الوقت الكَنزُ النَّفيسُ
أنت اليومَ في دارِ العملِ، في صحةٍ وعافيةٍ، فسابقْ إلى الطاعاتِ، وتزوُّدْ من الخيراتِ، فسوف تجدُ عاقبةَ ذلك خيرًا بعد انقطاعِ أجلِك، وانقضاءِ عُمُرِك.
قال الوزير يحيى بن هُبَيرة البغدادي رحمه الله:
والوقْتُ أَنْفَسُ ما عَنِيتُ بِحِفْظِهِ وَأَرَاهُ أسهَلَ ما عليك يَضِيعُ
إنَّا لَنَفْرَحُ بالأيَّامِ نقطَعُهَا وكلُّ يومٍ مضَى جُزْءٌ من العُمْرِ
وقال أحمد شوقي رحمه الله:
دَقَّـاتُ قلبِ المـرءِ قَائِلَةٌ لهُ إنَّ الحَيـَاةَ دَقَائقٌ وثَوَان
فارفعْ لِنَفْسِكَ بعدَ موتِكَ ذِكْرَهَا فالذِّكْرُ للإنسانِ عُمْرٌ ثَانِي
الوقتُ نعمةٌ من الله:
ذكر ربُّنا سبحانه أنَّ الوقتَ نعمةٌ عظيمةٌ امتنَّ بها على عبادِة؛ فقال جلَّ شأنُه: { {وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينَ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ * وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} } [إبراهيم: 34، 33]، { {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ} } [فاطر:37].
لقد أغدقَ اللهُ عزَّ وجلَّ علي عبادِة النِّعمَ بشتَّي صرُوفِها وأنواعِها، ومن أجلِّ هذه النعمِ وأعظَمِها نعمةُ الوقتِ، نعمةُ الليلِ والنهارِ، يزيد هذا ويطول ذاك، بحكمةٍ رشيدةٍ تيسِّرُ علي العبادِ أمرَ دُنْيَاهم.
أقسَمَ الله تعالَى بالوقتِ:
لقد أقسم الجليل سبحانه وتعالى بالوقت؛ فقال سبحانه: { {وَالْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ} } [الفجر: 4- 1]، { {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى} } [الليل: 2- 1]، { {وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} } [الضحى: 2- 1].
فأقسمَ عزَّ وجلَّ بالليلِ إذا سَرى وغشَّى وسجَى، وأدلهمَّتْ ظلْمَتُه فعمَّتِ الكونَ برُمَّتِه، وأقسمَ بفجره وآخِرِه إذا هبَّ الناس من سُبَاتهم، واستيقظوا من رُقَادِهم، وأقسمَ بأشرفِ الليالي وأفضَلِها، وهي ليالي العشر من رمضان أو عشر ذي الحجة.
وأقسم بالنهارِ إذا تجلَّى للخلقِ بنورِه، وانتشرَ ضياؤه بالضحى فأعاد للناس الحياة، ثم أقسمَ الله بعد ذلك بالدهرِ أجمعَ، ليلِه ونهارِه، ظلامِه وضياءِه، وأقسمَ بالعصرِ الذي هو اسمٌ من أسماءِ الدهرِ. ولا يقسمُ سبحانه إلا بأمرٍ عظيمٍ، لبيانِ شَرَفِه وأهميتِه، ولفتِ أنظارِ الناس إليه.
قال الله تعالى: { {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} } [العصر: 1 - 3]، فأقسم سبحانه وتعالى بالزمن أنَّ كل الناس خاسرون، فالعمر ينقضي وهم في سُباتٍ، والوقت يمضِي وما تزوَّدوا من الخيراتِ، لكنْ من اغتنمَ أيَّامَه ولياليه في طاعةِ ربِّه والمُسارعةِ إلى رضوانه فهو الرَّابحُ.
سؤالان يومَ القيامةِ عن الوقتِ:
صحَّ عن النبيَّ صلى الله عليه و سلم أنَّه قال: " «لا تزولُ قدمَا عبدٍ يومَ القيامةِ حتى يُسأَلَ عن: عمُرِه فيما أفنَاه، وعن علمِه فيم فعلَ، وعن مالِه من أين اكتسبَه وفيمَ أنفقَه، وعن جسمِه فيم أبلَاه» " ([1])، فجعلَ اثنين من الأسئلةِ التي يُسأل عنها العبدُ يومَ القيامةِ عن الوقت والعمرِ.
هل تظنُّ أنَّ اللهَ وهبنا العمرَ لنُضِيَّعه في اللعب واللهو؟!
هل منحنا ربَّنا شبابًا وفتوةً لنقضيَها في الاستمتاع والمرح وحسب؟!
حثَّ النبيُّ صلى الله عليه على اغتنامِ الوقتِ:
لقد حثَّنا نبيُّا صلى الله عليه و سلم علي اغتنام الوقت؛ فيُروَى عن ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما قالَ: «قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لرجلٍ وهو يعِظُه: اغتنم خمسًا قبلَ خمسٍ: شبابَك قبلَ هِرَمِك، وصحَّتَك قبل سَقَمِك، وغناءَك قبل فقرِك، وفراغَك قبل شغْلِك، وحياتَك قبل موتِك» " ([2]).
أنت اليومَ في دارِ العملِ، في صحةٍ وعافيةٍ، فسابقْ إلى الطاعاتِ، وتزوُّدْ من الخيراتِ، فسوف تجدُ عاقبةَ ذلك خيرًا بعد انقطاعِ أجلِك، وانقضاءِ عُمُرِك.
أما غدًا فأهوالٌ جِسامٌ، ومخاطرُ عظامٍ، تشِيبُ لِهَوْلها مفارقُ الولدان، فاغتنمْ وقتَك قبلَ انقضاءِ أجلِك، وانتهاءِ عملِك، وفواتِ أملِك، وأفولِ شمسِك، فيحقَّ ندمُك، ويتوالى همُّك، ويدوم حزنُك، فتقدمُ يومَ المعادِ، وما لك مِنْ زادٍ.
شعائرُ ديننِا تؤكدُ علي أهميَّةِ الوقت:
فالصلواتُ الخمسُ لها أوقاتٌ معينةٌ لا تصحُّ قبلَها، وتحرمُ بعدَها إلا لعذرٍ شرعيٍ، { {إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا} } [النساء:103].
وصوم رمضان له وقتٌ محددٌ من كل عامٍ لا يصحُّ إلا فيه، ولو صامَ الإنسانُ السنةَ ولم يصُمْ في هذا الشهرِ المُبَارَك لم يقبلْ منه ذلك، { {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} } [البقرة: 185].
وحجُّ بيتِ اللهِ الحرامِ له موعدٌ مخصوصٌ، وزمنٌ معلومٌ، { {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ} } [البقرة:197]، وهي شوال، وذو القَعدة، وعشر من ذي الحجة على قولٍ، وقيل: ذو الْحِجَّةِ كُلَّهُ.
والزكاة لها وقتٌ محدودٌ، فإذا كانتْ حصادًا فقال ربنا: { {وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} }[الأنعام:141]، فإن لم يكنْ فلابدَّ أن يحولَ عليها عامٌ هجريٌّ.
فليعلمْ كلُّ ذي لُبٍّ وعقلٍ أنَّ أشرَفَ شيءٍ في الدنيا بأسْرِها بعد معرفةِ الله ليس إلا اغتنامُ العمرِ، الذي هو سبب سعادتِه الأبديَّة في النعيمِ، أو شقائِه الخالدِ في الجحيم، وأنَّ شرف كلِّ إنسانٍ إنما هو بقدرِ اغتنامِه لأيَّامه ولياليه.
ويُذكَرُ عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "ما ندمتُ على شيءٍ ندمِي على يومٍ غَرَبَتْ شمسُهُ، نقَصَ فيه أجلي، ولم يَزِدْ فيه عمَلِي".
ويُذكَرُ عن الحسن البصري رحمه الله قال: "أدركتُ أقوامًا كان أحدُهم أشَحُّ على عُمُرِهِ منه على درْهَمه".
قال محمد شحادة ([3]): "في المجتمعاتِ الصناعيَّة المتقدمةِ يمثِّلُ الوقتُ موردًا هامًا نادرًا، فيسعَى أفرادُ المجتمعِ إلى استغلالِه والاستفادةِ به إلى أقصى درجةٍ ممكنةٍ، فالوقت يُقَاسُ عندهم بالساعةِ والدقيقة. إنَّ الشركات الصناعيَّة تتنافسُ فيما بينها على أساس سرعةِ الإنتاجِ وعدمِ تضييعِ وقتِ الزبائنِ، فشركة "جيفي لوب" الأمريكية لصناعةِ السيارات أطلقت حملةً إعلاميَّةً أن صيانة السيارة تتم في أقل من نصف ساعة. وتفخرُ بعضُ مطاعمِ البيتزا بأنَّها تضمنُ لزبائنِها إيصالَ الطلبِ في أقلَّ من نصفِ ساعةٍ أينما كانوا، وإلا فالطلبُ مجاني. وظهرت شركات السرعة في كلِّ شيءٍ: غسل الملابس خلال ساعة، وتغيير زيت السيارة خلال 20 دقيقة، وإيصال البريد لأيِّ عُنوانٍ داخل المدينة خلال ساعتين، وإصلاح الآليات عند أي عطل خلال 24 ساعة، حتى أصبحَ توفيرُ الوقتِ محور نجاح الاستراتيجيات التسويقية".
([1]) حسن بشواهد: أخرجه الترمذي (2417).
([2]) معلول بالإرسال، وصححه بعض العلماء: أخرجه ابن المبارك في "الزهد والرقائق" (2)، والحاكم (4/ 306).
([3]) "إدارة الوقت بين التراث والمعاصرة" (16).
- التصنيف: