سوء الظن وخطره على الفرد والمجتمع
إن حسن الظن في الإنسان، إن دل فإنما يدل على سلامة صدره، وحسن سريرته، والعكس بالعكس، «إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه، ومن كان جميلًا رأى الوجود جميلًا».
معاشر المسلمين، والمسلمات، مما لا يخفى عليكم أن خصال الخير والشر في الناس مفرقة، وأن بعضها أهونُ من بعض، وما جمعت في أحد هذه الخصال المفرقة.
وحديثنا - بإذن الله - عن خلقٍ ذميم، وخصلةٍ منكرة، ابتُلي بها كثير من الناس، وخاصة في هذا الزمان، من خلالها فقدوا إخوانهم، وخلانهم، وأقاربهم، بل فقدوا لذة الحياة، ومتعتها.
فيا ترى ما هو هذا الخلق الذميم الذي هو موضوع حديثنا في هذا اليوم العظيم؟! إنه سوء الظن بالآخرين، إنه سوء الظن الذي انتشر في أوساط الصالحين، قبل الطالحين، إنه سوء الظن الذي لطالما كان سببًا في قطع علاقةٍ أخوية، وخراب حياةٍ زوجية، سوء الظن الذي ما أبقى صاحبًا لصاحبه، ولا أخًا لأخيه، ولا زوجةً لزوجها، سوء الظن الذي كان سببًا في إراقة الدماء المحرمة، وإزهاقًا للأنفس البريئة المحترمة، سوء الظن الذي فكك أُسَرًا وخرب مدنًا ودولًا، وغرس الضغائن والأحقاد بين الأقارب، والعشائر، والأحفاد!
سوء الظن الذي حرمه الله من فوق سماواته بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} [الحجرات: 12].
وقال آمرًا ومؤدبًا عباده الذين ما أحسنوا الظن في حادثة الإفك: {لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ} [النور: 12].
معاشر المسلمين والمسلمات: ليس أسعد لقلب العبد في هذه الحياة، ولا أطيب لنفسه من حسن الظن بإخوانه، فبحسن الظن تقر العين، وتطيب النفس، وتبقى الأخوة، ويرتاح الجسد، ونسعد بكل من نلقاه، ونخالطه.
لهذا كان حريًّا بنا أن نطرق هذا الموضوع في يومنا هذا، وأن يكون حسن الظن على ألسنتنا، في مجامعنا، في مجتمعاتنا، وفي أسواقنا، وفي جميع شؤوننا.
ولقد اهتم نبينا الكريم اهتمامًا بالغًا بهذا الخلق العظيم، فعلمنا حبيبنا صلى الله عليه وسلم إحسان الظن بالآخرين، وعلمنا عدم التشكيك في ضمائرهم، والحكم عليهم من خلال ظواهرهم، وترك سرائرهم إلى خالقهم، فقد سئل: أي الناس أفضل؟ قال: «كل مخموم القلب، صدوق اللسان»، قيل: صدوق اللسان نعرفه، فما مخموم القلب؟ قال: «هو التقي، النقي، الذي لا إثم في قلبه، ولا بغي، ولا غل، ولا حسد».
ونهى أصحابه أن يبلِّغوه أخبارًا لا يحب أن يسمعها، فقال عليه الصلاة والسلام «لا يبلغني أحدٌ منكم عن أحدٍ من أصحابي شيئًا، فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر».
اللهم سلِّم صدورنا، وألسنتنا من أعراض المسلمين، يا رب العالمين!
وكان عليه الصلاة والسلام يقول: «إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث!»، وقال «يا معشر من آمن بلسانه، ولم يدخل الإيمان قلبه، لا تؤذوا عباد الله، ولا تعيِّروهم، ولا تطلبوا عوراتهم؛ فإن من طلب عورة أخيه طلب الله عورته حتى يفضحه، ولو في جوف بيته».
ونهى عليه الصلاة والسلام كل مسؤول أن يجعل سوء الظن أساس معاملته مع رعيته، فقال: «إن الأمير إذا ابتغى الريبة في الناس أفسدهم»؛ أي: لا يصلح لمن هو في عمله أن يعامل عماله على سوء الظن، فإنهم عند ذلك يفسدون، ويصبح كل واحدٍ منهم يسيء الظن بالآخر.
وليس هذا منعا لأخذ الحيطة، والحذر، وخاصة في من ظهرت منه قرائن السوء، وعلامات الخطر.
ولقد كان سلفنا الكرام رحمهم الله، ورضي الله عنهم من أروع من ضرب جميل الأمثلة في حسن الظن بالآخرين.
فهذا فاروق الأمة الأوَّاب عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: «لا يحل لا مرئٍ مسلمٍ سمع من أخيه كلمة يظن بها سوءًا، وهو يجد لها في شيءٍ من الخير مخرجًا»[1].
وقال أمير المؤمنين علي رضي الله عنه: «من علم من أخيه مروءة جميلة، فلا يسمعن فيه مقالات الرجال، ومن حسنت علانيته فنحن لسريرته أرجى»[2].
وقال بعضهم: «لا تظنن بكلمةٍ من أخيك سوءًا، وأنت تجد لها في الخير محملًا».
وقال المهلب رحمه الله: «قد أوجب الله تعالى أن يكون ظن المؤمن بالمؤمن حسنًا أبدًا، {لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ} [النور: 12]»[3].
ومن جميل ما يُذكر في هذا الباب: عن رجلٍ من أجواد العرب أن امرأته قالت له يومًا: «ما رأيت قومًا أشد لؤمًا من إخوانك، وأصحابك، قال: ولم؟ قالت: أراهم إذا اغتنيت لزموك، وإذا افتقرت تركوك، فقال لها: هذا - والله - من كريم أخلاقهم، يأتوننا في حال قدرتنا على إكرامهم، ويتركوننا في حال عجزنا عن القيام بواجبهم».
الله أكبر! ما أجمل وأحلى، وأرقى، وأنقى حسن الظن بالآخرين!
فانظروا كيف جعل قبيح فعلهم حسنًا، وظاهر غدرهم وفاءً، لماذا؟ لأن حسن الظن بالآخرين راحةٌ في الدنيا، وسلامة في الآخرة.
وكان الإمام الشافعي رحمه الله يقول: «من أحب أن يُختم له بخير فليحسن الظن بالناس، اللهم حسن خاتمتنا يا رب العالمين».
ويقول أبو هريرة رضي الله عنه: «حسن الظن من حسن العبادة».
وقال بشر الحافي رحمه الله: «من سره أن يَسْلم فليلزم الصمت، وحسن الظن بالخلق»، ويقول الإمام عليٌّ - الشهير بالمصري رحمه الله -: « إذا رأيتم واعظًا يدعو الناس إلى الخير، فإياكم أن تظنوا أنه لا يعمل بما يقول، بل ظنوا أنه متخلق بما دعاكم إليه».
قال بعضهم: «أحسنوا الظن بالمسلمين؛ فإنه بابٌ من أبواب الخير».
ودخل الربيع بن سليمان على الإمام الشافعي يعوده من مرضه، فكان من ضمن دعائه له أن قال له: « قوى الله ضعفك يا إمام، فقال الشافعي: يا ربيع، لو قوى ضعفي لقتلني - أي: لو قَوِيَ هذا المرض فلعله يكون سببًا لهلاكي، وموتي، فقال الربيع: والذي لا إله غيره ما قصدت ذلك يا إمام، فقال الشافعي: يا ربيع، والذي لا إله غيره لو شتمتني صُراحًا لعلمت، ولتيقنت أنك لم تقصد ذلك»[4].
يا للكلام! يا للروعة والجمال! نُهدي هذا الكلام لأولئك الذين يقفون على عبارة لها في الخير ألف محمل، وفي الشر محمل، ثم يحملونها على الشر.
هؤلاء سلف هذه الأمة، هكذا كانت أخلاقهم وعقولهم، وهكذا كانت حياتهم، حياةٌ مليئة بالصفاء والنقاء، حياةٌ مبنية على سعة الصدور، والتماس الأعذار.
قف وتأمل - بالله عليك - إلى حال كثيرٍ من الناس في هذا الزمان، ممن ابتلوا بهذا المرض الخطير الذي لا يجعل الإنسان يعيش مع أحدٍ أبدًا، يسيء الظن بأحبابه بأقاربه وجيرانه، بل حتى مع زوجته وأم أولاده، وشريكة حياته، يسيء الظن بالصالحين بالعلماء بالمسؤولين بكثيرٍ من المسلمين.
هكذا أصبح بعضهم، وكأنه ما خلق إلا لهذا.
تتكلم معه بكلمةٍ، وتقصد بها شيئًا، وهو يفهم منك قصدًا آخر، ويحملك ما لم تقصد، بل لا يخطر لك على بال، وهكذا تظل هذه الكلمة في نفسه، ربما سنوات، وكل يومٍ وهو يمتلئ عليك غلًّا وحقدًا، وربما قُطعت أرحام، ربما اشتعل فتيل الحرب في تلك القبيلة، وتوسعت المشكلة والقضية، والسبب كلمة، والسبب هو سوء الظن، تلقاه وتقول له: ما قصدت ذلك يا فلان، والله ما قصدت، ولا أردت، وتحلف له الأيمان المؤكدة لتزيل ما في نفسه، وما نتج من سوء فَهمِه وظنه، ولكن أعوذ بالله من خبث بعض الناس، وسوء مقصدهم! نعوذ بالله من أصحاب القلوب المريضة الذين أصبح سوء الظن من طبعهم، ولا ينفك عنهم في حياتهم!
كثير من الحروب التي تنشأ بين الناس والقبائل، لو تأملنا في بدايتها، لوجدنا منشأ ذلك، هو سوء الظن، الذي أشعلها، وأججها.
يحصل لبعض الناس في بيته شيء من سرقة، أو أذية، أو غير ذلك، فيسيء الظن بجاره، أو بأحد أقاربه، لماذا يا فلان؟ قال: لأنه هو الذي يعرفني، ويعرف أسرار بيتي، ويعرف مدخلي ومخرجي! إلى غير ذلك من الشكوك والتوهمات.
تخرج زوجته من بيته إلى جارتها بدون إذنه - مثلًا - فيسيء الظن بها وبأهل جارتها، بأنهم كذا، ويفعلون كذا، وصفتهم كذا، وكذا، أو جاءها اتصال عشوائي، كما يحصل أحيانًا من بعض السفهاء الذين يشغلون الناس، ويؤذونهم في أعراضهم؛ فيتهمها بأن معها أصحابًا وعلاقات، ورسائل وتواصلات، وقد يكون سيئ الظن هذا في بلد الغربة، ويظل في همٍّ وقلق وريبة، وهو في غربته، وكل ذلك منشؤه سوء الظن بأهله وزوجته.
كم من امرأة تعيش في قهر وظلم مع زوجها، بسبب كثرة اتهامه لها، لا كثَّر الله الرجال من هؤلاء!
وبالمقابل بعض النساء كذلك، تعيش هذا المرض مع زوجها، تتهمه في شرفه وتسيء الظن به في كثير من أمور حياته، وكل مرة وهي تنقب عن أخباره، وتقلب رسائله في جواله، وتراقبه في مدخله ومخرجه، عافانا الله وإياكم، ونساءَنا ونساءكم، من هذا المرض الخطير!
كم - والله - هي البيوت التي دُمِّرت، والنساء اللاتي طُلقت بسبب الظنون السيئة، نسأل الله السلامة والعافية، وأن يجنبنا وإياكم الظنون السيئة!
أيها المسلمون عباد الله، إن حسن الظن في الإنسان، إن دل فإنما يدل على سلامة صدره، وحسن سريرته، والعكس بالعكس، وعلى حد قول المتنبي:
«إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه، ومن كان جميلًا رأى الوجود جميلًا».
يقول ابن حجر الهيتمي رحمه الله كما في كتابه الزواجر: «وكل من رأيته سيىء الظن بالناس، طالبًا لإظهار معايبهم، فاعلم أن ذلك لخبث باطنه، وسوء طويته»[5].
نعم، إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه، وما فيك أيها الإنسان يظهر على فيك!
فما أحرانا أن نُحسن الظن بإخواننا، ما أحرانا أن نحسن الظن بمن تقع عليهم أعيننا، كلما رأينا شخصًا نقول في أنفسنا: لعله خيرٌ منا! كم من رجل، أو شاب متلبسٍ بمعصية، إما بشرب الدخان - والعياذ بالله - أو بلبس بنطال يحجم عورته، تظن أنه قد هلك بذلك، أو أن ذلك يعبر عن فساد قلبه، وسوء قصده، فإياك إياك أن تظن ذلك، ربما بينه وبين الله أعمالٌ لا تطيقها، ولا تفعلها أنت، ولا أمثالك أيها الصائم القائم، وليس هذا إقرارًا للمعاصي وتقديسًا للباطن، وإهمالًا للظاهر، ولا ارتضاءً لما يقوله بعضهم: أهم شيء القلب، أو إن الله لا ينظر إلى صوركم...إلى غير ذلك مما يقوله بعضهم في تبرير أخطائهم، لا ولكن العبرة كل العبرة بما بين الإنسان وبين خالقه، فكم من إنسان ليس عليه ملامح الخير والاستقامة، تنظر إليه نظرة ازدراء واحتقار، وربما هو بارٌّ بوالديه أحسن منك، أو عنده من التوكل واليقين، والحب لله ما ليس عندك، ولعل سوء مظهره ذلك هو بسبب رفقته، وبيئته التي يعيش فيها، والأمثال في هذا كثيرٌ منا يعرفها.
وينبغي أن يُعلم أننا لا نقصد من كلامنا عن حسن الظن إغلاق لباب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، فكلما رأينا خطأً أو منكرًا، قلنا: ربما قصد كذا، ولعله أراد كذا.
كذلك لا يُقصد من ورائه التبرير والاعتذار لمن وضع نفسه في موضع التُّهم ويطلب من الآخرين إحسان الظن به، لا هذا، ولا ذاك، فقد جاءت الشريعة بالابتعاد عن الشبه، ومواطن الريبة والتهمة، والمحافظة على السمعة الطيبة، فكثيرًا ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه»[6].
وغاية المقصود أن نقول: لأن نخطئ في حسن الظن بالآخرين، أهون من خطئنا في إساءة الظن بإخواننا المسلمين، ولأن يسألنا ربنا عن المبالغة في حسن الظن بالمسلمين أهون من أن يسألنا عن الطعن في نيات الآخرين.
فيا أحباب المصطفى صلى الله عليه وسلم، لنسعد بدنيانا، لنعش حياتنا ولنرحم أجسادنا، بحسن ظننا بإخواننا، أحسن الظن - يا عبد الله - بأقاربك، بجيرانك، بإخوانك، بالمسلمين أجمعين، التمس لهم الأعذار ما استطعت، إن لم تجد، قل: لعل لهم عذرًا لا أعرفه، ولم أطَّلع عليه، يتصل بك أخ لك، ويقول: إنه سينتظرك في مكان كذا، أو سيضع لك مالًا عند فلان، لكنك ذهبت وما وجدت شيئًا، فقبل أن تبادر بالسب والاتهام، وقبل أن تسبح في الظنون والأوهام، قل: لعله تأخر وسيأتي، لعله حصل له شيءٌ أو نسي، لعله شُغِلَ، لعله ولعله.
ابحث له عن عذر ما استطعت، لعله مات، كل هذا - والله - خير لك من إساءة الظن بإخوانك المسلمين!
الرجل في بيته يتصل بزوجته لأمر ما، فما ردت عليه، قل: لعلها ما سمعت، أو أنها في مطبخها، وجوالها في غرفتها، أو أنها تصلي، أو أنها نائمة، أو أنها تقضي حاجتها، أهم شيءٍ لا تسيء الظن بها، مررت على شخص، وسلمت عليه بصوت عال وبصوت واضح، وما رد عليك، لا تتهمه بالجفاء أو الكبر، أو أن في نفسه شيء عليك، فربما في باله أمر، أو مشكلة، أشغلته عن رد السلام، أو لعله ضعيف السمع أو، أو...إلى غير ذلك، ولن تعدم المخرج إذا سلمت نيتك وصفا قلبك.
استدان منك شخص مالًا على أن يؤديه لك في يوم كذا، لكنه ما فعل، وما وفَّى بما وعد، قل لعله نسي، لعله ما وجد فاستحيى مني، ومن الاعتذار لي، لعله حصل له مرض، أو عرض له عرض، إلى غير ذلك، وجدت شابًّا يمشي مع فتاة، فجاءك الشيطان، فقل لعلها أخته، أو ابنة أخته، أو إحدى قريباته، ممن يحل له الاختلاء بها، والمشي معها، غاب عن المسجد شخص معروف، ثم فقدته، قل: لعله سافر، لعله مرض، لعله يصلي في مكان آخر، وغير ذلك من الأعذار التي يعرفها الأنقياء الأخيار.
بلغكِ - أيتها المرأة - أن امرأة تكلمت مع زوجكِ، أو اتصلت به أكثر من مرة، قولي لعلها جاءت تشتكي له من زوجها، أو أنها تسأل عن مسألةٍ شرعية في أمر دينها، إلى غير ذلك.
رأيت أيها الجار مع جارك سيارة، أو رأيته يبني له عمارة، أو أنه اشترى شيئًا له قيمة ومكانة، ووظيفته لا تسمح له بشرائها، قبل أن تقول من أين؟ من أين له، وأنا أعرف حالته، ومستوى وظيفته؟! إلى غير ذلك مما نسمعه في هذه الأيام، انتبه! واحذر، وإياك من الظنون السيئة؛ فلربما معه عمل آخر ولا تعرفه، أو باع شيئًا، أو ورث عن أبيه أرضًا، أو جاء إنسان ودفع له كل زكاة ماله، بسبب حاجته إلى غير ذلك من الأعذار.
ذهبت إلى صاحب تجارة، أو صاحب أموال أو شركة، وعرضت له كفالة ليتيم، أو دفع حالة مسكين، لكنه ما استجاب لك، وما تفاعل معك، فقبل أن تتهمه بالبخل والشح، قل: لعله ينفق لجهة أخرى، أو ربما غيري كثير ممن جاء يسأل سؤالي، فأسهَم وبذل لهم ولم يبذل لي، وليس شرطًا أن يلبي دعوتي أو دعوة من يسأل كسؤالي.
بلغك عن أحد الصالحين أنه طلق زوجته، ثم تزوج أخرى وطلَّقها، أو إحدى النساء طلبت الخلع من زوجها، فإياك أن تبادر بالاتهام والافتراء، بأن فلانًا مطلاق للنساء، أو غير ذلك مما يسمع في هذه الأيام، فحذارِ ثم حذارِ أيها الأخيار، فالبيوت كما يقال أسرار.
أيها الإخوة والأخوات، أحسنوا الظن فيما بينكم ولتدم أُخوتكم، ولتستمر صحبتكم، ومحبتكم، كلٌّ يحسن الظن بالآخر، إن بلغه عنه ما يكره، أو رأى منه ما يسوء، فليحسن الظن به، إن طلبت أيها الصاحب من صاحبك شيئًا فردك، واعتذر إليك، فاقبل اعتذاره وصَدِّقه، ولا تتهمه، لا تتهمه بالبخل أو الجبن، ونحو ذلك.
إن أمِنت فلانًا على سرك، فأبداه للناس وأفشاه، فأحسن الظن به، قل: لعله مع الأيام نسي أنه سرٌّ، وأنني لا أحب أن يطلع عليه أحد، إلى غير ذلك، اتصلت به وكررت اتصالك، ولم يرد عليك، قل: لعل جواله صامت، أو عاطل، لعله يصلي، لعله، لعله، لعل مصيبةً نزلت به...
وهكذا بظنك الجميل، وحسن سريرتك ستجد له مخرجًا وعذرًا، بل لعلك ستحزن له، وتخاف عليه، بعدم رده على اتصالك بعد أن كنت ستغضب لو أسأت الظن به، بأنه لا يبالي بك ولا بمشاعرك.
أيها الأزواج، والزوجات، الله الله بحسن الظن فيما بينكم، فأنتم أولى بحسن الظن من غيركم، وأنتم أحق من يجَسِّد هذه الأخلاق في واقعكم.
أيتها الزوجات، أيتها الضرائر المباركات، ارحمن أنفسكن، ولا تُسئن الظن ببعضكن، وارفقن بأزواجكنَّ؛ ليكون ذلك عونًا له على أداء حقوقكن، والعدل بينكن.
أيها الجيران، الله الله بحق الجوار، إن حصل بينكم أو بين أولادكم، أو نسائكم شيء، فلا تهدموا جوار السنوات الذي كان بينكم، فكم هي الخصومات، والمشاحنات التي بين الجيران، وسببها ربما كلمة أو نظرة غير مقصودة، إلى غير ذلك.
يا طلاب العلم، ويا حملة الشريعة، ويا أصحاب الجماعات الدعوية، والأحزاب الإسلامية، ويا أصحاب العقيدة الصحيحة، كلكم ينهل من معين واحد، وكلكم يَصُب في مصب واحد، وكلكم يحمل دينًا واحدًا، ويعبد ربًّا واحدًا، فالله الله في حسن الظن فيما بينكم.
ثم نقول في الختام، وأهم ما يكون من بدء كلامك لئن كان حسن الظن في الآخرين واجبًا، فهو في العلماء والأمراء والدعاة آكد وأشد وجوبًا، فالعلماء لحومهم مسمومة، وسنة الله في منتقصيهم معلومة، والطعن فيهم ليس كالطعن في غيرهم.
حذرًا ثم حذرًا، ثم حذارِ من الطعن في العلماء، واتهامهم بما نسمع في هذا الزمان وهذه الأيام؛ فالعلماء ورثة الأنبياء، والطعن فيهم طعن في الشريعة والعلم الذي يحملونه!
ولسنا نقصد من هذا الكلام هو تبرئتهم، وادعاءَ عصمتهم، لكن القصد هو حفظ اللسان عن ذكرهم بالنقص، أو التقصير، أو السب، والتحقير، لكن القصد أن تعلم أن العالم يعلم أكثر مما تعلم، ويدرك ما لا تدرك، فإذا رأيت العالم - مثلًا - يُفتي بتحريم شيء، ثم بعد زمنٍ رأيت له فتوى بتحليل ما قد كان أفتى بتحريمه، فإياك أن تتهمه بالهوى أو التلون، ولكن قل: لعله عثر على دليل أقوى من دليله الأول الذي بنى عليه فتواه، أو أن الزمن تغير، فرأى بتغيير فتواه، كما هو شأن العلماء الحكماء في تعاملهم مع المستجدات التي تحصل لهم، ولسنا بصدد عرض الأمثلة على ذلك؛ فالفتوى قد تتغير باختلاف زمانها ومكانها وأشخاصها، خاصة إذا لم يكن ثمَّ دليلٌ فيها، وهكذا إذا استنكرت منه شيئًا يتعلق بالسلطان - مثلًا - فإياك أن تبادر بتلك الكلمة الآثمة، وتقول: علماء سلطان، أو سلطة، أو مصالح، أو مصلحة، فهذه كلمة قد يخرص الله بها لسانك، فالعالم له نظرة تختلف عن نظرتك، ويرى ما لم ترَ، ويدرك ما لا تدرك، ويعلم ما لا تعلم، وقد عرف الله قبل أن تعرفه، وهو أدرى بما يجيب الله به.
ولو فرضنا أنه أخطأ يومًا، أو قدم مصلحته، أو خاف على نفسه في أمر ما، فهل من العدل والإنصاف أن نهضمه حقَّه، وننتقص من قدره، ونستبيح عرضه بسبب هذا الموقف، وقد كنا نحبه ونحترمه، ونعظِّمه؟!
من ذا الذي ما ساء قط ** ومن له الحسنى فقط
أوافقك، وأتفق معك أن خطأ العالم وزلته، ليس كخطأ غيره وزلته، فكما أن نفعه يعم، فكذلك خطؤه يعم ويطم، لكن لابد من الرحمة، لابد من العدل والإنصاف، وأنه ما زال بشرًا، يحصل منه الخير، ويحصل الخطأ والضير؛ ونسأل الله أن يوفقنا لكل خير.
ثم تمام الكلام، ومسك الختام، وما ينبغي أن نولي له بالغ الاهتمام، خاصة في زمن كثر فيه الظلم، واسود الظلام، هو حسن الظن بالرحيم العلام.
فما أحوجنا إلى أن نحسن الظن بربنا وخالقنا، في زمن تكالب فيه أعداء الإسلام علينا، في هذا الزمان الذي فيه قُهرنا، وظُلمنا، وجوِّعنا، وشرِّدنا، وخُوِّفنا، وحوصِرنا، وحُورِبنا في ديننا ودنيانا.
ثقوا بالله يا أهل الإسلام عامة، ويا أهل الإيمان والحكمة خاصة، ثقوا بالله وأحسنوا الظن به يا أهل اليمن، واعلموا أن ما يجري في بلادكم، سيعود نفعه عليكم، في دينكم، ودنياكم، اعلموا أنه ما ابتلاكم إلا ليحبكم، وما امتحنكم إلا ليمنحكم، وما وضعكم إلا ليرفعكم، وما أبعدكم إلا ليقربكم، ويسمع صوتكم، ودعاءكم، وإلحاحكم، وتضرعكم!
واعلموا أن الفضائل الربانية والمدائح النبوية ما زالت، وستزال في الأمة اليمنية اليمانية، فخير رجال أهل الأرض هم أهل اليمن، وأصحاب الحكمة والإيمان هم أهل اليمن، وأنصار الإسلام هم أهل اليمن، ونفس الرحمن سيأتي من اليمن، ومدد أهل الإسلام هم أهل اليمن، ولا يكون المدد مددًا، ولا القوي قويًّا، ولا الشجاع شجاعًا، حتى يعيش بين قسوة الحياة ومتاعبها، وحتى يبتعد عن رغد الحياة وترفها، وهذا هو السر الذي قاله بعض العلماء الحكماء في سبب أوضاع البلاد اليمنية، والأمة اليمانية من بداية تأريخها.
أسأل الله الرحيم أن يغفر لنا ويتجاوز عنا، وأن يرزقنا حسن الظن بإخواننا! ربنا لا تجعل في قلوبنا غلًّا للذين آمنوا، واغفر لنا ربنا؛ إنك أنت الغفور الرحيم.
[1] فصل الخطاب في الزهد والرقائق (10/ 348).
[2] شرح صحيح البخاري لابن بطال (9/ 261).
[3] شرح صحيح البخاري لابن بطال (9/ 261).
[4] مناقب الشافعي (2/ 361).
[5] الزواجر (1/ 164).
[6] رواه البخاري (4905)، ومسلم (2584).
____________________________________________________
الكاتب: يحيى بن حسن حترش
- التصنيف: