وبالأبناء إحساناً - المقدمة
عَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ الْمُزنِيِّ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " «مَا مِنْ عَبْد يَسْتَرْعِيهِ اللهُ رَعِية , يَمُوتُ يَوْمَ يَمُوت وَهُوَ غَاشٌّ لِرَعِيتِه إِلَّا حَرَّم اللهُ عَلَيْه الْجَنَّةَ» .
إنَّ الحمد لله ، نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيِّئات أعمالنا، من يهْدِه الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم .
{ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} } [آل عمران:102]{ {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} } [النساء: 1]. { {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} } [الأحزاب: 70، 71]
أما بعد ،
فإن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي، هدي محمد صلى الله عليه وسلم ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار .وبعد
فإنَّ المتتبع لآيات الكتاب العزيز يجد أن الله -عزوجل- قد أكد على الواجبات الشرعية والمسئوليات التي تجب على كل مسلم مكلف في طريقه إلى الله تعالى ، والتي يُسئل عنها العبد يوم القيامة بين يدي ربه تبارك وتعالى – فمنها واجبات على العبد تجاه خالقه ، وواجبات على العبد تجاه نفسه وتجاه غيره ممن يعيش حولهم .
وهذه المسئوليات والواجبات مما تكون محل المساءلة يوم يقوم الناس لرب العالمين قال تعالى ( { وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ} (الصافات/24)
و عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «كُلُّكُمْ رَاعٍ فَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ ، فَالأَمِيرُ الَّذِي عَلَى النَّاسِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُمْ ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُمْ ، وَالمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى بَيْتِ زوجها وَوَلَدِهِ وَهِيَ مَسْئُولَةٌ عَنْهُمْ ، أَلاَ فَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ» . [1]عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " لَا يَسْتَرْعِي اللَّهُ- تَبَارَكَ وَتَعَالَى -عَبْدًا رَعِيَّةً ، قَلَّتْ أَوْ كَثُرَتْ ، إِلَّا سَأَلَهُ اللَّهُ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - عَنْهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، أَقَامَ فِيهِمْ أَمْرَ اللَّهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى - أَمْ أَضَاعَهُ ؟ حَتَّى يَسْأَلَهُ عَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ خَاصَّةً .[2]
وعَنْ أَنَسٍ- رضى الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قَالَ: إِنَّ اللَّه سَائِل كُل رَاعٍ عَمَّا اسْتَرْعَاهُ أَحَفَظَ أَمْ ضَيَّعَ . [3]
وَعَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ الْمُزنِيِّ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " «مَا مِنْ عَبْد يَسْتَرْعِيهِ اللهُ رَعِية , يَمُوتُ يَوْمَ يَمُوت وَهُوَ غَاشٌّ لِرَعِيتِه إِلَّا حَرَّم اللهُ عَلَيْه الْجَنَّةَ» .[4]
ومن هذه المسئوليات والواجبات التى أكد عليها كتاب الله - تعالى- مسئولية الأبناء تجاه الوالدين ، ويكفي في بيان ذلك أن الله -تعالى- قرن الأمر بعبادته مع الأمر بالإحسان إلى الوالدين .قال تعالى (( {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} )) (البقرة /83)وقال تعالى ( {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} ....))((النساء/36))وقال تعالى(( {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانً} ا)((الإسراء/23))
- وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو-رضى الله عنهما- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " ا «لكَبَائِرُ: الإِشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَعُقُوقُ الوَالِدَيْنِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ، وَاليَمِينُ الغَمُوسُ» ) [5] والنصوص في ذلك كثيرة فالإحسان إلى الوالدين هو أصل من أصول هذا الشرع الحنيف. *** لكن وعلى الجانب الآخر ...
نجد نوعاً آخر من الإحسان الواجب الذي دلت عليه نصوص الوحيين ، وهو الإحسان إلى الأبناء ... نعم ؛ الإحسان إلى الأبناء ، وذلك إحسانٌ لا يقل إيجاباً وفرضيةً عن الإحسان إلى الوالدين ، حتى إن الشرع ما ذكره تنصيصاً مكرراً كما نص على الإحسان إلى الوالدين ؛ وذلك لاستقراره في الفِطَرالسليمة
*** فالمرء قد تشغله دنياه فينسى والديه ، ويصير ذلك مألوفاً لديه. أما مع أبنائه فلا ، فقد فقد يُوبق آخرته قبل دنياه ليوفر لهم رغد الحياة – وهذا المعنى – أن حب الأبناء جلبة وفطرة - قد ورد في الكتاب والسنة :قال تعالى محذراً من هذه الفتنة (( { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُم} ......)) قال مجاهد: إنهما يحملانه على قطيعة رحمه، وعلى معصية ربه، فلا يستطيع مع حبه إلا أن يقطعه[6] فهذا تحذير من الله -تعالى- للمؤمنين، من الاغترار بالأزواج والأولاد، فالنفس مجبولة على محبة الأزواج والأولاد ، فحذَّر تعالى عباده لئلا توجب لهم هذه المحبة الانقياد لمطالب الأزواج والأولاد التي فيها محذور شرعي. ، ورغبهم في امتثال أوامره .[7]
***وفي السنة :في حديث الثلاثة الذين سدت عليهم صخرةٌ فتحة الغار، فقالوا: إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم ،... وثلاثتهم قد خرجت أعمالهم عن المألوف ؛ فمن هؤلاء الرجل الذي قدّم والديه على صغاره في طعام العشاء ؛ فجاء في الحديث قول الرجل : وأكره أن أسقي الصبية، والصبية يتضاغون عند قدمي من الجوع، وكنت لا أسقيهم حتى يشرب أبواي"" [8] - وعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم - قال: " «كانت امرأتان معهما أبناءهما، جاء الذئب فذهب بابن إحداهما، فقالت لصاحبتها: إنما ذهب بابنك، وقالت الأخرى: إنما ذهب بابنك، فتحاكمتا إلى داود عليه السلام فقضى به للكبرى، فخرجتا على سليمان بن داود عليهما السلام فأخبرتاه، فقال: ائتوني بالسكين أشقه بينهما، فقالت الصغرى: لا تفعل يرحمك الله هو ابنها فقضى به للصغرى» . [9]
-- عن معاوية بن قرة، عن أبيه:أن رجلا كان يأتي النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعه ابن له، فقال له: النبي صلى الله عليه وسلم: ««أتحبه؟» فقال الرجل: يا رسول الله، أحبك الله كما أحبه، ففقده النبي صلى الله عليه وسلم، فقال «ما فعل ابن فلان؟» قالوا: يا رسول الله، مات، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبيه: «أما تحب أن لا تأتي باباً من أبواب الجنة، إلا وجدته ينتظرك؟ » »[10]فدلت تلك النصوص وغيرها على أنَّ الشرع إنما لم يكثر من الوصية بالأبناء لأن حب الأبناء فطرة إنسانية وطبيعة بشرية ، و القاعدة الشرعية تقول : "" المعروف لا يُعرَّف ""
*** كتب إبراهيم بن داحة إلى أحد أبويه:جعلني الله فداءك، فكتب أبوه: لا تكتب بمثل هذا ، فأنت على يومي أصبر مني على يومك [11].
-- ونحن وفي هذه الرسالة أن نبين كيف يكون الإحسان الحقيقي تجاه هذه المسئولية الخطيرة ؛ مسئولية الأبناء ، والتي ستكون محل السؤال عند الله –تعالى - يوم القيامة
*** فاللهَ - تعالى- أسأل أن يوفقنا فيما نسطِّره ، وأن يجعله حالصاً لوجهه ، ولا يجعل لأحدٍ فيه شيئاً.
[1]متفق عليه.
[2]أخرجه أحمد( 4637 ) والنسائي (9174 ),و انظر صَحِيح الْجَامِع( 1774)
[3]أخرج ابن حبان (4475)وقد حسنه العلامة الألباني في تخريج فقه السيرة (434) ,و السلسلة الصحيحة (1636).
[4]متفق عليه.
[5]أخرجه البخاري(6675)
[6] جامع البيان في تأويل القرآن(23/424)
[7] تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان(1/868)
[8]متفق عليه .قوله (يتضاغون) يرفعون أصواتهم بالصراخ من ألم الجوع.
[9]متفق عليه.
[10]أخرجه أحمد(15595)وصححه الألبانى .
[11]محاضرات الأدباء للراغب الأصفهاني( 1/146)
[12]صح ذلك من قول عبدالله بن مسعود- رضى الله عنه – عند أبي داود(2116)
[13] القائل لهذه الأبيات هوأبو ذوئيب الهذلي ،والله أعلم.
- التصنيف: