حاجةُ الناسِ إلى مُقَدَّسٍ معصومٍ

منذ 2011-02-08

تعالت في الأيام الأخيرة أصواتٌ كثيرةٌ تنادي بما يسمونه «الدولة العلمانية» أو «المدنية»، وهو اجترارٌ لما يعيشه الغرب من مفاصلة رهيبة بين الدين والدنيا، لم تثمر له سوى المعاناة في كافة مناحي الحياة، بل عجَّلَتْ بذهابه وغروب شمسه...



الحمدُ لله رَبِّ العالمين، وصلَّى الله وسلَّم على المبعوث رحمة للعالمين، ورضي الله عن آله وصَحْبِه أجمعين، ومَنْ تَبِعَهم بإحسانٍ إلى يومِ الدِّين.
أما بعد:
فقد تعالت في الأيام الأخيرة أصواتٌ كثيرةٌ تنادي بما يسمونه «الدولة العلمانية» أو «المدنية»، وهو اجترارٌ لما يعيشه الغرب من مفاصلة رهيبة بين الدين والدنيا، لم تثمر له سوى المعاناة في كافة مناحي الحياة، بل عجَّلَتْ بذهابه وغروب شمسه، رغم مظاهر التمدُّن والصناعات التي وصل إليها الغرب، لكن لم تغنِ عنه الصناعة والتمدُّن شيئًا عندما خسرَ عموده الفقري (دينه) الضروري لاستمرار حياته.

وهذا يفسر للقارئ الارتباط الشديد بين أصحاب هذه الدعوات في البلاد العربية، وبين أئمتهم وأساتذتهم الغربيين، ولا نريد أن نخوض الآن في أسبابهم ودوافعهم مِن وراء هذه الدعوات التي بدأت تتعالى شيئًا فشيئًا في الآونة الأخيرة.

وسواء أكانت أهداف الغرب من وراء دفع تلامذته للمطالبة بهذه الدعوة الخبيثة في البلاد العربية والإسلامية: هي الحقد والحسد الدفين على العالم الإسلامي وما يملكه من دستورٍ إسلاميٍّ قرآني ونبويٍّ عظيمٍ، أو فعل الغرب ذلك للتعمية على خوائه وضعفه، بينما يرغب في أخذ ما يلائم حياته من دستور المسلمين( 1).

سواء أكانت أهداف الغرب هذه أو تلك أو غيرها، فلن نخوض الآن في ذلك كله، فلم نقصد له في هذا الموضع، والمقصود الآن هو بيان حاجة الناس جميعًا إلى منهجٍ ونظامٍ مُقَدَّسٍ معصومٍ يركنون إليه في حياتهم، ويعتمدون عليه في أمورهم، دينيِّها ودنيويِّها.

ولا يجادل أحدٌ في حاجة الناس إلى النظام وتحقيق العدالة في كافة مناحي الحياة، الاجتماعية والاقتصادية والصحية وغيرها من المناحي، ورحلات الناس صوب تحقيق هذه الغايات لا حصر لها، ولا يزال الناس جميعهم يبحثون عن هذه الغايات، ويضعون الدساتير والقوانين والقواعد والمواثيق التي تنظم وتُرسي قواعد الوصول لهذه الغايات السامية، ومع ذلك لا يزال هناك الكثير من الناس يفشلون في الوصول لهذه الغايات، بينما وصل آخرون إليها بيُسْرٍ وسهولةٍ.

ومما لا يجادل فيه أحدٌ يعي شيئًا من تاريخ الأمم على ممرِّ الأزمان ومختلف البُلدان، أنه لم تتحقق هذه المبادئ الخاصة بالعدالة والمساواة والنظام بين البشر في يومٍ ما إلا في ظل الدين وتحت سَمْعِه وبَصَرِه، وقد جرَّب الناسُ عشرات الأنظمة والقوانين والمواثيق التي اخترعوها على ممرِّ العصور، فما جنى الناس منها سوى الويلات والآلام، ولا تزال جراحهم واضحة ظاهرة للعيان مِن جراء هذه المواثيق المخترعة فيما بينهم، في الوقت الذي عاشت فيه طوائف كثيرة من الناس في ظل الدين عدالة واضحة، ونظامًا ساميًا، يكفل لأفراده الأمن والأمان، ويحفظ لهم حقوقهم، ومع ذلك كانت الواجبات التي كلَّفهم بها الدين في مقدورهم وميسورهم، لا مشقة فيها ولا حرج، وإنما كلَّفهم الدين بما يطيقون من الواجبات.


والرجوع للدين ليس نافلة للناس، بل لا يسع أحدًا الخروج عن الدين، ولا يمكن لهم الخروج عنه إذا أرادوا لأنفسهم حياة إنسانية تلاءم تكريم الله عز وجل للإنسان عندما قال تبارك وتعالى: { وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي البَرِّ وَالبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} [سورة الإسراء:70]. فلا توجد حياة كريمة تتحقق فيها أصول العدالة والمساواة والسعادة الإنسانية إلا في ظلِّ الدين والتسليم لأحكامه وقواعده، والانصياع لأوامره، فمن خرج من مسار الدين خرج من مسار السعادة في الوقت نفسه؛ لأنه لا سعادة إلا في الدين ، ولا أمن ولا أمان ولا نظام إلا في ظل الدين.

والذين يخالفون في هذه القضية عليهم مراجعة التاريخ الذي يشهد بشقاء الأمم ، والناس عندما خرجوا على الدين، فضلا عمَّن تعرَّض للدين وبارزه العداء.
يقول الإمام ابنُ كثير رحمه الله: «وقوله [سبحانه وتعالى]: { يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ } [غافر: 29] يُحَذِّرهم أنْ يُسْلَبوا هذا الملك العزيز، فإِنَّه ما تعرَّضَت الدول للدين إلا سُلِبوا مُلكهم وذَلُّوا بعد عِزِّهم» أ.هـ (3 ).

ومما يؤكد ضرورة الرجوع للدين، وأنه لا مناص لأحدٍ من الرجوع إليه: أنه لا طاقة للإنسان ولا قدرة له على معرفة ما يصلحه وما يفسده في نفسه، ومِن باب أولى لن يصل إلى معرفة ذلك بالنسبة للآخرين، والإنسان وإنْ وصل بعقله إلى شيءٍ مِن مصالح نفسه غير أنَّه يقف عاجزًا حائرًا أمام الكثير مِن المشاكل الحياتية التي تواجهه، لا يقدر على الفصل فيها والجزم بجهة الخير والحق في هذه المسائل، وكثيرًا ما يتردَّد في الجزم بجهةٍ دون أخرى، وقد يختار ما فيه هلاكه، ويدع ما فيه النفع له، وهذا كله واقعٌ مشاهَدٌ في الناس لا يمكن لأحدٍ أن ينكره أو يزعم عدم وجوده.

فهذا الإنسان العاجز عن دَرْك الحقيقة والصواب ومكمن الخير والسعادة لنفسه، ومِن باب أولى لغيره، لا مناص ولا مفرّ له سوى الرجوع للدين المقدَّس المعصوم؛ إذْ هو خارج عن نطاق البشر، مِن لَدُن حكيمٍ خبيرٍ عالمٍ بطبائع النفوس وأسرارها؛ لأنها صنعته التي صنعها تبارك وتعالى، وما نحن إلا بعض خَلْقِه سبحانه، والذي خلقنا هو أعلم بنا مِن علمنا بأنفسنا قطعًا، وهذا لا يمكن أنْ يجادل فيه عاقلٌ متجرِّدٌ منصِفٌ.

والذين يخالفون في هذه البديهيات يتيهون بين أوهام الناس وأفكارهم بحثًا عن منقذٍ لهم، فتراهم يبحثون ويبحثون ثم لا يصلون إلى شيءٍ على الحقيقة، وربما وصلوا لما فيه هلاكهم؛ لأنهم لا يملكون مصباح الهداية المتمثل في الدين.


أضف إلى ذلك اختلاف العقول والمدارك، فما يراه فلانٌ صالحًا قد يراه الآخر غير صالحٍ، ويظل الشيء صحيحًا وفاسدًا في وقتٍ واحدٍ على الدوام، لاختلاف الناس في مداركهم وطريقتهم في النظر له، بينما لا نجد هذا الأمر في المنهج الديني الذي أرسل الله عز وجل به رُسُلَه، وأَنْزَلَ سبحانه به كُتُبَه، كما قال سبحانه وتعالى: {(أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ القُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا }.[النساء : 82 ]

ولنضرب على ذلك مثالًا بقضية النَّسْخ، حيثُ يتم نسخ بعض الأمور أو الأحوال واستبدالها بغيرها من الأمور والأحوال الجديدة. فهذه العملية التي يحل فيها شيء جديد مكان شيء سابقٍ عليه = قد اختلفَ الناس اختلافًا كثيرًا في جواز حدوثها، فأثبتَ ذلك الكثير من الناس وهو الحق الذي عليه جمهور المسلمين، وخالفهم عددٌ مِن أهل البدع، كما اختلفتْ يهود في أمرها فنفت ذلك جماعة وأثبتته أخرى( 2).


وعلى صعيد القانون الوضعي فمنذ قامت الدول باختراعه وهو في تغيُّر مستمر، لا يثبت على حالٍ، بل حتى تلك النصوص الدستورية (الوضعية) التي يُفترض أنْ تكتسب شيئًا من طول الأمد أكثر من غيرها؛ فإنها أيضًا قابلة للتغيير كل فترة، خاصة في أوقات الثورات وقيامها بصياغة جديدة للدستور.
فنحن إذن أمام واقعٍ مُتقلِّبٍ مُتغيِّرٍ حسب مزاج الثوار وهويَّاتهم ورؤاهم الشخصية، فما يراه فلان صالحًا يراه غيره طالحًا.
أو لنقل بعبارة أخرى بأننا أمام واقعٍ زئبقيٍّ يميل مع الجهة الغالبة على الأمور، ويسير مع القوة التي تحركه أكثر مِن غيرها.

وهذه الأمثلة وغيرها الكثير يؤكد اختلاف الناس في نظرتهم للأشياء، ومع هذا الاختلاف الدائم والمستمر بين البشر = لن يجد الناس في حياتهم شيئًا ثابتًا مضطردًا، يعتمدون عليه، ويطمئنون له، وهذا التحوُّل والتغيُّر المستمر يتنافى مع حاجة الناس للنظام القائم المستمر المضطرد، وحاجتهم للأمن والسعادة الدائمة، فلا يمكن للناس في ظل هذا الوضع المتغيِّر المتقَلِّب باستمرار أن يحصلوا على شيءٍ مِن السعادة والأمن والأمان والنظام الثابت المضطرد في حياتهم.

وهذا التقلُّب والتغيُّر لا يوجد في أصول الدين الثابت المعصوم، والذي يُعَدُّ مطلبًا ضروريًّا مُلِحًّا، ومنقذًا فريدًا للبشرية جميعًا، لا منقذ لها سواه، ولا مفرّ لها مِن الإذعان له، وواهمٌ مِن يظن غير ذلك.


وشتان بين التغيُّر في الأصول، والتغيُّر في الفروع داخل إطارٍ وأصولٍ ثابتةٍ عميقةٍ راسخة، يأمن الناس معها وفي ظلالها على شئونهم، ويركنون إليها بشكلٍ هادئ مطمئنٍ.

فالتغيُّر في الأصول هو السمة والعلامة البارزة في كلِّ ما ينتجه العقل البشري اعتمادًا واتكاءًا على نفسه دون اللجوء إلى هداية الله عز وجل له، بخلاف الدين فأصول ثابتة لا تتغير ولا تتقلَّب وإنما تتغير فيه الفتوى حسب الحالة، ليصبح بهذا التغيُّر الفرعي شاملًا مستوعبًا لكل الأحداث الفرعية أو الجزئية التي تقع على مدار التاريخ الطويل للبشرية، وفي كافة عصورها وأجيالها وأقطارها، وتلك إحدى المعجزات التي أودعها الله عز وجل في دينه.

وهذا التغيُّر الجزئي المستوعب لكل ما يجري على أرض الواقع في كافة الأحوال والأوضاع، مع ثبات الأصول والأركان الدينية = يعصمنا من جهة أخرى من اقتتالٍ داخليٍّ أو فكري، حيثُ لا مجال لاجتهاد مع وجود أصل أو نص في المسألة، وإنما يقع الاجتهاد في استخراج أحكام الأحداث الواقعة من النصوص الثابتة الراسخة.

فنحن أمام نصٍّ ديني ثابت غير أنه في الوقت نفسه يمكنه أن يستوعب كل المتغيِّرات الجديدة، فهو ثابتٌ يستوعب كل المتغيرات، وهذا لا يوجد إلا في دين رب العالمين سبحانه وتعالى؛ إِذْ هو وحده القادر على هذا، وهو وحده الخبير بالنفس البشرية وما يصلحها، وهو وحده القادر على هداية خَلْقه سبحانه وتعالى.
بينما نجد على الجانب الآخر المنتج البشري بكافة أصنافه وأشكاله وقد اتسم بالتغيُّر والتقلُّب منذ نشأ وإلى أن يموت، وغالبًا ما يُولد ميتًا، حيثُ تتم صياغته في ذهن مَن لا يعرف عن نفسه شيئًا، ولا يعقل عنها سوى ما لقَّنه به محيطه الفكري، فهو عاجزٌ بطبيعته عن إدراك الصواب، فقيرٌ بطبيعته إلى هداية الله عز وجل له.

بل بدأ العدو يأخذ بأصول عدوِّه، رغم العراك الضارم بينهما، لكن يتغافل كل منهما أو أحدهما عن العراك والاحتلال والقتل والتشريد الحاصل بينهما، فيأخذ كل منهما بأصول الآخر وما يدين به، لعلها تنقذه مما هو فيه، وتطيل سنوات بقائه.
ولاشك أن هذه انتكاسة كبيرة في الهوية المميزة لكل دولة.


ولعل أشهر الأمثلة على ذلك ما أخذته الأنظمة الغربية العلمانية من نظم إسلامية مصرفية بعد تلك الأزمة المالية الطاحنة التي عصفت بالعالم بأسره، في الوقت الذي أخذت فيه الكثير من دول المسلمين بتلك القوانين الوضعية الناشئة في فرنسا وغيرها من الدول الغربية.

فما يراه بعضهم صالحًا يراه غيرهم فاسدًا، ويرجع هؤلاء اليوم عما فعلوه بالأمس، ويفعلون غداً عكس ما يرونه اليوم، ويأخذون اليوم بأصول عدو الأمس، ويتشاجرون غدًا مع صديق اليوم، وتظل أمورهم وأحوالهم على الدوام مضطربة متقلِّبة، غير ثابتة ولا مميزة، فبئس ما يفعلون.

وصدق الله عز وجل إِذْ يقول: { وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآَخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا } [الإسراء: 72]، وقال: { وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ أَعْمَى } [طه: 124].

وفَّق الله الجميع إلى ما فيه صالح الإسلام والمسلمين.

"حقوق النشر محفوظة لموقع "المركز العربي للدراسات والأبحاث"، ويسمح بالنسخ بشرط ذكر المصدر"

------------------------------

(1) كما يجري الآن في الغرب من استفادة واضحة وصريحة من المنظومة المصرفية الإسلامية، التي أذعن الغرب لها، وبدأ ينشد فيها نجاته من الأزمة المالية الطاحنة التي تعتري العالم هذه الأيام.
(2) «البداية والنهاية» لابن كثير (2/86).
(3) ينظر كتاب: «النسخ في القرآن» د. مصطفى زيد.

 

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام
  • 0
  • 0
  • 2,840

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً