قائل: (ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب ...) هو يوسف

منذ 11 ساعة

التحقيق في أن قائل: (ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب ...) هو يوسف لا امرأة العزيز..................................

قال الله تعالى في سورة يوسف: { {فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ * قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ * ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ * وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ}} [يوسف: 50 - 53].

القول المشهور عند السلف أن النبي يوسف عليه الصلاة والسلام هو قائل: {{ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب وأن الله لا يهدي كيد الخائنين، وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم}} ، ولم يذكر ابن جرير ولا ابن أبي حاتم غير هذا، إلى أن جاء الماوردي فذكر وجها آخر، وهو أنه قول امرأة العزيز، ورجح أنه قول امرأة العزيز شيخ الإسلام ابن تيمية، وتبعه ابن القيم وابن كثير، وكثير ممن جاء بعدهم، وبعض المعاصرين يجزم به، ولا يذكر غيره، وبعضهم يضعف القول المشهور عن السلف وهو أن هذا قول النبي يوسف عليه الصلاة والسلام.

والمتأمل في الآيات يجد أن هذا القول لا يمكن أن يكون قول امرأة العزيز، بل هو قول نبي كريم ذي علم وحكمة، ففيه أنوار النبوة والحكمة والتعظيم لله سبحانه بذكر بعض أسمائه الحسنى وأفعاله، وفيه تواضع النبي يوسف عليه الصلاة والسلام، ويدل على هذا التعريض بامرأة العزيز في ذكر أن الله لا يهدي كيد الخائنين، فهي التي أرادت خيانة زوجها، وهي التي كادت يوسف مع النسوة، فنجاه الله من كيدهن، ثم كيف تقول امرأة العزيز: وما أبرئ نفسي، وهي التي أذنبت، وظهر لزوجها ذنبها، وأمرها أن تستغفر الله منه، وكيف تقول هذا وهي التي أظهرت للنسوة بلا حياء إرادتها الفاحشة من يوسف؟!

وحجة الذين ذهبوا إلى أن هذا قولها اتصال الكلام بكلامها، وهذا لا دلالة فيه، ففي هذه السورة نفس هذا الاتصال، مع كون صاحب الكلام الأخير لم يقله صاحب الكلام الأول، وهذا من بيان القرآن العظيم، قال الله سبحانه: {{فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ * قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ * قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ}} [يوسف: 70 - 72]، فتأمل الآية الأخيرة، فالذين قالوا: نفقد صواع الملك، هم فتيان يوسف عليه الصلاة والسلام، والذي قال: ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم هو واحد منهم، فاتصل الكلام الأخير مع الأول، مع كون الكلام الأخير لم يقله من نسب القول الأول إليهم.

 قال السمعاني في تفسيره (3/ 38، 39): (قوله تعالى: {{ذلك ليعلم} } اختلفوا على أن هذا قول من؟ الأكثرون أنه قول يوسف؛ ومعناه: ذلك ليعلم العزيز {{أني لم أخنه بالغيب وأن الله لا يهدي كيد الخائنين}} ومعناه: إنه لا يوضح ولا يرشد كيد الخائنين. فإن قال قائل: كيف دخل قول يوسف في وسط هذا الكلام، وإنما المذكور كلام جرى بين الملك والنسوة؟! قلنا: اعتراض كلام آخر بين كلام جائز على لغة العرب؛ قال الله تعالى في قصة سليمان حكاية عن بلقيس: {{قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون}} كلام الله تعالى اعتراض في الوسط).

وذكر ابن الجوزي في كتابه زاد المسير في علم التفسير (2/ 447) الاختلاف في القائل، وبدأ بالقول المشهور أنه قول يوسف، وقواه بذكر بعض الآيات القرآنية، ثم ذكر ما حكاه الماوردي، قال ابن الجوزي مستدلا على صحة القول المشهور أنه يوسف: (وهو من أغمض ما يأتي من الكلام أن تحكي عن شخص شيئا ثم تصله بالحكاية عن آخر، ونظير هذا قوله: {{يريد أن يخرجكم من أرضكم}} هذا قول الملأ {{فماذا تأمرون}} قول فرعون. ومثله: {{وجعلوا أعزة أهلها أذلة}} هذا قول بلقيس {{وكذلك يفعلون}} قول الله عز وجل. ومثله: {{من بعثنا من مرقدنا}} هذا قول الكفار، فقالت الملائكة: {{هذا ما وعد الرحمن}} وإنما يجوز مثل هذا في الكلام، لظهور الدلالة على المعنى). وينظر: فتح القدير للشوكاني (3/ 41).

وقال ابن كثير في تفسيره (4/ 338): ( {{ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب}} تقول: إنما اعترفت بهذا على نفسي ليعلم زوجي أني لم أخنه بالغيب في نفس الأمر، ولا وقع المحذور الأكبر، وإنما راودت هذا الشاب مراودة فامتنع، فلهذا اعترفت ليعلم أني بريئة، وأن الله لا يهدي كيد الخائنين. {{وما أبرئ نفسي} } تقول المرأة: ولست أبرئ نفسي، فإن النفس تتحدث وتتمنى، ولهذا راودته لأن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي أي: إلا من عصمه الله تعالى، {إن ربي غفور رحيم} وهذا القول هو الأشهر والأليق والأنسب بسياق القصة ومعاني الكلام. وقد حكاه الماوردي في تفسيره، وانتدب لنصره الإمام أبو العباس بن تيمية رحمه الله، فأفرده بتصنيف على حدة، وقد قيل: إن ذلك من كلام يوسف عليه السلام يقول: {{ذلك ليعلم أني لم أخنه في زوجته بالغيب}} الآيتين، أي: إنما رددت الرسول ليعلم الملك براءتي، وليعلم العزيز أني لم أخنه في زوجته بالغيب وأن الله لا يهدي كيد الخائنين الآية، وهذا القول هو الذي لم يحك ابن جرير ولا ابن أبي حاتم سواه). وينظر: روضة المحبين لابن القيم (ص: 319 - 320).

والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

محمد بن علي بن جميل المطري

دكتوراه في الدراسات الإسلامية وإمام وخطيب في صنعاء اليمن

  • 0
  • 0
  • 0

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً