بين الثبات والتجديد - [02] بين الثبات والتجديد
فالغايات متفقة، دعوة الناس إلى رب العالمين وتعبيدهم لله عز وجل بالعمل بالكتاب والسنة وطلب الجنة طلب الرضوان، لكن الوسائل إلى ذلك تختلف
المعنى الثالث: (اهدنا) أي: وفقنا للصواب فيما تختلف فيه الأنظار وتتفاوت فيه الاجتهادات، ولهذا كان من دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم دعوته في صلاة الليل: «صحيح مسلم: 770].
» [وهنا دعا النبي صلى الله عليه وسلم ربه فاستغاث به، وقال: « » الذين مهمتهم تتعلق بالحياة: فـجبريل ينزل بالوحي الذي به حياة القلوب، وميكائيل الموكل بالقطر الذي فيه حياة الأرض، وإسرافيل ينفخ في الصور لحياة الناس من قبورهم.
وذلك لأن المقام مقام طلب الهداية، والهداية هي نور وحياة للقلوب وللأبدان، فناسب أن يذكر اسم هؤلاء الملائكة.
وهذا يشمل الهداية الأولى بالثبات إلا أنه يشمل هداية جديدة، وهي طلب الهداية في مواضع الإشكال، ولهذا قال: {لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ} [البقرة:213]، وكثيرًا ما كان العلماء يدعون بهذا الدعاء في مواضع الاضطراب والاختلاف والمسائل الخفية.
وهنا نلاحظ أن الرسول صلى الله عليه وسلم سأل الهداية وليس الثبات كما في الحديث الذي قبله.
إن هذه الهداية هي في حقيقتها ثبات، ولكن قد لا تكون صورتها كذلك، إنها ثبات على المنهج، ومن الثبات أن يتبع المرء الهداية حيث كانت، فالدين المحض يسأل المرء الثبات عليه بكل حال، والرأي يطلب المرء الصواب فيه، ولهذا نقول: إن أعظم الثوابت هو الاجتهاد، وهو أساس المتغيرات، فإن المرء إذا اجتهد فأصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر؛ لأن اجتهاد المرء ينتقل من فاضل إلى أفضل أو من مفضول إلى فاضل.
وعند البخاري وغيره عن زهدم قال: كنا عند أبي موسى الأشعري، وكان بيننا وبين هذا الحي من جرم إخاء، فأتي بطعام فيه لحم دجاج، وفي القوم رجل جالس أحمر فلم يدن من طعامه، قال: ادنه! فقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل منه، قال: إني رأيته أكل شيئاً فقذرته فحلفت ألا آكله، فقال: ادن أخبرك أو أحدثك أني أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في نفر من الأشعريين، فوافقته وهو غضبان، وهو يقسم نعمًا من نعم الصدقة، فاستحملناه فحلف ألا يحملنا: قال: ما عندي ما أحملكم عليه، ثم أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بنهب من إبل، فقال: أين الأشعريون؟ أين الأشعريون؟ قال: فأعطانا خمس ذود غر الذرى، فلبثنا غير بعيد، فقلت لأصحابي: نسي رسول الله صلى الله عليه وسلم يمينه، فوالله لئن تغفلنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يمينه لا نفلح أبدًا، فرجعنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقلنا: يا رسول الله، إنا استحملناك فحلفت ألا تحملنا، فظننا أنك نسيت يمينك، فقال: إن الله هو حملكم، إني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها، إلا أتيت الذي هو خير وتحللتها.
فهنا تلاحظ أن النبي صلى الله عليه وسلم حلف على شيء ثم فعل غيره، وقرر في ذلك قاعدة عظيمة له ولمن يأتي بعده، أنه قد يرى الشيء صوابًا حتى يحلف عليه صلى الله عليه وسلم، ثم يبدو له أن غيره خير منه؛ لأنه تغيرت الأحوال والأحداث، إذ لم يكن عنده نعم فجاءته النعم، أولم يكن يرى هذا الشيء فأراه الله تعالى إياه، فيكفر عن يمينه الأول، ثم يأتي الذي هو خير.
ولهذا قال عمر بن الخطاب في رسالته لـأبي موسى، والغريب أن أبا موسى طرف في الأمرين كليهما ضمن هذا الخطاب: "ولا يمنعنك قضاء قضيته بالأمس فراجعت اليوم فيه عقلك، وهديت فيه إلى رشدك؛ أن ترجع فيه إلى الحق، فإن الحق قديم، ومراجعة الحق خير من التمادي بالباطل، ثم قال له: الفهم الفهم فيما تلجلج في صدرك مما ليس في كتاب الله ولا سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ثم اعرف الأمثال والأشباه وقس الأمور بنظائرها".
يقول ابن القيم رحمه الله في كتاب إعلام الموقعين: "هذا كتاب جليل تلقاه العلماء بالقبول وبنوا عليه أصول الأحكام والشهادة والحاكم، والمفتي أحوج شيء إليه، وإلى تأمله والفقه فيه".
ثم شرح ابن القيم هذه الفقرة بالذات في قول عمر لـأبي موسى: "ولا يمنعنك قضاء قضيته بالأمس، ثم راجعت فيه عقلك، وعدت فيه إلى رشدك، أن تراجع الحق، فإن الحق قديم".
يقول في كلام جميل: "يريد أنك إذا اجتهدت في حكومة -يعني: في حكم- ثم وقعت في هذه الحكومة مرة أخرى فلا يمنعك الاجتهاد الأول من إعادته؛ فإن الاجتهاد قد يتعثر، ولا يكون الاجتهاد الأول مانعًا من العمل بالثاني إذا ظهر لك أنه الحق، فإن الحق أولى بالإيثار؛ لأن الحق قديم سابق على الباطل، فإذا كان الاجتهاد الأول قد سبق -يعني هو الأول عندك وقد تعمل به؛ لأنك تقول: هذا أول اجتهاد، وهو أول ما ذهبت إليه، وأول ما نظرت فيه، فيقول لك: لا يمنعنك ذلك من أن تأخذ بالحق الجديد- فالحق قديم، يعني أسبق حتى من اجتهادك الأول، والرجوع إليه أولى من التمادي على الاجتهاد الأول.
ثم نجد أن عمر رضي الله عنه وغيره من الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين كانوا يعملون بهذا النظام، فـعمر نفسه رضي الله عنه -كما عند عبد الرزاق وغيره- أنه قضى في مسألة المشركة -وهي مسألة فرضية- بقضاء ثم جرت مرة أخرى فقضى فيها عمر رضي الله عنه بقضاء آخر، فقيل: يا أمير المؤمنين، إنك قضيت قبل عام بغير ذلك، فقال عمر رضي الله عنه: "تلك على ما قضينا يومئذ، وهذه على ما قضينا اليوم".
فأخذ عمر رضي الله عنه باجتهاد ثم أخذ باجتهاد آخر بما ظهر له أنه الحق ولم يمنعه القضاء الأول من الرجوع إلى الثاني، ولم ينقض أيضًا القضاء الأول بالقضاء الثاني، فجرى أئمة الإسلام -كما يقول ابن القيم - من بعده على هذا المنوال.
ومن هنا وجدنا الأئمة ينهون عن تقليدهم، بل ويرفضون هم أن يقلدوا أنفسهم، فالإمام أحمد يكون له في المسألة الواحدة سبع روايات، وهي من القضايا التي قد يكون فيها نصوص، ولكن توجيه النصوص على محلها والنظر فيها واعتبار الناسخ والمنسوخ، والنظر إلى صحة الإسناد وعدمه.
وهكذا الشافعي كان له مذهب قديم في العراق ثم مذهب جديد في مصر، و تلاميذ أبي حنيفة أصبحوا يخالفونه في نحو من ثلثي مذهبه؛ رضي الله عنهم أجمعين.
وكان الشافعي يقول: "إنما يؤخذ بالآخر فالآخر من هدي النبي صلى الله عليه وسلم" وقوله: فنحن نجد أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم إلىالمدينة مثلاً كان يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم ينزل عليه فيه شيء، يحب موافقتهم طمعاً في إسلامهم وتأليفاً لقلوبهم، ثم خالفهم بعد ذلك، وأصبحت مخالفة أهل الكتاب والمشركين والوثنيين شريعة قائمة أمر بها النبي صلى الله عليه وسلم وقررها وقعد أصولها.
وهكذا نجد بعد هؤلاء الأئمة أن الإمام ابن تيمية ينتقل من المذهبية إلى الاجتهاد، ويكتب ويتكلم ويفتي في كثير من المسائل التي خالف فيها المذهب وخالف فيها الشيوخ، يتكلم برؤية شهودية لم تكن له من قبل، حتى إنه يخالف رأيه، بل أكثر من هذا فتجده في موضع يتكلم عن مسألة جريان الربا في الحلي فيقول: إنها باطلة باتفاق العلماء، ثم يقرر في آخر عمره وفي السجن في تفسير آيات أشكلت -وهو كتاب مطبوع- خلاف الرأي الذي قرره من قبل وقال إن عليه اتفاق العلماء؛ وما ذلك إلا لأنه كبر عقله واتسع اجتهاده، وزاد نظره، وتغيرت رؤيته، وأدرك ما لم يكن يدرك من قبل، وإلا فهو لا شك في المسألة الثانية أكثر احتياطاً لدينه وأكثر ورعًا وحرصًا على مصالح الناس، ولكن أراه الله حينئذ ما لم يكن يرى من قبل، ولا يلزم من ذلك بالضرورة أن يكون الآخر صوابًا، لكن المدرك هو سعة الأمر وأهمية التعبد بالاجتهاد الذي يراه الفقيه، ولا يقلد فيه نفسه ولا غيره.
ومن المهمات في هذه المسألة ضرورة فصل الدين الرباني المحض عن النقائص البشرية النفسية والعقلية، فإنهما يختلطان على المرء أحيانًا، فتتدثر بعض الخصائص البشرية وبعض الطبائع الإنسانية بدثار التقوى حتى يلتبس الأمر على صاحبها، وفرز هذا عن ذاك بحيث يعرف المرء ما كان دينًا محضًا صريحًا لا شوب فيه، وما كان رأيًا أو أمرًا اجتهاديًا أو أمرًا شخصيًا أو نابعًا من طبيعة أو جبلة، وهذا لا شك من أعظم علامات الإخلاص لله عز وجل والنجاة من تلبس الهوى بالإنسان، ويدخل في هذا الانتقال من الاجتهاد المرجوح إلى الاجتهاد الراجح، من الحصول على أجر واحد إلى الحصول على أجرين معًا أجر الاجتهاد وأجر الصواب، وهذا الاختلاف والترجيح والانتقال يكون في مسائل، أذكر أربعًا منها على سبيل العرض السريع:-
الأولى: مسألة الوسائل وليس الغايات:
فالغايات متفقة، دعوة الناس إلى رب العالمين وتعبيدهم لله عز وجل بالعمل بالكتاب والسنة وطلب الجنة طلب الرضوان، لكن الوسائل إلى ذلك تختلف، ولهذا نرى أن وسائل الدعوة اجتهادية وليست توقيفية ، وقد يجد للناس من الوسائل اليوم ما لم يكن عندهم من قبل، إما أنه لم يكن موجودًا، أو لم يكن مستخدمًا، أو لم تكن المصلحة الراجحة تقتضي اعتماده كوسيلة، فالوسائل تختلف من زمان، إلى زمان ومن مجتمع إلى مجتمع، ومن بيئة إلى أخرى، وهي حركة ضمن دائرة المباح الأصلي في الجملة.
الثانية: ما يتعلق بالأساليب:
فأساليب الدعوة قد تختلف، فالإنسان يستخدم أسلوب السرية والعلنية، ونوح عليه السلام يقول: {ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا} [نوح:9]، وقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم سرًا بـمكة ثلاث سنين، ثم جهر بدعوته.
كذلك التفاوت بين الشدة واللين، وبين التعميم والتخصيص، والتربية الفردية والخطاب الجماعي، وهكذا كلها أساليب يطلب منها ما يحقق المقصود وما يحقق المقصود اليوم قد لا يحققه غداً، وما يحققه في بلد قد لا يحققه في بلد آخر، ولهذا أذنت الشريعة أن يكون هذا مجال نظر واجتهاد وتوسعة.
الثالثة: ما يتعلق بالفروع وليس الأصول:
فأصول الشريعة والاعتقاد من المحكمات المسلمات القطعية التي لا خلاف فيها، لكن باب الفروع باب واسع؛ اختلف موسى و هارون وهما نبيان كما جاء في صريح القرآن، كما اختلف فيه أبو بكر و عمرحتى في حضور النبي صلى الله عليه وسلم في موضوع الأسرى وغيره، واختلف فيه أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد، واختلف فيه الإمام النووي و ابن حجر و ابن تيمية وغيرهم، واختلف فيه ابن باز وابن عثيمين؛ فلا غرو إذن أن يختلف الناس فيه إلى قيام الساعة، وألا يكون ثمة تثريب على اختلاف الناس فيما كان من فروع الشريعة، والخلاف المقبول هنا ليس بسبب الهوى أو التشهي، أو المزاج أو الذوق؛ وإنما بسبب الاجتهاد والنظر في الأدلة والراجح والمرجوح، والصحيح والضعيف، والناسخ والمنسوخ وغيره.
الرابعة: الاجتهاد في النوازل الحادثة وليس في القواعد المستقرة:
والنازلة بطبيعتها شيء جديد تطيش له الأفهام وتذهل العقول وتستوحش النفوس، ولكن العبرة بما يؤول إليه الأمر ويستقر عليه الحال، ولهذا فإنالاجتهاد في النوازل يكون مجالًا وعرضة ، ونحن نجد موسى وهارون قد اجتهدا في مسألة نازلة وهي كون بني إسرائيل عبدوا العجل، فعاملها كل منهما بطريقة على حسب ما ذكر الله تعالى في كتابه، وإن كانوا كلهم وكل الرسل والأنبياء بعثوا بدعوة التوحيد ونبذ الأنداد والأصنام ورفض الشرك، إلا أن معالجة نازلة في هذا الباب كانت محل اختلاف فعالجها هارون عليه السلام بأن نهاهم عن ذلك وصبر عليهم، بينما موسى عليه السلام أخذ برأس أخيه يجره إليه، ونهاه عن ذلك فقال له: {لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي} [طه:94] فـمن معاني الهداية: طلب ما هو الأفضل والأتقى والأكثر صوابًا والأكثر رجحانًا.
الرابع من معاني الهداية: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] أي: ألهمنا عبودية تناسب الحال التي نحن فيها، فإن لكل مقام من مقامات الإنسان عبودية تخصه وتلائمه، فهناك عبودية الإنسان في حال الصحة، واستخدام قوته فيما يرضي الله سبحانه، لكن عبوديته في حال المرض بالصبر والرضا والتسليم والدعاء، وهناك عبودية الغنى بالإنفاق في سبيل الله وهي الشكر، وهناك عبودية الفقر التي هي الرضا والتسليم، وألا يمد عينيه أو يديه إلى ما عند الناس، وأن يدعو الله سبحانه وتعالى، ويطلب الغنى منه دون غيره، و هناك عبودية القوة للفرد والجماعة والدولة والأمة بأن تصرف هذه القوة في طاعة الله، وفي حماية الإيمان والمؤمنين، وفي تأديب الظالمين والفاسقين والمعتدين، وهناك عبودية الضعف التي تقتضي الصبر والمصابرة والانتظار والتفكير وإعمال العقل والحيلة ، فقد يدرك الإنسان بالحيلة ما لا يدركه بالوسيلة والقوة .
وكذلك التسليم لله سبحانه وتعالى بألا يسخط الإنسان من القضاء أو القدر، أو يخرج عن طوره أو يكفر بربه أو يشك في دينه، وبعض الناس يقول: لماذا مكن الله الكفار وأعطاهم القوة؟ وحرم المؤمنين ومنعهم من ذلك؟
فهذا مما يدل على أهمية إدراك العبودية في حال الضعف، وأنها غير العبودية في حال القوة، ومن العبودية في حال الضعف أن يسعى الإنسان بنظره وتفكيره وتخطيطه إلى استجماع واستحضار القوة الممكنة؛ بحيث يزول الضعف، وإذا لم يزل عن هذا الجيل فليزل على الأقل عن الأجيال القادمة وأن نعرف لأجيالنا طريقًا بدأناه نحن ليكملوه هم من بعدنا، وهكذا عبودية الشباب غير عبودية الكهولة أو عبودية الشيخوخة، ولهذا نجد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: « » [صحيح ابن حبان: 349]، وفي لفظ ( إن لكل شيء شرة، ولكل شيء فترة، فإن كان صاحبها سدد وقارب فارجوه، وإن أشير إليه بالأصابع فلا تعدوه ).
وهذا لفظ الترمذي، وفي مسند الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو قال: ( ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم رجال يجتهدون في العبادة اجتهادًا شديدًا فقال: تلك ضراوة الإسلام وشرته، ولكل ضراوة شرة، ولكل شرة فترة، فمن كانت فترته إلى اقتصاد وسنة فلأم ما هو، ومن كانت فترته إلى المعاصي فذلك الهالك ) فأشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى طبيعة الأشياء، وأن لكل شيء عبادته أو عبوديته التي تلائمه، فالشباب مثلاً بطبيعتهم الحادة وحداثة التجربة لديهم يكونون كما يقول الرازي في الفراسة (ص81): (سراع التقلب يغلب عليهم الملال، يشتهون بإفراط، ويملون بإفراط؛ لأن النفس الخالية من التصورات تكون شديدة الرغبة في تحصيلها، فإذا قضت وطرها منها مالت إلى غيرها.
ويغلب عليهم حب الكرامة، ورغبتهم في العلو والظهور فوق رغبتهم في المال.
ولديهم سرعة التصديق بما يلقي إليهم، وبساطة التصور مما يولد نوعاً من الإقدام.
أما في السن المتقدم فيغلب على المرء كثرة التعقلات والتصورات والتجارب، وكثرة التردد والشك، وقلة الجزم، والاعتدال في الولاء وفي الكراهية، والمعرفة بالعواقب).
وقريب من ذلك ما ذكره ابن رشد عن بعض أهل الفلسفة حيث قال: (فمما يتصف به الشباب: غلب الشهوات عليهم، وهم سريعو الغضب والرضا وهم محبون للكرامة، ولا يحتملون تجريحاً، ويصدقون القول سريعاً لقلة خبرتهم، ويسهل خداعهم واغترارهم؛ لأن من شأنهم التصديق من غير دليل أو بدليل ضعيف، والحياء يغلب عليهم، ثم هم يقدمون الجميل على النافع، إذا أحبوا شيئاً بالغوا في حبه، وإذا أبغضوا شيئاً بالغوا في بغضه، ويميلون إلى الهزل والمزح.
أما أخلاق الشيوخ فلا يكترثون بحمد ولا ذم؛ لأن قصدهم الحقائق، ولا يجزمون بشيء البتة ويقرنون كلامهم بلعل وعسى! ولا يحبون بشدة كما لا يبغضون بشدة، بل أمرهم وسط بلا إسراف، بل بما يقتضيه الحال، ويؤثرون النافع على الجميل، وهم بعد ذلك أطول صبرًا وأمضى عزيمة لا يهزلون كثيرًا، ولا يمزحون إلا نادرًا).
فالمؤمن يدعو ربه أن يوفقه ويلهمه العبودية الملائمة لحاله كفرد ولحال المجموعة أو الأمة أو المجتمع، ولهذا يقول الإمام ابن تيمية: (كل عبد فهو مضطر دائمًا إلى مقصود هذا الدعاء، وهو هداية الصراط المستقيم، فإنه لا نجاة من العذاب إلا بهذه الهداية، ولا وصول إلى السعادة إلا به، فمن فاته هذا الهدى فهو إما من المغضوب عليهم أو من الضالين، وهذا الاهتداء لا يحصل إلا بهدى الله: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:178]. فإن الصراط المستقيم أن تفعل كل وقت ما أمرت به في ذلك الوقت من علم وعمل، ولا تفعل ما نهيت عنه، وإلى أن يحصل له إرادة جازمة لفعل المأمور وكراهة جازمة لترك المحظور، والصراط المستقيم قد فسر بالقرآن والإسلام وطريق العبودية، وكل ذلك حق، فهو موصوف بهذا وبغيره، فحاجته إلى هذه الهداية ضرورية في سعادته ونجاته، بخلاف الحاجة إلى الرزق.
فالإمام رحمه الله ذكر المعنى الأول وهو أن الهداية في كل وقت بحسبه، وأن العبد حينما يدعو ويقول: اهدنا الصراط المستقيم، فلأنه اليوم محتاج إلى الهداية المتجددة زائدة على ما كان عنده بالأمس، وهو غدًا يحتاج إلى هداية زائدة على ما عنده اليوم، ففي كل يوم، بل في كل ساعة، بل في كل لحظة هو محتاج إلى هداية جديدة تلائم مقامه وتحل المشكلة الماثلة أمامه، فهذا معنى.
ثم أشار رحمه الله إلى أن هذه الهداية ضرورية، بخلاف الحاجة إلى الرزق والنصر فإن الله يرزقه فإذا انقطع رزقه مات، والموت لا بد منه، فإن كان من أهل الهداية كان سعيدا بعد الموت، وكان الموت موصلا له إلى السعادة الدائمة الأبدية، فيكون رحمة في حقه.
وكذلك النصر إذا قدر أنه قهر وغلب حتى قتل، فإذا كان من أهل الهداية والاستقامة مات شهيداً، فتبين أن حاجة العباد إلى الهدى أعظم من حاجتهم إلى الرزق والنصر، بل لا نسبة بينهما ; فلهذا كان هذا الدعاء هو المفروض عليهم، وأيضاً فإن هذا الدعاء يتضمن الرزق والنصر؛ لأنه إذا هدي الصراط المستقيم كان من المتقين {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2-3]، وكان من المتوكلين {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ} [الطلاق:3]، وكان ممن ينصر الله ورسوله، ومن ينصر الله ينصره الله، وكان من جند الله، وجند الله هم الغالبون.
فالهدى التام يتضمن حصول أعظم ما يحصل به الرزق والنصر، فتبين أن هذا الدعاء هو الجامع لكل مطلوب يحصل به كل منفعة ويندفع به كل مضرة، فلهذا فرض على العبد، هذا يدخل فيه سؤال الله سبحانه وتعالى الإلهام لمعرفة الأحوال ومعرفة المراحل وتحقيق عبوديته كل منها في وقتها، والإنسان لا يعرف ذلك إلا بتعليم الله تعالى له.
ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الحديث المتفق عليه عن ابن عباس: لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذًا إلى اليمن : «
فإذا أجابوا إلى شيء دعوا إلى ما فوقه وإلى ما بعده، وهذا يدل على ملاحظة التدرج في دعوة الناس أفرادًا وجماعات، ومن هذا التنوع في العناية بالموضوعات المختلفة، فهناك أقوام يناسبهم أن يتحدث معهم في موضوع التربية، وآخرون يناسبهم الحديث معهم في تفصيلات العلم في الفقه والحديث والتفسير وغيرها، وفئة ثالثة تحتاج إلى من يحدثها في الجوانب الواقعية والمسائل والمشكلات السياسية، وفئة رابعة تحتاج إلى من يحدثها بالانتقال إلى الأعمال والمشاريع والمؤسسات وإلى الأمور العملية، وهكذا بحسب ما لدى هؤلاء من الكمال ومن الإيمان ومن العلم ومن القدرة، وبحسب ما عندهم من النقص أو الاختلال يكون ما يقدم لهم.
ومن ذلك أيضًا أن الخطاب يقبل التنوع والتعدد، ولهذا الله سبحانه وتعالى يقول: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} [إبراهيم:4] فالرسالة تكون بلسان القوم المبعوث إليهم، والمقصود من ذلك هو البيان.
فـ المقصود من دعوة الإسلام هو البيان للناس، والبيان يكون بالقول والفعل، والقول يتنوع والفعل يتنوع بحسب حال المتحدث وحال المدعوين، ولذلك كان خطاب الأمم ذات الحضارة والعلم المادي الدنيوي يختلف عن خطاب الأمم البسيطة الساذجة، فالدعوة في أوروبا مثلاً تختلف في متطلباتها واحتياجاتها وفي همومها ومشكلاتها التي تواجهها عن الدعوة في أفريقيا أو الدعوة في آسيا، فحينما تدعو شخصًا بسيطًا ساذجًا ليس عنده أي خلفية مسبقة يختلف الأمر عما إذا دعوت شخصًا مليئًا بالشبهات والنظريات والفلسفات والأقوال السابقة، وإذا دعوت شخصًا في الصحراء فليس كما لو دعوت شخصًا في المدينة.
ثم أحوال المجتمعات وتعقيداتها وظروفها يحتمل أبعد من هذا، فالشبهات غير الشبهات والهموم والمشكلات والحلول تتفاوت من قوم إلى قوم، وكل قوم يخاطبون بحسب ما يناسبهم، ووسائل التأثير مختلفة، ونوعية الداعية الذي نحتاج إليه في أوروبا غير الداعية الذي نحتاجه في أفريقيا، والداعية في بلاد ينتشر فيها العلم الشرعي غير الداعية في بلاد يعم فيها الجهل، والدعوة في بلاد غنية غير الدعوة في بلاد فقيرة وهكذا.
- التصنيف:
- المصدر: