لماذا يخشى المؤمن ذنوبه وإن كانت صغارا؟
إنّ نظرةَ الناسِ للذنوب تختلف جدًّا عن نظر الله سبحانه وتعالى، فربما يظن الناس ذنبًا ما يسيرًا هيِّنًا عند الله تعالى، لكنه عند الله سبحانه عظيم وكبير.
عن الحارثِ بن سُويْدٍ رحمه الله قال: حدثنا عبد الله بن مسعود حديثين: أحدهما عن النبي صلى الله عليه وسلم، والآخر عن نفسِه، قال: «إنَّ المؤمنَ يرى ذنوبَه كأنَّه قاعدٌ تحت جبلٍ يخافُ أن يقَعَ عليه، وإنَّ الفاجرَ يرى ذنوبَه كذبابٍ مرَّ على أنفِه فقالَ به هكذا»، قال أبو شهابٍ الزهري: بيده فوق أنفه. ثم قال: «لله أفرحُ بتوبةِ عبدِه من رجلٍ نزلَ منزلًا وبه مَهلَكَةٌ ... »
وأخرجه مسلم عن الحارث بن سُويدٍ رحمه الله قال: حدثني عبد الله حديثين: أحدهما عن رسول الله والآخر عن نفسه، فقال: قال رسول الله : «لله أشدُّ فرحًا بتوبةِ عبدِه المؤمنِ ..».
قال المحب الطبري رحمه الله: إنما كانت هذه صفةُ المؤمنِ لشدَّةِ خوفِه من الله ومن عقوبتِه؛ لأنَّه على يقينٍ من الذنبٍ، وليس على يقينٍ من المغفرةِ، والفاجرُ قليلُ المعرفةِ بالله؛ فلذلك قلَّ خوفُه واستهانَ بالمعصيَةِ.
وانظر إلى أحدِ أصحاب النبيِّ صلى الله عليه وسلم وخوفه من أن يكون قد عصى الله تعالى وتعرض لسخطه وعقابه؛ فعن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: لمَّا نزلت هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ}[الحجرات: 2] إلى آخرِ الآية، جلسَ ثابت بن قيس في بيتِه، وقال: أنا مِن أهلِ النارِ، واحتبسَ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم. فسألَ النبيّ صلى الله عليه وسلم سعدَ بن معاذ، فقال: «يا أبا عمرو! ما شأن ثابت؟ اشتكى؟» قال سعد: إنَّه لَجَاري، وما علمتُ له بشكوَى.
قال: فأتاه سعد، فذكر له قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال ثابت: أُنزِلت هذه الآية، ولقد علمْتُم أنِّي من أرفعِكُم صوتًا على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فأنا من أهلِ النارِ. فذكر ذلك سعدٌ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بل هو من أهلِ الجنةِ».
ما أتقاهم وأورعهم رضي الله عنهم، كانوا يخافون ذنوبَهم مع قلَّتِها وكثرة عبادتهم.
وعن عمار بن دادَا قال: قال لي كَهمس: يا أبا سلمة! أذنبْتُ ذنبًا فأنا أبكِي عليه منذ أربعين سنةً، قلت: ما هو؟ قال: زارَني أخ لي فاشتريتُ له سمكًا بدَانِق، فلمَّا أكلَ قمْتُ إلى حائطِ جارٍ لي، فأخذْتُ منه قطعةَ طينٍ، فغسلَ بها يدَه، فأنا أبكِي على ذلك أربعينَ سنةٍ.
قلت: وهذه مبالغةٌ لا تُمدَحُ، وقد كانت ذنوبُ القومِ خفيفةً، وكانوا يراقبون أحوالَهم، غفرَ الله لهم ورحمَهم، وجمعنا بهم في جناتٍ ونهرٍ.
إنَّ المؤمنَ يخشى ذنوبَه وإن كانت صغارًا للأمور الآتية:
1- الله تعالى يُحاسِبُ عبادَه على الصغيرِ والكبيرِ:
قال الله تعالى: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف: 49].
قال قتادة رحمه الله: اشتكى القومُ كما تسمعون الإحصاء، ولم يشتكِ أحدٌ ظلمًا، فإياكم والمحقَّراتِ من الذنوب؛ فإنها تجتمعُ على صاحبها حتى تُهلِكَه.".
وقال سبحانه وتعالى: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7-8].
فكل عملِك مكتوبٌ ومحصًى، الصغير والكبير؛ {مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق : 18].
2- المؤمنُ ينظرُ إلى عِظَمِ من عصاه وهو الله سبحانه:
عن هلال بن سعد رحمه الله قال: "لا تنظُرْ إلى صِغَر الخطيئة، ولكن انظُرْ إلى مَن عصيت".
وعن الفضيل بن عِياض رحمه الله قال: "بقدر ما يصغُر الذنب عندك يعظُم عند الله، وبقدر ما يعظم عندك يصغر عند الله".
وهَبْ أن لِمَلِكٍ حمًى، فهل يجرؤُ أحدٌ على التعدي على حمى الملك؟!
إن لكل دولةٍ حدودًا عليها حراس يحمُونَها، ويُراقِبون تحرُّكات الناس، ولا يجوزُ لأحدٍ كائنًا مَن يكون أن يتجاوزَ حدود هذه الدولة إلا بموافقةٍ منهم، ولهم شروط لا بد له أن يأتي بها، وإلا لم يسمَحوا له، فإن تجرَّأ ودخل حدودهم دون إذنٍ، تعرَّض لعقابِهم وعذابِهم، وإن لم يقترف ذنبًا، وإن لم يرتكب جرمًا، فكفاه جرمًا عندهم أنه دخل حدودَ بلدهم دون إذنٍ منهم.
ولله المثل الأعلى، فإن هذا الذي عصى الله سبحانه قد تعدَّى حمى الله تعالى، وخالف أمره، وانتهك حرمتَه، وإن كان الذي فعله ذنبًا يسيرًا، لكن إنْ عظُم الذنب كانت العقوبة أعظم، ولا يلزم لصغرِ الذنب السلامةُ مِن العقاب.
3- قد يظنُّ العبدُ الذنبَ صغيرًا، لكنه عند الله عظيمٌ:
إن نظرةَ الناسِ للذنوب تختلف جدًّا عن نظر الله سبحانه وتعالى، فربما يظن الناس ذنبًا ما يسيرًا هيِّنًا عند الله تعالى، لكنه عند الله سبحانه عظيم وكبير، وانظُرْ كيف استهان المنافقون وضِعافُ الإيمان بالخَوض في عِرْض عائشة رضي الله عنها، وتناقلوا هذا الإفك؛ ظنًّا منهم أن تناقُلَه أمرٌ هيِّن، فنزل قول الله تعالى: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ. إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ * وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ. يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [النور: 14 - 17]. تحسبون الكلام في الأعراض سهلًا؟ إنه ذنب قد يَهلِكُ بسببه العبدُ وهو لا يدري.
ذكروا عن بعضِ السلف أنه خاف عند موته، فقيل له في ذلك، فقال: إني أخاف ذنبًا لم يكن لي على بال وهو عند الله عظيم.
وصح عن عائشة رضي الله عنها قالت: قلتُ للنبي صلى الله عليه وسلم: حسبُك مِن صفيةَ كذا وكذا، تعني قصيرة، فقال: «لقد قلتِ كلمةً لو مُزِجت بماء البحر لمزجَتْه» "، قالت: وحكيتُ له إنسانًا، فقال: «ما أحب أني حكيتُ إنسانًا وأن لي كذا وكذا».
وحسن الظن بعائشة رضي الله عنها يجعلنا نقول: لعلها لم تكن تعلم بحرمة هذا، أو لعلها أخطأت ثم استغفرت الله مِن هذا، ولا يُظَن بها رضي الله عنها إلا خير، قد تتكلَّم في مسلم بكلمةٍ تظنُّها يسيرة، لكنه يأخذ منك بهذه الكلمة يوم القيامة حسناتٍ كثيرة، فكُن على حذرٍ سلَّمني الله وإياك.
4- العاصي قد عرض نفسه لغضب الله وعقابه:
هَبْ أن رجلًا عصى أمرَ أميرِه، فهل تراه يَسْلم من العقوبة؟ قد يعفو عنه وقد يعاقبه، وكذلك العاصي لله سبحانه وتعالى قد عرَّض نفسه لغضبِ الله وعقابه، وما دام مِن أهل التوحيد، فقد يعفو الله عنه، وقد يُعاقِبه ويغضبُ عليه، فلماذا تضعُ نفسَك في هذا الموقف الحرج؟
إنّ اقتراف الإنسان الذنوبَ والمعاصيَ يُشبِه إنسانًا تسلَّل حدود دولة أجنبية، وحرسُ الحدود لهم الصلاحيات في إطلاق النار على كل مُتسلِّلٍ، ولو على شبرٍ واحد، وليس هناك فرق بين أن يجتاز مترًا واحدًا من هذه الحدود أو ألف متر، فهو إنسان متعدٍّ في كل الأحوال، وهكذا مَن عصى الله ولو في ذنبٍ صغير، فإنه قد عرَّض نفسَه لغضب الله وعقابه؛ لتعدِّيه على حدود الله سبحانه، وانتهاكه لحرماته، قال الله تعالى: {وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 229]، وقال سبحانه: {وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ}[الطلاق: 1].
5- اجتماعُ المُحقَّرات يُهلِك العبدَ:
فمما سبق قد تبيَّن لكل ذي عقلٍ سديد أن محقَّرات الذنوب إذا اجتمعت على عبدٍ أهلكَتْه ولا ريب، فهي تُضعِف سيرَه إلى الله عز وجل، وتُسبِّب مرض القلب، ولا تزال بالعبد حتى تسلبَه لذة العبادة، وما يأنس بربه، ولا تزال تتراكم على العبد وما يتوب منها ولا يستغفر؛ حتى تكون يوم القيامة سببًا في هلاكه وخسرانه.
6- قد يموتُ العبدُ وهو يعصِي الله تعالى:
وهذا أخطرُ ما في المعاصي وإن كانت حقيرةً، فهَبْ أنك متَّ على ذنبٍ، ولو كان صغيرًا، أتحبُّ هذا لنفسك؟
إنّ التدخين ليس من كبائر الذنوب، وهو ذنبٌ يظنُّه كثيرٌ من الناس حقيرًا، لكن أتحب أن تموت وأنت تُدخِّن سيجارة؟
واللهِ أعرف رجلًا مات رحمه الله وسامحه وهو يلعَبُ الوَرَق، أيسُرُّه أن يُبعَث على هذا يوم القيامة؟
ذكروا عن سفيان الثوري رحمه الله أنه بكى ليلةً إلى الصباح، فلما أصبح قيل له: كل هذا خوفًا من الذنوب؟ فأخذ تبنةً مِن الأرض، وقال: "الذنوب أهون من هذا؛ وإنما أبكى خوفًا سوء الخاتمة".
قال الغزالي رحمه الله: "صغار الذنوب يجرُّ بعضها إلى بعض حتى يفوت أصلُ السعادة بهدم أصل الإيمان عند الخاتمة".
7- الذنوبُ وإن كانت صغيرةً فإنها تًسبِّبُ ظلمةً في القلبِ إذا لم يعقُبْها استغفارٌ:
عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " «إن العبدَ إذا أخطأ خطيئةً نُكِتَت في قلبه نكتةٌ سوداء، فإذا هو نزَع واستغفر وتاب، صقل قلبُه، وإن عاد زِيدَ فيها حتى تعلوَ قلبه، وهو الران الذي ذكر الله: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين: 14]»
وعن الحسن رحمه الله في قوله: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين: 14]، قال: "الذنب على الذنب، والذنب على الذنب، حتى يَعمَى القلب فيموت".
وعن حذيفة رضي الله عنه قال: سمِعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «تُعرَض الفتنُ على القلوبِ كالحصير عودًا عودًا؛ فأي قلبٍ أُشرِبَها، نُكِت فيه نكتةٌ سوداء، وأي قلب أَنكَرها نُكِت فيه نكتةٌ بيضاء، حتى تصيرَ على قلبينِ، على أبيضَ مثلِ الصفا، فلا تضره فتنةٌ ما دامت السماوات والأرض، والآخر أسود مربادًّا كالكوز مجخِّيًا، لا يعرف معروفًا، ولا يُنكِر منكرًا، إلا ما أُشرِبَ مِن هواه».
قال الغزالي رحمه الله: "إن الذنبَ كلما استعظَمَه العبدُ صَغُر عند الله، وكلما استصغره عظُمَ عند الله؛ لأن استعظامه يصدرُ عن نفور القلب منه وكراهته له، وذلك النفور يمنع مِن شدة تأثيره به، واستصغاره يصدر عن الألفة به، وذلك يُوجِب شدة الأثر في القلب المطلوب تنويره بالطاعة، والمحذور تسويده بالخطيئة".
وقال رحمه الله: "تواتر الصغائر عظيمُ التأثير في سوادِ القلب، وهو كتواترِ قطرات الماء على الحَجَر؛ فإنه يُحدِث فيه حفرة لا محالة، مع لينِ الماء وصلابة الحَجَر".
وقال الحكيم الترمذي رحمه الله: "إذا استخفَّ بالمحقَّرات دخل التخلُّط في إيمانه، وذهب الوقار، وانتقص مِن كل شيء؛ بمنزلة الشمس ينكسف طرفٌ منها، فبقدر ما انكسف ينقص من شعاعها وإشراقها على أهل الدنيا، فكذا نورُ المعرفة ينقص بالذنب على قدره، فيصير قلبه محجوبًا عن الله، فزوال الدنيا بكليَّتِها أهونُ مِن ذلك، فلا يزال ينقصُ ويتراكم نقصانه، وهو أبلَهُ لا ينتبه لذلك حتى يستوجب الحرمان".
وقال ابن القيم رحمه الله: "الذنوب للقلب بمنزلةِ السموم، إن لم تُهلِكه أضعفَتْه ولا بد، وإذا ضعُفَت قوَّته لم يقدر على مقاومة الأمراض، فكلما قوِي الإيمانُ في قلب المؤمن استعظم معصيةَ الله عز وجل، فكان هذا سياجًا قويًّا ومانعًا مِن ارتكاب المعاصي صغيرها وكبيرها، وكلما ضعُف الإيمانُ في قلب العبد هانت عليه معصيةُ الله عز وجل، واحتقر الذنوب، وزادت جرأتُه على معصية الله تعالى، ولَمَّا علِم الصالحون قبحَ الذنوب - صغيرها وكبيرها - وخطرَها على القلب، فرُّوا منها، وخافوا مِن مقارفتِها والقربِ منها".
8- احتقارُ الذنوبِ واستصغارُها سببٌ للوقوعِ في الكبائرِ والتَّهلُكَةِ:
في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لعن الله السارق يسرِقُ البيضة فتُقطع يده، ويسرِق الحبل فتُقطع يده» ، قال الأعمش: "كانوا يرون أنه بيض الحديد، والحبل كانوا يرون أنه منها ما يسوى دراهم".
فانظر كيف بدأ بسرقات صغيرة وظن الأمر حقيرًا، ثم ظلَّ يترقى شيئًا فشيئًا، حتى وقع في سرقات كبيرة، وهكذا الصغائر تدل على الكبائر، ولا يزال العبد مدمنًا الصغائر مصرًّا عليها؛ حتى يسهل عليه فعل الكبائر.
بل إن الوقوع في الشبهات يُؤدِّي إلى الوقوع في المحرَّمات، فما بالك بالذنوب؟
ففي الصحيحين عن النعمان بن بشير قال: سمِعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الحلال بيِّن، وإن الحرام بيِّن، وبينهما مشتبهاتٌ لا يعلمُهنَّ كثيرٌ مِن الناس، فمَن اتَّقى الشبهاتُ استبرأ لدينِه وعِرْضِه، ومَن وقَع في الشبهات وقَع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحِمَى، يوشك أن يرتَعَ فيه، ألا وإن لكلِّ ملكٍ حِمًى، ألا وإن حِمَى الله محارمُه، ألا وإن في الجسدِ مضغةً، إذا صلَحت صلَح الجسد كلُّه، وإذا فسَدت فسد الجسد كلُّه، ألا وهي القلب».
عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه قال: إن الرجلَ ليعملُ الحسنةَ فيَثِق بها ويغشى المحقَّرات؛ فيلقى الله يوم القيامة وقد أحاطت به خطيئتُه، وإن الرجل ليعمل السيئة، فما يزال منها مشفقًا حذرًا؛ حتى يلقى الله يوم القيامة آمنًا.
قال العلائي رحمه الله: "ربما تغلب الغفلة على الإنسان فيفرَحُ بالصغيرة، ويتحجَّج بها، ويعد التمكن منها نعمة، غافلًا عن كونها وإن صغُرت سبب للشقاوة".
9- الذنوبً يدلُّ بعضُها على بعضٍ:
قال الغزالي رحمه الله: "صغائرُ المعاصي يجرُّ بعضُها إلى بعض حتى يفوتَ أصلُ السعادة بهدمِ أصل الإيمان عند الخاتمة".
فالشيطان لا يرضى منك بذنبٍ حقير واحد ولا ريبَ؛ وإنما يستدرِجُك شيئًا فشيئًا حتى تفعل ذنبًا وراءه ذنبٌ، ولا تزال الذنوبُ تتراكم بعضُها على بعض دون توبةٍ واستغفار، وهذا هو الهلاك والخسران، أعاذنا الله مِن ذلك.
10- الذنوبُ الصغار تكبر مع الإصرار:
قال الله تعالى في وصف المتقين: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [آل عمران: 135، 136].
وصح عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلًا سأله عن الكبائر: أسبعٌ هي؟ قال: "هي إلى السبعمائة أقرب، إلا إنه لا كبيرة مع الاستغفار، ولا صغيرة مع إصرار".
وعن قتادة رحمه الله قال: إياكم والإصرارَ؛ فإنما هلك المُصرُّون الماضون قُدْمًا، لا ينهاهم مخافة الله عن حرامٍ حرَّمه الله عليهم، ولا يتوبون من ذنب أصابوه، حتى أتاهم الموت وهم على ذلك.
قال العلماء: الصغيرة بالإصرار عليها تصيرُ كبيرةً.
قلت: أما معنى الإصرار على الصغيرة، فقال بعض أهل العلم: هو الثبات على الذنب دون توبةٍ واستغفار.
وقال بعضهم: إتيان العبد ذنبًا إصرارٌ حتى يتوب.
وقال بعضهم: هو تَكرار الذنب منه تكرارًا يُشعِر بقلة مبالاته بدينه.
قال الطبري رحمه الله: "وأَوْلى الأقوال بالصواب أن الإصرار الإقامة على الذنب عامدًا، أو ترك التوبة منه، ولا معنى لقول مَن قال: الإصرار على الذنب: هو مواقعته؛ لأن الله عز وجل مدَح بترك الإصرار على الذنب مُواقع الذنب".
وهذه مِن أكبر آفات احتقار الذنوب؛ أن العبد يظلُّ مرتكبًا صغائر الذنوب دون توبة واستغفار، حتى تصير هذه الصغائرُ كبائرَ.
11- احتقارُ الذنوبِ يعوقُ عن التوبةِ:
فيحتقرُ العبدُ الذنوبَ حتى تتراكمَ عليه، ويقل خوفه، ولا يتوب منها؛ فإن أقوى بواعثِ التوبة الخوفُ.
قال ابن أبي جمرة رحمه الله: "قلبُ الفاجر مُظلِم؛ فوقوعُ الذنب خفيف عنده؛ ولهذا تجد مَن يقع في المعصية إذا وُعِظ يقول: هذا سهل".
12- رُبَّ ذنبٍ يظنُّه الإنسانُ صغيرًا ويدخلُ به نارَ جهنَّمَ:
إن إبليس لعنه الله فعل ذنبًا واحدًا، وكانت عاقبة ذنبِه اللعنَ إلى يوم الدين، تُرى ما الذنب العظيم الذي فعله إبليس؟
إن المؤمن يخشى ذنبًا فعله لم يغفِرْه الله له فيُعذِّبه به في نار جهنم، وكانوا يقولون: الذنوب جراحات، ورُبَّ جرحٍ وقع في مقتلٍ، ويُذكر عن أبي بكر رضي الله عنه قال: إن الله يغفر الكبائر فلا تيئسوا، ويُعذِّب على الصغائر فلا تغترُّوا.
قال ابن بطَّال رحمه الله: "ينبغي أن يكونَ المؤمنُ عظيمَ الخوف مِن الله تعالى من كل ذنبٍ، صغيرًا كان أو كبيرًا؛ لأن الله تعالى قد يعذِّب على القليل، وقد قال الله تعالى: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف: 99]".
- التصنيف:
- المصدر: