كِتَابًا مُؤَجَّلًا

منذ 2025-03-20

وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ

بسم الله الرحمن الرحيم

 

{وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145)}

{{وَمَا كَانَ}} ينبغي.. معناه انتفاء الفعل وامتناعه. فتارة يكون الامتناع في مثل هذا التركيب لكونه ممتنعاً عقلاً، كقوله تعالى: {{مَا كَانَ لِلَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ سُبْحَانَهُ}} [مريم:35] وقوله: {{مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا} } [النمل:60]

وتارة لكونه ممتنعاً عادة نحو: "ما كان لزيد أن يطير".

وتارة لكونه ممتنعاً شرعاً كقوله تعالى: {{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً}} {} [النساء:92]

وتارة لكونه ممتنعاً أدباً، كقول أبي بكر: "ما كان لابن أبي قحافة أن يصلي بين يدي رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-".. ويفهم هذا من سياق الكلام.

{ {لِنَفْسٍ}} نكرة في سياق النفي فتعم كل نفس من الآدميين وغير الآدميين.

{{أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ}} بأمره وإرادته.. استثناءٌ مفرَّغٌ من أعم الأسباب، أي بتمكينه وتسويغه ذلك.

وهو كلامٌ مستأنفٌ سيق للتنبيه على خطئهم فيما فعلوا حذراً من قتلهم، وبناءً على الإرجاف بقتله -عليه الصلاة والسلام- ببيان أن موتَ كلِّ نفسٍ منوطٌ بمشيئة الله -عز وجل- لا يكاد يقع بدون تعلقها به وإن خاضت مواردَ الحتوفِ واقتحمت مضايقَ كلِّ هولٍ ومَخُوفٍ.

وفيه أيضا تحريضهم على الجهاد، وتقوية نفوسهم وتشجيعهم على لقاء العدو، بإعلامهم أن الحذر لا ينفع، وأن أحداً لن يموت قبل بلوغ أجله وإنْ خاض المهالك واقتحم المعارك. فالجبن لا يزيد في الحياة والشجاعة لا تنقص منها.

وفيها الإشارة إلى حفظ الله تعالى لنبيه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وقد تربص به الأعداء، وأحاطوا به من كل جانب، وصار قريبا من نهزة المختلس، ولكن الله تعالى أحاطه بكلاءته وعنايته، وفيها أيضا بيان أن الله سبحانه وتعالى قابض نبيه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مهما يطل الأمد أو يقصر.

{{كِتَابًا}} أي كتبه الله كتاباً.. مصدر مؤكد للجملة التي قبله.

{{مُؤَجَّلًا}} مؤقتاً بوقت وأجل معلوم لا يتقدم ولا يتأخَّرُ ولو ساعةً، والكتابة هنا عبارة عن القضاء، وقيل: مكتوباً في اللوح المحفوظ مبيناً فيه.

وهذا كقوله تعالى: {{وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلا فِي كِتَابٍ} } [فاطر:11] وكقوله { {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ}} [الأنعام:2].

وروى ابن كثير في تفسيره عن حبيب بن صُهبان، قال: قال رجل من المسلمين -وهو حُجْرُ بن عَدِيّ-: ما يمنعكم أن تعبُروا إلى هؤلاء العدو، هذه النطفة؟ -يعني دِجْلَة- {{وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلا}} ثم أقحم فرسه دجلة فلما أقحم أقحم الناس فلما رآهم العدوّ قالوا: ديوان، فهربوا.

{{وَمَنْ يُرِدْ}} أي بعمل الآخرة {{ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا}} وهذا الجزاء من إيتاء الله من أراد ثواب الدنيا مشروط بمشيئة الله تعالى، كما جاء في الآية الأخرى: {{مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا}} [الإسراء:18-19] ولم يقل: "عجلنا له ما يريد".

{{وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا}} ولا نعطيه الآخرة كلها؛ لأن الآخرة درجات يختلف فيها الناس، ولا يمكن أن يعطى الإنسان جميع درجات الناس ولكن يعطى من الآخرة. ولكنها تختلف عن عطية الدنيا، كما قال الله تعالى: {{بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى}} [الأعلى:١٦-١٧] فعطية الآخرة ليست كعطية الدنيا بل هي أعظم.

والآية تعريض بالذين رغبوا في الغنائم يوم أحد واشتغلوا بها، والذين ثبتوا على القتال فيه ولم يشغلهم شيء عن نصرة الدين.

وظاهر التقسيم يقتضي اختصاص كل واحد بما أراد، لأن من كانت نيته مقصورة على طلب دنياه لا نصيب له في الآخرة، لكن من كانت نيته مقصورة على طلب الآخرة قد يؤتى نصيباً من الدنيا.

واعلم أن الآية وإن كان سياقها في الجهاد ولكنها عامة في جميع الأعمال، وذلك لأن المؤثر في جلب الثواب أو العقاب هو النيات والدواعي، لا ظواهر الأعمال.

وليس المراد أن من أراد ثواب الدنيا وحظوظها يحرم من ثواب الآخرة وحظوظها، فإن الأدلة الشرعية دلت على أن إرادة خير الدنيا مقصد شرعي حسن، وهل جاءت الشريعة إلا إصلاح الدنيا والإعداد لحياة الآخرة الأبدية الكاملة.

والنص الكريم يثبت أن الدنيا لها وسائل، والنجاح فيها له أسباب توصل إلى النتائج، والآخرة لها أسباب وذرائع، وعلى ذلك لَا يكون النجاح في شئون الدنيا دليلا على القرب من الله تعالى، ولا الفشل فيها دليلا على البعد عن الله تعالى، ذلك قول الفجار، الذين يتخذون من سطوة الكفار مع كفرهم دليلا على أنهم أقرب إلى الله من المؤمنين، ويغفلون عن قول الله تعالى: {{وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ}} [الزخرف:33-35].

** وفيه أن الإخبار عن الشيء أو عن وقوع الشيء لا يدل على حله، فقوله تعالى: {{وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا}} لا يدل على حلّ إرادة الإنسان الدنيا بعمله، إنما هو خبر عن أمر وقع، والحل والحرمة يؤخذ من دليل آخر من الشرع.

ومن ثم يتبين خطأ من قال: إنه لا يشترط للمرأة محرم في السفر؛ لأن الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أخبر «(لَيُتِمَّنَّ اللهُ هَذَا الْأَمْرَ، حَتَّى تَخْرُجَ الظَّعِينَةُ مِنَ الْحِيرَةِ، حَتَّى تَطُوفَ بِالْبَيْتِ فِي غَيْرِ جِوَارِ أَحَدٍ) » [أحمد]، لأن هذا إخبار عن الواقع وليس إقراراً له شرعاً، ألم يقل الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (لَتَتْبَعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ شِبْرًا شِبْرًا وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ تَبِعْتُمُوهُمْ) قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى؟ قَالَ: (فَمَنْ). بلى قال ذلك، فهل يعني هذا أنه يجوز أن نتبع سنن اليهود والنصارى لأن الرسول أخبر بأننا سنتبعهما؟! أبداً ... فالإخبار عن الشيء وقوعاً لا يدل على جوازه شرعاً، إنما يؤخذ جوازه أو عدم جوازه من أدلة أخرى.

{{وَسَنَجْزِي}} وقوله: {نؤته} بالنون فيهما، وفي: {سنجزي} التفات، إذ هو خروج من غيبة إلى تكلم بنون العظمة.

وفي تصديرها بالسين وإبهامِ الجزاءِ من التأكيد والدَّلالة على فخامة شأنِ الجزاءِ وكونِه بحيث يقصُر عنه البيانُ ما لا يخفى.

{{الشَّاكِرِينَ} } وعدٌ لمن شكر نعم الله فقصر همه ونيته على طلب ثواب الآخرة. وفيه إيثار إرادة الآخرة على الدنيا.

قال ابن فورك: وفيه إشارة إلى أنهم يُنَعمهم الله بنعيم الدنيا، ولا يقصرهم على نعيم الآخرة.

وشكر النعمة القيام بحقها، وأداء ما ينعم الله تعالى به من نعم في مواضعه، فإذا أُعطي فشكر العطاء بإنفاقه في مواضع الإنفاق، وإذا منح القوة فشكرها أن يجعلها لنصرة الحق وخفض الباطل، وإذا أُعطي نعمة الحكمة والفكر السليم، فيكون الشكر بتسخير ذلك لنفع العباد، وهدى الناس، وإرشادهم إلى طرق البحث وتذليل الأرض لهم، وأن يكون ما ينتجه للعمارة لا للخراب.

وهنا نجد النص لم يبين الجزاء، ولم يبين من الذين يتصفون بالشكر من طلاب الدنيا أو طلاب الآخرة، وقد ترك الجزاء من غير بيان ليعم الجزاء الدنيوي، والجزاء الأخروي، فمن طلبوا الدنيا واتخذوا أسبابها، ونصروا الضعيف، وخذلوا القوى، وعمروا الأرض ولم يفسدوها، ولم يطرحوا ما عند الله تعالى بل طلبوه، كانوا من الشاكرين. واستحقوا الجزاءين: جزاء الدنيا بأن يصلوا إلى النتائج التي قصدوها، وهي العلو في الأرض من غير طغيان، والجزاء في الآخرة عند تجلي الرحمن.

** فائدة: اعلم أن بين الشكر والحمد عموماً وخصوصاً من وجهين أي أن أحدهما أعم من الآخر من وجه، فباعتبار أن الحمد يكون لكمال المحمود ولإنعام المحمود يكون أعم من الشكر، وباعتبار أن الحمد يكون باللسان يكون أخص من الشكر، والشكر باعتبار كونه متعلقاً بالقلب واللسان والجوارح أعم من الحمد وباعتبار أنه في مقابلة نعمة أخص من الحمد.

وبهذا التقرير نعرف أنه ليس بين الحمد وبين الشكر ترادف بل هما متباينان يتفقان فيما إذا حمد الله سبحانه وتعالى على نعمته كما لو أكل أو شرب فقال: "الحمد الله"، فهذا يعتبر شكراً وحمداً، ويختلفان فيما إذا حمد الله على كماله فهنا لا يكون هذا من باب الشكر، وإذا شكر الله بجوارحه فليس هذا من باب الحمد.

 

جمع وترتيب

د/ خالد سعد النجار

[email protected]

 

خالد سعد النجار

كاتب وباحث مصري متميز

  • 1
  • 0
  • 109

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً