حتى لا تصير الدعوة إلى الله جسدا بلا روح
ويبقى المعيار الفارق بين الإخلاص في الدعوة إلى الله وبين امتهانها رجاء الرزق أوالشهرة، واحد لا ثاني له. إنه التجرد من جميع الحظوظ النفسية والرغبات المادية، والنهوض بواجب الدعوة حيثما كانت الحاجة قائمة
بنداود رضواني
المنتفعون باسم الدعوة:
من جملة الحقائق الإيمانية التي يسلم بها الداعية إلى الله، أن العطاء والمنع، والخفض والرفع، والأمن والقلق، والرزق والأجل، والموت والحياة، جميعها بيد الله جل جلاله .
ورسوخ هذه الحقائق في عقله، وتمكنها من فؤاده، فبعيد أن تغره الرغبات الفانية، او تخيفه الرهبات الزائلة، فوظيفته الرسالية التي ينهض بها تعلو به فوق هذه الظنون والأوهام، وهذا هو المأمول فيه، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم « يا عم والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته»
فالداعية همه هو رضا الله، ثم كيفية إدخال الناس في دين الله أفواجا، لذا فهو يجتهد ليسوقهم إلى ربهم بالتي هي أحسن، لأنه رجل دعوة وهداية، وصاحب رسالة ربانية أولا وأخيرا، ومادام الأمر كذلك، فهو لا يرضى أن تختلط رسالته بالتراب، أو تمزج بأعراض الدنيا، كما حال بعضهم، ظاهر كلامهم الهداية، لكن باطنه المنفعة والمصلحة، يرغبون غيرهم في الآخرة، في حين أن قلوبهم أسيرة متع الدنيا وأهواءها....، يقول الباري جل جلاله ( {واتل عليهم نبأ الذي ءاتيناه ءاياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين. ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه. فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث. ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا. فاقصص القصص لعلهم يتفكرون } ) [الأعراف/ 175] ، و يقول مصطفى السباعي في " هكذا علمتني الحياة"، تحت عنوان -النفوس العالية والدنيئة- : " النفوس العالية ترى التعلق بمال الدنيا وزينتها امتهاناً لها لا تقبله، والنفوس الدنيئة ترى جمع المال والحرص على الجاه علوًّا لا تتخلى عنه، وما أكثر من يدعون علو النفس وهم يتصفون بصفات الأدنياء "، ص 265. وها هي سور القرآن الكريم تحفل بالعديد من الآيات المنفرة من الإسترزاق بالدعوة، والإنتفاع من وراء مهمة الهداية والتبصير، تارة في سياق أمر رباني لرسله وأنبياءه، وتارة في سياق حوار النبي او الرسول مع قومه، ( {قل ما أسألكم عليه من أجر } ) [الفرقان/57] ، ( {فإن توليتم فَما سألتكم من أجر} ) [يونس/72] ، ( {وما أسألكم عليه من أجر. إن أجري إلا على رب العالمين} ) [الشعراء/ 109] . وها هو مؤمن آل ياسين- حبيب النجار- لا زالت كلمات الإستعطاف لقومه تؤز مسامع النفعيين والإنتهازيين دون أن يعقلوها، ( {قال يا قوم اتبعوا المرسلين. اتبعوا من لا يسألكم أجرا وهم مهتدون} )، [يس 20/19] . وجاء في حلية الأولياء لأبي نعيم، أن الحسن البصري كان يقول: " لا تزال كريما على الناس ما لم تعاط ما في أيديهم، فإذا فعلت ذلك استخفوا بك، وأبغضوا حديثك" حديث رقم 3107.
المتجردون لله تعالى.
إن التنافس في ميدان الكسب، والتسابق في ساحة المال بالوسائل المشروعة أمر مباح، والإغتناء عن طريقهما أمر جائز لا شائبة فيه، إذ المنطلق واضح، والهدف معلوم، لكن في ساحة الدعوة إلى الله، وفي مضمار البلاغ، الأمر خلاف ذلك. فسير الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام، لم تسجل ما ينبئ عن امتطائهم صهوة الرسالة من أجل بلوغ المنافع الدنيوية، أو الحظوظ النفسية، فكل واحد منهم إلى جانب مهمته الرسالية، تجده إما تاجرا أو راعيا أو حدادا او خياطا...، لقد جعلوا دعوتهم خالصة لله عزوجل وحده، وأما ضربهم في الأرض فغايته الإسترزاق طلبا للعفة والكفاية، ( {وقالوا مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق} ) الفرقان/7.
وقد يكون بين من يحسب على الدعوة من لا تغريه الدراهم ولا الدنانير، ولا يحمل هم الدثور ولا الأجور، لكن دعوته أسيرة الشخصانية والذاتية، وعليلة بطلب الوجاهة وحب الظهور، منتهى غاية هذا الصنف أن ينال كلامه رضا العالمين وإن كان خلاف ما أمر به رب الأولين والآخرين. فهو لا يكل في مدح نفسه، وطلب مدح الآخرين له، ولا يمل في الحديث عن تفاصيل وجزئيات حياته، يبغي بذلك الحظوة عند الناس والشهرة بينهم، أما الله والدار الآخرة فقد توار طلبهما عنده خلف جدار سميك من حب النفس والهوى.
ويبقى المعيار الفارق بين الإخلاص في الدعوة إلى الله وبين امتهانها رجاء الرزق أوالشهرة، واحد لا ثاني له. إنه التجرد من جميع الحظوظ النفسية والرغبات المادية، والنهوض بواجب الدعوة حيثما كانت الحاجة قائمة، والضرورة ملحة، بغض النظر عن طبيعة الأحوال والظروف، فيكون بذلك حال الداعية في الشدة والقلق والمنع والشهرة...، كحاله في الرخاء والأمن والعطاء والغمر....، لا فرق عنده بين هذه وتلك، " «إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة» «» " جزء من حديث للبخاري من طريق أبي هريرة.
- التصنيف: