تدمير التعليم في غزة: ترسيخ للتخلف واغتيال للنهوض!

منذ 4 ساعات

فهذا التخريب الممنهج لا يمكن تفسيره بوصفه: أضراراً جانبية طبيعية لحربٍ بين طرفين متقاتلين، بل هو فعلٌ مقصود نابع من إدراكٍ عميقٍ لدى المحتلّ بأن المعركة الحقيقية هي معركة المعرفة والوعي.

يُعدّ التعليم في كلّ أمةٍ عمودَ نهضتها الرئيس، ومحركَ وعيها الجمعي، ومصدرَ قوتها الأخلاقية والحضارية. فبالعلم تُبنى العقول، ويتجذر التدين، وتُهذَّب النفوس، وتُستولد القيم، ويتسع الوعي، وتُصاغ الإرادة، ويُغرس الإيمان العميق بإمكانية المقاومة والنهوض والتغيير. 

ومن هنا، فلم تكن الحروب الكبرى في التاريخ تُشنّ على الأجساد والأرض وحدها، بل وعلى العقول والقلوب والمناهج ودور العلم وروادها، لأن من امتلك المعرفة واستولى على القلم امتلك القدرة على تجاوز الجراح وإعادة البناء، مهما عَظُم التخريب واشتدّ التدمير.

وفي هذا السياق، تتجلى فاجعة المسلمين في غزة خلال العامين الماضيين -أكثر من سبعمئةٍ وثلاثين يوماً من العدوان المتواصل- كواحدةٍ من أعتى الحروب المركّبة التي عرفها العصر الحديث؛ حربٍ استهدفت الإنسان قبل البنيان، والعقل قبل الجدار. والمدرسة قبل المعسكر، والأستاذ قبل الجندي، وفيها كشف الاحتلال عن فلسفته القديمة الجديدة: أن تدمير التعليم هو أقصر الطرق لإطالة زمن الهوان والهزيمة والاحتلال، فالأمة التي تُحرم من مدارسها وجامعاتها تُساق قهرًا إلى حياض الأمية والتخلف، ومن ثم إلى القابلية للاستلاب والتبعية.

وما سأُورد من أرقام هنا ليست مجرد بياناتٍ مجازف بها، بل هي وثائقُ اتهامٍ دامغة لمشروعٍ تدميري يسعى لفرض الأمية الطاغية واقتلاع الوعي من جذوره. فبحسب الإحصاءات الميدانية الموثوقة، قتل المحتل أكثر من 830 معلماً وكادراً تربوياً، و193 باحثاً وأكاديمياً، و13,500 طالبٍ وطالبة في مختلف المراحل التعليمية. كما جرى تدمير 165 منشأة تعليمية تدميراً كلياً، و392 جزئياً، وتعرّضت 668 منشأة تعليمية لقصفٍ صهيوني مباشر. 
وتشير التقارير الميدانية إلى أن أكثر من: 90% من المؤسسات التعليمية في قطاع غزة تحتاج إلى إعادة بناء بالكامل أو إلى تأهيل جذري، وأن 785,000 طالبٍ حُرموا من التعليم لمدة عامين متتاليين.

وبلا شك فهذا التخريب الممنهج لا يمكن تفسيره بوصفه: أضراراً جانبية طبيعية لحربٍ بين طرفين متقاتلين، بل هو فعلٌ مقصود نابع من إدراكٍ عميقٍ لدى المحتلّ بأن المعركة الحقيقية هي معركة المعرفة والوعي. وأن المعلم المخلص الواعي أخطر على الاحتلال من المقاتل الشجاع المسلّح؛ لأنه يزرع القيم في العقول، ويؤسس الاستقامة في النفوس، ويغرس فكرة الحرية في الضمائر، ويحوّل الإيمان بالمقاومة من مجرد عاطفةٍ وغضبة وقتية عابرة إلى وعيٍ والتزام دائم وإرادةٍ منظمة.

ولذلك، فلم يعد التعليم بالنسبة للأمة في غزة مجرد مطلبٍ تنموي، بل هو قضية وجود، وركيزة تحرّر، وركن ركين في الحفاظ على الدين والهوية. وبالتالي فإن إعادة بناء المدارس والجامعات ليست عملاً إنشائياً عادياً، بل هي معركة لاستعادة الإنسان الغزي قدرته على التفكير والفعل والتخطيط، حتى تتحرر إرادته من قيود العجز التي يسعى الاحتلال لتكريسها. وكلّ تهاونٍ في هذا الجانب إنما هو إسهام غير مباشر في إطالة أمد التخلف والانكسار والشلل الحضاري.


وهنا يبرز السؤال المؤلم: هل يدرك عالمنا الإسلامي اليوم بأن ترك جيلٍ كاملٍ من أبناء غزة بلا تعليم -كما يخطط له العدو- هو خيانة لضمير الأمة، وتهديدٌ لمستقبلها في بقعة من أهم بقاعها ؟، وأن بناء مدرسةٍ واحدةٍ اليوم قد يعادل في أثره الدفاع عن هوية الأمة برمتها في تلك البلدة المدمرة؟
ولذا فإن الواجب هو قيام جهد مؤسسي إسلامي يسعى لإحياء التعليم في غزة، ويستثمر في بناء المدارس المؤقتة، وفي التعليم الرقمي والافتراضي، وفي تأهيل المعلمين وتطويرهم، وفي تحفيز الطلاب، وتقديم الدعم النفسي لهم، وفي إعادة الجامعات إلى دورها البحثي والاجتماعي، لأن كل كتابٍ يُكتب، وكل مقعدٍ يُرمَّم، وكل معلمٍ يعود إلى صفّه، هو طلقة في معركة الوعي والنهوض من تحت الركام.


فالكل يعلم بأن ما جرى في غزة خلال عامين ليس نهاية القصة ولا غاية مخططات العدو الإجرامية، فيا ترى هل ندرك أن بناء العقل وتعميق الإيمان والوعي هو أشرف وجوه الجهاد، أم سنكتفي كما جرت العادة برثاء الضحايا دون أن نسعى لحماية عقول أبنائهم من تجريف التدين والقتل المعنوي.


وختاما: فغزة بإذن الله ستبقى - كما عهدناها - شامخة لا تنكسر. ولكن ربّ منشأة تعليمية تُقام تحت الخيام، تُخرّج جيلاً يهدم الجدار بالعلم  ويقوض الاحتلال بالإيمان كما هدمه من قبل الجند الأبطال بالدم، فإن الوعي والمعرفة-كما كانا دوماً - هما السلاح الأقوى، والأبقى، والأنكى.
فاللهم أنزل نصرك وتفريجك عن غزة وأهلها، اللهم وتقبل منهم واجبر مصيبتهم، وهيء لهم من أمرهم يسرا، إنك جواد كريم.
والله الهادي

  • 0
  • 0
  • 25

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً