من أدب العتاب
إن من صفة الحياء النبوي الشريف الذي هو أكمل الحياء: أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يواجه أحداً بشيء يكرهه
إن من صفة الحياء النبوي الشريف الذي هو أكمل الحياء: أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يواجه أحداً بشيء يكرهه، أي: حيث لا تلزم المواجهة شرعاً، وإن كان هذا المكروه حقاً في نفسه، بل قد يترك مواجهته به رأساً أو يسبل عليه ستار التعريض، والكتابة تشبه التعريض في جنس عدم المواجهة وإن اختلفت الجهة.
وقد ترجم فقيه السنة وحافظها الإمام البخاري رحمه الله تعالى لهذا المعنى في (كتاب الأدب) من "صحيحه" بقوله: (باب من لم يواجه الناس بالعتاب) وأخرج فيه حديثين:
أولهما: حديث "ما بال أقوام.."، وهذا من التعريض القولي.
والثاني: حديث أبي سعيد:"كان النبي صلى الله عليه وسلم أشد حياء من العذراء في خدرها، فإذا رأى شيئا يكرهه عرفناه في وجهه"، فهذا فيه الكتمان للقول والاكتفاء بما يغلب من الحال.
فهذان طريقان لعدم المواجهة بالمكروه من عتاب وغيره: إما الإعراض الكلي، وإما الإعراض عن المواجهة التامة، ففي الأول إن ظهر شيء فبغلبة لا باختيار، وفي الثاني يكون إظهار اختياري على طريقة "عرَّف بعضه وأعرض عن بعض" التي حكاها عنه القرآن العظيم.
وأبلغ من هذا: ما حكاه الله تعالى عنه في سورة الأحزاب عند ذكر أدب الدخول لبيته الكريم صلى الله عليه وسلم تعريضاً بما وقع ليلة وليمته على زينب بنت جحش رضي الله عنها، وأما هو صلى الله عليه وسلم فقد حكى القرآن غلبة حيائه الكريم له الغلبة التامة الكلية، فكفاه الله تعالى بكلامه في كتابه، {فإذا طعمتم فانتشروا، ولا مستأنسين لحديث، إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحيي منكم، والله لا يستحيي من الحق}.
وأبلغ من هذه وأعظم: ما حكاه الله تعالى في نفس هذه السورة الكريمة في قضية فراق زيد لزينب ومآل أمرها إليه.
وهذا يدل على أن المواجهة بالمكروه - من العتاب ونحوه - حيث لا تلزم شرعاً فإن الأصل الأصيل تضييق دائرتها بحسب الإمكان واقتضاء المصلحة، وحمْد الاستجابة فيها لسلطان الحياء ممن شرفه الله تعالى به وأكرمه أسوة بأشد الناس حياء وأحسنهم خلقاً وأكملهم هدياً صلى الله عليه وسلم.
هذا كله محله العتاب الذي فيه تنفيس ما عن غضب وموجدة، ولذا يقارنه ما يُكره عادة ولو بلسان الحال و"لغة الجسد"، فيحسُن كظمه تارة أو التعريض به.
وأما ما يكون بعد زوال الغضب والموجدة والشحناء وسلامة القلب من ذلك وطيبه من تطلب كمال التعافي بالتصافي فباب آخر قد تكون المواجهة فيه أولى لإيصالها من آثار سلامة القلب وطيبه من المكروه بلسان الحال و"لغة الجسد" ما قد لا يفي به لسان المقال.
فلكل حال حكمها، والله أعلم.
- التصنيف: