التنظيم ضرورة

منذ 14 ساعة

إنّ روح الإصلاح لا تُقاس بصدق العاطفة وحدها، بل بقدرة أصحابها على تحويل الفكرة إلى مشروع، والمشروع إلى أثر، والأثر إلى مؤسسةٍ قادرةٍ على الاستمرار والتجدد.

إنّ روح الإصلاح لا تُقاس بصدق العاطفة وحدها، بل بقدرة أصحابها على تحويل الفكرة إلى مشروع، والمشروع إلى أثر، والأثر إلى مؤسسةٍ قادرةٍ على الاستمرار والتجدد. فمحبة الخير والرغبة في النهوض والشعور بالمسؤولية هي البذرة الأولى لكل عملٍ ناجح، لكنها لا ترَ النور ما لم تُغذَّ برؤيةٍ بينةٍ ورسالةٍ واضحة، وتُدار بعقلٍ منظَّمٍ يدرك قوانين العمل والنجاح.

لقد جُبلت الدعوات الكبرى على حرارة الإيمان، ولكنها لم تنهض في التاريخ إلا حين اقترنت هذه الحرارة بعقلٍ واعٍ يخطط وينظّم. فالإخلاص طاقة، والنظام بوصلة، والطاقة من غير بوصلة تُهدر، كما أن السفينة لا تسير على بحرٍ بلا دفة. ومن هنا كانت الحاجة إلى التنظيم لا تقلّ عن الحاجة إلى الإخلاص، بل إن أحدهما لا يُثمر بغير الآخر.

والمتأمل في واقع الدعوة والإصلاح يدرك أن إخفاق كثيرٍ من المشاريع لم يكن نتيجة ضعفٍ في الفكرة أو خللٍ في المقصد، بل بسبب غياب النظام وضبابية الأدوار. فكم من مشروعٍ وُلد صادق النية متين الفكرة، ثم تلاشى لأنّه بُني على الارتجال لا على التخطيط، وعلى الجهود الفردية لا على العمل المؤسسي.

وفي المقابل، نرى مشاريع الباطل رغم فساد مقاصدها ومخالفتها للفطرة تحقق نجاحًا لافتًا بما تمتلكه من تنظيمٍ دقيقٍ وإدارةٍ واعيةٍ ومأسسةٍ متقنة. فالقوة في النظام لا في الشعارات، والفاعلية في الإدارة لا في الحماسة.

وقد لخّص شيخ الإسلام مصطفى صبري رحمه الله هذه الحقيقة بقوله: “الحق بلا نظام يغلبه الباطل بنظام.”ومقولته الفائقة تلك : سنة حاكمة وقاعدة اجتماعية راسخة فالحق في ذاته نور، لكن هذا النور لا يُبصر أثره إلا إذا أُحكم في مصباحٍ يصونه ويوجهه، أما إن تُرك سائبًا، عبثت به الرياح وطغت عليه أنوار الزيف المنظمة وإن كانت زائلة.

لذلك فواجب المصلحين أن يعيدوا النظر في كثير من طرائق عملهم، وأن يدركوا أن التنظيم ليس خصمًا من الإخلاص، بل هو تجليةٌ له وترتيبٌ لثماره. فالدعوة التي لا تعرف النظام الحقيقي غير المدعى كزرعٍ في أرضٍ خصبةٍ بلا فلاح، والإصلاح الذي يهمل الإدارة الحقة كبيتٍ بغير هندسة.

لقد آن للأعمال الدعوية والفكرية أن تنتقل من العاطفة إلى التخطيط، ومن الجهد الفردي إلى الأداء الجماعي، ومن المبادرات المتفرقة إلى المشاريع المؤسسية. فالإصلاح الراسخ لا يقوم على الأفراد مهما علت كفاءاتهم، بل على منظوماتٍ تستوعبهم وتُورث الخبرة وتُراكم الإنجاز.

وإذا كان خصوم الأمة قد أدركوا أن التنظيم سبيل السيطرة والتأثير، فالأولى بأهل الحق أن يجعلوه سبيل الحفظ والتمكين، إذ ليس من الحكمة أن يُجابه الباطل بخطاباتٍ مبعثرةٍ وجهود متقطعة بينما يقاتل بمؤسساتٍ منظمةٍ وخططٍ محكمة.

وفقنا جميعا لهداه، واستعملنا في طاعته، إنه بر رحيم.
والله الهادي

  • 2
  • 0
  • 73

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً