وأخيرا عاد صاحب الخطة...
ويا ليت المرأة تفطّنت إلى حقيقة الصراع ومقاصد هذا التهارش، فإنّها والله حرب تسعى إلى تحرير الغرائز لا تحرير الطبائع الإنسانية
عاد صاحب الخطة، رجع بعد غيبة طويلة الأنفاس ليجادل في إصرار ويدافع في إلحاح ومظلومية...
بين غمضة عين وانتباهتها، وبغثة وفي غير موعد أو سابق إشعار اجتمعت حوله هالة من نسوة المدينة ومعهن بعض المستغربين من ذكورها، ركض مع جوقته إلى الواجهة، ففتحت له المنابر، وسلِّطت عليه الأضواء، واحتفت به المحطات واحتضنته المجالس تحت نورانية أشعة نيّونها، واقتربت من فيه مكبرات الصوت وطيف من المسمِّعات الرسمية والصحفية...
أتراه جاء معتذرا عن الفشل الذريع، والتسفل الذي وصلت إليه حالة الأسرة المغربية، بل حال المرأة على وجه الخصوص منذ أن عُدِّلت مدونة الأحوال الشخصية وسُمّيت في غير عق ولا نسيكة بمدونة الأسرة؟؟؟
أجاء ليناقش في عمق مسؤول وصادق إحساس ما وصلت إليه أرقام المطلقات وخرِّيجات الانفكاك الأسروي القاتل؟؟؟
أعاد ليتحسر في كمد وكبد عن ركام ذلك الطابور الرقمي الضخم الكبير من نسبة العنوسة التي اغتالت أحلام الأمومة وأذهبت ريح المودة والرحمة وأهدرت الأرحام ووأدت زغاريد الأفمام؟؟؟
وهل حل وكرّ إلى الواجهة من جديد ليبكي أو يتباكى على ما وصلت إليه الأخلاق العامة والخاصة من تردٍ وسقوط وانحدار سحيق؟؟؟
أقَفَل في ندم وتوبة مُقرا بتحمل المسؤولية التقصيرية في ما وقع من موبقات ومهلكات كان قد فتح الباب وأشره النوافذ أمام وافداتها التغريبية الصقيعية؟؟؟
يا ليت هذه العودة وهذا الرجوع جاء ليلبِّي في طواف وإحرام مستجيب لصوت الضمير الإنساني وأنين ألمه الطافح والمكنون، وليبحث هو ومن معه عن كلمة السواء، وبلسم الشفاء من هذا المرض الذي لم ينفك عن دفعنا نحو الانحدار والانهيار.
ولكنه عود ورجوع جاء محيّنا متدثرا بعباءة الحقوق متزملا في الوقت ذاته بدثار العقوق، رجوع وعود مأذون له في قنص ورصد واهتبال لما وصلت إليه الأمور في دولة من دول الجوار من صفاقة وجرأة سافرة تجاوزت في جحود وإنكار حدود المعلوم من الدين بالضرورة، حيث أقر الرأس فيها بانفصاله عن جارحة النص وقلب الوحي النابض، وتلك طبيعة الشذوذ تتناسق في خواءه حركة شياطينه فيوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول وزور الفعل وبهتان الحال، لينتقل الركس بمحموله النتن من هنالك إلى هناك وصولا إلى هنا، مع وقف التنفيذ فإن طبيعة الحكم هنالك ليست هي كما هنا، ولعلها ضمانة يتناساها هذا الطيف المارق وهو يناور بين الفينة والأخرى.
ويا ليت القوم في معركتهم الخاسرة هذه واجهوا الدين بالعرف، فإن إسلامنا جاء على وفق الفطرة السويّة التي فطر الله عليها الناس جميعا، وقد علمنا كما علموا أن الإسلام جاء فوجد المرأة يومها تركة تورث، فرد الاعتبار وضرب لها نصيبا عادلا من التركة المادية الموروثة، بل أعطاها السبق في سياق العطف الذِّكري وهو يستشرف مكنونات الرحم في دائرة موهوبات الإيلاد والإيجاد، دحضا ونسفا وتبييضا وتنويرا وبشرى لذلك الوجه الذكوري الجاهلي الذي كان إذا بشر بالأنثى ظل مسودا وهو كظيم.
ويا ليت المرأة تفطّنت إلى حقيقة الصراع ومقاصد هذا التهارش، فإنّها والله حرب تسعى إلى تحرير الغرائز لا تحرير الطبائع الإنسانية، ولذلك ففي الوقت الذي ينظر فيه الليبرالي إلى الحجاب والستر بكونه بلادة أصابت الفطرة وبلاهة استوطنت الصبغة، فتلك حقيقة لا تحجب أخرى مفادها نظرته إلى العري والسفور بكونه محض طيش وفجور واستهتار قد لا يرضاه لأمه وأخته وزوجه وابنته، ولذلك فالمرأة في وجدان العلماني الليبرالي وفلسفته المتنطعة ليست لها منطقة أعراف بين الوسم بالإفراط إعلانا، أو الرمي بالتفريط إسرارا، ويصدق هذا أن له زوجا في بيته يحب أن تبعله كما يعشق أن تقر في بيتها تربي له نسمة صلبه وتعتني بنظافتهم ومأكلهم ومشربهم جميعا، ولا يكون الاستثناء هنا إلا عن مغلوبية وتفوق أنثوي، في الوقت الذي لا يكل ولا يمل مسترسلا في محاضراته وجداله الطويل العريض الذي يؤسس فيه لقواعد الكراهية لما يسمِّيه سيف الزوجية المسلط على رقبة المرأة وبيت الطاعة وكنف تربية النشء ورجعية النظرة التي تحجّر واسع الوظيفة في وصف الرحم الودود الولود، يصدق هذا البوح شاهد من أهلها حيث كتب المثقف اليساري الليبرالي السوري في كتابه عن أزمة المرأة موضحا وجها من الحقيقة المتوارية وراء الشعارات المرفوعة من الطيف الذكوري الليبرالي في مسيرته النضالية من أجل تحرير المرأة كما هي الدعوى والزعم القائم إذ قال :" الرجل المثقف في مجتمعنا يدعو إلى المساواة ويطالب المرأة بأن تكون ندا للرجل ولكنه نادرا ما يتزوج هذه المرأة المتساوية معه أو الند له، إنه يقبلها صديقة رفيقة زميلة لكنه يخافها ويبتعد عنها كزوجة إنه يريدها غرّة ولذلك تراه يركض وراء المراهقات".
وهذه الكاتبة الليبرالية المتطرفة "نادين البدير" كتبت فاضحة ذلك الفُصام الانتهازي الذي يعيش في كنفه الذكر الليبرالي قائلة :" من السهل الكشف عن أولئك الذين يدّعون الليبرالية دون أن يؤمنوا بها أو يطبقوها على أنفسهم فحياتهم الخاصة مليئة بالمفاجآت التي تعكس ازدواجية الشخصية... هناك الليبرالي الذي ينادي بخروج المرأة واختلاطها بالرجل... ولكن لنسأله أين زوجتك أو زوجاتك؟ أين أخواتك؟ أين بناتك؟
نعم إنها نظرة تكاد تطرد في إرادة القوم فتجعلهن وسائل للترفيه والمتعة والجنس ومكينات للتفريخ في دائرة السفاح كما النكاح على درجة ودركة واحدة، وهن من هن؟ هن اللواتي أمرنا الشرع بأن نستوصوا بهن خيرا وحرّم علينا إرداف النظرة النظرة الثانية، وأخرجهن من ضيق التبضيع إلى فسحة الاستعارة في مقام تشبيههن بالقوارير المحاطة بهالة من الضوابط الحامية الواقية لها من مظنة الانكسار المادي والمعنوي، بل خصها بما خص به شقيقها الذكر فجعلها في محراب العبادة ذاكرة قانتة تائبة عابدة سائحة صائمة مأجورة لها مثل الذي عليها بالمعروف وللرجل عليها درجة في باب الحقوق والواجبات...
ولا شك أن المعركة التي يخوضها العلمانيون ضد الحجاب والنقاب والتعدد والميراث لا يمكن أن نختزلها في ثوب سادل أو رقم مثنى وثلاث ورباع أو نصيب ترث فيه الأخت نصف ما يرث أخوها، ذلك أن هذا الاختزال هو من الغباء والسذاجة ونقصان الأهلية في ميدان التفكير والمدافعة، وإنما المعركة هي قائمة بين منظومة قانونية وضعية إقليمية موكول إلى هؤلاء حمل لوائها وسل سيفها من غمده الحداثي، وشهره في وجه هذا الدين أصولا وفروعا بلسان عربي مبين يناور بالوكالة ويعتقد أن موضوع المرأة هو خرق وثغرة مخوف يمكن أن يكسب فيها هذا الطيف الجولات تلو الجولات، ويغنم فيها الأنفال تلو الأنفال، ويتسلل في لواذ وعلانية إلى محراب الأحكام فيزيل منها ويقصي وينسف ويواري ويئد ويؤوِّل على هواه وهوى ما يشتهيه الأسياد، مستشرفا بعد حين جعل السلطة والسيادة للإنسان في تحديد ما الحلال وما الحرام؟ وما الحق وما الباطل؟
ولا جرم أن المراد بالإنسان ليس جنسه وإنّما ذلك النوع منه، من الذي يتبع الشهوات ويريد أن يفجر أمامه كما يريد بنا أن نميل ميلا عظيما، ومن فهم هذا ووعاه نال حظا من الهدى في تحديد طبيعة الصراع ووجهة التدافع، فليس القضية على سبيل التمثيل قضية قماش يرى فيه الآخر وجها من وجوه الاستعباد بينما يُقرأ في دائرة الشرع على أنه حرز وتحرير ولباس تقوى ، يمثل فيها هذا القماش الخفيف الوزن هالة دفاعية ثقيلة الوزن ومتقدمة الفضيلة والحسن، قد أو يراد لها بتخطيط ماكر أن تصير قشرة شفافة وهفوة إغرائية تتسفل بالطبيعة الأنثوية إلى درك الوأد الجاهلي حيث عيش الأنعام بل مقارفة ما هو أدهى وأضل سبيلا.
وعلى المرأة وهي تُساق إلى بؤرة هذا الصراع الوجودي والأخلاقي، أن تتحرى الصدق في الانتساب والاقتداء والاصطفاف إلى طرف على حساب الآخر، وأن تتجنب أن تكون مدبدبة بين هؤلاء وهؤلاء، فإن طبيعة هذا الصراع لا تقبل الصمت في معرض الحاجة إلى البيان، كما لا تسمح برسوخ القدم على منطقة أعراف بين الحق والباطل، كما بين الحلال والحرام، كما بين السفاح والنكاح، كما بين العنوسة والتعدد، كما بين العري والستر، كما بين الطلاق والمرابطة على ثغور بيت الزوجية، كما بين أن تكون سلعة الله الغالية أو بضاعة شيطان مفلسة لا وزن لها ولا اعتبار...
والله يعلم المفسد من المصلح.
محمد بوقنطار
محمد بوقنطار من مواليد مدينة سلا سنة 1971 خريج كلية الحقوق للموسم الدراسي 96 ـ97 الآن مشرف على قسم اللغة العربية بمجموعة مدارس خصوصية تسمى الأقصى.
- التصنيف: