مقاطع دعوية منوعة - المجموعة (37): مع السيرة
قصة الهجرة:
محمد بن عبد الوهاب:
وفيها من الفوائد والعبر ما لا يعرفه أكثر من قرأها، ولكن مرادنا الآن مسألة من مسائلها، وهي أن من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من لم يهاجر -من غير شك في الدين وتزيين دين المشركين، ولكن محبته للأهل والمال والوطن- فلما خرجوا إلى بدر، خرجوا مع المشركين كارهين، فقتل بعضهم بالرمي -والرامي لا يعرفه-.
فلما سمع الصحابة أن من القتلى فلاناً وفلاناً شق عليهم، وقالوا: "قتلنا إخواننا" فأنزل الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ ۖ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ ۚ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّـهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا ۚ فَأُولَـٰئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ۖ وَسَاءَتْ مَصِيرًا . إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا . فَأُولَـٰئِكَ عَسَى اللَّـهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ ۚ وَكَانَ اللَّـهُ عَفُوًّا غَفُورًا} [النساء:97-99].
فمن تأمل قصتهم، وتأمل قول الصحابة: "قتلنا إخواننا" أنه لو بلغهم عنهم كلام في الدين، أو كلام في تزيين دين المشركين، لم يقولوا: "قتلنا إخواننا" فإن الله تعالى قد بين لهم -وهم في مكة، قبل الهجرة- أن ذلك كفر بعد الإيمان بقوله: {مَن كَفَرَ بِاللَّـهِ مِن بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النحل:106].
وأبلغ من هذا ما تقدم من كلام الله تعالى فيهم، فإن الملائكة تقول: {فِيمَ كُنتُمْ} ولم يقولوا: (كذبتم) مثل ما يقول الله والملائكة للمجاهد الذي يقول: "جاهدت في سبيلك حتى قتلت" فيقول الله: (كذبت، بل قاتلت ليقال: جريء) وكذلك يقولون للعلم والمتصدق: (كذبت، بل تعلمت ليقال: عالم، وتصدقت ليقال: جواد)... وأما هؤلاء فلم يكذبوهم، بل أجابوهم بقولهم: {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّـهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا}.
ويزيد من ذلك إيضاحاً للعارف والجاهل، الآية التي بعدها، وهي قوله تعالى: {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا} فهذا أوضح جداً أن هؤلاء خرجوا من الوعيد، فلم يبق شبهة، لكن لمن طلب العلم بخلاف من لم يطلبه، بل قال الله فيهم: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} [البقرة:18].
ومن فهم كلام الحسن البصري، قال: "ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتّمنّي، ولكن ما وقر في القلب، وصدقته الأعمال، وذلك أن الله تعالى يقول: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر:10]".
- قصة أبي طالب:
الإمام محمد بن عبد الوهاب:
فمن فهمها فهماً حسناً، وتأمل إقراره بالتوحيد وحث الناس عليه وتسفيه عقول المشركين ومحبته لمن أسلم وخلع الشرك، ثم بذل عمره وماله وأولاده وعشيرته في نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن مات، ثم صبره على المشقّة العظيمة والعداوة البالغة، لكن لما لم يدخل فيه، ولم يتبرأ من دينه الأول، لم يصر مسلماً، مع أنه يعتذر من ذلك بأن فيه مسبة لأبيه عبد المطلب ولهاشم وغيرهما من مشايخهم.
ثم مع قرابته ونصرته، استغفر له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانزل الله تعالى عليه: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَن يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَىٰ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [التوبة:113].
والذي يبين هذا أنه إذا عرف رجل من أهل البصرة أو الأحساء بحب الدين وبحب المسلمين، مع أنه لم ينصر الدين بيده ولا ماله، ولا له من الأعذار ما لأبي طالب، وفهم الواقع من أكثر من يدّعي الدين، تبين الهدى من الضلال، وعرف سوء الأفهام، والله المستعان.
- محمد بن عبد الوهاب: دروس مستفادة من قصة نزول الوحي:
وفيها أن أول آية أرسله الله بها: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ . قُمْ فَأَنذِرْ} [المدثر:1-2] إلى قوله: {وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} [المدثر:7].
فإذا فهمت أنهم يفعلون أشياء كثيرة يعرفون أنها من الظلم والعدوان، مثل الزنا، وعرفت أيضاً أنهم يفعلون شيئاً من العبادة يتقربون بها إلى الله، مثل الحج والعمرة والصدقة على المساكين والإحسان إليهم وغير ذلك، وأجلها عندهم الشرك، فهو أجل ما يتقربون به إلى الله عندهم، كما ذكر الله عنهم أنهم قالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّـهِ زُلْفَىٰ} [الزمر:3]، {وَيَقُولُونَ هَـٰؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّـهِ} [يونس:18]، وقال تعالى: {إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ اللَّـهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ} [الأعراف:30].
فأول ما أمره الله به الإنذار عنه، قبل الإنذار عن الزنا والسرقة وغيرهما، وعرفت أن منهم من تعلق على الأصنام، ومنهم من تعلق على الملائكة وعلى الأولياء من بني آدم، ويقولون: (مانريد منهم إلا شفاعتهم!)، ومع هذا بدأ بالإنذار عنه في أول آية أرسله الله بها.
فإن أحكمت هذه المسألة فيا بشراك...
خصوصاً إذا عرفت أن ما بعدها أعظم من الصلوات الخمس، ولم تفرض إلا في ليلة الإسراء - سنة عشر، بعد حصار الشعب بسنتين، وموت أبي طالب، وبعد هجرة الحبشة بسنتين - فإذا عرفت أن تلك الأمور الكثيرة والعداوة البالغة... كل ذلك عند هذه المسألة قبل فرض الصلاة، رجوت أن تعرف المسألة.
أبو الهيثم محمد درويش
دكتوراه المناهج وطرق التدريس في تخصص تكنولوجيا التعليم من كلية التربية بجامعة طنطا بمصر.
- التصنيف: