سماحة الدين ويسره
إن النعمة علينا أُمّة الإسلام بالهداية إلى هذا الدين العظيم والصراط المستقيم والملة الحنيفية السمحة مِنَّة عظيمة ونعمة جسيمة يجب علينا - عباد الله - أن نرعى لها حقَّها وأن نحققَ شكرها.
إن النعمة علينا أُمّة الإسلام بالهداية إلى هذا الدين العظيم والصراط المستقيم والملة الحنيفية السمحة مِنَّة عظيمة ونعمة جسيمة يجب علينا - عباد الله - أن نرعى لها حقَّها وأن نحققَ شكرها.
عباد الله:
إن هذا الدين الإسلامي الحنيف الذي هدانا الله إليه، ومَنَّ علينا به دين السماحة واليسر، لا عسر فيه ولا تعسير، ولا عنت فيه ولا مشقة؛ {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة : 128].
دين لا حرج فيه ولا مشقة، ولا شدّة فيه ولا تعسير، وتأملوا - رعاكم الله - نبي الرحمة، وإمام الأمة - صلوات الله وسلامه عليه - وهو يبين للأمة يُسْرَ الدين وسماحته، ويبيِّن الحال التي ينبغي أن يكونَ عليها أهلُ الدِّين مع الدِّين، ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الدين يسرٌ، ولن يُشاد الدِّين أحدٌ إلا غلبه؛ فسددوا وقاربوا وأبشروا واستعينوا بالغَدْوة والرَّوَحَة، وشيء من الدلجة»؛ روى الحديث البخاري، ومسلم، وفي لفظ آخر للحديث: «والقصدَ القصدَ تبلغوا».
عباد الله:
إن هذا الحديث العظيم المبارك أرسى قاعدة من قواعد الدين العظيمة وكُليَّة من كلياته المتينة، ألا وهي سماحة الدين ويسره، إنّ هذا الدين يُسْر، نعم - عباد الله - ديننا يسر في شؤونه كلها، وفي أموره جميعها، عقائده أصح العقائد وأقومُها، وعباداته وأعماله أحسن الأعمال وأعدلها، وأخلاقه وآدابه أزكى الآداب وأتَمَّها وأكملها، دين مُتمم في عقائده وعباداته وآدابه وأخلاقه ومعاملاته، فوجب على أهله أن يعرفوا دينهم معرفة صحيحة، وأن يستمسكوا به استمساكًا تامًّا، فهو دين قويم وصراط مستقيم وهدي قاصد، لا وكس فيه ولا شطط.
عباد الله:
إن الحال التي ينبغي أن يكون عليها أهل الدين مع الدين جاءت مبينة في هذا الحديث.
أما أولاً: عباد الله، فإنّ ديننا الميسر ينهى المؤمنين - عباد الله - عن التشدُّد والمغالاة والرّعونة، ولهذا يقول - عليه الصلاة والسلام -: «لن يشاد الدين أحد إلا غلبه»، فحذَّر من المشادة أشد التحذير، ونهى عنها أشدَّ النهي، والمشادّة - عباد الله - تكون بالمغالاة في هذا الدين، ومجاوزة حدوده وعدم ارتضائه والقناعة بأحكامه، وأوامره ونواهيه، فالمتشدِّد المغالي لا يقف عند حدود الشريعة، ولا يتقيَّد بضوابطها، ولا يرعى آدابها وأحكامها، وإنما تكون معاملته بناءً على ما تمليه عليه شدّته ورعُونته، ثمَّ يقع الفساد والانحراف والزلل، ولن يشاد الدينَ أحدٌ إلا غلبه؛ لأن الدين له العلو وله الرِّفعة، وله الظهور وله التمكُّن، فمن شاد الدين غلبه الدّين، فرجع القهقرى، ولم يفز من شدته ورعونته إلا بالخسارة والحِرمان.
وثانيًا: عباد الله، يدعوا ديننا إلى السداد إن أمكن، وإلا فالمقاربة ويبشر - عليه الصلاة والسلام - من كان على هذا النهج بأعظم بشارة يقول - صلى الله عليه وسلم -: «وسددوا وقاربوا وأبشروا»، وتأملوا في هذه الكلمات الثلاث العظيمة: سددوا - عباد الله - أي جاهدوا أنفسكم على إصابة السداد، وموافقة الصواب وملازمة الحق، والتقيُّد بالهدي القويم دون زيادة أو نقصان فالسداد - عباد الله - إصابة الحق ولزومه والاستمساك به، فمن كان كذلك، فهو من أهل السداد وأهل القوام، سدِّدوا فإن لم يتمكن العبد من السداد، ولم يتيسر له بلوغه، فعليه بالمقاربة أن يجاهد نفسه على أن يكون مقاربًا للحق قريبًا منه، مجاهدًا نفسه على الاقتراب منه؛ {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت : 69] ولهؤلاء - عباد الله - أهل السداد وأهل المقاربة بشارة النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله وأبشروا، قال أبشروا - عليه الصلاة والسلام - ولم يذكر البشارة ما هي؛ لتتناول البشارة بكل خير عميم، وفضل عظيم، وعطاء جزيل في الدنيا والآخرة.
وثالثًا: عباد الله، مما وجّه إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث العظيم رعاية أوقات ثلاثة وهي الغدوة والروح وشيء من الدّلجة، قال «واستعينوا بالغدوة والروحة، وشيء من الدّلجة»، وهذه الأوقات الثلاثة - عباد الله - هي أنفس الأوقات، وأحسنها لقطع المسافات والفيافي، وقد كان الرحّالة أيام الإبل يعرفون لهذه الأوقات قدرها، ففيها الراحة للمطي، وراحة للإنسان نفسه في قطعه أسفاره في هذه الأوقات، وكما أنّ هذه الأوقات طيبة مباركة سمحة لقطع الأسفار الدنيوية، فإنها مباركة لنيل رضا الله والمسارعة في فِعْل الخيرات، فالغَدوة وهي أول النهار، والروحة وهي آخر النهار وقت لذكر الله - جل وعلا - بالعناية بأذكار طرفي النهار أوله وآخره، وأما الدّلجة، فأن يعتني المسلم بشيء من الوقت في ليله يمضيه في ذكر الله وعبادته وأداء الصلاة وتلاوة القرآن، ويترتب على ذلك من الأرباح شيءٌ عظيمٌ وفضل عميمٌ.
وأما الأمر الرابع في هذا الحديث - عباد الله - ففي قوله - صلى الله عليه وسلم - والقصدَ القصدَ تبلغوا، والقصد - عباد الله - هو الاقتصاد والتوسُّط والاعتدال والبُعد عن الغلو والجفاء، والإفراط والتفريط، والزيادة والتقصير.
والتوسط والاقتصاد - عباد الله - إنما يكون بلزوم العبد للسُّنَّة وتقيده بهدي النبي الكريم - عليه الصلاة والسلام - بلا غلو ولا جفاء، ولا إفراط ولا تفريط، وإنما هو توسُّط واعتدال؛ قال الله - جل وعلا -: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143]، وأسأل الله الكريم ربَّ العرش العظيم بأسمائه الحُسنى وصفاته العُلى أن يكتبنا من أهل التوسط والاعتدال، وأن يعيذنا من الغلو والجفاء، وأن يوفقنا للزوم السداد، وأن يهدينا إليه صراطًا مستقيمًا أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه يغفر لكم؛ إنه هو الغفور الرحيم.
عباد الله:
ومن أراد لنفسه السداد فعليه بأمرين لا بد منهما، وأصلين لا بد من تحقيقهما الأول - عباد الله - بَذْل الأسباب النافعة على وَفْق السُّنَّة، وهدي النبي الكريم - عليه الصلاة والسلام - والتي ينال بها السداد، ويوصل بها إلى الإصابة، والأمر الثاني - عباد الله - أن يكون من يريد لنفسه السداد مستعينًا بالله، معتمدًا عليه، متوكِّلاً عليه، سائلاً له وحدَه - سبحانه - أن يوفقه للسداد، وأن يعينه عليه، وقد جاء في صحيح مسلم أن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال يا رسول الله عَلِّمْنِي دعاء أدعو الله به، فقال: «قل اللهم إني أسألك الهدى والسّداد»، وفي رواية قال: «قل اللهم اهدني وسددني»، قال وذكر بالهداية هداية الطريق، وبالسداد سداد القوس؛ فعليكم بهذه الدعوة الجامعة والدعاء العظيم النافع، مع الاجتهاد في بذل الأسباب النافعة المقرِّبة إلى الله - جل وعلا - ونسأل الله لنا أجمعين أن يرزقنا الهداية والسداد، وأن يوفِّقنا لكلِّ خيرٍ يحبُّه ويرضاه؛ إنه سميع الدعاء، وهو أهل الرجاء، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وصلوا وسلموا - رعاكم الله - على محمد بن عبدالله كما أمركم الله بذلك، فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب : 56]، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «مَن صلى عليَّ واحدة، صلى الله عليه بها عشرًا»، اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم؛ إنك حميد مجيد، وبارك على محمد على آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم؛ إنك حميد مجيد، وارضَ اللهم عن الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين؛ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وارضَ اللهم عن الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تَبِعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بمنِّك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
- التصنيف: