صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ

منذ 2024-02-28

يقول تعالى في سورة الفاتحة: {{صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ}} (7)

{بسم الله الرحمن الرحيم }

 

يقول تعالى في سورة الفاتحة: {{صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ}} (7)

{{صِرَاطَ الَّذِينَ}} بدل أو عطف بيان من { {الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ}} ، فذكر التفصيل بعد الإجمال؛ لقوله تعالى: {{اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ}} وهذا مجمل؛ {{صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ}} : وهذا مفصل؛ لأن الإجمال ثم التفصيل فيه فوائد:

1/ أن النفس إذا جاء المجمل تترقب، وتتشوف للتفصيل والبيان؛ فإذا جاء التفصيل ورد على نفس مستعدة لقبوله متشوفة إليه.

2/ بيان أن الذين أنعم الله عليهم على الصراط المستقيم.

3/ «التوكيد اللفظي» لما فيه من التثنية والتكرير، فإعادة الاسم في البدل أو البيان ليبنى عليه ما يراد تعلقه بالاسم الأول أسلوب بهيج من الكلام البليغ لإشعار إعادة اللفظ بأن مدلوله بمحل العناية وأنه حبيب إلى النفس.

والجمع بين هذه الفوائد لا يتأتى على وجه معتبر عند البلغاء إلا بهذا الصوغ البديع.

{أَنعَمتَ عَلَيهِمْ} الذين أفيضت عليهم النعم الكاملة، وفيه معنى بديع وهو أن الهداية نعمة.

والذين أنعم الله عليهم هم خيار الأمم السابقة، وهم المذكورون في قوله تعالى: {{وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقاً}} [النساء:69]

وإسناد فعل الإنعام عليهم إلى ضمير الجلالة، تنويه بشأنهم خلافا لغيرهم من المغضوب عليهم والضالين.

ثم إن في اختيار وصف {{الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ}} بأنه {{صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ}} دون بقية أوصافه:

// تمهيدا لِبِسَاطِ الإجابة، فإن الكريم إذا قلت له: "أعطني كما أعطيت فلانا" كان ذلك أنشط لكرمه، كما في قوله: (كما صليت على إبراهيم)، فيقول السائلون: اهدنا الصراط المستقيم الصراط الذي هديت إليه عبيد نعمك.

مع ما في ذلك من التعريض بطلب أن يكونوا لاحقين في مرتبة الهدى بأولئك المنعم عليهم، وَتَهَمُّمًا بالاقتداء بهم في الأخذ بالأسباب التي ارتقوا بها إلى تلك الدرجات، قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الممتحنة:6]، وتوطئة لما سيأتي بعد من التبري من أحوال المغضوب عليهم والضالين فتضمن ذلك تفاؤلا وتعوذا.

{{غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ}} هم اليهود، وكل من علم بالحق ولم يعمل به.

{{وَلاَ}} "لا" مزيدة لتأكيد النفي المستفاد من لفظ {غَيرِ} نحو قوله: {{أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ}} [المائدة:19] وهو أسلوب في كلام العرب.

{{الضَّالِّينَ} } هم النصارى قبل البعثة، وكل من عمل بغير الحق جاهلاً به. والضلال سلوك غير القصد، يقال: "ضل عن الطريق" سلك غير جادتها.

أي غير طريق المغضوب عليهم الذي عرفوا الحق ولم يتبعوه، كاليهود. وغير طريق الضالين عن الحق الذي لم يهتدوا إليه لتفريطهم في طلب الاهتداء كالنصارى.

** فأسباب الخروج عن الصراط المستقيم: إما الجهل؛ أو العناد؛ والذين سببُ خروجهم العناد هم المغضوب عليهم. وعلى رأسهم اليهود؛ والآخرون الذين سبب خروجهم الجهل كل من لا يعلم الحق. وعلى رأسهم النصارى؛ وهذا بالنسبة لحالهم قبل البعثة. أعني النصارى؛ أما بعد البعثة فقد علموا الحق، وخالفوه؛ فصاروا هم، واليهود سواءً. كلهم مغضوب عليهم.

** فاختتمت هذه السورة العظيمة برسم أسباب الافتراق وآثارها، حيثُ يقع الصراط المستقيم بين طريق المغضوب عليهم وهم الذين عرفوا العلم وأهملوا العمل به. وبين طريق الضالين الذين اجتهدوا في العمل بلا علم. فأهل الصراط المستقيم، أهل السنة جمعوا بين العلم والعمل.

** قال ابن عاشور: ومن غرض وصف الذين أنعمت عليهم بأنهم {{غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ}} التعوذ مما عرض لأمم أنعم الله عليهم بالهداية إلى صراط الخير بحسب زمانهم بدعوة الرسل إلى الحق فتقلدوها ثم طرأ عليهم سوء الفهم فيها فغيروها وما رعوها حق رعايتها، والتبرؤ من أن يكونوا مثلهم في بطر النعمة وسوء الامتثال وفساد التأويل وتغليب الشهوات الدنيوية على إقامة الدين حتى حق عليهم غضب الله تعالى، وكذا التبرؤ من حال الذين هدوا إلى صراط مستقيم فما صرفوا عنايتهم للحفاظ على السير فيه باستقامة، فأصبحوا من الضالين بعد الهداية إذ أساءوا صفة العلم بالنعمة فانقلبت هدايتهم ضلالا.

** وقال أيضا: ويشمل المغضوب عليهم والضالون فرق الكفر والفسوق والعصيان، فالمغضوب عليهم جنس للفرق التي تعمدت ذلك واستخفت بالديانة عن عمد أو عن تأويل بعيد جدا، والضالون جنس للفرق التي أخطأت الدين عن سوء فهم وقلة إصغاء؛ وكلا الفريقين مذموم لأننا مأمورون باتباع سبيل الحق وصرف الجهد إلى إصابته، واليهود من الفريق الأول والنصارى من الفريق الثاني. وما ورد في الأثر مما ظاهره تفسير المغضوب عليهم باليهود والضالين بالنصارى فهو إشارة إلى أن في الآية تعريضا بهذين الفريقين اللذين حق عليهما هذان الوصفان لأن كلا منهما صار علما فيما أريد التعريض به فيه.

** ومن بلاغة القرآن في هذه الآيات:

// جاء التعبير عن المغضوب عليهم باسم المفعول الدال على أن الغضب عليهم حاصل من الله تعالى، ومن أوليائه.

// أنه يقدم الأشد، فالأشد؛ لأنه تعالى قدم المغضوب عليهم على الضالين؛ لأنهم أشد مخالفة للحق من الضالين؛ فإن المخالف عن علم يصعب رجوعه. بخلاف المخالف عن جهل.

** وقد أنجر في غضون تفسير هذه السورة الكريمة من علم البيان فوائد كثيرة لا يهتدي إلى استخراجها إلا من كان توغل في فهم لسان العرب، ورزق الحظ الوافر من علم الأدب، وكان عالماً بافتنان الكلام، قادراً على إنشاء النثار البديع والنظام.

وأما من لا اطلاع له على كلام العرب، وجسا طبعه حتى عن الفقرة الواحدة من الأدب، فسمعه عن هذا الفن مسدود، وذهنه بمعزل عن هذا المقصود.

قالوا: وفي هذه السورة الكريمة من أنواع الفصاحة والبلاغة أنواع:

- النوع الأول: حسن الافتتاح وبراعة المطلع، فإن كان أولها {{بسم الله الرحمن الرحيم}} ، على قول من عدها منها، فناهيك بذلك حسناً إذ كان مطلعها، مفتتحاً باسم الله، وإن كان أولها {{الحمد لله}} ، فحمد الله والثناء عليه بما هو أهله، ووصفه بماله من الصفات العلية أحسن ما افتتح به الكلام، وقدم بين يدي النثر والنظام، وقد تكرر الافتتاح بالحمد في كثير من السور، والمطالع تنقسم إلى حسن وقبيح، والحسن إلى ظاهر وخفي على ما قسم في علم البديع.

- النوع الثاني: المبالغة في الثناء، وذلك لعموم أل في الحمد.

- النوع الثالث: تلوين الخطاب على قول بعضهم، فإنه ذكر أن الحمد لله صيغته صيغة الخبر، ومعناه الأمر، كقوله: {{لاَ رَيْبَ فِيهِ} } [البقرة:2] ومعناه النهي.

- النوع الرابع: الاختصاص باللام التي في {لله}، إذ دلت على أن جميع المحامد مختصة به إذ هو مستحق لها، وبالإضافة في {{ملك يوم الدين}} لزوال الأملاك والممالك عن سواه في ذلك اليوم، وتفرده فيه بالملك والملك، قال تعالى: { {لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ}} [غافر:16] ولأنه لا مجازى في ذلك اليوم على الأعمال سواه.

- النوع الخامس: حذف العامل الذي هو في الحقيقة خبر عن الحمد، وهو الذي يقدر بـ كائن أو مستقر، قيل: ومنه حذف {{صراط}} من قوله غير المغضوب، التقدير: "غير صراط المغضوب عليهم، وغير صراط الضالين"، وأما من قيد الرحمن، والرحيم، ونعبد، ونستعين، وأنعمت، والمغضوب عليهم، والضالين، فيكون عنده في سورة محذوفات كثيرة.

- النوع السادس: التقديم والتأخير، وهو في قوله نعبد، ونستعين، والمغضوب عليهم، والضالين.

- النوع السابع: التفسير، ويسمى التصريح بعد الإبهام، وذلك في بدل {{صراط الذين..}} من {{الصراط المستقيم}} .

- النوع الثامن: الالتفات، وهو في: {{إياك نعبد وإياك نستعين}} ، {{اهدنا}} .

- النوع التاسع: طلب الشيء، وليس المراد حصوله بل دوامه، وذلك في {{اهدنا}} .

- النوع العاشر: سرد الصفات لبيان خصوصية في الموصوف أو مدح أو ذم.

- النوع الحادي عشر: التسجيع، وفي هذه السورة من التسجيع المتوازي، وهو اتفاق الكلمتين الأخيرتين في الوزن والروي، قوله تعالى: {{الرحمن الرحيم}} {{اهدنا الصراط المستقيم}} ، وقوله تعالى: {{نستعين ولا الضالين}}

 

جمع وترتيب

د/ خالد سعد النجار

[email protected]

 

 

خالد سعد النجار

كاتب وباحث مصري متميز

  • 0
  • 0
  • 1,022

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً