أمثلة من الأسباب الفكرية لانحطاط الأمة الإسلامية:المقال الثاني
فنتيجة الخلل في مفهوم العبادة - في توهم أنها الشعائر وحسب - يتصور أغلب من يقرأون الحديث أن المقصود الوحيد للإحسان هنا هو الخشوع في الصلوات!
وقد أقترح إعادة تسمية فرض الكفاية إلى "فرض أمة"، لأن هذا الاسم قد يوحي بأنه على الأمة مجتمعة أن تقوم بهذا الفرض، وبالتالي فهو يرفع من فضيلة تعاون الناس بعضهم مع بعض لبحث ما إن كانت الأمة لديها ما يكفيها في هذا المجال أو ذاك! وهذا سيؤدي إلى نشوء فرض عين مصاحب لفرض الأمة، وفرض العين هذا أن يجتهد كل ذي موهبة في أن يتواصل مع المجتمع بعمل استفتاءات وتصويتات على الشبكة العنكبوتية لتحديد المجال الذي يجب أن يتخصص فيه، وعليه فإن إشكال مسبح الحليب يكون قد تم حله لأن الناس لن تفكر فرادى في توجهاتهم بل سيتوجهون إلى ما تحتاجه الأمة فعلا كنتيجة للتعاون مع الغير لبحث مواضع النقص في الأمة، وهذا التعاون الأخير يكون فرض عين على قدر استطاعة كل ذي موهبة في هذه الأمة.
6- اختلال مفهوم الجهاد
إن قصر الجهاد على القتال قد قتل الأمة! لأن الجهاد أوسع كثيرا من الجهاد القتالي. إن الجهاد هو الاجتهاد لجعل دين الله هو الأعلى بكل الوسائل الممكنة، وهو ذروة سنام الإسلام، ومن أهم هذه الوسائل في عصرنا هذا جهاد البحث العلمي وجهاد الصناعات المدنية والحربية. وكفى المسلمين خزيا أن تكون الأمة التي نزلت عليها سورة الحديد هي أقل الأمم في استخدام الحديد - وغيره من الموارد الطبيعية - لإنشاء العيش الكريم للمسلمين وللدفاع عن أمة الإسلام
قال تعالى
﴿ {لَقَد أَرسَلنا رُسُلَنا بِالبَيِّناتِ وَأَنزَلنا مَعَهُمُ الكِتابَ وَالميزانَ لِيَقومَ النّاسُ بِالقِسطِ وَأَنزَلنَا الحَديدَ فيهِ بَأسٌ شَديدٌ وَمَنافِعُ لِلنّاسِ وَلِيَعلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالغَيبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزيزٌ} ﴾[الحديد: ٢٥]
فكي ننصر الله - الغني عن نصرنا له - يجب علينا الإحاطة بأسباب التفوق المدني والحربي، ولم يستخلف الله بني آدم في الأرض ليقولوا كما قال بنو إسرائيل قديما لموسى
﴿ {قالوا يا موسى إِنّا لَن نَدخُلَها أَبَدًا ما داموا فيها فَاذهَب أَنتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنّا هاهُنا قاعِدونَ} ﴾[المائدة: ٢٤]
إلا أن بني إسرائيل اليوم هم من أكثر الناس اجتهادا وجهادا في سبيل عقيدة فاسدة، ونحن أصحاب العقيدة الصالحة أمسينا من أكثر الناس خلودا إلى الأرض، فلسان حالنا هو " {إِنّا هاهُنا قاعِدونَ} "
ولا حول ولا قوة إلا بالله
7- اختلال مفهوم التسخير
إن تسخير الله السماوات والأرض والبحار والفلك للإنسان عامة وللمسلم خاصة ليس معناه أن كل شئ جاهز ولا حاجة لنا ببذل أي مجهود، بل معناه أن الله قد هيأ هذه الأشياء لاستخدام الإنسان لها، وباقي معناه أنه واجب علينا كمسلمين أن نستخدمها لصالح الإسلام ونشر كلمة الله لتكون العليا.
﴿ {اللَّهُ الَّذي خَلَقَ السَّماواتِ وَالأَرضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزقًا لَكُم وَسَخَّرَ لَكُمُ الفُلكَ لِتَجرِيَ فِي البَحرِ بِأَمرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنهارَوَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمسَ وَالقَمَرَ دائِبَينِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيلَ وَالنَّهارَ} ﴾[إبراهيم: ٣٢-٣٣]
فتسخير الفلك هنا مثلا لا يعني أن نستيقظ من النوم لنجد السفن المدنية والبوارج الحربية قد ملأت شواطئنا، لكن معناه أن الله قد هيأ قوانين الكون لتكون في صالح ما سنصنعه بجهدنا من سفن، وسخر الرياح لا لتدفع السفن حيث هبّت، لكن لنصنع نحن الأشرعة التي نستطيع بها الاستفادة من اتجاه الرياح لنذهب حيث نصبو.
وتسخير الليل والنهار ليس معناه أن مجرد حصول الليل والنهار كاف كي يرزقنا الله من فضله! لكنه سخر النهار لنعمل فيه جاهدين، وسخر الليل لنرتاح فيه استعدادا لعمل جاد آخر في النهار
وتسخير السماوات لا يعني أن تمطرنا السماء ذهبا وفضة بل يعني أن ندرس الكون - فالله قد يسره للفهم فهل من مستفهم؟! - ونجوب أجواء الفضاء لنبحث كيف بدأ الخلق ولنستفيد من هذا البحث في العيش الكريم للمسلم وفي أن نحصن الإسلام من أعدائه، وهكذا..
فالفهم الخاطئ لقضية التسخير يوهم أن كل ما علينا هو الاستمتاع بما سخره الله لنا، والحق أن واجبنا هو الاجتهاد في استخدام ما سخره الله لنا كي نُفَعِّل هذا التسخير!
8- اختلال مفهوم الإحسان
إن اختلال مفهوم الإحسان نابع بقوة من اختلال مفهوم العبادة. فإن قول جبريل عليه السلام لرسول الله "قالَ: «ما الإحْسَانُ؟ قالَ: الإحْسَانُ أنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأنَّكَ تَرَاهُ، فإنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فإنَّه يَرَاكَ» "
فنتيجة الخلل في مفهوم العبادة - في توهم أنها الشعائر وحسب - يتصور أغلب من يقرأون الحديث أن المقصود الوحيد للإحسان هنا هو الخشوع في الصلوات!
مع أن العبادة تشمل كل مظاهر الحياة، وبالتالي فالإحسان هو مراقبة الله كأنه أمامك واستيقان أنه يرى كل سكنة وحركة منك، وعليه فإنك ستتقن كل ما تعمله في حياتك وسيكون لوجه الله تعالى.
وفي رواية أخرى للحديث
"قال : فما الإحسانُ ؟ قال : «أن تعملَ للهِ كأنَّك تراه فإنَّك إن لم تكُنْ تراه فإنَّه يراك» "
وهنا قيل "تعمل لله" وليس "تعبد الله" كالرواية الأخرى
ومن الحديثين معاد يتجلى أكثر معنى هام وهو أن العبادة هي أن تعمل لله، فكل عمل تقوم به من شعائر ومن نشاطات يومية ينبغي فيها أمران
1- أن تكون لله
2- أن تكون بإتقان
فإن وفى هذين الشرطين كان ضمن العبادة
والإحسان ليس أمرا اختياريا كما يتخيل البعض بل هو فرض
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
" «إنَّ اللَّهَ كَتَبَ الإحْسَانَ علَى كُلِّ شيءٍ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ فأحْسِنُوا القِتْلَةَ، وإذَا ذَبَحْتُمْ فأحْسِنُوا الذَّبْحَ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ، فَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ» "
9- ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا
وأخيرا، فإن البعض تكون مواقفهم ردود أفعال لا أفعال مستقلة حيادية، فنتيجة أن البعض لم يقصد وجه الله في قوله "العمل عبادة" واستغلال هذا القول في الحط من قدر الشعائر مثل الصلاة بحجة أن العمل يحل محل الصلاة، أقول أن نتيجة هذا الشطط في الفهم أو سوء القصد باستغلال قولة حق "العمل [لوجه الله] عبادة" في الترويج للباطل وهو تسفيه أركان الإسلام مثل الصلاة والصيام، نتيجة هذا الجور هي أن يكون البعض مجرد رد فعل ضد ما فعل هؤلاء الجائرين - الذين حطوا من قدر الصلاة - فيزعموا أن "العمل ليس من العبادة" بلسان المقال أو لسان الحال.
والسؤال لهؤلاء الأُخَر، لأنهم من يعنونني فهم حسنو النية، لماذا يدفعكم الجور إلى جورٍ مقابل ولماذا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا
﴿ {يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنوا كونوا قَوّامينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالقِسطِ وَلا يَجرِمَنَّكُم شَنَآنُ قَومٍ عَلى أَلّا تَعدِلُوا اعدِلوا هُوَ أَقرَبُ لِلتَّقوى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبيرٌ بِما تَعمَلونَ} ﴾
[المائدة: ٨]
فالقسط في هذا الأمر ليس هو أن نسفه من قدر "عبادة العمل - لوجه الله" ولكن أن نبين أن أركان الإسلام - لاسيما الصلاة - هي عماد الدين وأساس العبادة، فلا يمكن الجور عليها بحجة العمل، وأن العمل - لله - هو كيان العبادة بمفهومها الشامل. فمن يضحي بالصلاة من أجل العمل كمن يضحي بقواعد وأساسات مبنى عظيم من أجل أن يبني الجدران أو يحسِّن في أثاث المبنى!!
فلنكن قوامين بالقسط ولا نحيد عن الحق لأن أناسا غيرنا حادوا عنه!
والله الموفق، فما كان من صواب فمن الله، وما كان من خطأ فمن نفسي
أ﴿ {فَسَتَذكُرونَ ما أَقولُ لَكُم وَأُفَوِّضُ أَمري إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصيرٌ بِالعِبادِ} ﴾[غافر: ٤٤]
أحمد كمال قاسم
- التصنيف: