حب وحنين

منذ 2019-04-20

متوسلا في أبحاثه بأكثر من 400 تقنية ومرصد لدراسة الأرض، ليعزز ما توصل إليه "ديفيريكس"، من انبعاث أصوات  جد ضعيفة من باطن الأرض لايمكن هي الأخرى رصدها بالأذن البشرية.

 

بن داود رضواني

أولا : كشوف وإضاءات.

أن تكون للجماد مشاعر، أحاسيس، وأصوات....!!، يبدو الأمر غريبا، لكن مع الكشوف العلمية أضحى ما كان مستغربا شأنا حقيقيا، فها هو علم  الجيولوجيا يفتح لنا بابا ظل موصدا لعقود خلت، مؤداه إلى أن الصخور تملك بعضا من خصائص الكائن الحي، فبعضها ينمو ويتضاعف حجمها- إذا وجدت البيئة المناسبة لذلك -، وأخرى تملك جذورا وحلقات عمرية، شبيهة بالأشجار، كما هو الحال في صخور تروفانتس في رومانيا. ويفاجئنا بول ديفيريكس في كتابه " العصر الحجري" بظاهرة عجيبة، تكمن في انبعاثات صوتية خفية صادرة عن الصخور تتباين في طبيعتها ونوعيتها من صنف لآخر، تم هذا الكشف العلمي عبر تقنيات استشعار صوتية غاية في الحساسية، تفوق حاسة السمع عند الإنسان عشرات المرات. ثم يأتي مشروع" يو إس آراي"، هو الآخر، بقيادة عالمة الجيولوجيا الأمريكية " راشيل كورتلاند"، متوسلا في أبحاثه بأكثر من 400 تقنية ومرصد لدراسة الأرض، ليعزز ما توصل إليه "ديفيريكس"، من انبعاث أصوات  جد ضعيفة من باطن الأرض لايمكن هي الأخرى رصدها بالأذن البشرية. أصوات أقرب إلى الأنات- جمع أنين -، وأشبه بأنين المرأة لحظة المخاض، وفي اعتقادي قد يكون هذا الصوت مرتبط بمخاض ولادة طبقات صخرية جديدة، وتشكل وضع جيولوجي جديد.
وفي نفس السياق ، كشفت دراسات وأبحاث علمية أخرى، أن انواعا من الصخور تملك وسائل استشعار، وتفكير....، توجه تشكلاتها وحركتها، وسكونها....، ويبدو أن مرد الحجاب المسدول بين هذا الكشف العلمي والإنسان إلى أمرين، أولهما: أن تشكل الصخور يتم بشكل بطيء جدا، ونموها قد يحتاج أحيانا إلى ملايين السنين، وثانيهما: أن عنصر الإستشعار لدى الإنسان يبقى بدائيا مقارنة بالعديد من الحشرات والحيوانات، والتي تلتقط الإشارات الصوتية الأولى للزلازل والبراكين، وغيرهما....

ثانيا - إرادة.....، وحب...

أ - إرادة الجماد.

يقول الله جل جلاله في سورة الكهف، الآية 77 {(فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه} )، شاع بين بعض المفسرين أن المقصود بالإرادة (يريد أن ينقض ) وجهان: الأول، أنها مجازية، وليست على الحقيقة،"واستعيرت للمداناة والمشارفة" كما قال الزمخشري في الكشاف، والوجه الثاني، أرجع الضمير إلى الخضر عليه السلام، وهذا تأويل لا يستقيم لما فيه من اضطراب واختلاق. لكن هل يعزب عن الله جل جلاله بث الإرادة في الجماد؟ وهل يستقل الإنسان بالإرادة عن غيره...؟. أولا: لماذا يستحيل أن تكون الإرادة في الجماد حقيقية؟؟!!، وهو الذي يسبح لله ويسجد له مع موكب الساجدين من أهل الأرض والسماء، ولا يصدر السجود والتسبيح إلا بإرادة، يقول الشيخ الشنقيطي رحمه الله في أضواء البيان:"وقد دلت آيات من كتاب الله على أنه لا مانع من كون إرادة الجدار حقيقية، لأن الله تعالى يعلم للجمادات إرادات وأفعالا لا يدركها الخلق." انتهى، ثانيا: الإرادة في الجماد حاصلة، لكن الإلتباس واقع من جهة عدم التمييز بين نوعين من الإرادات، نوع: يكون حسب القوة التسخيرية، وهذا يشترك فيه الإنسان والحيوان والنبات والجماد، ونوع آخر: يستقل به الإنسان، وهو مرتبط بالقوة الإختيارية، يقول الراغب الأصفهاني في المفردات: والإرادة قد تكون بحسب القوة التسخيرية والحسية، كما تكون بحسب القوة الإختيارية.

ب - : حب بحب.

جاء في مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" «إن أحدا جبل يحبنا ونحبه» "، يقول النووي في شرحه لمسلم: " والصحيح المختار أن معناه أن أحدا يحبنا على الحقيقة، جعل الله فيه تمييزا يحب به."، ويقول أنس بن مالك رضي الله عنه في البخاري: "صعد النبي صلى الله عليه وسلم إلى أحد ومعه أبوبكر وعمر وعثمان، فرجف بهم، فضربه برجله"، وقال:" اثبت احد، فما عليك إلا نبي، وصديق، وشهيدان."

ومادام جبل أحد قد أحب النبي صلى الله عليه وسلم، وثبت تحت قدميه، واستجاب لأمره، فكل ذلك لا ينبثق إلا عمن يري ويسمع، يعقل ويريد، يتحرك ويسكن، يحزن ويسر..، وهي أحوال وأحاسيس جلاها الله لنبيه إعجازا لمن خالفه، وزيادة في التصديق والإستسلام لمن آمن به، فعن جابر بن سمرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" إني لأعرف حجرا بمكة، كان يسلم علي قبل أن أبعث، إني لأعرفه"، أخرجه مسلم في الفضائل.

لقد تفاعل هذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم مع الموجودات باختلاف مراتبها، من دقيقها إلى جليلها، ومن أصغرها إلى أرفعها، في بوتقة العبودية لله، وأمها -أي إماما- في تسبيح الله وتنزيهه، والسجود له، وبادلها سلاما بسلام، وحبا بحب،إذ لم يبخل قط على إنسان، أو حيوان،أو جماد، بحب وحنان...، تجلت هذه المشاعر في الأسماء الرائعة التي وسم بها الحيوانات التي صاحبته - القصواء، دلدل، عفير، يعفور-، واختارها للآنية والأقداح التي سقته - مغيث، عيدان-، وتجلت كذلك في ضم الجدع لصدره الشريف، وإشفاقه عليه...، وفي محبته لإخوانه، واشتياقه لهم، أولئك  الذين آمنوا به صلى الله عليه وسلم ،ولم يروه....

فهلا بادلناه شوقا بشوق..؟ وحبا بحب...؟

ثالثا: حنين المساجد.

في الكثير من السياقات التعبيرية، يراد بلفظ " حنين " صوت المشتاق الممزوج بالألم والحزن، وإن كانت المعاجم اللغوية تضيف معنى آخر ل "حنين"، وهو الصوت الذي يخالجه الفرح و السرور. لكن المقصود هنا هو المعنى الأول، فحنين المسجد إلى الناس متصل الزمان لا يتوقف...، حنين يستبطن مشاعر الحب للراكعين، وعواطف الود للساجدين، ويتحسس أحوال أولئك  الغافلين التائهين، فما من موضع فيه إلا ويسعد بعماره من المؤمنين، ويسر بأهله من الخاشعين، كل لبنة فيه وسارية قد ازينت، وتجملت لمقدم ( {رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة} ).

يحن المسجد اليوم إليك، يدعوك لتحيا في مراتعه، ليشاركك همومك وغمومك بين يدي الله، فها هو يسأل عليه الصلاة و السلام أبا أمامة الأنصاري عن السبب الذي أجلسه في المسجد في غير وقت الصلاة، فيجيبه: "هموم لزمتني وديون يارسول الله،....". وهذا ليس بدعا من الأمر، إذ أن سنته عليه الصلاة والسلام أن يفزع إلى الصلاة في مسجده كلما  حزبه أمر  ليلقي بأحماله وأوجاعه بين يدي سيده ومولاه.
يحن المسجد إليك، لتسعى في أنواره، وتومض فيه مواطن القيام، ومواضع السجود، يقول أحد الحكماء: "أهل الأرض ينظرون في السماء نجوما متلألئة، والملائكة في السماء ينظرون نجوما متلألئة في بيوت الله".
يحن إليك بيت الله مع كل أذان وإقامة، ويبشرك في صلوات الليل خاصة  ببشارة النبي صلى الله عليه وسلم:" «بشر المشائين في الظلم إلى المساجد، بالنور التام يوم القيامة» "، [حديث الترمذي وأبي داود] .
يحن المسجد ويتوق لأناس، كانوا من فرط تعلقهم به، أنهم يسعون إليه بالحب والأشواق، ينقل ابن المبارك في"الزهد"عن عدي بن حاتم رضي الله عنه قوله: " ما جاء وقت صلاة قط إلا وقد أخذت لها أهبتها، وما جاءت إلا وأنا لها بالأشواق.".
تحن أماكن  السجود، وتبكي بكاء الحبيب على محبوبه، على صفوة الناس بعد الرسل والصحابة، ممن تعلقت قلوبهم ببيوت الله، وقد غيبهم الأجل، وطواهم المنون، روى إبن أبي حاتم أن عليا رضي الله عنه قال" إنه ليس من عبد إلا له مصلى في الأرض، ومصعد عمله من السماء، إن آل فرعون لم يكن لهم عمل صالح في الأرض، ولا مصعد في السماء، ثم تلا قوله تعالى {فما بكت عليهم السماء والأرض، وما كانوا  منظرين}
ولرحيل هؤلاء المؤمنين تئن المنابر، ولهجران أولئك الأحياء التائهين تحن المآذن، ولسان الحال يردد:

ما للمآذن تشتكي وتنوح        وتقول أن فؤادها مجروح

 

  • 2
  • 1
  • 4,301

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً