توحيد الألوهية - (1) معنى توحيد الألوهية

منذ 2017-12-19

توحيد الألوهيَّة هو مضمون كلمة: "لا إله إلا الله"، التي جاءَ بها خاتمُ النبيِّين والمُرسلين محمدٌ - صلى الله عليهم وسلم أجمعين - ودعا إليها قولاً واعتقادًا، ولَم يُطالِب بغيرها طيلة عشرٍ من السنين.

(1) معنى توحيد الألوهية

المقدمة:

الحمد لله الذي خلَق السموَات والأرض، وجعَل الظلمات والنور، ثم الذين كفروا بربِّهم يَعدلون، العالِم بما كان، وما هو كائنٌ، وما سيكون، الذي إنما أمرُه إذا أرادَ شيئًا، أن يقولَ له: كن، فيكون، الذي يَخلق ما يشاء ويختار، ما كان لهم الخِيرة، سبحانه وتعالى عمَّا يُشركون، وهو الله لا إله إلاَّ هو، له الحمد في الأولى والآخرة، وله الحُكم وإليه تُرجعون.

 

سبحانه سبحانه، دلَّ على وَحدانيَّته في إلهيَّته أجناسُ الآيات، وأبانَ علمَه لخَليقته ما فيها من إحكام المخلوقات، وأظهَر قُدرتَه على بريَّته ما أبدَعه من أصناف المُحدَثات، وأرْشَد إلى فِعْله بسُنَّته تنوُّعُ الأحوال المُختلفات، وأهدى برحمته لعباده نِعَمه التي لا يُحصيها إلاَّ ربُّ السموات، وأعلَمَ بحِكمته البالغة دَلائلُ حَمْده وثنائه الذي يَستحقُّه في جميع الحالات، لا يُحصي العباد ثناءً عليه، بل هو كما أثنَى على نفسه لِما له من الأسماء والصفات، وهو المنعوت بنعوت الكمال وصفات الجلال التي لا يُماثله فيها شيءٌ من الموجودات، وهو القدُّوس السلام المُتنزه أن يَلحقه شيءٌ من الآفات، فسبحانه وتعالى عمَّا يقول الظالمون عُلوًّا كبيرًا، الذي خلَق السموات والأرض، ولَم يتَّخذ ولدًا، ولَم يكن له شريكٌ في المُلك، وخلَق كلَّ شيء فقدَّره تقديرًا.

 

أرسَل الرُّسل مُبَشِّرين ومُنذرين؛ لئلاَّ يكون للناس على الله حُجَّة بعد الرُّسل، وكان الله عزيزًا حكيمًا، مُبَشِّرين لِمَن أطاعَهم بغاية المراد من كلِّ ما تحبُّه النفوس وتَراه نعيمًا، ومُنذرين لِمَن عصاهم باللَّعن والإبعاد وأن يُعذَّبوا عذابًا أليمًا، وأمرَهم بدعاء الخَلْق إلى عبادته وحْده لا شريكَ له، مُخلصين له الدينَ ولو كَرِه المشركون؛ كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ * وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} [المؤمنون: 51 - 52].

وجعَل لكلٍّ منهم شِرعة ومنهاجًا؛ ليستقيموا إليه ولا يَبغوا عنه اعْوِجاجًا.

وختَمهم بمحمدٍ -صلى الله عليه وسلم- أفضل الأوَّلين والآخرين، وصَفوة ربِّ العالمين، الشاهد البشير النذير، الهادي السِّراج المُنير، الذي أخرَج به الناس من الظُّلمات إلى النور، وهدَاهم إلى صراط العزيز الحميد؛ الله الذي له ما في السموات وما في الأرض، وويلٌ للكافرين من عذاب شديدٍ.

بَعَثه بأفضل المناهج والشِّرع، وأحْبَط به أصنافَ الكفر والبِدَع، وأنزَل عليه أفضلَ الكُتب والأنباء، وجعَله مُهَيمنًا على ما بين يديه من كُتب السماء.

 

وجعَل أُمَّته خيرَ أُمَّة أُخْرِجت للناس؛ يأمرون بالمعروف، ويَنهون عن المنكر، ويؤمنون بالله، يوفون سبعين أُمَّةً هم خيرُها وأكرمُها على الله، هو شهيد عليهم وهم شُهداء على الناس في الدنيا والآخرة، بما أسبَغه عليهم من النِّعم الباطنة والظاهرة، وعصَمهم أن يَجتمعوا على ضلالة؛ إذ لَم يَبق بعده نبيٌّ يُبَيِّن ما بُدِّل من الرسالة، وأكمَل لهم دينَهم، وأتَمَّ عليهم نِعَمَه، ورَضِي لهم الإسلام دينًا، وأظهَره على الدِّين كلِّه إظهارًا بالنُّصرة والتمكين، وإظهارًا بالحجَّة والتبيين، وجعَل فيهم علماءَهم ورَثةَ الأنبياء؛ يقومون مقامَهم في تبليغ ما أُنزِل من الكتاب، وطائفة منصورة لا يَزالون ظاهرين على الحقِّ لا يَضرُّهم مَن خالَفهم ولا مَن خذَلهم إلى حين الحساب.

وحَفِظ لهم الذِّكر الذي أنزَله من الكتاب المكنون؛ كما قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9].

فلا يقعُ في كتابهم من التحريف والتبديل، كما وقَع من أصحاب التوراة والإنجيل.

 

وخصَّهم بالرِّواية والإسناد، الذي يُمَيِّز به - بين الصِّدق والكذب - الجهابذةُ النُّقاد، وجعَل هذا الميراث يَحمله من كلِّ خلفٍ عُدولُه - أهلُ العلم والدين - يَنفون عنه تحريفَ الغالين، وانتحال المُبطلين، وتأويل الجاهلين؛ لتدومَ بهم النعمة على الأُمَّة، ويَظهر بهم النور من الظُّلمة، ويَحيا بهم دينُ الله الذي بعَث به رسوله، وبيَّن الله بهم للناس سبيلَه، فأفضلُ الخَلْق أتْبَعهم لهذا النبيِّ الكريم، المنعوت في قوله تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128].

 

وأشهد أنْ لا إله إلا الله، وحْده لا شريكَ له؛ ربُّ العالمين، وإله المُرسلين، ومَلكُ يوم الدين، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، أرسَله إلى الناس أجمعين، أرسَله والناس من الكفر والجهل والضلال في أقبح خَيبة وأسوأ حالٍ، فلم يَزَل -صلى الله عليه وسلم- يَجتهد في تبليغ الدين، وهُدى العالَمين، وجهاد الكفَّار والمنافقين، حتى طَلعت شمس الإيمان، وأدبَر ليلُ البُهتان، وعزَّ جُند الرحمن، وذَلَّ حزبُ الشيطان، وظهَر نورُ الفرقان، واشْتَهَرت تلاوة القرآن، وأُعْلِن بدعوة الأذان، واستَنار بنور الله أهلُ البوادي والبُلدان، وقامَت حُجَّة الله على الإنس والجان.

فاللهمَّ صلِّ وسلِّم، وزِدْ وبارِك عليه وعلى آله وأصحابه وأتْباعه، ومَن سارَ على منهجهم، واسْتَنَّ بسُنَّتهم إلى يوم الدين.

 

أمَّا قبلُ:

فإن أصلَ كلِّ فسادٍ مخالفةُ الحقِّ وتَنَكُّبُ طريقِه، وصلاحُ الأمرِ كلِّه في اتباع الحقِّ والتزام طريقِه، والحقُّ: هو الوضع الثابت الذي خلَق الله تعالى عليه المخلوقات، أو أرَادها أن تكون عليه؛ ذلك أنه ليس من مخلوقٍ في الدنيا إلاَّ وخلَقه الله تعالى وحْده، لَم يُشاركه أحدٌ في خَلْقه، وليس من مخلوقٍ في الدنيا إلاَّ وجعَله الله - عزَّ وجلَّ - على وَضْعٍ مُعَيَّن، ودَبَّر أمرَه بكيفيَّة معيَّنة، وهو - سبحانه وتعالى - كاملٌ مُنَزَّه عن الخطأ، فالصلاح كلُّه في خَلْقه وتدبيره، وكلُّ شيءٍ يَنحرف عن الوضع الإلهي والتدبير الربَّاني يَفْسُد؛ فهذه السمَوَات والأرض خلقَهما الله بالحقِّ، ودبَّر أمرَهما بحِكمته، فصَلَحَتا بخَلْقه وتدبيره - سبحانه -: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22].

 

والإنسان مخلوقٌ من مخلوقات الله - عزَّ وجلَّ - وصلاح حياته مرهونٌ بمعرفة الحقِّ واتِّباعه، وفسادُها نتيجة محتومة لجَهْله بالحقِّ، أو تمرُّده عليه وإن عرَفه.

 

ولَمَّا كان الله هو الحقَّ، ومنه الحق، وأمرُه وتدبيرُه هو الحق، فإن سببَ فساد الحياة البشريَّة كلِّها هو الكفر بالخالق، والكفر بأمره وتدبيره، وبما أنزَل من الحقِّ، وسبب صلاح هذه الحياة كلِّها هو الإيمان بالله؛ ولذلك قال - عزَّ من قائلٍ -: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه: 123 - 124].

ولا يتَّبع هُداه إلاَّ مَن آمَن به وذكَره، واستَشْعَر وجودَه وصفاتِه وعَظَمتَه - سبحانه - ومَن نَسِي ذِكْرَ الله، أعرَض عن هداه.

 

والإنسان مُمتَحن في هذه الدنيا بهذين الأمرين؛ ذِكْر الله، واتِّباع هُداه، أو نسيانه والضلال، فهو على مُفترق طريقين لا ثالثَ لهما؛ طريق الإيمان والهدى والسعادة في الدنيا والآخرة، وطريق الكفر والضلال والشَّقاء في الدَّارين؛ ولذا كان أشرفَ ما يتعلَّمه الإنسان ويُعلِّمه لغيره، أمورُ الإيمان وأركانه ومُقتضياته، وأحوطَ ما يَحتاط ويتسلَّح به، معرفةُ معالِم الكفر وأسبابه ومُقتضياته، فإن كان على بصيرة من هذَين الأمرين الخطيرين، عرَف الإنسان طريق سعادته، فالْتَزَمه ولَم يَحِد عنه، وطريق شَقائه، فاجْتَنَبه.

 

وبعد:

فإن توحيد الألوهيَّة جزءٌ مهمٌّ جدًّا من عقيدة المؤمن؛ إذ هو ثمرة توحيد الربوبيَّة والأسماء والصفات، وبدونه يَفقد توحيد الربوبيَّة والأسماء والصفات معناه، وتَنعدم فائدته.

وإذا كان توحيد الربوبيَّة يدور على المعرفة بالله وربوبيَّته، ونَفْي الشَّريك فيها، كما أنَّ توحيد الأسماء والصفات يدور على إثبات أسماء الله تعالى وصفاته، ونَفْي الشريك في الأسماء، وعدم التمثيل والتعطيل في الصفات، فإن توحيد الألوهيَّة يقوم على إفراد الله بالعبادة، المُستلزِم لعبادة الله تعالى بكلِّ ما شرَع أن يُعبَد به من أعمال القلوب والجوارح، وألاَّ يُشرَك معه غيرُه في شيءٍ منها، مع عدم الاعتراف بعبادة غيره - عزَّ وجلَّ.

وتوحيد الألوهيَّة أيضًا هو تعلُّق القلب بالربِّ تعالى؛ خوفًا ورجاءً، ورَهبةً وطمعًا، كما أنه إسلام الوجه لله تعالى، ووَقْف الحياة كلِّها عليه، فلا شيء للعبد هو لغير الله؛ بدليل قوله تعالى من سورة الأنعام:  {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 162 - 163].

بهذا أُمِر النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يقولَ ويُجاهر به، وبمثله أُمِر إبراهيم - عليه السلام - إذ قال: {يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام: 78 - 79].

إن لهذا التوحيد - توحيد الإلهيَّة - شأنًا وخطرًا، ويُنبئ عن ذلك أنَّ كافة الرُّسل الذين بعَث الله تعالى بهم إلى الأُمم والشعوب، كان كلُّ واحدٍ منهم يبدَأ دعوته حينما يَبدؤها بقوله: ﴿يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 59].

 

وتوحيد الألوهيَّة كذلك هو مضمون كلمة: "لا إله إلا الله"، التي جاءَ بها خاتمُ النبيِّين والمُرسلين محمدٌ - صلى الله عليهم وسلم أجمعين - ودعا إليها قولاً واعتقادًا، ولَم يُطالِب بغيرها طيلة عشرٍ من السنين، ومن أجْلها عُودِي وأُوذِي وحُورِب، كما عُودِي وأُوذي وحُورِب كلُّ مَن دعا إليها من جميع الرُّسل وأتْباعهم؛ وذلك لأنَّ قولها واعتقادَها يَستلزم الكفر الكامل بكل ما عبَد الناسُ من آلهةٍ دون الله - سبحانه - تلك الآلهة التي عرَفوها بعد فَقْدهم لهداية الله تعالى بموت الأنبياء، وانقراض أهل العلم العارفين بالله وشرائعه، يُضاف إلى ذلك أنَّ كلمة التوحيد "لا إله إلا الله" تَقضي - بل وتُوجب - المساواة بين الناس في الحقوق والواجبات، فلم يَبقَ بين الناس مَن يتميَّز عنهم ميزة يَستعلي بها، فيترفَّع ويتكبَّر، أو يَستعبد الناس، أو يَحكمهم بغير شرع ربِّهم - تبارَك وتعالى - كما جاء مضمون ذلك في كتاب رسول -صلى الله عليه وسلم- إلى هرقل ملكِ الروم، ونصُّه بعد البسملة والدِّيباجة: «يا أهل الكتاب، تعالَوا إلى كلمةٍ سواء بيننا وبينكم، ألاَّ نَعبد إلاَّ الله، ولا نُشرك به شيئًا، ولا يتَّخذ بعضُنا بعضًا أربابًا من دون الله»؛ كما أخرَجه الإمام البخاري - رحمه الله.

ومن هنا، كانت الخصومات تَبلغ أشُدَّها بين الرُّسل وأُممهم؛ لِما تدلُّ عليه عبادة الله تعالى وحْده من الكفر بكلِّ معبودٍ سواه، وتَرْك عبادته والبَراءة منه؛ قال تعالى من سورة المجادلة: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة: 22].

كما أخبَر الله تعالى عن خليله إبراهيم والمؤمنين معه، وهو يدعونا إلى الاقتداءِ بهم في الوقوف ضد الشِّرك والمُشركين؛ حيث يقول تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة: 4].

إنَّ مدلول كلمة "لا إله إلا الله" الإيمان بالله وحْده، بأن يُعبد ولا يُشرَك به شيء من خَلقه، والكفر بكلِّ طاغوت صارفٍ عن عبادة الله وطاعته، وطاعة رسوله؛ كما قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36].

 

والطاغوت: هو كلُّ مَن عُبِد من دون الله، أو صَرَف عن عبادته؛ من معبودٍ رَضِي لنفسه أن يُعبد مع الله، أو مَتبوعٍ، أو مُطاعٍ في غير طاعة الله تعالى وطاعة رسوله.

 

هذا، ولكي أُوَفِّي توحيد الألوهيَّة حقَّه من البيان والتوضيح لخطورة شأنه؛ فإنه لا بدَّ من شيء من التفصيل والتنظيم؛ ولذلك فإني أُجمل النقاط الرئيسيَّة في هذا البحث فيما يلي:

 

1- معنى توحيد الألوهيَّة.

2- الأسماء التي أُطْلِقت على هذا النوع من التوحيد.

3- أهميَّة توحيد الألوهيَّة، وكيفيَّة تحقيقه.

4- الدليل على انفراد الله تعالى بالألوهيَّة، وأساليب القرآن في الدعوة إلى ذلك التوحيد.

5- كلمة التوحيد وما يتعلَّق بها.

6- احتياط الشرع لتوحيد الألوهيَّة.

7- الدعوة إلى توحيد الألوهيَّة.

8- ألوان من الشِّرك.

9- بيان بعض المسائل التي لها علاقة بتوحيد الألوهيَّة.

10- تصوُّرات الأُمم الضالَّة للمعبود.

فتلك عشرة كاملة، أسأل الله تعالى أن تُسهم في توضيح توحيد الألوهيَّة، وأن تكون خالصةً لوجه الله تعالى، وأن يكتبَ لها - سبحانه - القَبولَ؛ إنه خيرُ مسؤولٍ ومأمول.

{فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [غافر: 44].

 

أولاً: معنى توحيد الألوهيَّة:

التوحيد في اللغة: مُشتق من وحَّد الشيء: إذا جعَله واحدًا، أو اعْتَقَده واحدًا، ونفَى عنه التعدُّد، فهو مصدر وحَّد يُوحِّد؛ أي: إفراد الشيء، أو اعتقاده واحدًا فردًا.

 

ولا يتمُّ هذا التوحيد إلاَّ برُكنين: الإثبات والنَّفي؛ إذ النَّفي المَحض تعطيلٌ مَحض، والإثبات المَحض لا يَمنع المشاركة، فلو قِيل: زيدٌ قائم، فهو إثباتُ القيام لزيد، ولكن لا يدلُّ على انفراده به، ولو قيل: لَم يَقُم أحدٌ، فهذا نَفْي مَحض، أمَّا لو قيل: لَم يَقُم إلاَّ زيدٌ، فهذا توحيدٌ له بالقيام؛ لأنه اشتمَل على إثباتٍ ونفي.

 

والألوهيَّة: نِسبة إلى الإله بمعنى المَأْلوه؛ أي: المعبود، ولكن هل فِعال تأتي بمعنى مفعول؟! أقول: نعم؛ مثل: فِراش بمعنى مَفروش، وبِناء بمعنى مَبنيّ،وكتاب بمعنى مكتوب، وغير ذلك كثير.

 

وأمَّا توحيد الألوهيَّة، فقد اختَلَفت عبارات القوم في تحديد هذا النوع من أنواع التوحيد، ولا يَخفى ما بين عباراتهم من تقارُبٍ في المعنى، وإن بَدَت مختلفةً في بنائها اللفظي، غير أنه لَمَّا كان المُستحبُّ في الحدودِ أوْجزَها وأخْصرَها لفظًا، مع انضباط دَلالته على المُعرَّف، وكَشْفه التام عن ماهيَّته - كان التعريف المختار عندي أنَّ توحيد الألوهيَّة: هو اعتقاد انفراد الله تعالى بالعبادة، فإنَّ كلَّ التعريفات تَدور حول معنًى واحدٍ، وفي فلك واحدٍ، هو إفراد الله تعالى بالعبادة، ألاَّ تكون عبدًا لغير الله - عزَّ وجلَّ - لا تَعبد مَلَكًا، ولا نبيًّا، ولا وَلِيًّا، ولا شيخًا، ولا أبًا، ولا أُمًّا، ولا أعرافًا، أو تقاليدَ، أو أمثالاً شعبيَّةً، لا تَعبد إلاَّ الله تعالى وَحْده، فتُفرده - سبحانه - وحْده بالتعبُّد والتألُّه.

 

فالمقصود إذًا بتوحيد الألوهيَّة: الاعتقاد الجازم بأنَّ الله - جلَّ وعلا - هو وحْده المُستحق للعبادة، واعتقاد انفراده بجميع أنواع العبادات الظاهرة والباطنة، والبراءة من كلِّ معبود دونه، فلا يُعبد إلاَّ الله، ولا يُتَوَكَّل إلاَّ عليه، ولا يُتَحاكَم إلاَّ إليه، ولا يُتَلَقَّى الهُدى إلاَّ منه، ولا يُتوَجَّه بالعمل إلاَّ إليه، وأن يكون الله وحْده أحبَّ إلى العبد من كلِّ ما سواه، وأخوفَ عنده من كلِّ ما سواه، وأرْجى له من كلِّ ما سواه، فيَعبده بمعاني الحب والخوف والرجاء، بما يحبُّه هو ويَرضاه، وهو ما شرَعه على لسان رسوله، لا بما يريده العبد ويَهواه، وتلخيص ذلك في كلمتين: إيَّاك أُريد بما تُريد؛ فالأُولى: توحيد وإخلاص، والثانية: اتِّباع للسُّنة وتحكيمٌ للأمر.

 

وتوحيد الألوهيَّة مَبنيٌّ على إخلاص العمل كلِّه لله، والتوجُّه به إليه - سبحانه - دون غيره؛ سواء كان هذا العمل من أعمال القلوب، أو من أعمال الجوارح؛ مما يَستلزم التعلُّق بالربِّ تعالى؛ خوفًا ورجاءً، ورَهبة وطمعًا، وإسلام الوجه له، ووَقْف الحياة كلِّها - والمخلوق بأكمله - ابتغاءَ مَرضاة الله؛ {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 162].

 

والقلوب فُطِرت على حبِّ الله تعالى، وتحتاج إلى التعبُّد إليه كما تحتاج إلى الطعام والشراب؛ أي: إنها تحتاج إلى الله تعالى إلَهًا، كما تَحتاج إليه ربًّا، تحتاج إلى أن تتوجَّه بالركوع والسجود والخوف والرجاء لله - تبارَك وتعالى - فلو وُجِّهت القلوبُ إلى حبِّ غير الله، تَشقى أعظمَ شقاءٍ في الدنيا والآخرة.

 

قال تعالى:{قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 162- 163].

 

فالإنسان يعيش لله، ويموت لله، ليس لغيره، وليس للوطن، ليس لقطعة أرضٍ هي في الأصل مَربوبة لله تعالى، ولكن تكون حياتك ومَماتك لله وحْده، أمَّا ما قاله النبي -صلى الله عليه وسلم- عن حبِّه مَكَّةَ، فذلك أنها أحبُّ البلاد إلى الله تعالى؛ ولذلك فيَجب على المسلمين أن يحبُّوا مكَّةَ أكثرَ من بلادهم، وهذه فِطرة في المسلمين جميعًا.

 

وإذًا فمعنى توحيد الألوهيَّة: إفراد الله تعالى بالعبادة، وهى مبنيَّة على أمرين عظيمَيْن؛ هما: المحبَّة والتعظيم، الناتج عنهما {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا} [الأنبياء: 90].

 

فبالمحبَّة تكون الرغبة، وبالتعظيم تكون الرَّهبة والخوف؛ ولهذا كانت العبادة أوامرَ ونواهيَ، أوامرَ مبنيَّة على الرغبة والوصول إلى الآمر، ونواهيَ مبنيَّة على التعظيم والرَّهبة من هذا العظيم، فإذا أحْبَبتَ الله - عزَّ وجلَّ - رَغِبتَ فيما عنده، ورَغِبتَ في الوصول إليه، وطَلَبتَ الطريق المُوصِّل إليه، وقُمتَ بطاعته على الوجه الأكمل، وإذا عظَّمته خِفْتَ منه، فكلَّما هَمَمْتَ بمعصية، اسْتَشْعَرتَ عَظَمَة الخالق - جلَّ وعلا - فنَفَرتَ، وهذه من نعمة الله تعالى عليك، إذا هَمَمت بمعصية، وجَدت الله تعالى أمامَك، فهِبْتَ وخِفْتَ وتباعَدْتَ عن المعصية؛ لأنَّك تَعبد الله خوفًا وطمعًا، رَغبة ورَهبة، فما معنى العبادة؟

 

تَبَيَّنَ لنا - من الكلام السابق عن توحيد الألوهيَّة - أنَّ المكلَّف لا يُحَقِّقه على وجهه الصحيح إلاَّ إذا أفرَد الله تعالى بالعبادات كلِّها، وتوجَّه بها إلى الله وحْده دون ما سواه؛ مما يَستلزم منَّا أن نتعرَّف على مفهوم العبادة وأنواعها وأركانها، وشروط صحَّتها، فأقول:

 

يُؤخَذ مما ورَد في المعاجم اللغويَّة، أنَّ كلمة العبادة تَعني: الخضوع والتذلُّل، والطاعة والانقياد للغير، انقيادًا سَلِسًا، لا عصيان فيه، ولا مقاومةَ معه، فيقال: بعيرٌ مُعَبَّد؛ أي: مُنقاد سَلِسٌ، وطريق مُعَبَّد إذا كان مُذلَّلاً قد وَطِئَتْه الأقدام، وفي المعجم الوسيط مثلاً: العبادة: الخضوع للإله على وجْه التعظيم والشعائر الدينيَّة.

 

والعبادة تَجمع أصلَيْن، وهما: غاية الحبِّ، وغاية الذلِّ والخضوع، والتعبُّد: هو التذلُّل والخضوع، فمَن أحْبَبْتَه ولَم تكن خاضعًا له، لَم تكن عابدًا له، ومَن خَضَعتَ له بلا محبَّةٍ، لَم تكن عابدًا له؛ حتى تكونَ مُحِبًّا خاضعًا.

 

ولشيخ الإسلام ابن تيميَّة - رحمه الله تعالى - نَظرةٌ عميقة لمفهوم العبادة، حلَّلَ فيها المعاني التي يَشتمل عليها هذا المفهوم، مُبْرِزًا إلى جوار المعنى الأصلي في اللغة - وهو غاية الطاعة والخضوع - عنصرًا جديدًا له أهميَّة كبرى في الإسلام، ولا تتحقَّق العبادة إلاَّ به، وهو عنصر الحبِّ، ومِن ثمَّ فالعبادة تتضمَّن غاية الذُّلِّ لله، بغاية المحبَّة له، فمَن خضَع لإنسانٍ مع بُغضه له، لا يكون عابدًا له، ولو أحبَّ شيئًا ولَم يَخضع له، لَم يكن عابدًا له، كما قد يحبُّ ولدَه وصديقه؛ ولهذا لا يَكفي أحدُهما في عبادة الله تعالى، بل يجب أن يكون اللهُ أحبَّ إلى العبد من كلِّ شيءٍ، وأن يكون الله أعظمَ عنده من كلِّ شيءٍ، بل لا يستحقُّ المحبَّةَ والذُّل التامَّ إلاَّ اللهُ تعالى، وكلُّ ما أُحِبَّ لغير الله، فمحبَّته فاسدة، وما عُظِّمَ بغير أمر الله، كان تعظيمه باطلاً.

 

أمَّا مفهوم العبادة اصطلاحًا، فتُطْلَق على أمرين، وهما: الفعل والمفعول، فتُطلَق على الفعل الذي هو التعبُّد، فيقال: عبَد الرجل ربَّه عبادةً وتَعبُّدًا، وإطلاقها على التعبُّد من باب إطلاق اسم المصدر على المصدر، ويُقصَد بها حينئذٍ التذلُّلُ لله - عزَّ وجلَّ - حبًّا وتعظيمًا، بفِعل أوامره واجتناب نواهيه، وكلُّ مَن ذلَّ لله تعالى، عزَّ به - سبحانه - ﴿ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [المنافقون: 8]، أو هي: غاية الحبِّ وغاية الذُّلِّ.

 

كذلك تُطْلَق العبادة على المفعول؛ أي: المُتعَبَّد به، ومن أجمَع تعريفاتها بهذا الإطلاق، أنها: اسم جامعٌ لكلِّ ما يحبُّه الله ويَرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة، فالصلاة والزكاة، والصيام والحج، وصِدق الحديث، وأداء الأمانة، وبرُّ الوالدين، وصِلة الأرحام، والوفاء بالعهود، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والجهاد للكفَّار والمُنافقين، والإحسان إلى الجار واليتيم والمسكين، وابن السبيل والمَملوك من الآدَميِّين والبهائم، والدعاء والذِّكر والقراءة، وأمثال ذلك من العبادة، وكذلك حبُّ الله ورسوله، وخشية الله، والإنابة إليه، وإخلاصُ الدِّين له، والصبر لحُكمه، والشكر لنِعَمه، والرِّضا بقَضائه، والتوكُّل عليه، والرجاء لرحمته، والخوف من عذابه، وأمثال ذلك - هذا الشيء الذي تعبَّدنا الله تعالى به، يجب توحيدُه به، لا يُصرف لغيره، وهذا هو توحيد الألوهيَّة الذي هو الفارق بين المُوحِّدين والكافرين أو المُشركين، وعليه يقع الجزاء والثواب في الأُولى والآخرة، فمَن لَم يأتِ به، كان من المُشركين.

 

شروط قَبول العبادة وأركانها:

لا تكون العبادة صحيحة مقبولة، ومُحَقِّقة للمقصد منها، إلاَّ بثلاثة شروط: الإيمان، والإخلاص، والاتِّباع.

فأوَّلها: الإيمان بالله وملائكته، وكُتبه ورُسله، واليوم الآخر، والقدر خيرِه وشرِّه؛ قال تعالى: {وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} [الإسراء: 19].

 

والثاني: الإخلاص؛ أي: أن تكون العبادة خالصةً لوجه الله تعالى دون رياءٍ ولا سُمعة، ولا يُقصد مِن فِعْلها إلاَّ التقرُّب إلى الله، وابتغاء مَرضاته؛ كما قال - سبحانه -: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110].

وفي الصحيحين عنه -صلى الله عليه وسلم-: «إنَّما الأعمال بالنيَّات، وإنما لكلِّ امرئ ما نوى».

 

والثالث: الاتِّباع؛ أي:

أن تفعلَ العبادة على منهج النبي -صلى الله عليه وسلم- دون زيادة أو نُقصان، فلا يُعبَد الله إلاَّ بما شرَع، ووَفْقًا لِما جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم- الذي قال كما في الصحيحين: «مَن أحدَث في أمرنا هذا ما ليس منه، فهو رَدٌّ»، وفي رواية: «مَن عَمِل عملاً ليس عليه أمرُنا، فهو رَدٌّ».

 

وكلُّ عبادة لَم يُحقِّق صاحبُها الشروطَ المذكورةَ، فهي مردودة عليه؛ لأنَّ جِماع الدين والإيمان أصلان: ألاَّ نَعبد إلاَّ الله، ولا نعبده إلاَّ بما شرَع، لا نعبده بالبِدَع؛ كما قال تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110]. وذلك تحقيق الشهادتين: شهادة أنْ لا إله إلا الله، وشهادة أنَّ محمدًا رسول الله؛ ففي الأولى: ألاَّ نعبد إلاَّ الله، وفي الثانية: أنَّ محمدًا هو رسوله المُبلِّغ عنه، فعلينا أن نُصَدِّق خبرَه، ونُطيع أمره، وقد بيَّن لنا ما نَعبد الله به، ونهانا عن مُحدثات الأمور، وأخبَرنا أنها ضلالة.

 

أمَّا أركان العبادة التي تقوم عليها، فهي ثلاثة: المحبَّة، والخوف، والرجاء، والعبادة الحَقَّة هي التي يتقلَّب صاحبها بين حبِّ الله، والخوف منه، ورجائه والطَّمع في رحمته، والعابد دون حبٍّ وخوفٍ ورجاءٍ، إنما يؤدِّي حركات جوفاءَ لا معنى لها، والخوف دون رجاءٍ رُبَّما أدَّى إلى اليأس، والرجاء دون خوفٍ رُبَّما أدَّى إلى الجُرأة على المعاصي والأمْن من مَكر الله تعالى.

 

فلا بدَّ للعبد أن يَجمع بين تلك الأركان الثلاثة كلِّها، فيَعبد الله حبًّا، ويَقرن إلى ذلك الخوف والرجاء؛ كما قال - سبحانه -: {وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} [الإسراء: 57].

 

والسبب في ضرورة الجَمْع بين الحب والخوف والرجاء معًا، هو أنَّ القلب في سَيْره إلى الله تعالى بمنزلة الطائر؛ فالمحبَّة رأسه، والخوف والرجاء جَناحاه، فمتى سَلِم الرأس والجناحان، فالطَّير جيِّدُ الطيران، ومتى قُطِع الرأس، مات الطائر، ومتى فُقِد الجناحان، فهو عُرضة لكلِّ صائد وكاسرٍ، ولكنَّ السَّلف - رَحِمهم الله - اسْتَحَبُّوا أن يُقوَّى في الصحة جَناحُ الخوف على جناح الرجاء، وعند الخروج من الدنيا يُقَوَّى جناحُ الرجاء على جَناح الخوف، وبعضهم قال: يَنبغي للقلب أن يكونَ الغالب عليه الخوفَ، فإن غلَب عليه الرجاء، فَسَد، وبعضهم قال: أكملُ الأحوال اعتدالُ الرجاء والخوف، وغلبةُ المحبَّة، فالمحبَّة هي المركب، والرجاء حادٍ، والخوف سائقٌ، والله المُوصل بمَنِّه وكَرمه.

 

وعلى كلِّ حالٍ، فتوحيد الألوهيَّة يَعني: توجُّه العبد بكلِّ عباداته وأفعاله الظاهرة والباطنة لله وحْده، والكفر بكلِّ ما يعبد من دونه من الطواغيت؛ أي: بُغضه وكُرهه مع اعتقاد بُطلان عبادته، وهذا هو معنى كلمة النجاة "لا إله إلا الله"، ولعلي أُفرد لها بحثًا مُستقلاًّ فيما بعدُ - إن شاء الله تعالى.

 

ثانيًا: الأسماء التي أُطْلقت على هذا النوع من التوحيد:

هناك عددٌ من الأسماء التي أُطْلِقت على هذا النوع من التوحيد؛ منها: تسميته بتوحيد الغاية، وأيضًا توحيد الألوهيَّة، ورُبَّما يُطْلَق عليه توحيد العبادة، وتوحيد القصْد والطَّلب، وتوحيد الشرع والقَدر، وتوحيد الإرادة.

فأمَّا تسميته بتوحيد الغاية وتوحيد العبادة؛ فلقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56].

فعبادة الله وحْده لا شريك له، هي الغاية التي خُلِق الناس من أجْلها، وهى أوَّل الدِّين وآخره، وظاهره وباطنه، وقد بيَّنت الآية العلَّة في خَلْق العباد بلام التعليل في قوله: {لِيَعْبُدُونِ}؛ قال شيخ الإسلام: "هذه اللام ليستْ هي اللام التي يُسَمِّيها النحاة لامَ العاقبة والصيرورة، بل هي اللام المعروفة، وهي لام كي ولام التعليل، التي إذا حُذِفت انتصَب المصدر المجرور بها على المفعول له، وتسمَّى العلَّة الغائيَّة، وهى متقدِّمة في العلم، والإرادة متأخِّرة في الوجود والحصول، وهذه العِلَّة هي المراد المطلوب المقصود من الفعل، فمقتضى اللام في قوله: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} الإرادة الدينيَّة الشرعيَّة، وهذه قد يقعُ مرادُها وقد لا يقعُ، فهو العمل الذي خُلِق العباد له".

 

فباعتبار إضافته إلى العابد يُسمَّى توحيد العبادة، ويُسمَّى أيضًا توحيد الألوهيَّة أو الإلهيَّة، وكلاهما صحيح؛ لأنه معنى قول العبد: "لا إله إلا الله"؛ إذ الإله هو: الْمَأْلُوه المعبود بجميع أنواع العبادة.

قال شيخ الإسلام: "توحيد العبادة: هو تحقيق شهادة أنْ لا إله إلا الله، أن يَقصد الله بالعبادة ويُريده بذلك دون ما سواه، وهذا هو الإسلام؛ فإن الإسلام يتضمَّن أصلَيْن؛ أحدهما: الاستسلام لله، والثاني: أن يكون ذلك له سالِمًا، فلا يشركه أحدٌ في الإسلام له".

فباعتبار إضافته إلى الله تعالى يُسَمَّى توحيد الألوهيَّة؛ لأنه مبنيٌّ على إخلاص التألُّه - وهو أشدُّ المحبَّة - لله.

ويسمَّى توحيد القَصْد والطلب؛ لأنه يتعلَّق بنيَّة المسلم ومَطلبه في الحياة، وإنما سُمِّي بتوحيد الإرادة؛ لأنه مبنيٌّ على إرادة وجْه الله بالأعمال، وإخلاص القصْد المُستلزم إخلاصَ العبادة لله وحْده، وسُمِّي بتوحيد العمل؛ لأنه مبنيٌّ على إخلاص العمل لله وحْده؛ كما قال تعالى: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ } [الزمر: 2].

وفي الصحيح: «إنَّما الأعمال بالنيَّات»، ومِن ثمَّ فإن توحيد القصْد والطلب، يتعلَّق بالمطالب العالية والأوامر التكليفيَّة الشريفة، فأعلى الغايات هي الوصول إلى رضا الله تعالى والقُرب منه، وأقرب الطُّرق والوسائل إليه طريقةُ الهدى وتوحيد الطريق، فلا يُعدَل عنها إلى غيرها، وتوحيد المطلوب، وهو الحق - سبحانه - فلا يُعْدَل عنه إلى غيره.

 

والهداية التامَّة تتضمَّن توحيد المطلوب، وتوحيدَ الطلب، وتوحيدَ الطريق المُوصِّلة، والانقطاعُ وتخلُّف الوصول إلى المطلوب، يقعُ من الشركة في هذه الأمور أو في بعضها، فالشركة في المطلوب تُنافي التوحيد والإخلاص، والشركة في الطلب تُنافي الصدق والعزيمة، والشركة في الطريق تُنافي اتِّباع الأمر، فالأوَّل يُوقِع في الشِّرك والرِّياء، والثاني يوقِع في المعصية والبطالة، والثالث يُوقِع في البدعة ومُفارقة السُّنة، فتأمَّلْه تَجِدْ أنَّ توحيد المطلوب يَعْصم من الشِّرك، وتوحيد الطلب يَعصم من المعصية، وتوحيد الطريق يَعصم من البدعة، والشيطان إنما يَنصب فخَّه بهذه الطرق الثلاثة.

 

فالعبادة تتضمَّن الطلب والقصد، والإرادة والمحبَّة، وهذا لا يتعلَّق بمعدومٍ، فإنَّ القلب يَطلب موجودًا، فإذا لَم يَطلب ما فوق العالَم، طلَب ما هو فيه.

 

وهذا النوع من التوحيد يُسَمَّى أيضًا: توحيد الإرادة، فالإرادة في الأصْل مِن رادَ يَرود، إذا سَعى في طلب الشيء، وهى قوَّة مُركَّبة في قلب الإنسان، جُعِلت اسمًا لشروع النفس إلى الشيء، مع الحُكم فيه بأنه يَنبغي أن يُفعَل أو لا يُفعَل، والإرادة قريبة من القصْد والنيَّة، والعزم على الفعل، وكلُّها من أعمال القلوب ومَنطقة الكسْب؛ {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا * وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا } [الإسراء: 18 - 19].

 

وقد سُمِّي هذا التوحيد توحيدَ الإرادة؛ لتوافُق الإرادات، فالعبد إذا حقَّقه توافَقَت إرادتُه مع الإرادة الشرعيَّة الدينيَّة، والإرادة الكونيَّة القدريَّة، فالمؤمن الذي كَمُل إيمانُه، تتوافَق فيه الإرادات، والكافر تتخلَّف فيه إرادة الله الشرعيَّة فقط، وهي إرادة بمعنى الأمر الشرعي الموجَّه إلى المُكلَّفين، وتلك الإرادة قد تتخلَّف، وقد يَعصيها الإنسان، أمَّا الإرادة الكونيَّة القدريَّة، فهي بمعنى الحُكم المُنتهِي، والقضاء المُبرَم، والتقدير الواقع بأنْ يُفْعَل أو لا يُفْعَل، فمتى قيل: أرادَ الله كذا على المعنى الكوني، فمعناه: قضاه وقَدره، وحَكَم فيه أنه واقعٌ، فهي بمعنى المشيئة.

 

وكما سُمِّي هذا النوع بتوحيد الإرادة، فإنه يُسَمَّى كذلك توحيد الشرع والقدر؛ لأنَّ عقيدة السلف وسطٌ بين الجبريَّة والقدريَّة، فالمسلم يجب أن يُسلِّمَ لله في تدبيره الشرعي والكوني معًا، فيَعمل بشرعه ويُؤمن بقَدره، لا انفكاكَ لأحدهما عن الآخر، ومعنى ذلك أنَّ المسلم إذا وفَّقه الله إلى الطاعة والاجتهاد في أحكام العبوديَّة، وأدَّى توحيد الألوهيَّة، نَسَب الفضل في طاعته إلى ربِّه، وأنَّها كانتْ بمعونته وتوفيقه؛ لِمَا سبَق في حُكمه وقضائه وقَدره، ولا يَنسب الفضل إلى نفسه، أو يَمُنَّ به على ربِّه؛ ﴿ يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [الحجرات: 17].

 

كما أنْ المُوحِّدَ إذا أحدَث ذنبًا ومعصية، عَلِم أنَّ أفعاله وإن كانتْ بمشيئة الله وحُكمه، وقضائه وقدره، إلاَّ أنَّ النسبةَ في العصيانِ مَردُّها إلى الإنسان، أو وَسواس الشيطان، فيَدعوه ذلك إلى التوبة وطلَبِ الغُفران، ويُقِرُّ لربِّه بذنبه، وأنَّ معصيته بسبب تقصيره وخطئه، وأنه مُستحق للعقاب بحُكمه وعدله، وأنَّ ربَّه مُنَزَّه عن ظُلم أحدٍ من العالمين، فإن أدخَل عبدًا الجنة، فبفَضله ورحمته، وإن عذَّبه، فبِعَدله وحِكمته.

 

قال ابن القيِّم: "وها هنا أمرٌ يجب التنبيه عليه، وهو أنَّ الجنة إنما تُدخَل برحمة الله، وليس عملُ العبد مستقلاًّ بدخولها، وإن كان سببًا؛ ولهذا أثبَت الله دخولها بالأعمال في قوله تعالى: ﴿ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [الزخرف: 72]، ونفَى الرسول-صلى الله عليه وسلم- دخولَها بالأعمال بقوله عند البخاري: ((لن يدخلَ أحدٌ منكم الجنة بعمله))، ولا تَنافي بين الأمرين".

 

فمَن نفى القَدر وزعَم مُنافاته للشرع، فقد عطَّل الله عن عِلْمه وقُدرته، وجعَل العبد مستقلاًّ بأفعاله، خالقًا لها كما قالت المعتزلة؛ حيث أثْبَتوا خالقًا مع الله، لا يَنحصر في واحد أو اثنين كما قالت النصارى، ولكن جعَلوا آلهةً أخرى بعدد البشر، ومَن أثبَت القدر مُحتجًّا به على الشرْع، مُحَاربًا له به، نافيًا عن العبد قُدرته التي منَحها الله إيَّاها، ونفى أمرَ الله ونَهْيه، فقد نفى الحكمة عن أفعال ربِّه، ونسَب إليه الظُّلم والعَبَث - تعالَى الله عن ذلك عُلوًّا كبيرًا.

 

ومِن ثمَّ، فإنَّ المؤمنين المُوَحِّدين يُثبتون القدرَ خيرَه وشرَّه، ويَنقادون للشرع أمرِه ونَهْيه؛ إذ الإيمان بالقدر مُرتبطٌ بامتثال الشرع، وامتثال الشرع مُرتبط بالإيمان بالقدر، وانفكاك أحدهما من الآخر مُحالٌ، فإن الإقرار بالقَدر مع الاحتجاج به على الشرع ومُحاربته به، مخاصمةٌ لله تعالى في أمره وشرعه، ووَعْده ووعيده، وثوابه وعقابه، وطَعْنٌ في حِكمته وعدْله، وانتقادٌ عليه في إرسال الرُّسل وإنزال الكُتب، وخَلْق الجنة لأوليائه المُصَدِّقين بها، وخَلْق النار لأعدائه المُكذِّبين، ونسبةٌ لأحْكم الحاكمين - الحكيم في خَلْقه وشَرْعه، والعدل في قوله وفِعله وحُكمه - إلى العَبَث والظُّلم في ذلك كله.

 

وكذلك الانقياد للشرع مع نفْي القدر، وإخراج أعمال العباد عن قُدرة الباري، وجَعْلهم مُستقلِّين بها، مُستغنين عنه - طَعْنٌ في ربوبيَّة المعبود ومَلكوته، ونِسبته إلى العَجْز، ووَصْفه بما لا يَستحق - تعالى ربُّنا وتقدَّس، وتنزَّه وجلَّ وعلا عمَّا يقول الظالمون الجاحدون عُلوًّا كبيرًا - بل الإيمان بالقدر خيرِه وشرِّه، هو نظام التوحيد، كما أنَّ الإتيان بالأسباب التي تُوصِّل إلى خيره وتَحجز عن شرِّه، والاستعانة بالله عليها، هو نظام الشرع، ولا يَنتظم أمرُ الدين ولا يَستقيم، إلاَّ لِمَن آمَن بالقَدر، وامتثَل الشرع.

 

كما سمَّاه بعض العلماء بالتوحيد الإرادي الطلبي، أو التوحيد العملي، وجَعَله قسيمًا للنوعين الآخَرين من التوحيد؛ أي: توحيد الربوبيَّة، وتوحيد الأسماء والصفات، واللذان يُطلق عليهما: التوحيد العلمي، أو الاعتقادي الخبري.

 

فهذه أغلبُ الأسماء والمُصطلحات التي تُطْلَق على توحيد الألوهيَّة في الكتب التي تَعرض له، وعلى ألْسِنة مَن يتناولونه بالشَّرح والبيان.

محمود العشري

كاتب له عدد من الكتابات في المواقع الإسلامية

  • 13
  • 6
  • 108,812
 
المقال التالي
(2) أهمية توحيد الألوهية وكيفية تحقيقه

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً