أبي يعذبنا، فهل نعيش مع أمنا؟!

منذ 2013-03-31
السؤال: نحن أسرة نعاني كثيرًا من ظلمِ والدِنا، ولدينا أمٌّ متزوجةٌ، وهي على وشك الطلاق من زوجها الثاني، الذي لم تتوافَق معه؛ بسبب ظلمه وعدم عدله، وأصبح يتواصل مع أبي، وأبي يحرِّضه على طلاق أمي!
يتهمنا بأننا نفعل السحر له، ويتهم أمي بأنها ساحرة.
لدينا أبٌ يعذِّبنا منذ 16 عامًا، ويُذِيقنا أشدَّ العذاب بلا رحمة، يضربنا ويقسو علينا، ولا يُنفِق علينا، ويتهمنا في أعراضنا وشرفِنا، يقوم بتشغيلنا في عمل مُرهِق وشاقٍّ!
لا يوجد شيء في البيت للعيش عليه؛ فهو بدون أثاث، ولا سبيل للراحة، رغم أنه رجل ثريٌّ جدًّا، ولا يتكلم معنا ويكرهنا، وإذا تقدم أحدٌ لخِطْبتنا، يقول: ليس لديَّ بنات للزواج، بعكس ما يفعله مع زوجته وأبنائه من زوجتِه الأخرى!
لا نعلم أين نذهب مِن ظُلْمِه، الناس تشهد عليه وعلى أخلاقه، نريد أن نعيش مع أمِّنا بسلام، هل لأمي حقٌّ إذا أصبحتْ مطلَّقة أن تأخذنا منه، فنحن بالغون، وأخونا الكبير طُرِدَ من البيت لشدة التعذيب، واللهِ أخاف على إخوتي من الانحراف، والعثور على مَن يجلب لهم الأمان بطريق الحرام!
ساعدونا؛ فنحن نريد العيش مع أمِّنا بسلام، هي مريضة جدًّا، ولا تستطيع المشي كثيرًا، فهل لها حق طلب رعايتنا، وأن نعيش عندها مع أننا كبار؟
هل يمكنها مطالبةُ القاضي إن كانتْ مطلَّقة ومريضة بحقِّ الرعاية لنا جميعًا، ولمِّ شملنا، والعيش عندها بدلًا من العيش عند أبي؛ لأنه ظالم جدًّا؟
الإجابة: الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه، أما بعد:
فمن المعلوم أن مقصودَ الحضانة هو: حفظُ الأبناء ورعايتهم، وأن حقَّ أحد الأبوين يَسقُط في الحضانة لفسقِه وفساده، أو لإهماله وتضييعه، أو لكثرة أسفاره، بما يضر بمصلحة الأبناء.
فما دام أبوكِ على الحالة التي ذكرتِ، فلا يقدَّم على أمِّك في الحضانة، وإنما تذهبون لتعيشوا مع أمِّكم، وهذا ما قرَّره العلماء قديمًا وحديثًا أن الأب إن كان عاجزًا عن حفظ الأبناء ذكورًا أو إناثًا أو لا يبالي بهم؛ لشغله، أو قلة دينه، أو لانشغاله بزوجةٍ أخرى وأبناء، وكانت الأم تصلح لحفظهم؛ فإن الأبناء يكونون عند أمهم.

قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة رحمه الله: "وأحمد وأصحابه إنما يقدِّمون الأب؛ إذا لم يكن عليها في ذلك حرز، فلو قدر أن الأب عاجز عن حفظها وصيانتها، أو مهمل لحفظها وصيانتها، فإنه يقدم الأم في هذه الحالة، فكلُّ مَن قدَّمناه من الأبوين؛ إنما نقدِّمه إذا حصل به مصلحتها، أو اندفعتْ به مفسدتها، فأما مع وجود فساد أمرها مع أحدهما، فالآخر أولى بها بلا ريب...، وليس هذا الحقُّ من جنس الميراث الذي يحصل بالرحم، والنكاح، والولاية، إن كان الوارث حاجزًا أو عاجزًا، بل هو من جنس الولاية - ولاية النكاح والمال - التي لا بدَّ فيها من القدرة على الواجب، وفعله بحسب الإمكان.
وإذا قدر أن الأب تزوَّج ضرَّةً، وهي تترك عند ضرَّة أمها لا تعمل مصلحتها، بل تؤذيها، أو تقصر في مصلحتها، وأمها تعمل مصلحتها ولا تؤذيها؛ فالحضانة هنا للأم، ولو قدِّر أن التخيير مشروعٌ، وأنها اختارتِ الأم، فكيف إذا لم يكن كذلك؟ ومما ينبغي أن يُعلم أن الشارع ليس له نصٌّ عامٌّ في تقديمِ أحدِ الأبوين مطلقًا، ولا تخيير أحد الأبوين مطلقًا، والعلماء متَّفِقون على أنه لا يتعيَّن أحدهما مطلقًا، بل مع العدوان والتفريط لا يقدَّم مَن يكون كذلك على البَرِّ، العادل، المحسن، القائم بالواجب" انتهى من "مجموع الفتاوى" (34/131، 132).

وقال ابن القيم رحمه الله تعالى في "زاد المعاد": "قد ثبَتَ التخيير عن النبي صلى الله عليه وسلم في الغلامِ من حديث أبي هريرة، وثبتَ عن الخلفاء الراشدين وأبي هريرة، ولا يُعرَف لهم مخالِفٌ في الصحابة ألبتةَ، ولا أنكره منكِرٌ؛ قالوا: وهذا غايةٌ في العدل الممكن؛ فإن الأمَّ إنما قُدِّمَت في حال الصغر لحاجة الولد إلى التربية، والحمل، والرضاع، والمداراة التي لا تتهيَّأ لغير النساء، وإلا فالأم أحد الأبوين، فكيف تقدم عليه؟ فإذا بلغ الغلام حدًّا يُعرِب فيه عن نفسه، ويستغني عن الحمل والوضع وما تعانيه النساء، تساوى الأبوان، وزال السبب الموجِب لتقديم الأم، والأبوان متساويان فيه، فلا يقدَّم أحدهما إلا بمرجح، والمرجِّح إما من خارج وهو القرعة، وإما من جهة الولد وهو اختيارُه، وقد جاءتِ السنة بهذا وهذا، وقد جمعهما حديث أبي هريرة، فاعتبرناهما جميعًا، ولم ندفعْ أحدَهما بالآخر، وقدَّمنا ما قدَّمه النبي صلى الله عليه وسلم وأخَّرنا ما أخَّره، فقدَّم التخيير؛ لأن القرعة إنما يُصار إليها إذا تساوتِ الحقوق من كلِّ وجهٍ، ولم يبقَ مرجِّح سواها..، فهذا لو لم يكنْ فيه موافقة السنة، لكان من أحسن الأحكام، وأعدلها، وأقطعها للنزاع" اهـ.

وقال رحمه الله: "إذا قدَّمنا أحدَ الأبوينِ، فلا بدَّ أن نراعِيَ صيانتَه وحفظَه للطفل؛ ولهذا قال مالكٌ والليث: إذا لم تكنِ الأمُّ في موضع حرز وتحصين، أو كانتْ غير مرضية، فللأبِ أخذُ البنتِ منها، وكذلك الإمام أحمد رحمه الله في الرواية المشهورة عنه، فإنه يعتبر قدرته على الحفظ والصيانة؛ فإن كان مهملًا لذلك، أو عاجزًا عنه، أو غير مرضي، أو ذا دياثة، والأمُّ بخلافه؛ فهي أحقُّ بالبنت بلا ريبٍ، فمَن قدَّمناه بتخيير، أو قرعة، أو بنفسه، فإنما نقدِّمه إذا حصلتْ به مصلحة الولد، ولو كانتِ الأم أصون مِن الأب، وأغير منه، قدِّمت عليه، ولا التفاتَ إلى قرعة، ولا اختيار الصبي في هذه الحالة؛ فإنه ضعيفُ العقلِ يؤثر البطالة واللعب، فإذا اختار مَن يساعده على ذلك، لم يلتَفتْ إلى اختياره، وكان عند مَن هو أنفع له وأخيَر، ولا تحتمل الشريعة غير هذا، والنبي صلى الله عليه وسلم قد قال: "مُرُوهم بالصلاةِ لسبعٍ، واضربوهم على تركِها لعشرٍ، وفرِّقُوا بينهم في المضاجعِ"، والله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم: 6]، وقال الحسن: علِّموهم وأدِّبوهم وفقِّهوهم.

فإذا كانتِ الأم تتركه في المكتب، وتعلِّمه القرآن، والصبي يُؤثِر اللعب، ومعاشرة أقرانه، وأبوه يمكنه من ذلك، فإنه أحق به بلا تخييرٍ ولا قرعة، وكذلك العكس، ومتى أخلَّ أحدُ الأبوين بأمرِ الله ورسوله في الصبيِّ وعطله، والآخر مراعٍ له؛ فهو أحقُّ وأولى به.
وسمعتُ شيخَنا رحمه الله يقول: تنازع أبوانِ صبيًّا عند بعض الحكَّام، فخيَّره بينهما، فاختار أباه، فقالتْ له أمُّه: سَلْه لأيِّ شيءٍ يختار أباه؟ فسأله، فقال: أمي تبعثني كلَّ يومٍ للكتَّاب، والفقيه يَضرِبُني، وأبي يتركني للعب مع الصبيان، فقضى به للأم، قال: أنتِ أحقُّ به" انتهى.

خالد عبد المنعم الرفاعي

يعمل مفتيًا ومستشارًا شرعيًّا بموقع الألوكة، وموقع طريق الإسلام

  • 5
  • 0
  • 13,145

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً