المؤمن وقاف حتى يتبين
إن تصديقك ونشرك لما يقال دون تثبت، بل جلوسك وسماعك لبرنامج تُنتهك فيه حدود الله، أو يطعن فيه أئمة المسلمين - كالبخاري وابن تيمية وغيرهما - أو يَنْشُر الفواحش، ثم نشره على وسائل التواصل؛ يعطي للباطل قوة ويساعد على انتشاره.
شئنا أم أبينا فقد أصبح لوسائل الإعلام بجميع أنواعها المسموعة أو المشاهدة أو المقروءة -خصوصًا التلفاز ووسائل التواصل الاجتماعي - وجود واضح ومؤثر في جميع القضايا والمجالات الدينية والاجتماعية والسياسية، وساعدت على تشكيل أرائنا ووجهات نظرنا واتجاهاتنا، تلاحقنا أينما ذهبنا، وتحاصرنا - غالبًا - بشكل مدروس ومخطط لتوجيهنا لاتجاهات معينة، ومع اختلاف التوجهات يتفنن كل فريق لجذب الناس والتأثير على عقولهم لدرجة تصل إلى غسيل المخ أحيانًا.
فإذا أعلنوا الحرب وأرادوا القضاء على تغطية وجه المرأة مثلًا؛ تتجه كل وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والبرامج الحوارية بل والدينية والمسلسلات بشكل مباشر أو غير مباشر للتأثير على عقول الناس؛ لتشويه فكرة تغطية الوجه والإساءة لكل من يتمسك به.
في المسلسلات والأفلام لديهم قدرة عجيبة على جعل الناس يتعاطفون مع البطلة أو البطل الخائن مرتكب الفاحشة، ويبرزونه بشكل يُنسي المشاهد معه شناعة جرمه، ويبكي من أجله في نهاية المسلسل أو الفيلم.
وفي الحروب والنزاعات نجد أن للإعلام دور كبير في إشعال الحماس وتشويه صورة العدو، وقد يكون ذلك بالتركيز على السلبيات وتضخيمها، أو عرض الحقائق بأسلوب مشوه، أو التدليس والكذب أحيانًا أخرى.
ولا ننسى محاولات بعض وسائل الإعلام على مر السنين إلهاء عقول الناس - وخصوصًا الشباب - عن قضايا الأمة وتحويلها إلى تفاهات الأمور.
وكما استطاع إبليس أن يقنع آدم بالأكل من الشجرة، نرى كل يوم أبناءه وأتباعه من شياطين الجن والإنس يقنعون بني آدم بالباطل، بأساليبهم الدِّعائية الملتوية، ووسائلهم ووساوسهم المضللة، وطرقهم الإعلامية الخادعة.
قال تعالى: { {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُون. وَلِتَصْغَىٰ إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ} } [ سورة الأنعام – 112].
فهل ترضى أن تكون من أتباعهم الذين قال الله فيهم: { {وَلِتَصْغَىٰ إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ} }، أترضى أن تكون تابعًا يتحكمون في عقلك ويوجهونك حيث شاءوا، كقطع من الألعاب يلعبون بها لتحقيق مكاسب خاصة لهم وما يريدون من أهداف؟!
وإذا أردنا أن ندرك خطر الإعلام لنقرأ ما ورد في البروتوكول الثاني من بروتوكولات حكماء صهيون: "إن الصحافة التي في أيدي الحكومة القائمة هي القوة العظيمة التي بها نحصل على توجيه الناس، فالصحافة تبين المطالب الحيوية للجمهور، وتعلن شكاوى الشاكين، وتولِّد الضجر أحيانًا بين الغوغاء، وإن تحقيق حرية الكلام قد ولد في الصحافة، غير أن الحكومات لم تعرف كيف تستعمل هذه القوة بالطريقة الصحيحة فسقطت في أيدينا، ومن خلال الصحافة أحرزنا نفوذًا وبقَينا نحن وراء الستار، وبفضل الصحافة كدَّسنا الذهب، ولو أن ذلك كلَّفنا أنهارًا من الدم، فلقد كلَّفَنا التضحية بكثير من جنسنا، ولكن كل تضحية من جانبنا تعادل آلافًا من الأمميين - غير اليهود - أمام الله".
إن الآلة الإعلامية القوية لدى فرعون هي التي جعلت قومه يلغون عقولهم ويتبعون أمره وما أمر فرعون برشيد؛ يقول تعالى في سورة الزخرف : { {وَنَادَىٰ فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَٰذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي ۖ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَٰذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ (52) فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53)فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ ۚ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (54) فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ} }.
نسمع الرأي وعكسه، والفتوى وعكسها! فمن نصدق؟
إن المؤمن الفطن كالزجاجة؛ يرى بعينه كل ما يدور حوله ولا يُدخل في جوفه وعقله إلا الطيب، ولا يليق به أن يكون مثل الإسفنجة يمتص كل ما يمر به سواء كان طيبًا أو خبيثًا.
يقول ابن القيم رحمه الله: (قال لي شيخ الإسلام وقد جعلت أورد عليه إيراد بعد إيراد: لا تجعل قلبك للإيرادات والشبهات مثل السفنجة، فيتشربها؛ فلا ينضح إلا بها ولكن اجعله كالزجاجة المصمتة، تمر الشبهات بظاهرها ولا تستقر فيها؛ فيراها بصفائه ويدفعها بصلابته، وإلا فإذا أَشربت قلبك كل شبهة تمر عليها صار مقراً للشبهات).
ويقول ابن القيم عن هذه النصيحة: (ما أعلم أني انتفعت بوصية في دفع الشبهات كانتفاعي بذلك).
وتزداد أهمية هذه النصيحة خصوصًا في سنوات قال عنها النبي صلى الله عليه وسلم أنها سنوات خداعات: فقد روى أصحاب السنن حديث صحيح عن النبى صلى الله عليه وسلم قال فيه: « «سيأتي على الناس سنوات خداعات يصدق فيها الكاذب، ويكذب فيها الصادق، ويخون فيها الأمين، ويؤتمن فيها الخائن، وينطق فيها الرويبضة» قالوا: "من الرويبضة يارسول الله؟" قال: "التافه يتكلم في أمر العامة» ".
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « «من أشراط الساعة أن ترفع الأشرارُ، وتوضع الأخيار، ويُفتح القولُ، ويُخزن العملُ» » ( [السلسة الصحيحة] ).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « «والذي نَفْسُ محمدٍ بيدِهِ ! لا تَقُومُ السَّاعَةُ حتى يَظْهَرَ الفُحْشُ والبُخْلُ، ويُخَوَّنَ الأَمِينُ، ويُؤْتَمَنَ الخَائِنُ، ويَهْلِكَ الوُعُولُ، وتَظْهَرَ التَّحُوتُ . قالوا : يا رسولَ اللهِ ! وما الوُعُولُ وما التَّحُوتُ ؟ قال : الوُعُولُ : وجُوهُ الناسِ وأَشْرَافُهُمْ ، والتَّحُوتُ : الذينَ كَانُوا تَحْتَ أَقْدَامِ الناسِ لا يُعْلَمُ بِهمْ» »،( [السلسلة الصحيحة] ).
هذه الأحاديث تحكي واقعًا مؤلمًا نعيشه، وفي هذه المعمة لابد من أن نكون على يقظة ووعي، جاعلين من قوله تعالى في سورة الحجرات شعارًا لنا؛ يقول تعالى: { {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} } ( [الحجرات: 6] ).
كم طمست من حقائق، وشُوه مصلحون ودعاة، واتهموا بالباطل في أعراضهم وذممهم، وحُرّفت أقوالهم ، وزيفت مواقف لهم، ثم شاركنا في ظلمهم أضعافًا مضاعفة بتصديق ذلك الكذب ونشره.
إن علينا أن نتثبت قبل أن ننقل الكلام؛ هدهد سليمان لم يقل: قالوا ويقولون
بل قال جئتك ﴿ {بنبأٍ يقين} ﴾، والأعجب رد سليمان مع أن الخبر يقين فقال: ﴿ {سَننظُر أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} ﴾.
فالتثبت من كل خبر قبل الحكم عليه أو نقله، هو دعوة القرآن ومنهج الإسلام، وإن لم تتثبت فلا تُصدق ولا تنقل، وهناك بعض الأخبار التي لن تستطيع التأكد منها فلا تصدق ولا تكذب وتوقف واسلم .
قال الإمام الحسن البصري رحمه الله : المؤمن وقاف حتى يتبين .
والعجيب أن الأخبار تكون مسبوقة بعبارة (مصادر موثوقة)، ولكن ماهو ذاك المصدر ؟! لا نعلم! ثم عند التثبت والتأكد يتضح زيف الخبر وكذبه ،وبعض بل وكثير ممن ينشر تلك الأخبار غير الصحيحة يؤمل في نشره ذلك الخبر السبق والإثارة، وربما يتطلع إلى تكثير متابعيه، والمنهج النبوي هو ما أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم حين قال : " كفى بالمرء كذبًا أن يحدث بكل ما سمع " رواه مسلم ، قال الإمام النووي رحمه الله تعليقا على هذا الحديث وغيره : ففيها الزجر عن التحديث بكل ما سمع الإنسان فإنه يسمع في العادة الصدق والكذب.
ومع فرض صحة المصدر؛ فإن الطبيعة البشرية قد تؤثر في طريقة عرض الموقف، لأنه يحكي الموقف من وجهة نظره وحسب فهمه وقناعاته هو، وقد يُخفي بعض الحقائق - عمدًا أو دون قصد - فإذا أردت الوصول للحق عليك أن تسمع من الطرفين، وأن تبحث وتتأكد وتتثبت.
إن الأمر عظيم، طُمِست بسببه قيم، ومُحِيت سنن، وهُدّمت أخلاق، وكُذّب صادق، وصُدّق كاذب، وخُوّن أمين، وأُمّن خائن، وشُوّه مصلح، وعُظّم ظالم.
ماذا ستقول لله سبحانه وتعالى يوم القيامة حين يسألك عمّن شاركت في ظلمه بنقل ما قيل عنه كذبًا وزورًا دون تثبت؟! تنام أنت وهو رافع كفيه إلى الله يسأله أن يقتص ممن ظلمه وصدق من ظلمه.
ألم تتعظ من حادثة الإفك؟ ألم تتدبر كيف يمكن للمنافقين أن يدنسوا عرض الطاهرات والطاهرين؟!
يقول تعالى : (لَّوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَٰذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ) [ سورة النور - ١٢].
ألم تسمع قول الله تعالى : ( {وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَٰذَا سُبْحَانَكَ هَٰذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ } )، [سورة النور -١٦]
ماذا ستقول عن الإشاعات التي نقلتها دون تثبت فروعت الناس؟ أو عن نشرك لفاحشة وإبرازها؟ أو عن فضحك لإنسان حتى - وإن أذنب - رغم أنك مأمور بستر أخيك المسلم؟
إن تصديقك ونشرك لما يقال دون تثبت، بل جلوسك وسماعك لبرنامج تُنتهك فيه حدود الله، أو يطعن فيه أئمة المسلمين - كالبخاري وابن تيمية وغيرهما - أو يَنْشُر الفواحش، ثم نشره على وسائل التواصل؛ يعطي للباطل قوة ويساعد على انتشاره.
لم يقوى الباطل إلا لأنك استمعت له وصدقته ونشرت ما يقول.
يقول تعالى : { {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} ﴾. [الأنعام -68].
ويزداد الأمر خطرًا عليك، وتشتد الحاجة إلى أن تبتعد عن سماع ذلك الهراء إذا كان في الحديث خطرًا على عقيدتك، وإثارةً للشبهات في عقلك. أغلق عليك باب الفتنة ولا تختبر قوتك فيها، وتذكر أنك إن تفتح بابا تلجه!
إن كل ما نسمعه وننقله سنحاسب عليه يوم القيامة، فلنحذر ألاعيب شياطين الإنس.
- التصنيف: