طبيب الغلابة ومحفل الضمير
من كلماته الخالدة، النابضة بالضمير الحي : أن الطبَّ مهنةٌ إنسانية ، وليس للتجارة ..!
إذا كنتَ كاتبًا دارًا ، وذا قلمٍ شوَّاق شوّاف، فإنه لا يَسمحُ لك بتجاوز أحداثٍ أحدثت في الكون أثراً ، ولا تجاهل وقائعَ، كان لها من الناس موقِع ، أو غضِّ الطرف عما طرُف من مُستطرفاتِ الأخبار ومستظرفِها . أيورقُ الغصنُ والأقلامُ ترتعبُ...أو يُقلِقُ الخَطبُ والأنفاس تحتجبُ؟../ إنَّ المُقاتلَ في الأفكار مَعدِنهُ...بريُ السهامِ فلا ضعفٌ ولا عَطبُ..!
• وفاةُ طبيب الغلابة المصري " محمد مشالي " -رحمه الله- هذه الأيام ، دوّت في سمعِ التاريخ ، وجلجلت في آذان الآفاق، وهزت مشاعرَ كلِّ ذي مالٍ ، وجاه، وصنعة...! فلله دره، موفورُ القبول، ومحمود الخصال، وميمون الفعال، ومحبوب الفقراء والمساكين.. ومن السابقين المقدَّمين ...!
• بمَ سبقَ الرجلُ وعُرف..؟! إنه عُرفَ "بمادة البذلِ والإحسان" التي عظّمها الإسلام، ومنائر البركة، التي افتقدها كثيرون، وجماليات الحب التي انحرمَ منها أقوام ، وبأخلاقياتِ المهنة التي غفلَ عنها طوائفُ مختلفة من العالم ..!
• فطلّ علينا هدا الرجلُ الشهم المتواضع ، ليعطينا درسًا في الإخلاص، وعظةً في العطاء، ومَعلَما في الحب، ومنارةً في البركة، ( وجعلني مباركا أينما كنت ) فيُباركُ له في عمله وعمره وجدّه وصنعتِه.. فيصنع العجيب، ويدرّ الخصيب، ويزيد في الرغيب ...! دونَ مبالاةٍ بخسائر تلحقه، أو مرابحَ تفتقده، أو جشعٍ يحركه...! واحتسبَ جهدَه الطبي، وسعيَه الاجتماعي بسعر رمزي ، يدعونه ( ١٠ جنيهات ) .! وقبلها (٥ جنيهات ) وفِي السبعينيات الميلادية بدأ ( ١٠ ساق ) .
• التي تتناسبُ وظروفَ الفقراء، وتتلاءم وعوزَ الغلابة، وتخفف آلامَ مكسّحين ، وتداوي لأواء غارمين ومُهمشين ..! عشرة جنيهات وشبهها ، خرجت من قلبٍ رقراق، يرقّ لإخوانه، ويعيش هموم أصحابه وطلابه...! لا سيما والحاجةُ استشفاء ، والداعي صحةٌ سليمة، وتحاشٍ لأسقام كثيرة، وأدواء غير معروفة ولا ممنوعة ، في بلدان تعجز عن توفير الخدمة الصحية المتوسطة لسكانها ومرتاديها...!
• تحرك ضميرُه الإيماني والمهني، وهو يرى صرعى الأطفال الفقراء بين يديه ، فنذرَ ذلك الكدح والسعي لخدمتهم ، كما عاين، وطبّق هو وصية والده ( أَبغوني ضعفاءكم، هل تُنصرون وترزقون إلا بضعفائكم ، بدعائهم واستغفارهم).
• فاختار أن يكونَ في صف الفقراء، ونصيرِ الغلابة، ومأوى المُنهكين المُتعبين، لكأنه خُلق لهم ...! وكم من تعابَى ما لهم موئل ، وفَقارى بلا عائل، ومساكين، نشب فيهم مِخلبُ المسكنة ، حتى تهدهدت قواهم، وذابت طاقاتُهم، وجفّ تفكيرهم ، حتى صار ألذَّ متعة لهم رغيفٌ رطب، وماء بارد... والله المستعان . فكيف لو ظفروا بطبيبٍ رحيم، ومعالجٍ رفيق، لا يبتز مالهم، أو يستغل حاجتهم...؟!!
• لابد أن تكون إنسانًا رحيما قبل أن تكونَ طبيبًا أو مهندسا أو أستاذا ، يشعلك الحسُّ بالآخرين ، ومراعاةُ ظروفهم، وتشعُّ منك رحماتُ إشفاق ، وأيادي رفق، ومعالمُ خيرٍ ومودة... وذلك مقتضى دينِنا لو تأملنا وتفكّرنا .. قال عليه الصلاة والسلام: «من لا يَرحم لا يُرحم».
• فارحموا الناسَ وتراحموا ، وساعدوهم وتساعدوا، فلن يدومَ لكم إلا المعروفُ ومكارمُ الأخلاق...! وما أحسنَ قولَ القائل: إني شممتُ من العطور جميعَها.. وعرفتُ أطيبَها على الإطلاق... كلُّ العطور سينتهي مفعولُها.. ويدومُ عطرُ مكارمِ الأخلاقِ..!
• وكيف إذا كان العطاءُ "صحيًا " في بيئات تعجّ بالأسقام ، ويعجز الفقير المنهك من كشفية بسيطة، ودواء معروف، بسبب الطغيان المالي، والأثَرة المعيشية...؟!
• كان مثالَ الموظف القوي الأمين، الذي استقوى بمهنيته، وكان أمينًا في عمله وأدائه ، فلم يحصد الربحَ الغزير، ولا المالَ الكثير، ولكنْ حصدَ محبةَ الناس، وطرق إجلالهم وتقديرهم ، ويتمنى ملايين من الخلق أن يربحوا هذا الثناء، ويفوزوا بتلك الدعوات، ولكن ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم .
• لو استيقظَ ضميرُ كل موظفٍ لعمّ العطاء، وساد الإحسانُ ، وانغرست الرحمة في كل دائرةٍ وحُجرة ، ودُكان ..! ولفزنا برحماتِ ربِّنا وأفضاله..{إن رحمتَ الله قريبٌ من المحسنين} [سورة الأعراف].
• إن الضمائرَ الحية لتَهَبُ أصحابَها أرواحا مختلفة، متلهفةً للعطاء، راغبةً فيما عند الله تعالى ، تتنازل عن الدنيا، لترقَى في الأخرى ، وتزهد في الأموال ، لتحرز الأفضال ، وتتخلى عن الشهرة، لتحظى بعلو المنزلة ..{تلك الدارُ الآخرةُ نجعلها للذين لا يريدون علوًا في الأرضِ ولا فسادا} [سورة القصص].
• إن ذلك التنازل الدنيوي ليُرينا أن في الناس بقيةً من خير، ولدينا اصفياء أنقياء ، قد سخّروا جهودَهم لنفع الناس . وفِي المقابل هو اختبار لأخلاقنا وهممنا المتطلعة ، .. هل لها في ثواب رفيع، وفِي زكاة خالدة، ؟!تصنع لها السعادة، وتكسبها الثناء الأدوم ، والثواب الأبقى ..!
• ليس ثمة دينٌ ولا منهج ولا عقيدة، حضت على الإحسانِ كشريعتنا الغراء، بل وجعلت ذلك من مفاتيح الجنة ، ومن روائع الخصال .{وأحسنْ كما أحسن الله إليك} [سورة القصص].
• ونستطيع أن نفيدَ من هذه السيرة المعطاءة ، بِما يسمى " التطوع الوظيفي " أو " الخدمة الاجتماعية "، بحيث يكون لكل موظف وكل مسلم بنّاء، جانبٌ تطوعي في حياته، سواء كان ماليًا ، أو مهنيا، بالاستغراق النفعي المُجدي للناس وللعامل..! ونعتقد أن "الجودَ الصحي" الذي بذله الدكتور مشالي، سبَّب إحراجًا كبيرا لنا، ووضع جماهير الأطباء ، -وهم خلاصة العالم في الخدمة الصحية - في مأزق نفسي، لا سيما من حولوا الطب إلى "مسلاخ مالي" بلا رحمة ولا هوادة...! ونعتقد أيضًا أن رسالة العطاء بلغت وأرهقت ، والله المستعان .
• ومن كلماته الخالدة، النابضة بالضمير الحي : أن الطبَّ مهنةٌ إنسانية ، وليس للتجارة ..!
• وبعد كتابة المقال، ورؤية بعض مقاطعه اليوتيوبية ، وثناء الناس عليه ندمتُ في المقال أنني قيدت ما قيدت ، ورأيت أمامي رجلا عظيما ، تعجز الأقلام عن وصف مجهوده ..! - ولكن هي المصلحة الراجحة دائما بزعمنا-ومن المؤسف أننا عرفناه قريبًا ، وقُبيل وفاتهِ بسنة تقريبًا ، فهو منقبضٌ اجتماعيًا ، ويكره الأضواء وامتداداتها ، ولأنك تأسى على إعلام، أضاعَ بوصلتَه، وتجاهلَ مستودعَ الفضائل ...! ولا حول ولا قوة إلا بالله ...!
- التصنيف:
- المصدر: