دليل المسلم الجديد - [40] الجنة والنار

منذ 2016-10-15

اتفق أهل السنة والجماعة على أن الجنة والنار مخلوقتان موجودتان الآن لا يشك في ذلك أحد منهم لكثرة الأدلة الدالة على ذلك من الكتاب والسنة.

وجود الجنة والنار
الحمد لله
اتفق أهل السنة والجماعة على أن الجنة والنار مخلوقتان موجودتان الآن لا يشك في ذلك أحد منهم لكثرة الأدلة الدالة على ذلك من الكتاب والسنة.
فمن نصوص الكتاب:
قول الله تعالى عن الجنة: {أعدت للمتقين} [آل عمران:133] وقول الله تعالى: {سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض أعدت للذين آمنوا بالله ورسله}[الحديد:21] وقال  الله تعالى: {ولقد رآه نزلة أخرى . عند سدرة المنتهى .عندها جنة المأوى} [النجم:13-15].
وقول الله تعالى عن النار: {أعدت للكافرين} [البقر:24] ومعنى قوله تعالى: أعدت: أي هيئت. فهو دليل على أنهما موجودتان الآن.  
وأما نصوص السنة:
فقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم سدرة المنتهى ورأى عندها جنة المأوى كما في صحيح البخاري (336) ومسلم (237) واللفظ له من حديث أنس رضي الله عنه في قصة الإسراء، وفي آخره ثم «انطلق بي جبرائيل حتى أتى سدرة المنتهى فغشيها ألوان لا أدري ما هي قال: "ثم دخلت الجنة فإذا هي جنابذ [أي قباب] اللؤلؤ وإذا ترابها المسك».
وفي البخاري (1290) ومسلم (5111) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة وإن كان من أهل النار فمن أهل النار يقال هذا مقعدك حتى يبعثك الله يوم القيامة».
وفي حديث البراء بن عازب رضي الله عنه الطويل: «ينادي مناد من السماء أن صدق عبدي فأفرشوه من الجنة وافتحوا له باباً إلى الجنة قال فيأتيه من روحها وطيبها» وهو حديث صحيح صححه ابن القيم في تهذيب السن ( 4 / 337) والألباني في أحكام الجنائز (59).
وفي صحيح البخاري (993) ومسلم ( 1512 ) عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال:" انخسفت الشمس على عهد رسول الله  صلى الله علسه وسلم ـ فذكر الحديث ـ وفيه قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «إني رأيت الجنة وتناولت عنقودا ولو أصبته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا. ورأيت النار فلم أر منظرا كاليوم قط أفظع ...».
وفي صحيح مسلم (646) من حديث أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «والذي نفسي بيده لو رأيتم ما رأيت لضحكتم قليلا وبكيتم كثيرا . قالوا : وما رأيت يا رسول الله ؟ قال : رأيت الجنة والنار».
وفي سنن الترمذي (2483) وغيره عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله تعالى عنه- عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : «لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ أَرْسَلَ جِبْرِيلَ إِلَى الْجَنَّةِ فَقَالَ: انْظُرْ إِلَيْهَا وَإِلَى مَا أَعْدَدْتُ لِأَهْلِهَا فِيهَا . قَالَ: فَجَاءَهَا وَنَظَرَ إِلَيْهَا وَإِلَى مَا أَعَدَّ اللَّهُ لِأَهْلِهَا فِيهَا. قَالَ: فَرَجَعَ إِلَيْهِ قَالَ فَوَعِزَّتِكَ لَا يَسْمَعُ بِهَا أَحَدٌ إِلَّا دَخَلَهَا. فَأَمَرَ بِهَا فَحُفَّتْ بِالْمَكَارِهِ؛ فَقَالَ: ارْجِعْ إِلَيْهَا فَانْظُرْ إِلَى مَا أَعْدَدْتُ لأَهْلِهَا فِيهَا قَالَ فَرَجَعَ إِلَيْهَا فَإِذَا هِيَ قَدْ حُفَّتْ بِالْمَكَارِهِ فَرَجَعَ إِلَيْهِ فَقَالَ وَعِزَّتِكَ لَقَدْ خِفْتُ أَنْ لَا يَدْخُلَهَا أَحَدٌ. قَالَ: اذْهَبْ إِلَى النَّارِ فَانْظُرْ إِلَيْهَا وَإِلَى مَا أَعْدَدْتُ لِأَهْلِهَا فِيهَا فَإِذَا هِيَ يَرْكَبُ بَعْضُهَا بَعْضًا فَرَجَعَ إِلَيْهِ فَقَالَ : وَعِزَّتِكَ لَا يَسْمَعُ بِهَا أَحَدٌ فَيَدْخُلَهَا . فَأَمَرَ بِهَا فَحُفَّتْ بِالشَّهَوَاتِ؛ فَقَالَ : ارْجِعْ إِلَيْهَا . فَرَجَعَ إِلَيْهَا ، فَقَالَ : وَعِزَّتِكَ لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ لَا يَنْجُوَ مِنْهَا أَحَدٌ إِلَّا دَخَلَهَا» وقَالَ الترمذي: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ .وقال الحافظ في الفتح (6 / 320) : "إسناده قوي".
والأحاديث في هذا المعنى كثيرة جدا . وقد عقد البخاري في صحيحه بابا قال فيه :" باب : ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة " وذكر أحاديث منها ما تقدم من أن الله يُري الميت مقعده من الجنة والنار بعد أن يوضع في قبره .
فما بقي على العبد إلا أن يشمر ويجتهد في طاعة ربه والكف عن معصيته رجاء الفوز بجنته والنجاة من أليم عقابه والله تعالى أعلم .
يراجع : (شرح العقيدة الطحاوية للإمام ابن أبي العز الحنفي:1 / 475 وما بعدها)، وكتاب (الجنة والنار) للشيخ / عمر الأشقر (13 - 18).

منازل ودرجات الجنة والنار وأعمالهما
الحمد لله
أولاً:
من حيث العدد هي نارٌ واحدة وجنة واحدة، لكن كل منهما درجات ومنازل. وقد يأتي في السُنَّة ذكر الجنة بالجمع وليس المراد تعدد جنس الجنة وإنما الإشارة إلى عظمتها ودرجاتها وأنواعها أو إلى عظمة أجر من يدخلها كما في حديث أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ أُمَّ الرُّبَيِّعِ بِنْتَ الْبَرَاءِ وَهِيَ أُمُّ حَارِثَةَ بْنِ سُرَاقَةَ أَتَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَلا تُحَدِّثُنِي عَنْ حَارِثَةَ وَكَانَ قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ أَصَابَهُ سَهْمٌ غَرْبٌ فَإِنْ كَانَ فِي الْجَنَّةِ صَبَرْتُ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ اجْتَهَدْتُ عَلَيْهِ فِي الْبُكَاءِ قَالَ: «يَا أُمَّ حَارِثَةَ إِنَّهَا جِنَانٌ فِي الْجَنَّةِ ـ وفي رواية إنها جنان كثيرة ـ وَإِنَّ ابْنَكِ أَصَابَ الْفِرْدَوْسَ الأَعْلَى» (البخاري:2809)
ثانياً:
تختلف دركات النار باختلاف كفر أهلها في الدنيا ، والمنافقون في الدرك الأسفل منها كما قال ربنا تبارك وتعالى : {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرا} [النساء:145] وأخف دركاتها - والعياذ بالله تعالى - ما أشار إليه النبي صلَّى الله عليه وسلَّم فيما رواه النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رضي الله تعالى عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : «إِنَّ أَهْوَنَ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا مَنْ لَهُ نَعْلانِ وَشِرَاكَانِ مِنْ نَارٍ ـ وفي رواية توضع في أخمص قدميه جمرتان ـ يَغْلِي مِنْهُمَا دِمَاغُهُ كَمَا يَغْلِ الْمِرْجَلُ ـ إي القِدْر ـ مَا يَرَى أَنَّ أَحَدًا أَشَدُّ مِنْهُ عَذَابًا وَإِنَّهُ لأَهْوَنُهُمْ عَذَابًا» رواه البخاري (6562) ومسلم (212)، وجاء تعيينه في إحدى روايات مسلم بأنه أبو طالب عم النبي صلَّى الله عليه وسلَّم خفف الله تعالى عليه لما كان له من دور في حماية الإسلام في بداياته.

ثالثاً:
لا يُعرف تحديداً عدد درجات الجنة، وقد قيل إنها بعدد آيات القرآن الكريم أخذا من حديث عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يقال لصاحب القرآن اقرأ وارتق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية تقرأ بها». رواه أبو داود (1464) والترمذي (2914) وصححه الألباني في (صحيح أبي داود).
قال المنذري في الترغيب: قال الخطابي: جاء في الأثر أن عدد آي القرآن على قدر درج الجنة في الآخرة، فيقال للقارئ ارق في الدرج على قدر ما كنت تقرأ من آي القرآن، فمن استوفى قراءة جميع القرآن استولى على أقصى درج الجنة في الآخرة، ومن قرأ جزءا منه كان رقيه في الدرج على قدر ذلك، فيكون منتهى الثواب عند منتهى القراءة . (الترغيب والترهيب: 2 / 228 ).
لكن في كلامه هذا نظر؛ لأن الحديث في بيان "منازل" الحفظة وليس في درجاتهم، وتختلف الدرجات باختلاف العاملين في الدنيا، كما أن هناك أعمال أخرى يتفاضل الناس بها كالصِّدِّيقيَّة والجهاد وغيرها فعليه لا يلزم أن يكون صاحب القرآن الحافظ لأكمله في أعلى درجات الجنة على الإطلاق .
وأعلى درجات الجنة هي الفردوس كما ثبت عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «.. فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس ، فإنه أوسط الجنة ، وأعلى الجنة ، فوقه عرش الرحمن ، ومنه تفجر أنهار الجنة» رواه البخاري (2637) ومسلم (2831).
ومعنى "أوسط الجنة" أي: أفضلها وأعدلها، ومثله قول الله تعالى: {وكذلك جعلناكم أمة وسطاً}.
وقد جاءت السنَّة ببيان بعض الأعمال وبيان درجات أهلها، ومنها:
1. الإيمان بالله والتصديق بالمرسلين
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «إن أهل الجنة يتراءون أهل الغرف من فوقهم كما يتراءون الكوكب الدري الغابر أي النجم في الأفق من المشرق أو المغرب لتفاضل ما بينهم ، قالوا : يا رسول الله تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم ؟ قال : بلى ، والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين» رواه البخاري (3083) ومسلم (2831).
2. الجهاد في سبيل الله تعالى
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «.. إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض». رواه البخاري (2637).
3. وقد يحصِّلها الصادق في سؤاله للشهادة بصدق
عن سهل بن حنيف رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه» رواه البخاري (1909).
4. الإنفاق في سبيل الله تعالى
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء الفقراء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: «ذهب أهل الدثور من الأموال بالدرجات العلا والنعيم المقيم يصلون كما نصلي ويصومون كما نصوم ولهم فضل من أموال يحجون بها ويعتمرون ويجاهدون ويتصدقون ...» رواه البخاري ( 807 ) ومسلم ( 595 ) .
5. إسباغ الوضوء على المكاره وكثرة الخطا إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة
عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات ؟ قالوا : بلى يا رسول الله ، قال : إسباغ الوضوء على المكاره ، وكثرة الخطا إلى المساجد ، وانتظار الصلاة بعد الصلاة ، فذلكم الرباط ، فذلكم الرباط». رواه مسلم (251).
6. حافظ القرآن الكريم
لحديث عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما الذي سبق ذكره عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يقال لصاحب القرآن اقرأ وارتق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا ، فإن منزلتك عند آخر آية تقرأ بها» رواه أبو داود ( 1464) والترمذي (2914) وصححه الألباني في (صحيح أبي داود).
فعلى من سمت همته أن يتطلع للأعلى، ويعمل لينال رضي الله تعالى، ويدخل جنة الفردوس، وها هي الأعمال قد وعد الله سبحانه أهلَها بتلك الدرجات، فكم بين زهد الناس عنها وتشميرهم لها.
والله تعالى أعلم.


نعيم الجنة
رؤية الله تعالى في الجنة
الحمد لله
فإن نعم الله تعالى على عباده لا تحصى، وقد خص الله سبحانه المؤمنين بمزيد من الإنعام في الدنيا بأن مَنَّ عليهم بالإسلام العظيم، واصطفاهم بالقرآن الكريم، وسيخصهم في الجنة بأعظم نعمة أنعم عليهم بها؛ ألا وهي تشريفهم وإكرامهم بالنظر إلى وجهه الكريم في جنة عدن ، كما قال الله تعالى: {وجوه يومئذ ناضرة . إلى ربها ناظرة}  [القيامة:22-23].
أي أن وجوه المؤمنين تكون حسنة بهية مشرقة مسرورة بسب نظرها إلى وجه ربها كما قال الحسن رحمه الله تعالى: "نظرت إلى ربها فنضرت بنوره".
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: " {وجوه يومئذ ناضرة} قال: من النعيم  {إلى ربها ناظرة} قال: تنظر إلى وجه ربها نظراً. وهذا قول المفسرين من أهل السنة والحديث.
وقال الله جل شأنه: {لهم ما يشاءون فيها ولدينا مزيد} [ق:35].
فالمزيد هنا هو:" النظر إلى وجه الله عز وجل" كما فسره بذلك علي و أنس بن مالك رضي الله تعالى عنهما
وقال الله سبحانه: {للذين أحسنوا الحسنى وزيادة} [يونس:26].
فالحسنى الجنة  والزيادة هي النظر إلى وجه الله الكريم، كما فسرها بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيما رواه مسلم في صحيحه (266) عَنْ صُهَيْبٍ رضي الله تعالى عنه عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ قَالَ: يَقُولُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: تُرِيدُونَ شَيْئًا أَزِيدُكُمْ فَيَقُولُونَ أَلَمْ تُبَيِّضْ وُجُوهَنَا أَلَمْ تُدْخِلْنَا الْجَنَّةَ وَتُنَجِّنَا مِنْ النَّارِ قَالَ فَيَكْشِفُ الْحِجَابَ فَمَا أُعْطُوا شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنْ النَّظَرِ إِلَى رَبِّهِمْ عَزَّ وَجَلَّ وهي الزيادة ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} »  فإذا علمت أن أهل الجنة لا يعطون شيئاً فيها أحب إليهم من النظر إلى وجه ربهم جل وعلا تبين لك مدى الحرمان، وعظيم الخسران، الذي ينتظر المجرمين الذين توعدهم الله تعالى بقوله: {كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون} [المطففين:15] نسأل الله  الكريم السلامة والعافية.
ومن جميل ما يروى عن الشافعي ما ذكره عنه الربيع بن سليمان ـ وهو أحد تلاميذه ـ : قال: حضرت محمد بن  إدريس الشافعي وقد جاءته رقعة من الصعيد فيها: ما تقول في قول الله عز وجل: {كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون} ؟ فقال الشافعي: "لما أن حجب هؤلاء في السخط، كان في هذا دليلٌ على أن أولياءه يرونه في الرضى". 
فهذه بعض الأدلة من القرآن على ثبوت رؤية المؤمنين لربهم في الجنة.
وأما أدلة السنة فهي كثيرة جداً، فمنها:
1- ما رواه البخاري (6088) ومسلم  (267) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن ناسا قالوا: يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر؟ قالوا : لا يا رسول الله. قال: هل تضارون في الشمس ليس دونها سحاب ؟ " قالوا: لا . قال: فإنكم ترونه كذلك ...»  
وَفِي رِوَايَة لِلْبُخَارِيِّ (لا تَضَامُّون أَوْ لا تُضَارُّونَ) عَلَى الشَّكّ وَمَعْنَاهُ: لَا يَشْتَبِه عَلَيْكُمْ وَتَرْتَابُونَ فِيهِ فَيُعَارِض بَعْضكُمْ بَعْضًا فِي رُؤْيَته . ولا يلحقكم في رؤيته مشقة أو تعب . وَاَللَّه أَعْلَم .ا.هـ مختصرا من (شرح مسلم).
2- وفي الصحيحين أيضا (خ/  6883 . م / 1002) من حديث جرير بن عبد الله البجلي رضي الله تعالى عنه قال:  كنا جلوسا مع النبي صلى الله عليه وسلم فنظر إلى القمر ليلة أربع عشرة فقال: «إنكم سترون ربكم عيانا كما ترون هذا لا تضامون في رؤيته».
والتشبيه الذي في الأحاديث هو تشبيه للرؤية بالرؤية، أي أننا كما نرى الشمس في اليوم الصحو في غاية الوضوح ، ولا يحجب أحد رؤيتها عن أحد رغم كثرة الناظرين إليها، وكما نرى القمر مكتملا ليلة البدر وهو في غاية الوضوح ، لا يؤثر كثرة الناظرين إليه على وضوح رؤيته  فكذلك يرى المؤمنون ربهم يوم القيامة بهذا الوضوح والجلاء ، وليس المقصود من الأحاديث تشبيه المرئي بالمرئي ـ تعالى الله سبحانه ـ فإن الله ليس كمثله شيء وهو السميع البصير .
3- وروى البخاري (4500) و مسلم (6890) عن أبي موسى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما، وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن يروا ربهم تبارك وتعالى إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن».
وقد روى أحاديث الرؤية نحوٌ من ثلاثين صحابيا رضي الله تعالى عنهم، ومن أحاط بها معرفة يقطع بأن الرسول صلى الله عليه وسلم قالها. فمن زعم بعد هذا أن الله تعالى لا يُرى في الآخرة فقد كذب بالكتاب وبما أرسل الله تعالى به رسله عليهم الصلاة والسلام، وعرَّض نفسه للوعيد الشديد الوارد في قول الله تعالى: {كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون} [المطففين:15] نسأل الله تعالى العفو والعافية، ونسأله أن يرزقنا لذة النظر إلى وجهه الكريم .. آمين.
يراجع : ( شرح العقيدة الطحاوية :1 / 209 وما بعدها) و (أعلام السنة المنشورة للشيخ حافظ الحكمي ص: 141).

وصف الفردوس الأعلى
أولا: الجنة سلعة غالية، والفردوس الأعلى أعلى الجنان وأفضلها، ولا يصل إليها إلا من اختصهم الله تعالى بمزيد فضله.
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ تعالى عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «الْفِرْدَوْسُ رَبْوَةُ الْجَنَّةِ وَأَوْسَطُهَا وَأَفْضَلُهَا»(الترمذي: [2450] وصححه الألباني).
وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «حُفَّتْ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ وَحُفَّتْ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ» (متفق عليه).
فإذا كانت الجنة محفوفة بالمكاره وأنواع المشاق ، فكيف بأعلى درجاتها وأسمى منازلها؟
هذا يدل على أن الأمر ليس بالأمر الهين.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: "أنزه الموجودات وأظهرها، وأنورها وأشرفها وأعلاها ذاتًا وقدرًا وأوسعها: عرش الرحمن جل جلاله، ولذلك صلح لاستوائه عليه، وكل ما كان أقرب إلي العرش كان أنور وأنزه وأشرف مما بعد عنه؛ ولهذا كانت جنة الفردوس أعلى الجنان وأشرفها وأنورها وأجلها، لقربها من العرش، إذ هو سقفها، وكل ما بعد عنه كان أظلم وأضيق، ولهذا كان أسفل سافلين شر الأمكنة وأضيقها وأبعدها من كل خير" انتهى (الفوائد: [ص:27]).

وأهل الفردوس الأعلى هم السابقون المبادرون إلى فعل الخيرات كما أمروا، قال الله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ. أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ . فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} [الواقعة:10-12].
قال السعدي رحمه الله تعالى: "والمقربون هم خواص الخلق" انتهى (تفسير السعدي: [ص:833]).
قال ابن كثير رحمه الله تعالى: "من سابق في هذه الدنيا وسبق إلى الخير، كان في الآخرة من السابقين إلى الكرامة، فإن الجزاء من جنس العمل ، وكما تدين تدان" انتهى (تفسير ابن كثير: [7 / 517]).

ثانياً:
ليعلم أن من أعظم أسباب حصول المطلوب، والنجاة من المرهوب: الدعاء، فإن الدعاء هو العبادة، كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكما أنه عبادة محبوبة لله تعالى جلَّ جلاله، فهو سبب في حصول المطلوب، ومن أراد الله به خيرًا، وفقه لأسبابه، ويسر له العمل الذي يؤهله لذلك؛ كما قال الله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى. وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى. فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى. وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى. وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى. فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى}  [الليل:5-10].
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ أَعَدَّهَا اللَّهُ لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا بَيْنَ الدَّرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، فَإِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ فَإِنَّهُ أَوْسَطُ الْجَنَّةِ وَأَعْلَى الْجَنَّةِ أُرَاهُ فَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ، وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أَنْهَارُ الْجَنَّةِ» (البخاري: [2790]).
قال الحافظ رحمه الله تعالى: "يَدُلُّ هَذَا عَلَى أَنَّ الْفِرْدَوْسَ فَوْقَ جَمِيعِ الْجِنَانِ، وَلِذَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَعْلِيمًا لِلْأُمَّةِ وَتَعْظِيمًا لِلْهِمَّةِ: «فَإِذَا سَأَلْتُمْ اللَّهَ فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ»" انتهى.

ثالثًا:
اعلم -يا عبد الله تعالى- أن نيل الدرجات في الدنيا والآخرة، ليس بالأماني ولا الأحلام، وإنما هو بسلوك أسباب ذلك، ولولا ذلك ما كان فرق بين الصادق والكاذب، وهذا من حكمة الله تعالى في تكليفه لعباده، وأمرهم بما أمرهم به.
قال الله تعالى: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا. وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا} [النساء:123-124].
قال الشيخ ابن سعدي رحمه الله تعالى: "أي: {لَيْسَ} الأمر والنجاة والتزكية {بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ}  والأماني: أحاديث النفس المجردة عن العمل، المقترن بها دعوى مجردة، لو عورضت بمثلها لكانت من جنسها. وهذا عامّ في كل أمر، فكيف بأمر الإيمان والسعادة الأبدية؛ ... فالأعمال تصدق الدعوى أو تكذبها". (تفسير السعدي: [205]).
رابعاً:
ومن أهم الأعمال التي تبلغ المسلم الدرجات العلى، ولعلها أن تبلغه الفردوس الأعلى برحمة الله تعالى وفضله جلَّ جلاله:
- الجهاد في سبيل الله تعالى:
وقد تقدم في ذلك حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه.
فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يَا أَبَا سَعِيدٍ، مَنْ رَضِيَ بِاللَّهِ رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ». فَعَجِبَ لَهَا أَبُو سَعِيدٍ، فَقَالَ: "أَعِدْهَا عَلَيَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ"، فَفَعَلَ ثُمَّ قَالَ:  «وَأُخْرَى يُرْفَعُ بِهَا الْعَبْدُ مِائَةَ دَرَجَةٍ فِي الْجَنَّةِ مَا بَيْنَ كُلِّ دَرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ!!» قَالَ: وَمَا هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ:الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» (مسلم: [1884]).
- الإخلاص والصدق مع الله تعالى:
فعن سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ سَأَلَ اللَّهَ الشَّهَادَةَ بِصِدْقٍ بَلَّغَهُ اللَّهُ مَنَازِلَ الشُّهَدَاءِ وَإِنْ مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ» (مسلم: [1909]).
قال النووي رحمه الله تعالى: "فِيهِ: اِسْتِحْبَاب سُؤَال الشَّهَادَة، وَاسْتِحْبَاب نِيَّة الْخَيْر" انتهى.
- الإيمان بالله تعالى والتصديق بالمرسلين عليهم الصلاة والسلام:
قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا} [الكهف:107].
قال السعدي رحمه الله تعالى: "يحتمل أن المراد بجنات الفردوس: أعلى الجنة، وأوسطها، وأفضلها، وأن هذا الثواب، لمن كمل فيه الإيمان والعمل الصالح، والأنبياء عليهم الصلاة والسلام والمقربون رضوان الله عليهم.
ويحتمل أن يراد بها: جميع منازل الجنان، فيشمل هذا الثواب، جميع طبقات أهل الإيمان، من المقربين، والأبرار، والمقتصدين، كل بحسب حاله، وهذا أولى المعنيين لعمومه" انتهى. (تفسير السعدي: [488]).
وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يَتَرَاءَوْنَ أَهْلَ الْغُرَفِ مِنْ فَوْقِهِمْ كَمَا يَتَرَاءَوْنَ الْكَوْكَبَ الدُّرِّيَّ الْغَابِرَ فِي الْأُفُقِ مِنْ الْمَشْرِقِ أَوْ الْمَغْرِبِ لِتَفَاضُلِ مَا بَيْنَهُمْ»، قَالُوا: "يَا رَسُولَ اللَّهِ تِلْكَ مَنَازِلُ الْأَنْبِيَاءِ لَا يَبْلُغُهَا غَيْرُهُمْ؟" قَالَ: بَلَى وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ رِجَالٌ آمَنُوا بِاللَّهِ وَصَدَّقُوا الْمُرْسَلِينَ» (متفق عليه).
قال الحافظ رحمه الله تعالى: " قَوْلُهُ: «وَصَدَّقُوا الْمُرْسَلِينَ» أَيْ حَقّ تَصْدِيقهمْ، وَإِلَّا لَكَانَ كُلّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ  تعالى وَصَدَّقَ رُسُله عليهم الصلاة والسلام وَصَلَ إِلَى تِلْكَ الدَّرَجَة وَلَيْسَ كَذَلِكَ.

- إسباغ الوضوء على المكاره وكثرة الخطا إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة:
عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: «إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط» (مسلم:[251]).
- الطاعات التي ورد في الأخبار الصحيحة أنها سبب في معية النبي صلى الله عليه وسلم ومصاحبته في الجنة:
عن ربيعة بْن كَعْبٍ الْأَسْلَمِيُّ رضي الله تعالى عنه قَالَ: كُنْتُ أَبِيتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَيْتُهُ بِوَضُوئِهِ وَحَاجَتِهِ فَقَالَ لِي: «سَلْ فَقُلْتُ: أَسْأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ فِي الْجَنَّةِ. قَالَ: «أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ؟» قُلْتُ: هُوَ ذَاكَ. قَالَ: فَأَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ» (مسلم: [489]).
وروى مسلم: [2983] أيضًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله تعالى أنَّه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَافِلُ الْيَتِيمِ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ أَنَا وَهُوَ كَهَاتَيْنِ فِي الْجَنَّةِ» وَأَشَارَ مَالِكٌ بِالسَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى.
وروى مسلم: [2631] عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله تعالى عنه أنًّه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ عَالَ جَارِيَتَيْنِ حَتَّى تَبْلُغَا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنَا وَهُوَ» وَضَمَّ أَصَابِعَهُ.
وروى الإمام أحمد: [12089] عَنْ أَنَسٍ أَوْ غَيْرِهِ -رضي الله تعالى عنهم- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ عَالَ ابْنَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثَ بَنَاتٍ أَوْ أُخْتَيْنِ أَوْ ثَلَاثَ أَخَوَاتٍ حَتَّى يَمُتْنَ أَوْ يَمُوتَ عَنْهُنَّ كُنْتُ أَنَا وَهُوَ كَهَاتَيْنِ»  وَأَشَارَ بِأُصْبُعَيْهِ السَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى. (صححه الألباني في الصحيحة: [296]).
وبالجملة: فالاجتهاد في الأعمال الصالحة، والمسارعة في الخيرات، واستدامة العمل الصالح، وصنائع المعروف، ومسابقة أهل الخير والصلاح: أصل الوصول إلى غاية المأمول في الدنيا والآخرة، ولو كانت تلك الغاية هي الفردوس الأعلى. ونسأل الله تعالى بأسمائه العلى أن يرزقنا  الفردوس الأعلى وأهلنا أجمعين وأحبابنا أجمعين في الله جلًّ جلاله والله تعالى أعلى وأعلم والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه أجمعين.


صور من نعيم الجنة
إن رضى الرحمن ودخول الجنان هو غاية ما يتمناه المؤمن والمؤمنة، فإذا خرج من الدنيا وقد فاز برضوان الله تعالى فليبشر بعد ذلك بالخير كله، فإذا دخل الجنة فلا يسأل بعد ذلك عن النعيم المقيم، الذي لم تره عين، ولم تسمع به أذن، ولم يخطر على قلب بشر، فيحصل له كل ما يتمناه بأحسن أحواله، وكل ما يطلبه مجاب، وكل ما يشتهيه في متناوله، ولا يمكن أبداً أن يجد ما يعكر صفوه لأنه في ضيافة الرحمن كما قال الله سبحانه: {وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ. نُزُلا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} [فصلت31-32].
جاءت النصوص التي تصف نعيم الجنة بصيغة العموم الذي لا يكاد يخصه شيء :
يقول الله عز وجل: {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ} [الزمر:34].
ويقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} [الشورى:22].
وقال الله سبحانه: {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [ق:35].
ويقول الله تعالى أيضا : {نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ . نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} [فصلت/31-32].
ويقول  الله سبحانه : {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الزخرف:71].
ويقول الله عز وجل: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17]
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : «قَالَ اللَّهُ: أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ. فَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} رواه البخاري (3244) ومسلم (2824).
وكل ذلك يدل صراحة على أن المسلم المنعم في الجنة ينال في نعيمه كل ما يحبه ويهواه ويشتهيه من ملذات الدنيا والآخرة .
بل جاء النص صريحا بأن من طلب شيئا من شهوات الدنيا حققت له:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَوْمًا يُحَدِّثُ - وَعِنْدَهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ - «أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ اسْتَأْذَنَ رَبَّهُ فِي الزَّرْعِ . فَقَالَ لَهُ: أَلَسْتَ فِيمَا شِئْتَ؟ قَالَ: بَلَى وَلَكِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَزْرَعَ. قَالَ: فَبَذَرَ فَبَادَرَ الطَّرْفَ نَبَاتُهُ وَاسْتِوَاؤُهُ وَاسْتِحْصَادُهُ فَكَانَ أَمْثَالَ الْجِبَالِ. فَيَقُولُ اللَّهُ: دُونَكَ يَا ابْنَ آدَمَ فَإِنَّهُ لاَ يُشْبِعُكَ شَيْءٌ. فَقَالَ الأَعْرَابِيُّ: وَاللَّهِ لاَ تَجِدُهُ إِلاَّ قُرَشِيًّا أَوْ أَنْصَارِيًّا فَإِنَّهُمْ أَصْحَابُ زَرْعٍ ، وَأَمَّا نَحْنُ فَلَسْنَا بِأَصْحَابِ زَرْعٍ، فَضَحِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» رواه البخاري (2348).
يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى:
"في هذا الحديث من الفوائد أن كل ما اشتهي في الجنة من أمور الدنيا ممكن فيها . قاله المهلب" انتهى.
(فتح الباري:5/27).

وأما تفاصيل كيفية حدوثه والطريقة التي يعد بها في الجنة فذلك ما لا سبيل إلى العلم به، والأحرى في المسلم الحرص على كل عمل يقربه إلى الجنة، وترك تفاصيلها ليومها، لعل الله تعالى يكرمنا بأعلى الدرجات فيها، ونقول لك كما يُروَى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال للصحابي الذي سأل عن الخيل في الجنة: «إِنْ يُدْخِلْكَ اللَّهُ الْجَنَّةَ يَكُنْ لَكَ فِيهَا مَا اشْتَهَتْ نَفْسُكَ وَلَذَّتْ عَيْنُكَ» رواه الترمذي (2543) وحسنه الألباني في (السلسلة الصحيحة :رقم/3001)
يقول المناوي رحمه الله تعالى:
"مقصود الحديث أن ما من شيء تشتهيه النفس في الجنة إلا تجده فيها كيف شاءت ، حتى لو اشتهى أحد أن يركب فرسا لوجده بهذه الصفة " انتهى.
(فيض القدير:3/35)
ويقول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى:
"قول الله تعالى: {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا} ؛ أي: في الجنة كل ما يشاءون، وقد ورد في الحديث الصحيح أن رجلا قال للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا رسول الله ! أفي الجنة خيل؛ فإني أحب الخيل؟ فقال: «إن يدخلك الله الجنة فلا تشاء أن تركب فرسا من ياقوتة حمراء تطير بك في الجنة شئت إلا فعلت. وقال الأعرابي: يا رسول الله: أفي الجنة إبل ؛ فإني أحب الإبل؟ قال: يا أعرابي! إن يدخلك الله الجنة؛ أصبت فيها ما اشتهت نفسك ولذت عينك» فإذا اشتهى أي شيء فإنه يكون ويتحقق ، حتى إن بعض العلماء يقول : لو اشتهى الولد لكان له ولد ؛ فكل شيء يشتهونه فهو لهم . قال الله تعالى: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الزخرف:71]" انتهى. (مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين:8/385)

ومن أحسن ما تشتهيه الأنفس في الآخرة للرجال نساء الجنة، وهن الحور العين، وللنساء ما يقابله من النعيم، ومن حكمة الله تعالى العظيمة أن الله سبحانه لم يذكر ما للنساء مقابل الحور العين للرجال، لأن ذلك من دواعي الخجل وشدة الحياء، فكيف يرغبهن في الجنة بما يثير حياءهن ويستحيين من ذكره والكلام فيه، فاكتفى الله سبحانه بالإشارة إليه كما في قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ}[فصلت:31].
وقد جاء في كتاب الله تعالى وصف للحور العين في أكثر من موضع، ومن ذلك:
1. قول الله تعالى في ذكر جزاء أهل الجنة: {وَحُورٌ عِينٌ. كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ} [الواقعة22-23].
قال السعدي رحمه الله تعالى:
"أي: ولهم حور عين، والحوراء: التي في عينها كحل وملاحة، وحسن وبهاء، والعِين: حسان الأعين وضخامها، وحسن العين في الأنثى من أعظم الأدلة على حسنها وجمالها.
{كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ} أي: كأنهن اللؤلؤ الأبيض الرطب الصافي البهي، المستور عن الأعين والريح والشمس، الذي يكون لونه من أحسن الألوان، الذي لا عيب فيه بوجه من الوجوه، فكذلك الحور العين، لا عيب فيهن بوجه، بل هن كاملات الأوصاف، جميلات النعوت. فكل ما تأملته منها لم تجد فيه إلا ما يسر الخاطر ويروق الناظر" انتهى.
(تفسير السعدي:ص 991).
2. قول الله تعالى: {كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن:58].
قال الطبري رحمه الله تعالى:
" قال ابن زيد في قول الله تعالى: {كأنهن الياقوت والمرجان}: كأنهن الياقوت في الصفاء، والمرجان في البياض، الصفاء صفاء الياقوتة، والبياض بياض اللؤلؤ" انتهى.
(تفسير الطبري:27 / 152).
3. قول الله تعالى في وصف نساء الجنة في سورة الواقعة: {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً. فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا. عُرُبًا أَتْرَابًا}  [الواقعة:35-37].
قال ابن كثير رحمه الله تعالى:
" قول الله تعالى: {عُرُباً}: قال سعيد بن جبير عن ابن عباس يعني: متحببات إلى أزواجهن، وعن ابن عباس: العُرُب العواشق لأزواجهن، وأزواجهن لهن عاشقون .........
وقول الله تعالى: {أَتْرَابا}  قال الضحاك عن ابن عباس يعني: في سن واحدة ثلاث وثلاثين سنة ........
وقال السدي : {أترابا} أي: في الأخلاق المتواخيات بينهن ليس بينهن تباغض ولا تحاسد، يعني: لا كما كن ضرائر متعاديات" انتهى.
(تفسير ابن كثير :4 / 294).
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى:
عن مجاهد في قول الله تعالى: {عُرُباً أتراباً}  قال: هي المحببة إلى زوجها.
(فتح الباري : 8 / 626).
4. وقال الله تعالى في وصفهن:  {فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ} [الرحمن:70].
قال ابن القيم رحمه الله تعالى:
ووصفهن بأنهن خيرات حسان وهو جمع خَيْرة وأصلها خَيّرة وهي التي قد جمعت المحاسن ظاهرا وباطنا، فكمل خلقها وخلقها فهن خيرات الأخلاق، حسان الوجوه.
(روضة المحبين: ص 243).
5. ووصفهن  الله تعالى بالطهارة فقال سبحانه: {وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:25].
قال ابن القيم رحمه الله تعالى:
ووصفهن الله تعالى بالطهارة فقال: {ولهم فيها أزواج مطهرة}  طهرن من الحيض والبول والنجو (الغائط) وكل أذى يكون في نساء الدنيا، وطهرت بواطنهن من الغيرة وأذى الأزواج وتجنيهن عليهم وإرادة غيرهم.
(روضة المحبين: ص 243، 244).
6. ووصفهن تعالى بأنهن قاصرات أطرافهن عن غير أزواجهن فقال الله سبحانه: {فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ}  [الرحمن:56]، وقال الله تعالى: {حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ} [الرحمن:72].
قال ابن القيم رحمه الله تعالى:
ووصفهن الله سبحانه بأنهن: {مقصورات في الخيام} أي: ممنوعات من التبرج والتبذل لغير أزواجهن، بل قد قُصِرْن على أزواجهن، لا يخرجن من منازلهم، وقَصَرْنَ عليهم فلا يردن سواهم، ووصفهن الله سبحانه بأنهن  {قاصرات الطرف} وهذه الصفة أكمل من الأولى، فالمرأة منهن قد قصرت طرفها على زوجها من محبتها له ورضاها به فلا يتجاوز طرفها عنه إلى غيره.
(روضة المحبين: ص 244).
هذا طرف من ذكرهن في القرآن الكريم، وقد جاء في السنة ما تحار فيه العقول في وصف جمالهن وحسنهن، ومن ذلك:
1. عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر، ثم الذين يلونهم كأشد كوكب دري في السماء إضاءة، قلوبهم على قلب رجل واحد لا اختلاف بينهم ولا تباغض، لكل امرئ منهم زوجتان من الحور العين، يرى مخ سوقهن من وراء العظم واللحم من الحسن» (البخاري:3081 ومسلم:2834).
قال ابن حجر رحمه الله تعالى:
الحور التي يحار فيها الطرف يبان مخ سوقهن من وراء ثيابهن، ويرى الناظر وجهه في كبد إحداهن كالمرآة من رقة الجلد وصفاء اللون.
(فتح الباري  8 / 570).
2. وعن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو أن امرأة من نساء أهل الجنة اطلعت إلى الأرض لأضاءت ما بينهما، ولملأت ما بينهما ريحا، ولنصيفها على رأسها خير من الدنيا وما فيها» (البخاري:2643).
فلو أطلت بوجهها لأضاءت ما بين السماء والأرض، فأي نور وجمال في وجهها! وطيبُ ريحها يملأ ما بين السماء والأرض، فما أجمل ريحها!
وأما لباسها؛ فإن كان المنديل الذي تضعه على رأسها خير من جمال الدنيا وما فيها من متاع وروعة وطبيعة خلابة وقصور شاهقة وغير ذلك من أنواع النعيم، فسبحان خالقها ما أعظمه، وهنيئا لمن كانت له وكان لها.
ثانياً:
وحال المؤمنة في الجنة أفضل من حال الحور العين وأعلى درجة وأكثر جمالا، وقد ورد في ذلك بعض الأحاديث والآثار ولكن لا يثبت منها شيء، ولكن المرأة الصالحة من أهل الدنيا إذا دخلت الجنة فإنما تدخلها جزاء على العمل الصالح وكرامة من الله تعالى لها لدينها وصلاحها، أما الحور التي هي من نعيم الجنة فإنما خلقت في الجنة من أجل غيرها وجعلت جزاء للمؤمن على العمل الصالح، وشتان بين من دخلت الجنة جزاء على عملها الصالح، وبين من خلقت ليُجَازَى بها صاحب العمل الصالح، فالأولى ملكة سيدة آمرة، والثانية على عظم قدرها وجمالها إلا أنها لا شك دون الملكة وهي مأمورة من سيدها المؤمن الذي خلقها الله تعالى جزاء له.
سئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى: هل الأوصاف التي ذكرت للحور العين تشمل نساء الدنيا؟
فأجاب:
الذي يظهر لي أن نساء الدنيا يكنَّ خيراً من الحور العين، حتى في الصفات الظاهرة، والله تعالى أعلم.
(فتاوى نور على الدرب  شريط رقم 282 )" .
نسأل الله العظيم أن يؤتينا أفضل ما يؤتي عباده الصالحين.
والله تعالى أعلى وأعلم.

خلود أهل النار في النار
الحمد لله
بقاء أهل النار في النار معذبين لا نهاية له ، فهو بقاء إلى الأبد . وقد دل على ذلك أدلة كثيرة من الكتاب والسنة .
سئل الشيخ ابن عثيمين : هل النار مؤبدة أو تفنى؟
فأجاب:
"المتعيّن قطعاً أنها مؤبدة ولا يكاد يعرف عند السلف سوى هذا القول، ولهذا جعله العلماء من عقائدهم، بأن نؤمن ونعتقد بأن النار مؤبدة أبد الآبدين، وهذا الأمر لا شك فيه، لأن الله تعالى ذكر تأبيد النار في ثلاثة مواضع في القرآن :
الأول : في سورة النساء في قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً * إِلا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً}
والثاني في سورة الأحزاب: {إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً* خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً}.
والثالث في سورة الجن: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً}
ولو ذكر الله عز وجل التأبيد في موضع واحد لكفى، فكيف وقد ذكره في ثلاثة مواضع؟! ومن العجب أن فئة من العلماء ذهبوا إلى أن النار تفنى بناء على علل عليلة لمخالفتها لمقتضى الكتاب والسنة وحرفوا من أجلها الكتاب والسنة فقالوا : إن "خالدين فيها أبداً" أي : ما دامت موجودة .
وكيف يصح هذا ؟! إذا كانوا خالدين فيها أبداً ، لزم أن تكون هي مؤبدة أنهم خالدون "فيها" فهم كائنون فيها ، وإذا كان الإنسان خالداً مؤبداً تخليدُه ، لزم أن يكون مكان الخلود مؤبداً ، لأنه لو فني مكان الخلود ما صح تأبيد الخلود ، والآية واضحة جداً. والتعليلات الباردة المخالفة للنص مردودة على صاحبها ، وهذا الخلاف الذي ذكر عن فئة قليلة من أهل العلم خلاف مطرح لأنه مخالف للنص الصريح الذي يجب على كل مؤمن أن يعتقده ، ومن خالفه لشبهة قامت عنده فيعذر عند الله ، لكن من تأمل نصوص الكتاب والسنة عرف أن القول بتأبيدها هو الحق الذي لا يحق العدول عنه" اهـ .
مجموع فتاوى ابن عثيمين (2/55-56) .
وجاء في (فتاوى اللجنة الدائمة):
"قامت الأدلة الكثيرة من الكتاب والسنة على أن النار لا تفنى، وعلى تخليد الكافرين في النار، وأنهم لا يخرجون منها ، قال الله تعالى: {ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} [الجاثية:35] وقال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء:56]، وقال الله تعالى: {وَمَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ ۖوَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً * ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنَا وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً}  [الإسراء:97-98]. وقال الله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [التغابن:10] وقال  الله تعالى: {إِلَّا بَلَاغًا مِّنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ ۚ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً وقال الله تعالى: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ * وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ* وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ * لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُون} [الزخرف:74-78]
وقال الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ} [ البقرة:165] إلى أن قال الله تعالى: {كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} . وقال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ* لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} [الأعراف:40-41]. وقال الله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ * وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} [فاطر:36-37] وقال الله تعالى: {إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً} إلى أن قال الله تعالى: {فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَاباً}.
إلى غير ذلك من الآيات التي يدل كل منها على تخليد الكفار في النار وعدم خروجهم منها وعدم فنائها ، فإذا اجتمعت كانت دلالتها على ذلك أقوى وأبعد عن التأويل" اهـ .

ومن أسباب استحقاق هؤلاء الكفار للخلود الأبدي في النار: ما أخبر الله تعالى به عنهم أنهم لو رُدُّوا إلى الدنيا لعادوا للكفر والضلال.
قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي – رحمه الله تعالى - :
"وذكر ابن القيم سفسطةً للدهريين هي قولهم: "إن الله أعدل من أن يعصيه العبد حقباً من الزمن فيعاقبه بالعذاب الأبدي"، قالوا: "إن الإنصاف أن يعذبه قدر المدة التي عصاه فيها".
ثم قال – في ردها -:
وأما سفسطة الدهريين التي ذكرها – أي : ابن القيم - استطراداً : فقد تولى الله تعالى الجواب عنها في محكم تنزيله ، وهو الذي يعلم المعدوم لو وُجد كيف يكون، وقد علم في سابق علمه سبحانه أن الخُبث قد تأصل في أرومة هؤلاء الخبثاء بحيث إنهم لو عُذبوا القدْر من الزمن الذي عصوا الله تعالى فيه ثم عادوا إلى الدنيا لعادوا لما يستوجبون به العذاب، لا يستطيعون غير ذلك ، قال الله تعالى في سورة الأنعام: {وَلَوْ تَرَىَ إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ فَقَالُواْ يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ . بَلْ بَدَا لَهُم مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام:27-28] "انتهى من: "مجالس مع فضيلة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي" الشيخ أحمد بن محمد الأمين (ص:59) .
4. وبحسب حال العبد في الدنيا من الطيب والخبث دواماً وانقطاعاً يكون حاله في الآخرة مع الجنة والنار.
قال ابن القيم – رحمه الله تعالى -:
"ولما كان النَّاس على ثلاث طبقات: طيب لا يشينه خبث، وخبيث لا طيب فيه، وآخرون فيهم خبث وطيب: كانت دورهم ثلاثة: دار الطيب المحض، ودار الخبيث المحض، وهاتان الداران لا تفنيان، ودار لمن معه خبث وطيب، وهي الدار التي تفنى، وهي دار العصاة؛ فإنه لا يبقي في جهنم من عصاة الموحدين أحد؛ فإنهم إذا عُذبوا بقدر جزائهم : أُخرجوا من النار فأُدخلوا الجنَّة، ولا يبقي إلا دار الطيب المحض ودار الخبث المحض" انتهى من (الوابل الصيب:ص 24).
والله تعالى أعلى وأعلم.

  • 54
  • 7
  • 182,249
المقال السابق
[39] أنواع الحساب يوم القيامة
المقال التالي
[41] الزي الإسلامي للمرأة

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً