منابت الأخلاق
فللأخلاق أصول من الطباع تنشأ عنها وتنبع منها، حتى ربما نشأ عن الطبع الواحد فضيلة ورذيلة، مما تُرَى في بادئ النظر متباينة في أصولها، مختلفة في منشئها، وهي صنوان تخرج من أصل واحد.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فللأخلاق أصول من الطباع تنشأ عنها وتنبع منها، حتى ربما نشأ عن الطبع الواحد فضيلة ورذيلة، مما تُرَى في بادئ النظر متباينة في أصولها، مختلفة في منشئها، وهي صنوان تخرج من أصل واحد.
ألم يقل فيلسوف الشعراء ابن الرومي:
وما الحقد إلا توأم الشكر في الفتى
وبعض السجايا ينتسبن إلى بعض!
ﻓﺤﻴﺚ ﺗﺮﻯ ﺣﻘﺪًا ﻋﻠﻰ ﺫﻱ ﺇﺳﺎءﺓ
ﻓﺜَﻢَّ ﺗﺮﻯ ﺷﻜﺮًا ﻋﻠﻰ ﺣﺴﻦ اﻟﻘﺮﺽ!
فقد نظر ابن الرومي إلى أصل خُلُقَي الحسد والشكر فرآه أصلًا واحدًا، كأنه رآه اشتمال القلب على حفظ الشيء، وانطواءه عليه وعدم نسيانه.
وقد قال الثعالبي في كتابه: (تحسين القبيح وتقبيح الحسن):
"ﻟﻢ ﻳﺰﻝ اﻟﺤﻘﺪ ﻣﺬﻣﻮﻣًﺎ ﺑﻜﻞ ﻟﺴﺎﻥ، ﻣﻘﺒﺤًﺎ ﻋﻨﺪ ﻛﻞ ﺇﻧﺴﺎﻥ، ﺣﺘﻰ ﺟﺮﻯ ﺑﻴﻦ ﻳﺤﻴﻰ ﺑﻦ ﺧﺎﻟﺪ اﻟﺒﺮﻣﻜﻲ ﻭﺑﻴﻦ ﻋﺒﺪ اﻟﻤﻠﻚ ﺑﻦ ﺻﺎﻟﺢ اﻟﻬﺎﺷﻤﻲ ﻛﻼﻡ ﻳﺆﺫﻱ، ﺇﻟﻰ ﺃﻥ ﻗﺎﻝ ﻟﻪ ﻳﺤﻴﻰ: ﻟﻠﻪ ﺩﺭّﻙ ﺃﻱ ﺭﺟﻞ ﺃﻧﺖ ﻟﻮﻻ ﺃﻧﻚ ﺣﻘﻮﺩ!
ﻓﻘﺎﻝ ﻋﺒﺪ اﻟﻤﻠﻚ: ﺇﻥ ﻛﻨﺖ ﺗﺮﻳﺪ ﺑﻘﺎء اﻟﺨﻴﺮ ﻭاﻟﺸﺮ ﻋﻨﺪﻱ ﻓﺈﻧﻲ ﻛﺬﻟﻚ!
ﻭﻳﺮﻭﻯ ﺃﻧﻪ ﻗﺎﻝ ﻟﻪ: ﺃﻧﺎ ﺧﺰاﻧﺔ ﺗﺤﻔﻆ اﻟﺨﻴﺮ ﻭاﻟﺸﺮ! ﻓﻘﺎﻝ ﻳﺤﻴﻰ: ﻫﺬا ﺟﺒﻞ ﻗﺮﻳﺶ، ﻭﻭاﻟﻠﻪ ﻣﺎ ﺭﺃﻳﺖ ﺃﺣﺪًا اﺣﺘﺞ ﻟﻠﺤﻘﺪ، ﺣﺘﻰ ﺣﺴﻨﻪ ﻭﻇﺮﻓﻪ ﻏﻴﺮﻩ"!
وأنت فإذا لم تقرّ بصحة ما ذكر، لكنك سترى فيه إشرافًا على أصل هذا المعنى اللطيف الذي لا ينكره عاقل.
ومن ذلك إن إرادة العلو في الأرض، وحب التفرد عن الخلق؛ كثيرا ما يكون أصله الذكاء! فقد رأى الناس أن الذكي حين يغلب عليه حب الإبداع ربما دعاه لحب التفرد!
وهذا يبتلى بشأن آخر، فيكثر لديه التحوّل في الرأي، والتلوّن في الدين، والتغير في المعتقد، ولعله أن يلبسه بلباس التجرد والحياد.
ويقابله صفة التعظيم للقديم والوفاء للماضي، فقد يكون أصلها الجبن عن كشف الغلط وكراهية انكشاف النفس!
وربما أفضى ذلك لدوام التمسك بالرأي، ولبسه لباس الثبات على الديانة.
ومنه أن بعض المتقدمين جعل الحلم ذلًا، كأنه حين وجد الحليم كثيرة اﻟﺠﺮاءﺓ عليه قليلة في الناس هيبته، خرج بمثل هذا الحكم وانفصل عن ذلك بهذا النظر.
ومثله من نظر إلى المعاطب في الشجاعة، ورأى ما فيها من التغرير باﻟﻨﻔﺲ والتعرّض للهلكة، كمثل قول اﻟﻌﻘﻴﻠﻲ:
ﻗﺎﻣﺖ ﺗﺸﺠﻌﻨﻲ ﻫﻨﺪ، ﻭﻗﺪ ﻋﻠﻤﺖ
ﺃﻥ اﻟﺸﺠﺎﻋﺔ ﻣﻘﺮﻭﻥ ﺑﻬﺎ اﻟﻌﻄﺐ
ﻳﺎ ﻫﻨﺪ ﻻ ﻭاﻟﺬﻱ ﺣﺞّ اﻟﺤﺠﻴﺞ ﻟﻪ
ﻣﺎ ﻳﺸﺘﻬﻲ اﻟﻤﻮﺕ ﻋﻨﺪﻱ ﻣﻦ ﻟﻪ ﺃﺩﺏ!
وهكذا من رأى القناعة تورث الخمول ويفوت بها ﻣﻌﺎﻟﻲ اﻷﻣﻮﺭ، ذمها لهذا النظر، وهلم في كثير من الفضائل.
وكل ذلك غفلة عن أمرين:
١) الغفلة عن أنّ لكل خلق آفة! ولكل فضيلة طرفا رذيلة!
ومن نظر لآفات الفضائل وغضّ عن محاسنها؛ ازوَرّ عن كل فضيلة.
وليست تطيب الفضائل إلا بالعدل، فإذا استعمل الإنسان اﻟﻌﺪﻝ في أخلاقه، وتوسط فيها بين آفات التفريط وآفات الإفراط حسنت منه.
فالعدل يحمله على التوسط في الكرم بين البخل والسرف، ويجعله مع الشجاعة متوسطًا بين الجبن والتهور، ويجمل حلمّه بين الغضب المزعج والمهانة الساقطة.
ولهذا جاءت الشريعة بحفظ أصل الفضيلة، بتقييدها بقيود ضابطة، وربطت طرفيها بنسعة العقل، ولزّتها بما يحفظها من التزلزل.
وخذ مثلًا بذلك الغضب، فإنها قوة تبعث على الحمية للحق، والانتصار للمستضعف، فإذا جاوز صاحبه فيه؛ أركبه الطغيان، وسهّل له البغي والاستهتار بالخلق.
وما أعظم ما جاء من تعاقب قصة موسى ﷺ مع قومه حين أمروا بدخول القرية، وقصة ابني آدم حين قتل أحدهما أخاه.
فقد تعاقبت القصتان فقابلت بين خمول الغضبة لله وسكون قوتها، وبين الطغيان في الغضب والهوَج فيه.
بين إباء دخول القرية وبين قتل الأخ أخاه!فانتظم الحديث القرآني ذاكرًا طرفي هذا الخلق إفراطًا وطغيانًا.
٢) الغفلة عن أنّ الخُلق الواحد لا يحسُن حتى يُقرن بغيره مما يزحمه، فيضعه مكانه لا يتمايل ولا يتقلقل.
فالكمال الأخلاقي لا يكون إلا إذا تخلق الإنسان بالخُلق وقرنه بالأخلاق التي تحفظه من أن يفرط أو يطغى.
وتأمل كلمة ابن القيم، حين جعل "صحة اﻟﺮﺃﻱ ﻟﻘﺎﺡ اﻟﺸﺠﺎﻋﺔ، ﻓﺈﺫا اﺟﺘﻤﻌﺎ ﻛﺎﻥ اﻟﻨﺼﺮ ﻭاﻟﻈﻔﺮ، ﻭﺇﻥ ﻗﻌﺪا ﻓﺎﻟﺨﺬﻻﻥ ﻭاﻟﺨﻴﺒﺔ، ﻭﺇﻥ ﻭﺟِﺪ اﻟﺮﺃﻱ ﺑﻼ ﺷﺠﺎﻋﺔ ﻓﺎﻟﺠﺒﻦ ﻭاﻟﻌﺠﺰ، ﻭﺇﻥ ﺣﺼﻠﺖ اﻟﺸﺠﺎﻋﺔ ﺑﻼ ﺭﺃﻱ فالتهور ﻭاﻟﻌﻄﺐ".
وما أحلى الاستدلال بما جاء في قوله ﷻ: {وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة}، فإن الصبر يولد من شكيمة في النفس، وشدّة في الطبع، فإن لم يمزجه بالرحمة والتعطّف بقيت قسوة الصبر وصلفه دون ترطيب.
قال ابن تيمية: "اﻟﻘﺴﻤﺔ ﺭﺑﺎﻋﻴﺔ:
ﺇﺫ ﻣﻦ اﻟﻨﺎﺱ ﻣﻦ ﻳﺼﺒﺮ ﻭﻻ ﻳﺮﺣﻢ: ﻛﺄﻫﻞ اﻟﻘﻮﺓ ﻭاﻟﻘﺴﻮﺓ.
ﻭﻣﻨﻬﻢ ﻣﻦ ﻳﺮﺣﻢ ﻭﻻ ﻳﺼﺒﺮ: ﻛﺄﻫﻞ اﻟﻀﻌﻒ ﻭاﻟﻠﻴﻦ ﻣﺜﻞ ﻛﺜﻴﺮ ﻣﻦ اﻟﻨﺴﺎء ﻭﻣﻦ ﻳﺸﺒﻬﻬﻦ.
ﻭﻣﻨﻬﻢ ﻣﻦ ﻻ ﻳﺼﺒﺮ ﻭﻻ ﻳﺮﺣﻢ ﻛﺄﻫﻞ اﻟﻘﺴﻮﺓ ﻭاﻟﻬﻠﻊ.
ﻭاﻟﻤﺤﻤﻮﺩ ﻫﻮ اﻟﺬﻱ ﻳﺼﺒﺮ ﻭﻳﺮﺣﻢ.. ﻓﺒﺼﺒﺮﻩ ﻳﻘﻮﻯ ﻭﺑﻠﻴﻨﻪ ﻳﺮﺣﻢ ﻭبالصبر ﻳﻨﺼﺮ اﻟﻌﺒﺪ ﻓﺈﻥ اﻟﻨﺼﺮ ﻣﻊ اﻟﺼﺒﺮ ﻭﺑﺎﻟﺮﺣﻤﺔ ﻳﺮﺣﻤﻪ اﻟﻠﻪ".
ومقتضى ما مضى:
- أن يزن المؤمن فضائله، فلا يميل جفاء ولا غلوًا في أي فضيلة.
- وأن يتنبه لبعض أخلاقه، فربما كان مبعثها طبع مذموم وقد لبس لبوس الفضيلة.
والله أعلم.
______________________________________
الكاتب: د. محمد آل رميح.
- التصنيف: