فصب عليهم ربك سوط عذاب

منذ 2018-05-09

{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14) }

بسم الله الرحمن الرحيم
الآيات الأول من سورة الفجر تصف ببلاغة فريدة اعتراك الحق والباطل على مر الأزمان، وسنة الله تعالى التي لا تتبدل في قهر الظالمين وكبت المعاندين، تسلية لهذه الأمة عن كل مصابها على مر الدهور، وتثبيتا لأهل الحق في سائر العصور، وكفى بالقرآن سلوى، فإنه سبحانه وتعالى سامع الشكوى وكاشف البلوى، وهو نعم المولى:
قال تعالى:  

{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14) } [الفجر ]

{ {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ} } الاستفهام هنا تقريري، والمخاطب به النبي صلى الله عليه وسلم تثبيتا له ووعدا بالنصر، وتعريضا للمعاندين بالإنذار بمثله، فإن ما فعل بهذه الأمم الثلاث موعظة وإنذار للقوم الذين فعلوا مثل فعلهم من تكذيب رسل الله، قصد منه تقريب وقوع ذلك وتوقع حلوله. لأن التذكير بالنظائر واستحضار الأمثال يقرب إلى الأذهان الأمر الغريب الوقوع.
{ {بِعَادٍ} } قبيلة عاد تسمية لهم باسم جدّهم. والمراد هنا عادا الأولى أو عاد إرم، قال تعالى: { {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الْأُولَى} }، وقيل لمن بعدهم: عاد الأخيرة، قبيلة كانت بمكة مع العماليق.
{ {إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ} } أرم أسم قبيلة عاد.
وقيل: إرم اسم مدينتهم، ويسمون بعاد إرم.
{ {ذَاتِ العماد} } من قال: إرم قبيلة قال: العماد أعمدة بنيانهم أو أعمدة بيوتهم من الشعر، وقال ابن عباس: ذلك كناية عن طول أبدانهم.
ومن قال إرم مدينة فالعماد الحجارة التي بنيت بها، وقيل القصور والأبراج.
{ {التي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي البلاد} } صفة للقبيلة لأنهم كانوا أعظم الناس أجساماً، يقال: كان طول الرجل منهم أربعمائة ذراع. قيل: كان الرجل منهم يأتي إلى الصخرة فيحملها على كاهله فيلقيها على أي حي أراد فيهلكهم.  
أو صفة للمدينة، وهذا أظهر لقوله في البلاد، ولأنها كانت أحسن مدائن الدنيا، وروي أن إرم كانت على وجه الدهر باليمن، بناها شداد بن عاد في ثلاثمائة عام، وكان عمره تسعمائة عام، وجعل قصورها من الذهب والفضة، وأساطينها من الزبرجد والياقوت وفيها أنواع الشجر والأنهار الجارية، وروي أنه سمع ذكر الجنة فأراد أن يعمل مثلها فلما أتمها وسار إليها بعث الله عليها وعلى أهله صيحة قبل أن يدخلها فهلكوا جميعاً.
{وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ}: خرقوه ونحتوه، فاتخذوا في الحجارة منها بيوتاً، كما قال تعالى: { {وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً فَارِهِينَ} } [الشعراء:149] { {وَكَانُواْ يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً آمِنِينَ} } [الحجر:82]  
قيل: أول من نحت الجبال والصخور والرخام ثمود، وبنوا ألفاً وسبعمائة مدينة كلها بالحجارة بالوادي.
{ {بِالْوَادِ} } روى أبو الأشهب عن أبي نضرة، قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة تبوك على وادي ثمود، وهو على فرس أشقر، فقال: (أسرعوا السير؛ فإنكم في واد ملعون).
{وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ} ذو الأوتاد، لكثرة جنوده ومضاربهم التي كانوا يضربونها إذا نزلوا.
أو لتعذيبه بالأوتاد، وكان إذا غضب على أحد مدّهُ على الأرض وأوتد يديه ورجليه ورأسه على الأرض، كما فعل بماشطة بنته وبآسية زوجته.
ومن خبر ماشطة بنت فرعون أنها بينما هي ذات يوم تمشّط رأس بنت فرعون إذ سقط المشط من يدها فقالت: "تعس من كفر بالله"، فقالت بنت فرعون: وهل لكِ من إله غير أبي؟ فقالت: إلهي وإله أبيك وإله السماوات والأرض واحدٌ لا شريك له. فقامت فدخلت على أبيها وهي تبكي قال: ما يبكيك؟ قالت: الماشطة امرأة خازنك تزعم أنّ إلهك وإلهها وإله السماوات والأرض واحدٌ لا شريك له. فأرسل إليها فسألها عن ذلك، فقالت: صدقت. فقال لها ويحك: اكفري بإلهك وأقري أني إلهك، قالت: لا أفعل فمدها بين أربعة أوتاد ثم أرسل عليها الحيات والعقارب فقال لها: اكفري بالله وإلاّ عذبتك بهذا العذاب شهرين، قالت: والله لو عذّبتني سبعين شهراً ما كفرت بالله تعالى.
قال: وكان لها ابنتان فجاء بابنتها الكبرى فذبحها على فيها، وقال لها: اكفري بالله وإلاّ ذبحت ابنتك الصغرى على فيك، وكانت طفلة رضيعة تجد بها وجداً شديداً فقالت: لو ذبحت من على الأرض على فيّ ما كفرتُ بالله تعالى.
قال: فأتى بابنتها فلمّا أن قُدّمت منها واضجعت على صدرها وأرادوا ذبحها جزعت المرأة، فأطلق الله لسان ابنتها فتكلّمت وهي من الأربعة الذين تكلّموا أطفالاً، فقالت: يا أُمّاه لا تجزعي فإنّ الله سبحانه قد بنى لكِ بيتاً في الجنّة، اصبري فإنّك تمضين إلى رحمة الله سبحانه وكرامته، قال: فذبحت فلم تلبث أن ماتت وأسكنها الله سبحانه وتعالى الجنّة.
{ {الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ} } قال ابن الخطيب: يحتمل أن يرجع الضَّمير إلى فرعون خاصة؛ لأنه يليه، ويحتمل أن يرجع إلى جميع من تقدم ذكرهم، وهو الأقرب.
{ {فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ} } الصب قريب من الإمطار, استعمل الصب لاقتضائه السرعة في النزول على المضروب، وللإيذان بشدته وكثرته ووفرته واستمراره واستحالة رده.
{ {سَوْطَ عَذَابٍ} } خص السوط فاستعير للعذاب، لأنه يقتضي من التكرار والترداد ما لا يقتضيه السيف ولا غيره.
وقيل: السوط، هو الآلة المعروفة. سمي سوطاً؛ لأن يساط به اللحم عند الضرب أي: يختلط.
وقال الزمخشري: وذكر السوط إشارة إلى أن ما أحله بهم في الدنيا من العذاب العظيم بالقياس إلى ما أعد لهم في الآخرة، كالسوط إذا قيس إلى سائر ما يعذب به.
وقال أهل المعاني: هذا على الاستعارة؛ لأنّ السوط عندهم غاية العذاب.
وكان الحسن إذا أتى على هذه الآية قال: إن الله تعالى عنده أسواط كثيرة، فأخذهم بسوط منها.
وفي آيات سورة فصلت تفصيل لكيفية إهلاك عاد وثمود وبيان لما أجمل في سورة «الفجر» في قوله تعالى { {فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ} }.
قال تعالى: { {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ{15} فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنصَرُونَ{16} وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ{17}}
{ {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} } والمرصاد والمرصد: المكان الذي يترتب فيه الرصد، وهذا مثل لإرصاده العصاة بالعقاب وأنهم لا يفوتونه.
أي إن ربك لبالمرصاد للمكذبين لا يخفى عليه أمرهم، فيكون تثبيتا للنبي صلى الله عليه وسلم كقوله: { {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ} } [إبراهيم: 42].
والعدول عن ضمير المتكلم أو اسم الجلالة إلى { {ربك} } في قوله: {فَ {صَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ} } وقوله: { {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} } إيماء إلى أن فاعل ذلك «ربه» الذي شأنه أن ينتصر له، فهو مؤمل بأن يعذب الذين كذبوه انتصارا له انتصار المولى لوليه.

خالد سعد النجار

كاتب وباحث مصري متميز

  • 16
  • 0
  • 76,685

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً