فوائد من كتاب الفوائد للعلامة ابن القيم (2-2)

منذ 2019-11-27

أنفع الناس لك رجل مكنك من نفسه حتى تزرع فيه خيراً أو تصنع إليه معروفاً, فإنه نعم العون لك على منفعتك وكمالك, فانتفاعك به في الحقيقة مثل انتفاعه بك أو أكثر.

 

خطورة الكذب:

إياك والكذب, فإنه يفسد عليك تصور المعلومات على ما هي عليه, ويُفسد عليك تصويرها وتعليمها للناس.

فإن الكاذب يُصورُ المعدوم موجوداً والموجود معلوماً, والحقَّ باطلاً, والباطلَ حقاً, والخير شرّاً والشرَّ خيراً, فيفسُدُ عليه تصوره وعلمه عقوبةً له, ثم يُصور ذلك في نفس المخاطب المغتر به الراكن إليه, فيُفسدُ عليه تصوره وعلمه.

وأول ما يسري الكذب من النفس إلى اللسان فيفسده, ثم يسري إلى الجوارح فيُفسد عليها أعمالها...فيعُم الذنب أقواله وأعماله وأحواله, فيستحكم عليه الفساد ويترامي داؤه إلى الهلكة إن لم يتداركه الله بدواء الصدق يقلعُ تلك المادة من أصلها

ولهذا كان أصل أعمال القلوب كلها الصدق, وأضدادها من الرياء والعُجب والكبر والفخر والخيلاء والبطر والأشر والعجز والكسل والجُبن والمهانة وغيرها أصل الكذبُ, فكل عمل صالح ظاهر أو باطن فمنشؤه الصدق, وكل عمل فاسدٍ ظاهرٍ أو باطن فمنشؤه الكذبُ..والله يعاقب الكذاب بأن يقعده ويُثبطه عن مصالحه ومنافعه, ويُثيب الصادقَ بأن يوفقه للقيام بمصالح دنياه وآخرته, فما استجلبت مصالح الدنيا والآخرة بمثل الصدق, ولا مفاسدهما ومضارهما بمثل الكذب.

أعظم ما يُدفع به الغضب:

قلع الغضب بمعرفة النفس وأنها لا تستحقُّ أن يغضب لها وينتقم لها, فإن ذلك إيثار لها بالرضى والغضب على خالقها وفاطرها. وأعظم ما تدفع به هذه الآفة أن يُعوِّدها أن تغضب له سبحانه وترضى له, فكلما دخلها شيء من الغضب والرضى له خرج منها مقابله من الغضب والرضى لها, وكذا بالعكس.

 

ما يسهل الإخلاص على الإنسان:

لا يجتمع الإخلاص في القلب ومحبة المدح والثناء والطمع فيما عند الناس إلا كما يجتمع الماءُ والنار, والضبُ والحوت.

فإذا حدثتك نفسك بطلب الإخلاص فأقبل على الطمع أولاً فاذبحه بسكين اليأس, وأقبل على المدح والثناء فازهد فيهما زهد عشاق الدنيا في الآخرة, فإذا استقام لك ذبح الطمع والزهد في الثناء والمدح, سهل عليك الإخلاص.  

وذبح الطمع يسهله عليك علمك يقيناً أنه ليس من شيء يُطمع فيه إلا وبيد الله وحده خزائنه, لا يملكها غيره, ولا يؤتى العبد منها شيئاً سواهُ.

والزهد في الثناء والمدح يسهله عليك علمُك أنه ليس أحد ينفع مدحُه ويزِين, ويضر ذمُّه ويشين إلا الله وحده.

بعض آثار وثمار ترك الذنوب في الدنيا:

لو لم يكن في ترك الذنوب والمعاصي إلا إقامة المروءة, وصون العرض, وحفظ الجاه, وصيانة المال الذي جعله الله قواماً لمصالح الدنيا والآخرة, ومحبة الخلق, وصلاح المعاش, وراحة البدن, وقوة القلب, وطيب النفس, ونعيم القلب, وانشراح الصدر, والأمن من مخاوف الفساق والفجار, وقلة الهمّ والغم والحزن, وعزّ النفس عن احتمال الأذى, وصون نور القلب أن تطفئه ظلمة المعصية, وحصول المخرج مما ضاق على الفساق والفجار, وتيسير الرزق عليه من حيث لا يحتسب, وتيسير ما عسُرَ على أرباب الفسوق والمعاصي, وتسهيل الطاعات عليه, وتيسير العلم, والثناء الحسن في الناس, وكثرة الدعاء له, والحلاوة التي يكتسبها وجهه, والمهابة التي تُلقى له في قلوب الناس, وانتصارهم وحميتهم له إذا أُوذي وظُلم, وذبُّهم عن عرضه إذا اغتابه مغتاب, وسرعة إجابة دعائه, وزوال الوحشة التي بينه وبين الله, وقُربُ الملائكة منه, وبعدُ شياطين الإنس والجن منه, وتنافس الناس في خدمته وقضاء حوائجه, وخطبتهم لمودته وصحبته, وعدم خوفه من الموت بل يفرح به لقدومه على ربه ولقائه له ومصيره إليه, وصغرُ الدّنيا في قلبه, وكِبَرُ الآخرة عنده وحرصُهُ على الملك الكبير والفوز العظيم فيها, وذوقُ حلاوة الطاعة, ووجدُ حلاوة الإيمان, ودعاءُ حملة العرش ومن حوله من الملائكة له, وفرحُ الكاتبين به ودعاؤُهم له كل وقت, والزيادة في عقله وفهمه وإيمانه ومعرفته, وحصول محبة الله له وإقباله عليه وفرحه بتوبته, وهكذا يجازيه بفرح وسرور لا نسبة له إلى فرحه وسروره بالمعصية بوجهٍ من الوجوه. فهذه بعض آثار ترك المعاصي في الدنيا.

فإذا مات تلقّته الملائكةُ بالبشرى من ربه بالجنة, وبأنه لا خوف عليه ولا حُزن, وينتقل من سجن الدنيا وضيقها, إلى روضة من رياض الجنة ينعم فيها إلى يوم القيامة....فإذا كان يوم القيامة كان الناس في الحرِّ والعرَقِ, وهو في ظلِّ العرش.

فإذا انصرفوا من بيدي الله أخذ به ذات اليمين مع أوليائه المتقين وحزبه المفلحين.

و  { ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذُو الفضلِ العظيم }  [الحديد:21]

من لطائف التعبد بالنعم:

عبودية النعم معرفتها والاعتراف بها أولاً, ثم العياذ به أن يقع في قلبه نسبتها وإضافتها إلى سواه وإن كان سبباً من الأسباب فهو مسببه ومقيمه, فالنعمة منه وحده بكل وجه واعتبار ثم الثناء بها عليه ومحبته عليها وشكره بأن يستعملها في طاعته...ومن لطائف التعبد بالنعم أن يستكثر قليلها عليه, ويستقل كثير شكره عليها, ويعلم أنها وصلت إليه من سيده من غير ثمن بذله فيها, ولا وسيلة منه توسل بها إليه, ولا استحقاق منه لها, وأنها لله في الحقيقة لا للعبد, فلا تزيده النعم إلا انكساراً وذلاً وتواضعاً ومحبةً للمنعم.

الناس واللذات:

لذةُ كل أحدٍ على حسب قدره وهمته وشرف نفسه.

فأشرف الناس نفساً وأعلاهم همةً وأرفعهم قدراً من لذتُهُ في معرفة الله ومحبته والشوق إلى لقائه والتودد إليه بما يحبه ويرضاه, فلذته في إقباله عليه وعكوف همته عليه. ودون ذلك مراتب لا يُحصيها إلا الله, حتى تنتهي إلى من لذته في أخسِّ الأشياء من القاذورات والفواحش في كل شيء من الكلام والفعال والأشغال, فلو عرض عليه ما يلتذ به الأول لم تسمح نفسه بقبوله ولا الالتفات إليه وربما تألمت من ذلك, كما أن الأول إذا عرض عليه ما يلتذ به هذا لم تسمح نفسه به ولم تلتفت إليه ونفرت نفسه منه.

وأكمل الناس لذةً من جُمع له بين لذة القلب والروح ولذة البدن, فهو يتناول لذاته المباحة على وجهٍ لا ينقُص حظه من الدار الآخرة ولا يقطع عليه لذة المعرفة والمحبة والأنس بربه. 

عدم الأمن من مكر الله:

الذي يخافه العارفون بالله من مكره:

أن يؤخر عنهم عذاب الأفعال, فيحصل منهم نوع اغترارٍ, فيأنسوا بالذُّنوب, فيجيئهم العذاب على غرَّةٍ وفترة.

وأمر آخر: وهو أن يغفلوا عنه وينسوا ذكره, فيتخلى عنهم إذا تخلوا عن ذكره وطاعته, فيُسرع إليهم البلاءُ والفتنة, فيكون مكره بهم تخليه عنهم.

وأمر آخرُ: أن يعلم من ذنوبهم وعيوبهم ما لا يعلمونه من نفوسهم, فيأتيهم المكر من حيث لا يشعرون.

وأمر آخرُ: أن يمتحنهم ويبتليهم بما لا صبر لهم عليه, فيُفتنون به, وذلك مكر.  

معرفة الله سبحانه:

معرفة الله سبحانه نوعان:

الأول: معرفة إقرار, وهي التي يشترك فيها الناس, البر والفاجر, والمطيع والعاصي.

والثاني: معرفة تُوجب الحياء منه, والمحبة له وتعلق القلب به, والشوق إلى لقائه, وخشيته والإنابة إليه, والأنس به والفرار من الخلق إليه.

ولهذه المعرفة بابان واسعان: باب التفكر والتأمل في آيات القرآن كلها, والفهم الخاص عن الله ورسوله.والباب الثاني: التفكر في آياته المشهودة, وتأمل حكمته فيها وقدرته ولطفه وإحسانه وعدله وقيامه بالقسط على خلقه.

وجماع ذلك: الفقه في معاني أسمائه الحسنى وجلالها وكمالها وتفرده بذلك وتعلقها بالخلق والأمر, فيكون فقهياً في أوامره ونواهيه, فقهياً في قضائه وقدره, فقهياً في أسمائه وصفاته, فقهياً في الحكم الديني الشرعي والحكم الكوني القدري. 

النعم ثلاثة:

النعم ثلاثة: نعمة حاصلة يعلم بها العبد, ونعمة منتظرة يرجوها, ونعمة هو فيها لا يشعر بها.

فإذا أراد الله إتمام نعمته على عبده عرَّفه نعمته الحاضرة وأعطاه من شكرها قيداً يُقيّدها به حتى لا تشرد, فإنها تشرد بالمعصية وتُقيدُ بالشكر. ووفقه لعمل يستجلب به النعمة المنتظرة, وبصَّره بالطرق التي تسدها وتقطع طريقها ووفقه لاجتنابها, وإذا بها قد وافت إليه على أتم الوجوه, وعرَّفه النعم التي هو فيها ولا يشعر بها.

إياك أن تُمكن الشيطان من بيت أفكارك وإرادتك:

إياك أن تُمكن الشيطان من بيت أفكارك وإرادتك, فإنه يفسدها عليك فساداً يصعُب تداركه, ويُلقي إليك أنواع الوساوس والأفكار المضرة, ويحول بينك وبين الفكر فيما ينفعك, وأنت الذي أعنته على نفسك بتمكينه من قلبك وخواطرك فملكها عليك, والذي يلقيه الشيطان في النفس لا يخرج عن الفكر فيما كان...لو كان على خلاف ذلك, وفيما لم يكن لو كان كيف كان يكون.

أو في خيالات وهمية لا حقيقة لها, أو فيما لا سبيل إلى إدراكه من أنواع ما طوي عنه علمه.فيلقيه في تلك الخواطر التي لا يبلغ منها غاية ولا يقف منها على نهاية, فيجعل ذلك مجال فكره ومسرح وهمه.

وجماع إصلاح ذلك: أن تشغل فكرك...بمعرفة ما يلزمك من التوحيد وحقوقه, وفي الموت وما بعده إلى دخول الجنة والنار, وفي آفات الأعمال وطرق التحرز منها

وبالجملة فالقلب لا يخلو قط من الفكر: إما في واجب آخرته ومصالحها, وإما في مصالح دنياه ومعاشه, وإما في الوساوس والأماني الباطلة والمقدرات المفروضة. 

الدراهم أربعة:

درهم اكتسب بطاعة الله وأخرج في حق الله, فذاك خير الدراهم.

ودرهم اكتسب بمعصية الله وأخرج في معصية الله, فذاك شر الدراهم.

ودرهم اكتسب بأذى المسلم وأخرج في أذى مسلم, فهو كذلك.

ودرهم اكتسب بمباح وأنفق في شهوة مباحة, فذاك لا له ولا عليه.

ليس في الوجود ما يُحب لذاته ويُحمد لذاته إلا الله جل جلاله:

ليس في الوجود ما يُحب لذاته ويُحمد لذاته إلا هو سبحانه, وكل ما يُحب سواه, فإن كانت محبته تابعة لمحبته سبحانه بحيث يحب لأجله فمحبته صحيحة, وإلا فهي محبة باطلة, وهذا هو حقيقة الإلهية, فإن الإله الحق هو الذي بُحبّ لذاته ويُحمد لذاته, فكيف إذا انضاف إلى ذلك إحسانه وإنعامه وحلمه وتجاوزه وعفوه وبره ورحمته ؟!

فعلى العبد أن يعلم أنه لا إله إلا الله فيحبه ويحمده لذاته وكماله, وأن يعلم أنه لا مُحسن على الحقيقة بأصناف النعم الظاهرة والباطنة إلا هو, فيحبه لإحسانه وإنعامه ويحمده على ذلك, فيحبه من الوجهين جميعاً.

أنفع الناس لك وأضرهم عليك:

أنفع الناس لك رجل مكنك من نفسه حتى تزرع فيه خيراً أو تصنع إليه معروفاً, فإنه نعم العون لك على منفعتك وكمالك, فانتفاعك به في الحقيقة مثل انتفاعه بك أو أكثر.

وأضر الناس عليك من مكّن نفسه منك حتى تعصي الله فيه, فإنه عون لك على مضرتك ونقصك.

                      كتبه / فهد بن عبدالعزيز بن عبدالله الشويرخ

  • 5
  • 0
  • 7,809

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً