من أصلح سريرته أصلح الله علانيته
ومن أصلح ما بينه وبين الله كفاه الله ما بينه وبين الناس ومن اهتم بأمر آخرته كفاه الله أمر دنياه
الحمد لله الكبير المتعال، الحمد لله ذي العزة والجلال، أحْمده سبحانه على نعمه العظيمة وآلائه الجليلة، ونسأله جل وعلا أن يُعيننا على شكرها والقيام بحقوقها، وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة نرجو بها النجاة يوم نلقاه، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومَن تبِعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أمَّا بعدُ:
فيا أيها الإخوة المؤمنون، إن المرء في هذه الحياة الدنيا يسير في طريق تتنوع فيه الابتلاءات وتترادف فيه أنواع المشكلات، ولا نجاة للإنسان ولا طمأنينة ولا سعادة، إلا بأن يترسم الطريق الذي ارتضاه رب العزة والجلال خالق العالمين.
ذلك أنه لا بد للإنسان أن يعرض له من الأمور التي يحتاج معها إلى أن يكون على بيِّنة وهدًى وبصيرة، مما جاء في كتاب الله تعالى وسنة نبيه محمد عليه الصلاة والسلام، حتى يجاوز هذه الفتن، ولا يتأثر بهذه المشكلات، وذلك بأن يكون همه وهدفه الأكبر، هو أن يخرج من هذه الحياة الدنيا وقد حقق رضا ربه جل وعلا عنه؛ حتى يفوز بالحياة السعيدة الأبدية عند الله جل وعلا المليك المقتدر، ولن يتمكن الإنسان من ذلك إلا إذا صلحت نيته وعلا مقصده، لإدراك هذه الغاية العظيمة، هذه الغاية التي قال الله جل وعلا عنها: {﴿ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ﴾} [آل عمران: 185].
ولن يزال الإنسان محتاجًا إلى ما تضمنه القرآن والسنة، وهدي السلف الصالح من الوصايا، والأسس التي تعينه على المسلك القويم، وفي هذا المقام أستعرض وإياكم وصيةً عظيمةً جليلةً كريمة، وصية كان يتواصى بها الأخيار، ويكتب بها الفضلاء والعلماء إلى بعضهم، يذكِّر بعضهم بعضًا بها، وحسبكم أن تكون هذه الوصية نابعةً من دلالات كتاب الله جل وعلا وسنة نبيه محمدٍ عليه الصلاة والسلام، ثم هي أيضًا صادرةٌ عن ذوي هِمم سامية من أئمة العلماء الذين عرَفوا حقيقة الحياة الدنيا، وأبصروا ما فيها من العلل، وتلمَّسوا الطريق الموصل لهم إلى النجاة.
هذه الوصية أوردها العلامة الحافظ ابن أبي الدنيا رحمه الله في كتاب الإخلاص له، وأسندها عن معقل بن عبيدالله الجزري رحمه الله، قال: (كانت العلماء إذا التقوا تواصوا بهذه الكلمات، وإذا غابوا كتب بها بعضهم إلى بعض أنه من أصلح سريرته، أصلح الله علانيته، ومن أصلح ما بينه وبين الله، كفاه الله ما بينه وبين الناس، ومَن اهتم بأمر آخرته، كفاه الله أمر الدنيا، ومن اهتم بآخرته، كفاه الله أمر دنياه).
هذه الوصية العظيمة القائمة على هذه الأصول الثلاثة، ينبغي للمؤمن أن يتأملها، وأن يعمل بمقتضاها؛ لأنها دائرةٌ على أصول عظيمة، دلَّ عليها كتاب الله جل وعلا وسنة نبيه المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم.
يقول معقل رحمه الله: (كان العلماء إذا التقوا تواصوا بهذه الكلمات).
وتأملوا كيف أنها لأهميتها يذكر بعضهم بعضًا بها، ثم إذا غابوا كتب بعضهم إلى بعض بها على سبيل التذكير والتواصي الذي أمر الله به في كتابه العزيز، واصفًا به عباده المؤمنين الذين استثناهم من الخسار: {﴿ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ﴾} [العصر: 3]، فهذه الوصية العظيمة من جملة التواصي بالحق والتواصي بالصبر، وأول أُسس هذه الوصية العظيمة: (من أصلح سريرته أصلح الله علانيته).
إن من المستقر لدى عامة الناس أن يَحرص على السمعة الطيبة، وأن يكون ذكره حسنًا حميدًا، وهذا مطلب شرعي أن يكون الإنسان ممن يذكر عنه الخير، وألا يشاع عنه الشر، وهذا ليس بقصد أن يكون ثوابه وجزاؤه من الناس، ولكن لأن الإنسان بطبعه يجب أن يُذكر بالخير ويُثنى عليه، ويُدعى له، ألا ترون أن الخليل إبراهيم عليه السلام قال: {﴿ وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ ﴾} [الشعراء: 84]، لسان الصدق يذكر به الإنسان ثناءً وحمدًا ودعاءً له؛ لأنه اتبع أمر الله جل وعلا وشرعه.
فإذا كان الإنسان يحرص على أن يذكر بالخير، وأن يكون محمودًا في الناس، فإن الطريق إلى ذلك ليس استرضاؤهم في ذواتهم، ولا أن يعمل الإنسان العمل لأجل السمعة والثناء، ونظر الناس إليه، ولكن الطريق إلى ذلك هو أن يصلح سريرته، والمعنى أن ما غاب عن الناس ولم يطلعوا عليه، فإن الواجب على الإنسان أن يكون متقيًّا فيه ربه، فهو يراقب الله جل وعلا، ويعلم أنه لا تخفى عليه خافية، ولذلك أثنى الله جل وعلا على عباده المؤمنين الذين يخشونه بالغيب؛ كما قال سبحانه في كتابه العزيز مثنيًا على هذا الصنف من الناس: {﴿ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ ﴾} [الأنبياء: 49]، {﴿ وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ ﴾ } [ق: 31 - 33].
لذلك جاء الثناء على مَن راقب الله - في حال خلواته وبُعده عن نظر الناس - ثناءً عظيمًا؛ لأنه بهذا صادق الإيمان مخلص للرحمن.
ألا ترون كيف أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخبر عن النفر الذين يظلهم الله في ظله يوم القيامة يوم لا ظل إلا ظله، فذكر من جملتهم أولئك الذين عُنُوا بالغيب، واهتموا بغيبتهم عن الناس بمراقبتهم لله جل وعلا، (ورجل ذكر الله خاليًا، ففاضت عيناه)، فما أكرمه من دمع! وما أطهره! يخرج من عيني الإنسان في حال خلوته، يذكر الله خاليًا، يذكر رحمته وفضله وجنته، ويذكر عذابه وعقوبته وناره، فيبكي خشيةً من الله جل وعلا ورجاء رحمته.
( «ورجل ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه» ).
والصنف الثاني ذلك الذي تصدق بصدقة فأخفاها؛ حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، إنه يراقب الله، إنه يعتني بسريرته.
والصنف الثالث أيضًا من هؤلاء السبعة ذلك الذي خلا بامرأة وتمكَّن منها، ثم لما ذكر الله قام وتركها خشيةً لله جل وعلا، فهذه أعمال عظيمة؛ لأنها قائمة على الإخلاص للرحمن جل وعلا، وبذلك يعلم ضمن دلائل كثيرة في كتاب الله وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام، ما ينبغي أن يعتني به الإنسان من إصلاح سريرته، فهو يراقب الله، ويعلم أن الله لا تخفى عليه خافية، وأن الله جل وعلا يعلم السر وأخفى، حينئذٍ هو لا يأبه ولا يعبأ بأن ينظر الناس إليه أو يغيبون عنه؛ لأنه يراقب الله تعالى في كل ما يأتي ويَذَر في كل أنواع تعاملاته، إنما يراقب الله جل وعلا، ولذا قال أولئك العباد المكرمون أهل الجنة: {﴿ إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا ﴾} [الإنسان: 9، 10]، فكان الجزاء: {﴿ فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا ﴾} [الإنسان: 11].
وما أحسن ما قاله بعض السلف: إن الخاسر من أبدى للناس صالح عمله، وبارز بالقبيح من هو أقرب إليه من حبل الوريد.
المؤمن ينبغي له أن تكون مراقبته لله جل وعلا، لا لأحدٍ من الناس، وفي هذا روى الصحابي الجليل أسامة بن شريك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( «ما كره الله منك شيئًا، فلا تفعله إذا خلوتَ» )؛ [رواه الترمذي وصحَّحه، وصححه ابن حبان] .
وجاء أيضًا عن سعيد بن يزيد الأنصاري رضي الله عنه - أن رجلًا قال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: أوصني، فقال عليه الصلاة والسلام: ( «أوصيك أن تستحيي الله عز وجل، كما تستحيي رجلًا صالحًا من قومك» )؛ [رواه الطبراني] .
والمعنى في هذا أن الإنسان العاقل عادة إذا كان بحضرة من يعظِّم ومن يجلُّ ويحترم، فإنه يتحاشى أن يأتي بقبيح الأعمال، فالنبي صلى الله عليه وسلم ينبِّه هنا، كما أن العاقل يستحيي أن يأتي ما يُستحيى منه أمام مَن هو شريف كريم، فكذلك ينبغي أن يكون في خشيته واستحيائه من الله عز وجل.
والمقصود أيها الإخوة المؤمنون أن إصلاح السريرة أمر عظيم، وما أجمل ما قال القحطاني في منظومته:
وإذا خلوت بريبة في ظلمةٍ
والنفس داعيةٌ إلى الطغيان
فاستحي من نظر الإله وقل لها:
إن الذي خلق الظلام يراني
وكان ابن السماكي ينشد بيتًا جميلًا يذكِّر به نفسه، ويعظ به مَن حوله:
يا مُدمن الذنب أما تستحيي ♦♦♦ والله في الخلوة ثانيك
هكذا ينبغي أن يكون المؤمن، هذا أصل عظيم في هذه الوصية التي كان يتعاهدها العلماء فيما بينهم: ( «من أصلح سريرته، أصلح الله علانيته» ).
فإذا حرَص المؤمن على سريرته، تكفَّل الله له بعلانيته، وجعل له من الذكر الحسن والمحمدة بين الناس التي يُدعى له بها، وتكون له شرفًا وثناءً طيبًا ما يبقى بين الأنام ما شاء الله تعالى، ولذا لما سأل أبو هريرة رضي الله عنه النبي صلى الله عليه وسلم: إن الرجل يعمل العمل - يعني وهو مسرُّ به لا يُظهره للناس - ثم إنه يظهر، فيتحدث الناس به، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ( «تلك عاجل بشرى المؤمن» )، عاجل البشرى أن يكون له عند للناس ذكر حميد يُدعى له به، ومن أوفر الناس حظًّا بهذا العلماء منذ عهد الصحابة إلى يومنا، فإنهم إذا ذكروا قيل: رضي الله عنهم في شأن الصحابة، وإذا ذكر العلماء قالوا رحمه الله، ونحو ذلك من الدعاء لهم، وهذا من الذكر الحميد، ومما يجعله الله تعالى لعبده المؤمن إذا أحبه: {﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا ﴾} [مريم: 96].
والمعنى أن يشيع الله لهم ومن ذكرهم ما يكون محل الثناء في العالمين، وهذا يدل عليه ما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «(إن الله إذا أحب عبدًا، نادى جبريل فقال: يا جبريل، إني أحب فلانًا فأحبه، فيحبه جبريل، وينادي في أهل السماء: إن الله يحب فلانًا فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ويجعل له القَبول في الأرض، وإن الله إذا أبغض عبدًا نادى جبريل، فقال: إني أبغض فلانًا فأبغضه، فيبغضه جبريل، وينادي في أهل السماء: إن الله يبغض فلانًا فأبغضوه، فيبغضونه، وتُجعل له البغضاءُ في الأرض» )؛ نعوذ بالله من مثل هذه الحال.
ثم إن الأصل الثاني في هذه الوصية الكريمة: (من أصلح ما بينه وبين الله، كفاه الله ما بينه وبين الناس)، هذا الأصل متفرع عن الذي قبله، ومداره على الإخلاص، وعلى المبادرة بالعمل الصالح، فالإنسان إذا قام بما يجب عليه لله جل وعلا، فإن الله تعالى يتكفل له بكثير من الأمور، وهذا دلت عليه دلائل من كتاب الله تعالى وسنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ذلك أن المرء الذي يصلح ما بينه وبين الله بالاستقامة على طاعته والبعد عن سيئاته ومعاصيه، فإن الله تعالى يحفظه ويكلأه، وييسر له أموره، وأعظم من ذلك أن يجعل له في قلبه من الطمأنينة ما يكون بالنسبة له تحقيق السعادة، وألا يعبأ بما يكدره في أمور هذه الحياة الدنيا، وأكثر الناس - إن لم يكن جُلهم - يهتمون بأمور هذه الدنيا، وما يكون من العلاقة بالناس، ويغفلون عما يجب عليهم من علاقتهم بالله جل وعلا، فمن أرضى الله تعالى، أرضاه الله، وأرضى عنه الناس.
وفي هذا يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (من أرضى الله بسخط الناس، رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن أسخط الله تعالى برضا الناس، سخط الله عليه وأسخط عليه الناس)، وهذا يجعل للمؤمن منهجًا واضحًا أنه لا يساوم ولا يتنازل في شيء من حقوق الله جل وعلا، حساب إرضاء الناس ومجاملتهم، فحق الله عنده مقدم على حقوق الخلق جميعًا، وإذا كان الإنسان كذلك كان الله له، ومن كان الله له، فمم يخشى؟ وماذا يفوته؟
ثم الأصل الثالث في هذه الوصية: (ومن اهتم بأمر آخرته كفاه الله أمر دنياه)، ينبغي للمؤمن أن يكون مهتمًّا بالآخرة، وطريقه في ذلك الطاعة والإقامة عليها، والبعد عن السيئات ومحاذرتها، فمن كان هذا ديدنه كفاه الله أمر دنياه، هذه الدنيا التي يكدح الناس لأجلها، ويسعون في شعابها طلبًا لتحقيقها، لن يأتيهم إلا ما كتب الله جل وعلا، ولها أساليب وسبل في استجلابها وتحصيلها، ومنها بذل الأسباب المعروفة بين الناس، لكن من أعظم الأسباب في نيل الدنيا والوصول إلى حظوظها، مما شاء الله أن يتطلبها الإنسان أن يهتم بالآخرة، وأن يهتم بالطاعات، وفي هذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من كانت الآخرة همه، جعل الله غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة)، هكذا يكون حال المؤمن الذي جعل همه الآخرة بأن يرضي ربه جل وعلا، وعلى الضد من ذلك من جعل الآخرة منسية عنده، واهتم للدنيا وتحصيلها، فإنه كما في الحديث لن يأتيه منها إلا ما كتب الله له، ولا يبالي الله به في أي وادٍ من أوديتها هلك.
(من اهتم بأمر آخرته كفاه الله أمر دنياه)، من اهتم بالآخرة أرضى الخالق جل وعلا، والدنيا كلها مرغوبة لله سبحانه، فماذا سيفوته وهو يطلب ما يريد من هذه الدنيا ممن بيده ملكوت كل شيء؟! ولذلك تجد بعض الناس يفرِّط في صلاته - هذا الركن العظيم - لأجل أن يحصِّل أمرًا من أمور الدنيا؛ إما في اجتماع بعملٍ، أو ذهابٍ لإنجاز عملٍ، أو غير ذلك من الأمور، فهو يخرج من بين يدي من بيده ملكوت كل شيء، وأمره للشيء إذا أراده أن يقول له كن فيكون؛ ليطلب هذه الأمور التي يريدها من أهل الدنيا، وكلهم مَربوبون لله تحت سلطانه جل وعلا.
فما استُجلِبت الدنيا بمثل طاعة الله جل وعلا، واستجلاب الدنيا ليس معناه فقط تحصيل المال والرتب والمراتب والمناصب، لكن الأعظم من ذلك أن يمتلئ قلب المرء بالقناعة والثقة بما عند الله؛ لأن ما بأيدي الناس يذهب وينفد: {﴿ مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ ﴾} [النحل: 96]، لكن ما عند الله هذه صفته، وأعظم ذلك ما يجعله الله في قلب عبده من القناعة والزهد في الدنيا، فهي أمامه إن كثرت وزادت، أو قلت ونقصت، الحال عنده سيَّان، فهو فرح بما امتلأ به قلبه من الثقة بالله والإيمان به، والتوكل عليه، وما يشعر به من رضا ربه سبحانه، وأنه مقيم على طاعته، متباعد عن معصيته.
نسأل الله تعالى أن يثبتنا على الإيمان، وأن يعيذنا من معاصيه وسخطه؛ إن ربي سميع قريب مجيب، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وصلى الله وسلم على عبد الله ورسوله نبينا محمد، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومَن تبِعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فهذه الوصية الكريمة الشريفة أيها الإخوة المؤمنون، مما ينبغي أن نتواصى به، وأن يذكِّر بعضنا بعضًا بها، وأن يُعلم كلٌّ منَّا أهله ومن حوله بدلالاتها، فهي أصول عظيمة تبعث في النفس الطمأنينة، وتدل الإنسان على طرق الخير، فلا أحد أسعد ولا أهنأ عيشًا ممن كان قربه من الرحمن، واستقام على طاعته، وأحس بأن الله معين له، وناصر له في كل ما يتوجه إليه، إذا وجدت هذه الطمأنينة في القلب، فلا تسلْ بعد ذلك عما يجده هذا الإنسان من السعادة التي لا يمكن تحصيلها إلا من خلال هذا الطريق، الطريق الذي فيه إرضاء من بيده القلوب وتصريفها وتدبير أحوالها: { ﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴾} [الرعد: 28].
فما أحسن ما ذكر به هذ العالم الجليل معقل بن عبيدالله الجزري؛ حيث قال: (كان العلماء إذا التقوا تواصوا بهذه الكلمات، وإذا غابوا كتب بها بعضهم إلى بعض أنه من أصلح سريرته أصلح الله علانيته، ومن أصلح ما بينه وبين الله، كفاه الله ما بينه وبين الناس، ومن اهتم بأمر آخرته، كفاه الله أمر دنياه).
ألا وصلوا وسلموا على خير خلق الله نبينا محمد، فقد أمرنا ربنا بذلك، فقال عز من قائل: {﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾} [الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، وبارِك على محمد وعلى آل محمد، كما باركتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.
وإن هذا اليوم الجمعة ليوم شريف، تزف فيه الصلوات إلى خير البريات محمد عليه الصلاة والسلام، بأن يذكر عنده من صلَّى عليه؛ كما جاء في الخبر الصحيح: «(إذا كان يوم الجمعة وليلة الجمعة، فأكثروا من الصلاة علي؛ فإن صلاتكم معروضة علي)» ، وفي الحديث الآخر عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: «(إن الله وكل بي ملكًا يبلغني عن أُمتي السلام)» ، وسأل الصحابة رضي الله عنهم: كيف يبلغك ذلك يا رسول الله وقد أرمت؟ يقصدون بليت؛ لأنه من المستقر أن الميت إذا مات، فإن جسده يتحلل، فقال عليه الصلاة والسلام: «(إن الله حرَّم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء)» ، فيا له من شرف أن تُذكرَ يا عبد الله باسمك في حضرة المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، بأنك صليتَ عليه، ففي الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه إذا صلى عليه أحد من المسلمين، قيل له: هذا فلان بن فلان يُصلي عليك، وكيف يكون ذلك؟ هذا من أمور الغيب التي لا نَعلم كيفيتها، ولكن نؤمن بها، وبأنها واقعة، والله على كل شيء قدير، فشرف لك يا عبد الله أن تُذكر باسمك أنك صليت على هذا النبي الكريم.
وإنه لمن الخسران أن يأتي مثل هذا اليوم الشريف الذي تُعرض فيه الصلوات على النبي الكريم، ثم لا يكون حظك من ذلك يا عبد الله إلا قليلًا، كان بعض السلف يكثر من الصلاة كثرة؛ حتى لا يكاد يُسابق في ذلك، وهو بهذا يبني على ما صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لما قال له أُبي رضي الله عنه: «يا رسول الله، كم أجعل لك من صلاتي؟ يعني من دعائي، قال: (ما شئت)، قال: أجعل لك ربعها أو نصفها، أو قال: كلها؟ قال» : «(إذًا تُكفى هَمك، وتُقضى حاجتك)» .
فاللهم صلِّ وسلم وزِد وبارِك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه، وعلى الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الصحابة والتابعين، وعنا معهم برحمتك يا أرحم الرحمين.
{﴿ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ } [الحشر: 10].
اللهم أصلح أحوال المسلمين في كل مكان، وألِّف بين قلوبهم يا رب العالمين.
اللهم اكف ِالمسلمين الشرور والفتن، ما ظهر منا وما بطن.
اللهم احفظ علينا في بلادنا أمننا وطمأنينتنا وإيماننا يا رب العالمين.
اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، ووفِّقهم للخير والرشد يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم فرِّج همَّ المهمومين، ونفِّس كرب المكروبين، واقضِ الدين عن المدينين، واشفِ مرضانا ومرضى المسلمين يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم اغفر لنا ولوالدينا، وارحمهم كما ربونا صغارًا.
اللهم آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقِنا عذاب النار.
سبحان ربنا رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
- التصنيف:
- المصدر: