بعض الملامح!

منذ 2017-12-25

لو توفرت لدى المرء رغبة حقيقية في التغير للأفضل، فلعله يجد في نفسه من شخصيات القرآن بعض الملامح!

لا أعتقد أن هناك منهجًا يصلح لتكوين معالم الشخصية المسلمة بشكل سوي مستقيم ولا تكون مرجعيته العظمى ومحوره الرئيسي الوحي. ليس فقط لما يحويه ذلك الوحي من دلالات على الخير وسبله وما يتضمنه من توجيه لكل ما ينفع الناس جنبًا إلى جنب مع نهيهم عما يضرهم وتنفيرهم مما يؤثر سلبًا على حياتهم في الدارين العاجلة والآخرة، وكذلك ما يبينه من حقائق هاتين الدارين والميزان المنضبط الذي به تستقيم النظرة لكل منهما؛ ولكن تأتي الضرورة التي أقصدها لسبب إضافي في غاية الأهمية ولخاصية متفردة يتمتع بها الوحي العظيم تجعل له هذه المحورية الواضحة؛ خاصية يطيب لي أن أسميها (النماذجية).

إنها تلك القدرة على إقامة النماذج الحية وطرحها ظاهرة جلية بين يدي المطّلع على الوحي. تصوير شامل ومتكامل تبرز من خلاله ملامح واضحة تمام الوضوح لشخصيات يحتاج الإنسان لأن يقف أمامها طويلًا، شخصيات قد يجد المرء نفسه وهو يطالع ملامحها كأنما يتأمل انعكاسًا لصورته في مرآة، أو إن شئت فقل: الملامح التي كان يتمنى أن تكون هي ملامحه في تلك الصورة.

بهذه الخاصية العجيبة يتمكن القرآن بحيوية لا تجد نظيرًا لها من تشكيل ملامح الشخصية المسلم، فقط إن قرر صاحب تلك الشخصية أن يقف متدبرًا متأملًا للنماذج التي يعرضها القرآن عليه. كثيرًا ما تكون تلك النماذج مطلقة غير معينة أو محددة فلا نعرف لأصحابها اسمًا ولا وَسمًا ولكن نعرف خصالهم وطبائعهم. ولعل من أهم أسباب عدم التعيين كون المعركة الرئيسة للمصلحين هي مع الخلل نفسه، والمُبتغَى الرئيس هو بيان زيفه وبطلانه بإطلاق واطراد ثم محاولة إصلاحه بشكلٍ عامٍ وشاملٍ يناسب الحاضر والمستقبل قبل الانشغال بتفاصيل آنية وأعيان فانية.

كم مرة ذُكر في القرآن كافر باسمه؟ وكم مرة عُين منافق بلقبه؟ وكم مرة أُخبر عن فاسقٍ أو فاجرٍ بنَسَبه؟ و ما نسبة ذلك لذكرهم بصفاتهم وأفعالهم وقبيح أعمالهم؟

إبليس، وفرعون، وهامان، وقارون، وأبو لهب، والسامري

هؤلاء تقريبًا هم من ذُكروا من أهل الباطل بأعيانهم في القرآن. أضف إليهم إن شئت بعض الآيات التي وردت حولها روايات تذكر كونها نزلت في شأن أناس بأعيانهم كالنمرود، وعقبة بن أبي معيط، والوليد بن المغيرة، وبرصيصا العابد المنتكس، وبلعم بن باعوراء الذي أوتي آيات الله فانسلخ منها. لكن هؤلاء لم يذكروا بأسمائهم لتظل الآيات التي تحدثت عنهم على إطلاقها ولتبقى صالحة لتطبيقها وقياسها على كل من سار على ذات النهج وتنمط بنفس النمط السلوكي. هذا طبعا بخلاف الآيات التي تحدثت عن أقوام بمجملهم كقوم عاد وثمود وبني إسرائيل والسحرة وغيرهم.

لكن حتى هذه النماذج المعدودة التي ذُكرت بأسمائها أو تحدثت عن أشخاص معلومين يعد أصحابها رؤوسًا وأمثلةً لأنماطٍ بشريةٍ معروفةٍ. وهنا تبرز فكرة (النماذجية) التي أتحدث عنها. قارون على سبيل المثل يعد نموذجًا لذلك الغني المستكبر بماله المغتر بعلمه وثرائه، وفرعون يعد نموذجًا لنمط المستبد المتسلط والطاغية المتجبر، وهامان نموذج لحاشية السلطان الجائر التي تطيعه في كل باطل وتمهد له كل منكر، وبنو إسرائيل نموذج للتمرد والعصيان وسوء الأدب مع الله ورسله، وهكذا.

تجد الأصل في النماذج المذكورة أنها تصلح بشدة لجعلها معيارًا لقياس الأنماط السلوكية الشبيهة في كل زمان ومكان. هذا بالنسبة لنماذج الباطل وأهله
في المقابل تكثر النماذج المعينة لأهل الحق وحملة الضياء المحددين والمعروفين بأعيانهم، وكأنها لوحةُ شرفٍ نورانية خلدت ذكر الصالحين عبر الأزمان، ووجهت رسالة لكل من يمر مفادها: دونك الأسوة والعبرة والمثل فبهداهم اقتده.

الصدِّيقون والصدِّيقات والصالحون والصالحات: آسية امرأة فرعون، ومريم ابنة عمران وأمها، وأم موسى ووليدها عليه السلام، وسائر النبيين والمرسلين الذي ذكروا إجمالًا وتفصيلًا بين دفتي المصحف. كل هؤلاء عُيِّنوا بأسمائهم وعرفوا بشخصياتهم. وهذه الشخصيات أيضًا تنطبق عليها قاعدة (النماذجية) التي أتحدث عنها.

أما الأنبياء والمرسلون فلست بحاجة لبيان ما هو جلي لكل من يتدبر قصصهم في القرآن وكيف جعل الله سيرهم ومواقفهم مشعل هداية واقتداء لكل من يطالعها؛ أُ {ولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ ۖ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ۗ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا ۖ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَىٰ لِلْعَالَمِينَ} [اﻷنعام:90]. إنها نماذج تحوي العبرة والموعظة والذكرى وتعين كل سالك إلى الله على الثبات على الأمر والعزيمة على الرشد؛ {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ ۚ وَجَاءَكَ فِي هَٰذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ} [هود:120].

وأما نماذج الصالحين والصالحات من غير الأنبياء فقد كثرت أيضًا في القرآن كما أسلفتُ؛ ولعل كثيرًا من طالبي التغيير للأفضل من خلال المنظومة النماذجية للقرآن قد يجدون أثرًا مختلفًا لهذه النوعية الأخيرة تحديدًا. إنها نماذج لشخصيات غير معصومة؛ أناس -على فضلهم- ليسوا بأنبياء ولا مرسلين يثبتون من خلال مواقفهم أن الأمر ممكن وأن سلوك سبيل الحق يسير على من يسره الله عليه.

بعد رؤية ما فعله السحرة عند توبتهم وإسلامهم، وبعد تأمل موقف الرجل المؤمن الذي وجد لنفسه دورًا في الدعوة مع وجود ثلاثة أنبياء في زمانه، وعند مطالعة ما صدع به مؤمن آل فرعون مع وجود موسى وهارون عليهما السلام، وعند تدبر ثبات امرأة فرعون رغم فساد البيئة التي يحيطها بها زوجها الطاغية، وعند مشاهدة صمود أصحاب الكهف رغم المغريات والفتن فلا مجال بعد كل ذلك لتلك الحجج التي يصدرها كل عاجز حين يدعى لامتثال منهج الوحي في حياته حجة عدم الاستطاعة، وحجة ضعف النفس، وحجة الافتقار إلى العصمة، وباختصار جامع حجة كوننا لسنا أنبياء!

عندئذ لو توفرت لدى المرء رغبة حقيقية في التغير للأفضل من خلال تأمل خصائص شخصيته وقياسها على تلك النماذج، فلعله يجد بعد ذلك في نفسه من شخصيات القرآن بعض الملامح!

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام
  • 3
  • 0
  • 6,941

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً