجزاء والثواب والعقاب.
{وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ} [البقرة من الآية:35]، كأنهما كانا ينظران إليها؛ ليكتمل الابتلاء ويتحقق المراد ويمضي القدر المقدور، ولذا كان النظر أول مراحل الوقوع في الشهوة، وقال ابن القيم:
كُلُّ الْحَوَادِثِ مَبْدَاهَا مِنَ النَّظَرِ *** وَمُعْظَمُ النَّارِ مِنْ مُسْتَصْغَرِ الشَّرَرِ
كَمْ نَظْرَةٌ بَلَغَتْ فِي قَلْبِ صَاحِبِهَا *** كَمَبْلَغِ السَّهْمِ بَيْنَ الْقَوْسِ وَالْوَتَرِ
وَالْعَبْدُ مَا دَامَ ذَا طَرْفٍ يُقَلِّبُهُ *** فِي أَعْيُنِ الْعِينِ مَوْقُوفٌ عَلَى الْخَطَرِ
يَسُرُّ مُقْلَتَهُ مَا ضَرَّ مُهْجَتَهُ *** لَا مَرْحَبًا بِسُرُورٍ عَادَ بِالضَّرَرِ
وكانت رائعة المنظر، شهيَّة للعين، جذَّابة للنفس، ولذا نهوا عن مجرد الاقتراب، وهو نظير ما يسميه العلماء: (سد الذرائع)؛ لأن الاقتراب يغري بالتجربة والذوق، والتذوق قد يوقع في الإدمان.
الكأس الأولى هي الأخطر، والخطوة الأولى، والنظرة الأولى.
لاَ تَقْرَبَا: لا أكلاً، ولا لمساً، ولا شمَّاً!
والأكل وما ينفذ إلى باطن الجسد أشد تأثيراً من مجرد اللمس أو اللباس أو النظر.
ولعل الأمر لم يكن أكلةً كاملة مشبعة، بل لقطةً عجلى أورثت حزناً طويلاً، ولذا عبَّر بالذوق: {فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا} [الأعراف من الآية:22].
الأكل من الشجرة ذنب وهو من الصغائر أو اللَّمم، وسمّاه آدم معصية في حديث الشفاعة، ولم يترتب على فعله عقاب محدد، والهبوط إلى الأرض مكتوب من قبل، ولذا سبق قول ابن عباس: "إن الله أهبط آدم إلى الأرض قبل أن يخلقه"، يعني خلقه للأرض، ولذا يجب التمييز بين كيد الشيطان وبين فعل الإنسان وبين قدر الرحمن.
كانا في الطور الأول، والخبرة لا تزال ضعيفة، مثل حديث العهد بالإسلام أو حديث العهد بالحياة أو حديث العهد بالتكليف، ولذا خوطبا فيما بعد {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى} [البقرة من الآية:38].
صوّر لهم إبليس أن الشجرة هي: {شَجَرَة الْخُلْدِ} [طه من الآية:120]، وخاطب الرغبة البشرية بالبقاء والخلود، ولعلهم علموا أن في الجنة شجرة اسمها (الخُلْد)؛ يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها؛ كما ورد في الحديث: « » (متفق عليه)، وجاءت تسميتها في رواية عند أحمد وغيره.
وهذا نقيض ما حدث فالأكل تسبب في خروجهما من الجنة!
ومنّاهما أن يكونا كالملائكة في الروحانية والخفة فيستغنون عن الأكل والشرب، وكان هذا نقيض ما حدث، فالأكل رسَّخ صفتهما البشرية الطينية.
والعابد قد يميل إلى الصفة الملائكية ويجاهد نفسه على التسامي عن طبع البشر، وكذلك المستعجلون رحيلهم للآخرة؛ هرباً من الفتن وعجزاً عن مواجهتها والصبر عليها، وخوفاً من تكرار الوقوع في جرائم سابقة.
والفضيلة في الصبر والتحمل والمجاهدة والنهوض كلما عثر وكثرة الاستغفار واستحضار رحمة أرحم الراحمين، ولذا ذمَّ الله من تركوا النفير خوف الوقوع في فتنة النساء وقال: {أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا} [التوبة من الآية:49].
إباحة شجر الجنة يعني أن الحلال يكفي لإشباع الغرائز والتطلّعات والميول والأحلام، وحين نمنع شيئاً علينا أن نوفر البدائل المشبعة للحاجات الإنسانية الفطرية.
والتأنق في الحلال وحسن الاستمتاع به يملأ النفس ويغنيها.
وكل ما حرّم الله ففي الحلال ما يغني عنه مما هو أحسن منه وأطيب، وأحمد عاقبة، وأروح للنفس، وأبقى للعافية، وأدوم للسعادة.. ولكن الشيطان يُزيِّن الحرام، حتى يقال إن الفرزدق واعد امرأته ثم عرفها وقال: ما أطيبك حراماً وأخبثك حلالاً!
(تفاحة آدم)؛ رمز الجاذبية، وهي سر اكتشاف نيوتن للجاذبية، وشعار ستيف جوبز في شركته، وهي التي يدخنها العربي في (شيشته)، ويفخر برأس الشيشة (أبو تفاحتين)!
يميل الغربيون إلى ترميز التفاحة؛ أسوة بما في كتبهم أنها شجرة آدم وحواء، ويختلف المفسِّرون الإسلاميون فيراها بعضهم السنبلة أو البر أو التين أو النخل أو الأترج، وكل ذلك مروي عن السلف.
ولعلها الكرم والعنب؛ الذي صار المادة الأساسية للخمر، والخمر أم الكبائر ومفتاح الذنوب.
شرع الشيطان لأوليائه سوء استخدام المعرفة ووضعها في غير موضعها، وهذا سر تقبُّل الأبوين للإغراء، فالباطل المحض لا يروج حتى يكون مشوباً ببعض الحق الذي يحمل على التأويل، ومن العجب ميل آدم إلى أن يكون من الملائكة مع أن الله أسجد له الملائكة!
رحم الله آدم وحقق له ما كان يريد من الخلود ببقاء ذريته في الأرض وتملكها جيلاً بعد جيل، والانتفاع بخيراتها وثرواتها، وهذا الملك الذي لا يبلى كما بلى ملك إبليس وأشياعه بفسادهم وإسرافهم في سفك الدماء.
ورحمه بالتوبة النصوح المتقبّلة؛ التي صار بها وبعدها أفضل مما كان عليه قبلها.
ورحمه بالنبوة ثم الجنة والخلود فيها مع الصالحين من ذريته.
هذه شجرة آدم وحواء.
فما شجرتك أنت؟
{بَلِ الْإِنسَانُ عَلَىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ . وَلَوْ أَلْقَىٰ مَعَاذِيرَهُ} [القيامة:14-15].
- التصنيف:
- المصدر: