خلق العفو في حروبه صلى الله عليه

منذ 2023-11-16

وَإِذا رَحِمْتَ فَأَنـــتَ أُمٌّ أَو أَبٌ ** هَذانِ في الدُّنيا هُما الرُّحَماءُ ** وَإِذا غَضِبتَ فَإِنَّما هِيَ غَضبَةٌ ** في الحَقِّ لا ضِغنٌ وَلا بَغضاءُ

لما عفوتُ ولم أحقدْ على أحدٍ  **  أرحتُ نفسي من هَمِّ العداواتِ 

 

العفو هو ترك المؤاخذة عند القدرة على الأخذ من المسيء المبطل، أو الصفح أو المغفرة والتجاوز عن الإساءة، في غير كراهية للمسيء أو حقد عليه أو إصرار على الانتقام فيما بعد، مع القدرة على العقوبة أو الثأر.

 

فليس من العفو التسامح الموقوت الذي يخفي صاحبه السيئة في نفسه؛ لينتقم في وقت آخر، وليس من العفو المغفرة المدخولة التي تخفي وراءها البغض للمسيء.

 

وهو من خلال الكمال، وصفات الجمال الخلقي، وقد كان عفوه صلى الله عليه وسلم واسعًا شمل حياته كلها طولًا وعرضًا، حتى في المواطن التي كان العدوُّ فيها أقوى منه؛ بل وفي الوقت الذي كانوا يعمدون إلى قتله، وهذا إن دلَّ على شيء، فإنما يدل على أن هذا الخُلُق سجية فيه، وفطرة فُطِر عليها.

 

قال "ابن القيم" -رحمه الله-: "وفي الصفح والعفو والحلم: من الحلاوة والطمأنينة والسكينة وشرف النفس وعزها ورفعتها عن تشفِّيها بالانتقام: ما ليس شيء منه في المقابلة والانتقام".

 

ففي أثناء هجرته صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة، جعلت قريش مائة ناقة لمن يرده عليهم، فسالَ لعابُ سراقة بن مالك؛ فتجهز وخرج لما عرف مكان النبي صلى الله عليه وسلم.

 

يقول سراقة: فبينما فرسي يشتد بي عثر بي، فسقطت عنه، فقلت: ما هذا؟ ثم أخرجت قداحي فاستقسمت به؛ فخرج السهم الذي أكره "لا يضره"، فأبيت إلا أن أتبعه، فركبت في أثره، فبينما فرسي يشتد بي، عثر بي، فسقطت عنه، فقلت: ما هذا؟ ثم أخرجت قداحي فاستقسمت به؛ فخرج السهم الذي أكره "لا يضره"، فأبيت إلا أن أتبعه، فركبت في أثره، فلما بدا لي القوم ورأيتهم عثر بي فرسي، فذهبت يداه في الأرض، وسقطتُ عنه، ثم انتزع يديه من الأرض، وتبعهما دخان كالإعصار، فعرفت حين رأيت ذلك أنه قد منع مني وأنه ظاهر، فناديت القوم، فقلت: أنا سراقه بن جعشم، انظروني أكلمكم فو الله، لا أريبكم، ولا يأتيكم مني شيء تكرهونه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: «قل له: وما تبغي منا»؟، فقال ذلك أبو بكر، فقلت: تكتب لي كتابًا يكون آيهً بيني وبينك، قال: «اكتب له يا أبا بكر»[1].

 

والعقل والمنطق يحتمان قتل سراقه؛ إذ إن تركه طليقًا فيه كشف لهما، الأمر الذي يُعرِّض حياتهما والدعوة للاستئصال، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم يأبى إلا أن يحكم فطرته وطبعه، فيعفو عن سراقة، ويتركه في أشد الموقف حساسية، وأكثرها حاجة إلى الكتمان والسرية!

 

ولما انتصر المسلمون على المشركين في بدر، كان الشاعر أبو عزة الجمحي ممن أُسِر في هذه الغزوة، وكان محتاجًا ذا بنات، فقال يا رسول الله: لقد عرفت ما لي من مال، وإني لذو حاجه وذو عيال، فامنُنْ عليَّ، فمَنَّ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخذ عليه ألا يظاهر عليه أحدًا فمدحه أبو عزة [2].

 

ولعل هذا الخُلُق الرفيع منه صلى الله عليه وسلم، هو الذي كان يغري أعداءه بالنيل منه، والتصدي له، وإلحاق الأذى به، أما وهم قد عرفوا عفوه وصفحه وسموَّ أخلاقه؛ الأمر الذي يجعلهم في مأمن إذا ما طلبوا منه صلى الله عليه وسلم ذلك.

 

ولو شك هؤلاء وأمثالهم -ولو للحظة -أنه سيعاملهم بالعدل لا بالفضل؛ لفكَّروا ألف مرة قبل إقدامهم على أفاعيلهم الخبيثة.

 

وهذا المعنى هو الذي دفع "زينب بنت الحارث" -امرأة سلام بن مشكم اليهودي- أن تدس للنبي صلى الله عليه وسلم السُّمَّ في الشاة.

 

فقد أهديت إلى النبي صلى الله عليه وسلم شاة مشوية، وقد سألت أي عضو من الشاة أحبُّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقيل لها: الذراع؛ فأكثرت فيه من السم، ثم سمَّت سائر الشاة، ثم جاءت بها، فلما وضعتها بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، تنازع الذراع، فلاك منها مضغة، فلم يسغها، ومعه بشر بن البراء بن معرور، قد أخذ منها كما أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر بشر فأساغها، وأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فلفظها، ثم قال: «إن هذا العظم ليخبرني أنه مسموم»، ثم دعا بها فاعترفت، فقال: ما حملك على هذا؟

 

قالت: بلغت من قومي ما لم يخف عليك، فقلت: إن كان ملكًا استرحت منه، وإن كان نبيًّا فسيخبر، فتجاوز عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم[3].

 

وهذا الرجل الذي وجد الرسول صلى الله عليه وسلم تحت شجرة يستظل بها وقت القائلة، وقد علَّق سيفه، فقام هذا الرجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسيف قائلًا له: من يمنعك مني؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الله»، فسقط السيف من يده، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «من يمنعك مني»؟، قال: كن خير آخذ قدر، قال: «أتشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله»؟، قال: لا، غير أني لا أقاتلك، ولا أكون مع قوم يقاتلونك.

 

فخلَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم سبيله، فجاء أصحابه فقال: جئتكم من عند خير الناس[4].

 

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أهدر دم "كعب بن زهير" -لما كان منه من إيذاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في شعره- فأرسل إليه أخوه "بجير" أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أهدر دمه، فإن كان لك في نفسك حاجة، فسِرْ إليه فإنه يقبل من جاء تائبًا، ولا يحاسبه عما فعله قبل الإسلام، فلما بلغ الكتاب كعب، فَرَّ إلى قبيلته لتُجيره، فأبت عليه ذلك، فقدم المدينة، ونزل على "عليِّ بن أبي طالب"، فأتي به إلى المسجد وقال: هذا رسول الله فقم إليه -واستأمنه -فقام وجلس بين يديه، فوضع يده في يده قائلًا: يا رسول الله، إن "كعب بن زهير" قد جاء يستأمنك تائبًا مسلمًا، فهل أنت قابل منه ذلك إن أنا جئتك به؟ قال: «نعم»، قال: يا رسول الله، أنا "كعب بن زهير"، فقام رجل من الأنصار وقال: يا رسول الله، دعني أضرب عنقه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «دعه عنك، فإنه قد جاءنا تائبًا نازعًا»، ثم أخذ في إنشاء قصيدة "بانت سعاد" يمدح بها النبي صلى الله عليه وسلم، فرمى رسول الله بردته الشريفة إليه وعفا عنه[5].

 

إن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لا تحده حدود، يأبى أن يقف عند حدود العفو، بل يتبعه بالعطاء تكريمًا وإرضاءً لكعب.

 

وفي صلح الحديبية، كان كل معسكر من المعسكرين -المسلمين والمشركين- يحاول أن يبرز ما عنده من أوراق يرجح بها كفته على الآخر، حتى يساعده ذلك في المفاوضات، ولا أدل على ذلك من ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه في أن يقتتلوا على وضوئه صلى الله عليه وسلم ونخامته، وكذا المبالغة في إكباره وإجلاله، وهو الذي نهاهم في غير موضع عن هذا الصنيع، لكنه يتركهم في هذه اللحظة؛ لغرض في نفسه، ألا وهو إدخال الرعب في صفوف العدو، وقد كان، وظهر ذلك جليًّا في حديث عروة بن مسعود الثقفي لقريش، لما رجع إليهم ينقل لهم الصورة الفريدة التي ما رآها عند ملوك كسرى وقيصر والنجاشي -على حد قوله- وفي هذا الوقت واتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فرصة لا تضيع، أرسلت قريش نفرًا (ذكر "ابن عبدالبر" أن عددهم كان سبعين أو ثمانين وقال "ابن هشام" أنهم كانوا أربعين أو خمسين) من رجالها وأمروهم أن يطيفوا بعسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ليصيبوا لهم من أصحابه أحدًا، فأُخذوا أخذًا، فأُتي بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعفا عنهم وخلَّى سبيلهم، على الرغم من أنهم كانوا رموا في معسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجارة والنبل[6].

 

ولو أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم هؤلاء رهينة عنده؛ لكانت ورقة قوية للضغط عند المفاوضات، ولاستطاع أن يحقق ما يصبو إليه -لا سيما وعددهم ليس بالقليل- وما لامه أحد على ذلك.

 

ولما عزم "أبو سفيان بن حرب" و"العباس بن عبد المطلب" أن يسلما وأن يهجرا مكة إلى المدينة، قابلا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقبلًا بجيشه على مكة، فلقيا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأبواء -وكان أبو سفيان من أشد الناس إيذاءً له بمكة- فأعرض عنهما لما ذكر من مساءتهما.

 

لكـن "علي بـن أبـي طـالب" أشـار على ابـن عـمه "أبـي سفيان" بوسـيلة، يترضى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال له: ائته من قبل وجهه، وقل ما قال إخوة يوسف: {قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ} [يوسف: 91]، فإنه لا يرضى أن يكون أحد أحسن منه جوابًا، ففعل ذلك أبو سفيان، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف: 92] [7].

 

أما مكة، مكة التي كانت قد عاملته صلى الله عليه وسلم معاملةً بالغة القسوة، وطردته مع أتباعه المخلصين طلبًا للجوء إلى الغرباء، مكة التي كانت تهدد حياته وحياة أتباعه، موجودة الآن تحت قدميه -في فتح مكة- وأعداؤه القدامى القساة غلاظ القلوب الذين كانوا قد سحقوا الإنسانية عندما كانوا ينزلون عقوباتهم القاسية على المسالمين من أتباع محمد صلى الله عليه وسلم رجالًا ونساءً، وعلى الموتى أيضًا؛ إذ كانوا يمثلون بجثثهم أبشع تمثيل، كانوا تحت رحمته تمامًا، ولكن في ذروة انتصاره، كان كل ما قاساه عن شرورهم وآثامهم قد تم نسيانه، وكل إساءة كانت قد وجهت إليه كان قد عفا عن مرتكبيها، وامتدَّ العفو العام منه صلى الله عليه وسلم ليشمل كل سكان مكة[8].

 

وكان هذا الموقف النبيل منه صلى الله عليه وسلم حين أصدر عفوه العام عن المكيين، ورأف بخصومه القرشيين- مثار إعجاب المستشرقين وتقديرهم، واعتبروه حدثًا فريدًا في التاريخ، فلم يَنْسَق الرسول صلى الله عليه وسلم وراء غريزة الانتقام، ولم يعامل خصوم الأمس معاملة القوي، بل أثبت -كما وصفه أعداؤه- أنه أخ كريم، وابن أخ كريم[9]، فوسَّع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأمن والعفو حتى أصبح أهل مكة لا يهلك منهم إلا من زهد في السلامة وكره الحياة[10].

 

بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لقد صدق أمير الشعراء حين قال:

وَإِذا رَحِمْتَ فَأَنـــتَ أُمٌّ أَو أَبٌ   ***   هَذانِ في الدُّنيا هُما الرُّحَماءُ 

وَإِذا غَضِبتَ فَإِنَّما هِيَ غَضبَةٌ   ***   في الحَقِّ لا ضِغنٌ وَلا بَغضاءُ 

 


[1] ابن هشام المعافري، أبو محمد عبدالملك (1418)، مختصر سيرة ابن هشام، القاهرة: وزارة الأوقاف، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، ج1، ص 304، 305.

[2] ابن كثير، أبو الفداء عماد الدين إسماعيل (1411)، البداية والنهاية، تحقيق: محمد عبدالعزيز النجار، القاهرة: دار الغد العربي، ج3، ص 364.

[3] النمري، يوسف بن عبدالبر (1983)، الدرر في اختصار المغازي والسير، تحقيق: شوقي ضيف، ط2، القاهرة: دار المعارف، ص 204.

[4] البخاري (4139)، ومسند أحمد، 3/365.

[5] جاد المولى، أحمد (1412)، محمد صلى الله عليه وسلم المثل الكامل، تحقيق: عبدالرحيم مارديني، دمشق: مكتبة دار المحبة، ص 34.

[6] ابن هشام المعافري، أبو محمد عبدالملك (1418)، مختصر سيرة ابن هشام، القاهرة: وزارة الأوقاف، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، ج1، ص 70.

[7] الحاكم النيسابوري (2008)، المستدرك على الصحيحين، بيروت، دار المعرفة، 3/43، 44.

[8] ديدات، أحمد؛ وهارت، مايكل (2005)، محمد صلى الله عليه وسلم أعظم عظماء العالم، ترجمة: على الجوهري، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ص 85 نقلًا عن: سيد أمير علي.

[9] الشيباني، محمد شريف (1980)، الرسول في الدراسات الاستشراقية المنصفة، بيروت، دار الحضارة العربية، ص 202.

[10] الندوي السيد أبو الحسن علي الحسن (1981)، السيرة النبوية، جدة، دار الشروق، ص 282.

  • 3
  • 0
  • 276

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً