فتمثل لها بشرا سويا
في زمن اغتراب القيم والفضيلة - إلا من رحم الله - تُحدِق الفتنة بالناشئة ليلَ نهارَ، بل ممن يفوقهم سنًّا وتجرِبة في هذه الحياة مَن أحاطت به الفتنة وحاقت به..
في زمن اغتراب القيم والفضيلة - إلا من رحم الله - تُحدِق الفتنة بالناشئة ليلَ نهارَ، بل ممن يفوقهم سنًّا وتجرِبة في هذه الحياة مَن أحاطت به الفتنة وحاقت به، حتى أوبقته والعياذ بالله؛ وفي الحديث الشريف: ((ثلاثةٌ لا ينظر الله إليهم يوم القيامة، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم - وذكر منهم - أُشَيْمِطُ زانٍ))[1].
سيما مع تكاثُرِ دواعيها، وتوافُرِ سُبُلِها في متناول اليد؛ ليُفهم قول الله تعالى: {لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ} [المائدة: 94]، وما المسلم في حياته الدنيا التي تعُجُّ بالفتن من الشُّبُهات والشهوات، إلا كالمحرم القاصد حج البيت الحرام، ثمة محظوراتٌ عليه اجتنابها، وإلا نقص من قصده الشريف ذلك أو بطل بالكلية.
فلا جدال؛ والجدال آلته الفكر، وهكذا شأن المسلم في دنياه، عليه حفظ دينه وإيمانه من موارد الشبهات التي قد تُرْدِيه وتُوبِقُه، وليتذكر كل آن غضبَ رسول الله صلى الله عليـه وسلم حين رأى مع عمر رضي الله عنه صحيفةً فيها شيء من التوراة فقال: «أو في شك أنت يا ابن الخطاب؟ ألم آتِ بها بيضاء نقيةً؟ لو كان أخي موسى حيًّا ما وسعه إلا اتباعي» [2].
ولا رَفَثَ؛ والرَّفَثُ تلبيةٌ لنداء فِطْرِيٍّ مباح، فهذا الشأن عندما تُعرَض له فتن الشهوات ودواعيها، وقد أتت الشريعة الغرَّاء العَصْماء بسدِّ جميع الذرائع الموصلة إلى تلك الكبيرة الموبقة.
إن كان المسلم لا يخلو في الحياة من قَصْدِ رضوان ربه تعالى في كل شأن وعمل، فهو في حج دائم سائر الحياة حتى يلقى الله تعالى، كما أنه في صوم دائم عن تلكم المحظورات حتى يلقى الله عز وجل أيضًا؛ وللصائم فرحتان...
إنها مفاهيم عميقة يفيدها المسلم من مدرستي الصوم والحج العظيميين.
وإن رأس الأمر مخافة الله وتقواه عز وجل.
لقد كان الباعث لي على تحرير هذه الأسطر كثرةَ ما يَرِدُ من رسائلَ بشأن ضعف الإنسان أمام الطبيعة البشرية التي جُبِلَ عليها، لا سيما مع كثرة المغريات والفتن.
فيُقال ردًّا: لكأنما يبرر الإنسان لنفسه ما يريد تعاطيه وارتكابه من المآثم التي لا تخلو من مغارمَ تناله في الدنيا، أو في الآخرة كعقوبة مؤجلة، والعياذ بالله.
لَلَّهُ أكرم وأعدل من أن يترك عباده - على حالة الضعف تلك - دون توجيه وعون وتسديد، ودون أسباب ناجعة تحصل بها الوقاية ابتداء[3].
إذًا ما الفائدة من تلاوة القرآن، دون تدبر وتفكر يزداد بهما الإيمان والتقوى، وخشية علام الغيوب سبحانه؛ قال ربنا: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ} [ق: 31 - 33].
وإنما تلكم الفتن أبوابُ ذرائعَ مُنْسَدَّةٌ بسدِّ الشارع الحكيم لها، وتحذيره المسلم منها، فيجيء المفتون فيفتحها على نفسه، فيُضلُّ ويَضلُّ ويتردى في كثير من الأمثلة، خلا من أدركته رحمة الله بأوبَةِ صدق قبل الممات.
قال صلى الله عليه وسـلم: «ضرب الله تعالى مثلًا صراطًا مستقيمًا، وعلى جَنَبَتِي الصراط سوران، فيهما أبواب مفتحة، وعلى الأبواب سُتُورٌ مُرخاة، وعلى باب الصراط داعٍ يقول: يا أيها الناس، ادخلوا الصراط جميعًا ولا تتعوَّجوا، وداعٍ يدعو من فوق الصراط، فإذا أراد الإنسان أن يفتح شيئًا من تلك الأبواب، قال: ويحك لا تفتحه، فإنك إن تفتحه تَلِجْهُ، فالصراط الإسلام، والسوران حدود الله، والأبواب المُفتَّحةُ محارمُ الله تعالى، وذلك الداعي على رأس الصراط كتاب الله، والداعي من فوق واعظ الله في قلب كل مسلم» [4].
♦ العفة خلق إسلامي أصيل:
حينما نتأمل كتاب الله تعالى، نجد خُلُقَ العفة في أبهى وأجمل صوره كسِمَةٍ من أخص سمات وصفات أولياء الله الخُلَّصِ: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [ص: 82، 83].
ولما كانت مريم عليها السلام - تلك الصديقة القانتة العابدة - في محراب عبوديتها مُتَنَسِّكةً متخشعةً متوجهةً للأحد الصمد سبحانه، إذ بذلكم المَلَكِ المتمثل بشرًا سويًّا، وليس مجرد بشر فحسب، وإنما كان من الخلقة السَّوِيَّةِ اللافتة في جمال الهيئة والمظهر الذي قد يستهوي المرأة، فكيف كانت ردة فعل العابدة القانتة؟ بكلمة مباشرة نطقت بها تدليلًا على خُلُقِ امرأة عفيفة، بل بلغت من العفة غايتها: {قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا} [مريم: 18].
وحيث كان المتمثل في صورة بشر، في أكمل وأعلى درجات النزاهة والرفعة والمثال الخلقي الكريم - كونه مَلَكًا كريمًا - لم يَزِدِ التعبير القرآني على أنه تمثل لها بشرًا سويًّا، في حين أن التصوير القرآني لمشهدٍ مشابهٍ؛ أفصح عن إقدام وجرأة ومكر وكيد من بشر حقيقي مطبوع على جِبَلَّتِهِ الفطرية منذ خُلِقَ؛ تلكم امرأة العزيز.
♦ بين قصتين:
يقول الشيخ متولي الشعراوي رحمه الله في تفسيره لقوله تعالى: {فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا} [مريم: 17]: "أولًا للإيناس؛ فأتى في صورة بشر، وثانيًا: ليُثبتَ أن مريم عليها السلام عفيفةً عفيفةً عفيفة؛ بدلالة أنها حال رؤيتها البشر السوي - الجميل الوسيم - قالت مباشرة: أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيًا، فلم تتكثَّر من الحديث معه، ولم تركن إلى هيئته التي تُعجَب لها المرأة غالبًا"[5].
أما في قصة يوسف عليه السلام مع امرأة العزيز؛ فنتأمل العبارة القرآنية: {الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا} [يوسف: 23]؛ "فإن عدم مَيْلِهِ إليها مع دوام مشاهدته لمحاسنها، واستعصاءه عليها مع كونه تحت مُلْكِها - ينادي بكونه عليه السلام في أعلى معارج العفة والنزاهة"[6].
فالعبارة القرآنية توحي بواقع الفتنة الشديدة التي كان يتعرض لها نبي الله يوسف عليه السلام كل حين، وتلكم المشاهد والرؤية المتكررة كل آن، فكان الاستعصام بالله واللَّجَأُ إليه سبحانه هو المنجاة والفلاح.
وهذا الذي ينبغي أن يكون عليه المسلم الحق...
فالتذرُّعُ بالأسباب المحرمة، والتماس المعاذير، واختلاق الأعذار - ليس من أخلاق المؤمنين الصادقين، وإنما التزام المنهج الرباني في كَبْحِ نفسٍ جَمُوحٍ، هو الذي يضمن لتلكم النفس الطمأنينة والسكينة والراحة، وطيب العَيْشِ والحياة، وهذه أعز مقومات الصحة النفسية والبدنية على السواء.
♦ الشفاء القرآني والنبوي:
أولًا: غض البصر وعفة الحواس؛ سواء أكانت المواقف مباشرة، أم كانت مشاهد مرئية بمختلف السبل والوسائل الحديثة؛ قال تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} [النور: 30، 31].
ثانيًا: لزوم الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم ووساوسه وخطراته، ومن الفتن ما ظهر منها وما بطن، فالاستعاذة بالله تعالى لها شأن عظيم في نقل العبد إلى ملاذات الأمن والأمان نفسيًّا وفكريًّا وجسديًّا، وصَرْفِه عما يشينه.
وإذا تأملنا حال الصديقة البَتُولِ عليها السلام، نجد أول ما نطقت به الاستعاذة، وكذلك نبي الله يوسف الصديق عليه السلام؛ قال تعالى فيما حكى عنهما: {قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ} [مريم: 18]، {قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ} [يوسف: 23].
ثالثًا: عدم التعرض لمظانِّ الفتنة فضلًا عن أماكن تحققها كالأسواق مثلًا؛ قال صلى الله عليه وسلم: «لا تكونن - إن استطعت - أوَّلَ من يدخل السوق ولا آخر من يخرج منها؛ فإنها معركة الشيطان، وبها ينصب رايته» [7].
رابعًا: دعاء الله تعالى واللجوء إليه عند اشتداد الفتنة؛ فقد حكى الله تعالى حال يوسف عليه السلام حين كان ابتلاؤه بامرأة واحدة؛ فقال: {مَعَاذَ اللَّهِ} [يوسف: 23]، فلما اشتدت الفتنة وتكاثر أفرادها، استمسك بالدعاء: {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ * فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [يوسف: 33، 34] فأجابه السميع العليم سبحانه، فعصمه، ومن سأل الله صادقًا أجابه.
خامسًا: تقوى الله عز وجل ومراقبته في جميع الأحوال، واستشعار سمعه وبصره تعالى، فذاك أجدر أن يجعل المسلم يستحيي من ربه سبحانه؛ قال تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الحديد: 4]؛ يقول الطبري في تفسيره للآية الكريمة: "يقول: وهو شاهد لكم أيها الناس أينما كنتم يعلمكم، ويعلم أعمالكم، ومتقلبكم ومثواكم، وهو على عرشه فوق سماواته السبع"[8].
سادسًا: التوجيه النبوي بالصوم لمن لا استطاعة له على الباءةِ، ليتسامى العبد بقِيَمٍ أعلى ومبدأ أرفع وأسمى؛ فينتقل من مجرد التداوي الوقائي بالصوم، إلى الدخول في زُمْرَةِ عباد الله المتقين، فيُحرز فضائل الصيام[9]، زيادةً على مجرد تهذيب النفس، وكفِّها عن التردي في أوحال الفتنة الموبقة.
سابعًا: اصطبار النفس مع رفقة الصلاح؛ قال تعالى موجهًا نبيه الكريم عليه السلام: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف: 28].
ثامنًا: تزكية النفس باصطبارها على حظٍّ دائم من العبودية؛ كالمحافظة على ركعتين من جوف الليل أو السَّحَرِ، ومعلوم أن نافلة الليل أفضل النوافل بعد المكتوبة؛ فيستعين العبد بربه تعالى، ويبثُّهُ شكواه، ويتذلل بين يديه عز وجل، مُظهِرًا فاقَتَهُ وفقره لمولاه، سائلًا إياه أن يثبته على دينه ويعصمه من لَأْواءِ دنياه، فلَلَّهُ أكرم من أن يَرُدَّ عبدًا دعاه بصدق؛ يقول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: "من أسباب الوقاية من الفتن صلاة الليل"[10].
تاسعًا: إشغال النفس بما يفيد ويُدَّخر ليوم المعاد؛ فمن تيقن لقاء الله تعالى، استُنهضت همته واشتعل فتيله، فتعظيم الله والاستعداد للقائه أعظمُ بواعث ودوافع إحسان العمل؛ قال صلى الله عليه وسـلم: «من أحب لقاء الله، أحب الله لقاءه، ومن كرِهَ لقاء الله، كره الله لقاءه، والموت قبل لقاء الله» [11].
عاشرًا: دوام ذكر الله على كل حال باللسان والقلب، والعمل والحال[12]؛ فذلك مطردة للشيطان والأفكار الرديئة التي لا تحسن بالمسلم، وكلما اقترب المرء من ربه عز وجل، كان حظ الشيطان منه أقل، فتتحقق له المعية الخاصة التي تحصل له بها الحِياطة والحماية والمَنعة؛ قال صلى الله عليـه وسلم فيما يروي عن ربه تبارك وتعالى: «يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني...» "[13].
ختامًا؛ يقول شاعر:
الدين رأس المال فاستمسك به *** فضياعه من أعظم الخسرانِ
نسأل الله حسن العاقبة والثبات على ما يُرضيه.
[1] صححهُ الألباني.
[2] حسَّنهُ الألباني.
[3] نعم قدَّرَ الله تعالى تلكَ الفِطْرة – وهو الحكيم الخبير - فتنةً للناس وابتلاءً وتمحيصًا، وليتمايز التقيُّ الصادق الذي يخشى ربَّهُ بالغيب من غيرِهِ، وإلا لَما كان للأمر والنهي وجه إن تذرَّع المسلم بتلك الأسباب والوسائل المحرمة.
[4] إسنادُهُ صحيح.
[5] بتصرف يسير.
[6] ليدَّبَّروا آياته؛ "تدبرات في قصة المراودة"، ص: 306.
[7] رواهُ مسلم.
[8] تفسير الطبري.
[9] من مُباعدَة وجهه عن النار سبعين خريفًا، وصَبُّ الأجور والحَسَنَاتِ صَبًّا، وتحقيق التقوى والقُرب من الله عز وجل، وغير ذلك من فضائل الصوم.
[10] شرح صحيح البخاري.
[11] رواهُ مسلم.
[12] من عبارة ابن القيم في الأسباب العشرة الجالبة لمحبةِ الله.
[13] صحيح البخاري.
______________________________________________
الكاتب: مريم بنت حسن تيجاني
- التصنيف:
- المصدر: