تذكرة وتبصرة
شتَّان بين أهل العبادة والذِّكر وبين أهل الإعراض والغفلة، من ابْتُلوا بارتكاب المظالم واقتراف الآثام..
لقد سبَر سبحانه بقدرته القلوب، فأجرى نبضها مجرى الموج والفلَك، ودَبّر تقلُّبَها كالفُلك في البحر، تسبح في النُّور والحلَك، فمن مال منها إلى حزب الشَّيطان قد هلَك، ومن مال منها إلى أهل الذِّكر والتَّسبيح قد نجا وسلك، وتنزَّه عن السُّقوط في المكاره والخبائث والحفر، إذ كفَّ نفسه عن الوقوع في المحارم والمهالك، فعَمَّه الخير والرزق الكثير، وأُعْطِي النَّوال والفضل الغزير..
ومن قصر منها عن سلوك المصابرة، وتخلَّى عن المُضِي في طريق المجاهدة، وصَدَّ عن الخشية والمراقبة، ولم يلزم حصن التَّقوى في السّر والعلانِيَّة، وصمَّ سمعه عن الاستجابة للدّاعي إذا دعاه، ولم يلبِّي هاتف النِّداء، صاحت جوارحه صيحة واحدة، وأرعدت من الخوف والفزع، وأظلمت شعاب قلبه، وضاقت عليه مسالكه، وانحرف عن سواء السَّبيل، وضَلَّ عن سلوك الطَّريق المستقيم، ولم يهتد إلى معرفة منهاجه ومقصده الصَّحيح..
فالكلُّ جندٌ لهذه القلوب، إذا استقامت استقاموا، وإذا ضلَّت ضلُّوا، والكلُّ يأتمرون بأمرها وينتهون عن نهيها، والكلُّ ينطق بلسان حالها، ويتكلَّم بحركاتها ويخضع لإشاراتها..
وشتَّان بين أهل العبادة والذِّكر، من اجتهدوا في دفع المعاصي عنهم بكلِّ طريق يسلكونه، فازدادوا قربا من الله، وتوقُّدا وشدَّة في التمسُّك بالأحكام، وبين أهل الإعراض والغفلة، من ابْتُلوا بارتكاب المظالم واقتراف الآثام، فأفسدت عليهم دنياهم واَخرتهم.
فعن عمر بن ذر قال: “لما رأى العابدون اللَّيل قد هجم عليهم، ونظروا إلى أهل الغفلة قد سكنوا إلى فراشهم ورجعوا إلى ملاذهم، قاموا إلى الله سبحانه وتعالى فرحين مستبشرين بما قد وهب الله لهم من السَّهر وطول التَّهجد، فاستقبلوا اللَّيل بأبدانهم، وباشروا ظلمته بصفحات وجوههم، فانقضى عنهم اللَّيل وما انقضت لذَّتهم من التِّلاوة، ولا ملَّت أبدانهم من طول العبادة، فأصبح الفريقان وقد ولَّى اللَّيل بربح وغبن، فاعملوا لأنفسكم في هذا اللَّيل وسواده، فإنَّ المغبون من غُبِن خير الدُّنيا والآخرة، كم من قائم لله تعالى في هذا اللَّيل قد اغتبط بقيامه في ظلمة حفرته، وكم من نائم قد ندم على طول نومه عندما يرى من كرامة الله تعالى للعابدين غدًا”.
- التصنيف: