هل تناقُضاتي تُعد نفاقًا؟

منذ 2013-04-10
السؤال: أنا فتاةٌ في نهاية العشرينيَّات، لديَّ مشكلة تؤرِّقني وهي: فِعْل الأشياء المتناقِضَة مثل:
- أحبُّ جدًّا رفقة الفتيات المسلمات الملتَزِمات، وفي نفس الوقت أرافق بنات غير مُسلمات.
- أدَّعي أني أحبُّ الله كثيرًا وأحب الرَّسول، وأريد أن أتبع سُنتَه، ولكني أحيانًا أؤخِّر الصلاة لآخر الوقت، أَحِنُّ إلى النوافِل، وأحيانًا أخرى أعاني مِن الفُتُور.
- أُحِب النِّقاب كثيرًا، وأتمنى لو ارتَدَتْه كل النِّساء، وبالرغم من ذلك لا أرتديه إلَّا قليلًا.
- أدعو الله دائمًا، وأتوَسَّل إليه أن يحبَّنِي، ولكني أحسُّ أنها حماقةٌ مني مع الله جلَّ وعلا، وأني لستُ أهلًا لذلك؛ لأني اقتَرَفتُ الكثير من الذنوب والأخطاء.
- أُحِبُّ أمي وأبي وإخوتي كثيرًا، وأريد أن أعوِّضهم عن كلِّ شيء، ومع ذلك أدعو الله أن يهبني زوجًا، وبذلك أنشغل به عنهم.
- أقترفُ الأخطاء، وأستغفر منها، وأعود وأقترفها مرةً أخرى.
- أحب الكلَّ، ولا أحمل الضغينة لأحد، وأحيانًا تحدِّثني نفسي أني لا أجرُؤُ على أن أكره أو أعادي أحدًا؛ لأن شخصيَّتي ضعيفة.
كل هذه التناقُضات وغيرها تؤرِّقني جدًّا، وأخاف كثيرًا أن تكونَ نفاقًا؛ أفيدوني جزاكم الله خيرًا، وأثابكم الجنة، وكلَّ المسلمين.
الإجابة: الحمدُ للهِ، والصلاةُ والسلامُ على رسولِ اللهِ، وعلى آلِهِ وصحبِهِ ومَن والاهُ، أمَّا بعدُ:
فما تذكرينه أيتُها الأختُ الكريمةُ هو مِن طبيعة النفس البشَريَّة؛ أن تَعرِض لها أوقاتُ قوةٍ، وأوقاتُ ضعفٍ وفُتور، وقد لخَّص ذلك النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: "فَإِنَّ لِكُلِّ عَابِدٍ شِرَّةً، وَلِكُلِّ شِرَّةٍ فَتْرَةً، فَإِمَّا إِلَى سُنَّةٍ، وَإِمَّا إِلَى بِدْعَةٍ، فَمَنْ كَانَتْ فَتْرَتُهُ إِلَى سُنَّةٍ فَقَدِ اهْتَدَى، وَمَنْ كَانَتْ فَتْرَتُهُ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَقَدْ هَلَكَ" [رواه أحمد والترمذيُّ، ولفظه: "إِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ شِرَّةً، وَلِكُلِّ شِرَّةٍ فَتْرَةً، فَإِنْ كَانَ صَاحِبُهَا سَدَّدَ وَقَارَبَ فَارْجُوهُ، وَإِنْ أُشِيرَ إِلَيْهِ بِالأَصَابِعِ فَلَا تَعُدُّوهُ"].
وقال عمرُ بن الخطَّاب رضي الله عنه وأرضاه: "إن لهذه القلوب إقبالًا وإدبارًا؛ فإذا أقبلتْ فخذوها بالنوافلِ، وإن أدبرت فَأَلزِموها الفرائضَ".
وهذه الفترات والحُجُب التي تَعرِض للمرء يتبيَّن بها الصادقُ من الكاذب؛ فالكاذب ينقلِب على عقبيه، ويعود إلى أصل طبيعتِه وهواه، والصادق ينتظِر الفرَج، ولا ييئسُ من رَوْح الله، بل يفرُّ إلى الله، ويَطْرحُ نفسه ذليلًا، مسكينًا، مستكينًا، مفتقرًا، متوسِّلًا إليه أن يُهيِّئَ له ما يُصلِحُهُ، وبهذا يتبيَّن لكِ سببُ ثِقَلِ الطاعة عليكِ في بعض الأحيان، وخفَّتِها في أحيانٍ أُخَرَ، ولكن احرصي في لحظات إدبار القلب على عدم الوُقوع في الحرام على كل حال، فإذا اقترفتِ ذنبًا، فبادري بالتوبةِ النَّصوح، واعزمي على عدم العَوْد، وإذا هممتِ بطاعة، فأسرعي بفعلها، واحذري التسويفَ.
واقترافُ الأخطاء مما لا ينفكُّ عنه ابنُ آدم، ولكن بشرط إحداثِ التوبة، والعزم على عدم العَوْد؛ فقد روى مسلم عن أبي هريرة، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده، لو لم تُذْنبوا لذهب اللهُ بكم، ولجاء بقوم يُذنبون، فيستغفرون اللهَ فيغفر لهم".
وادْعي اللهَ وأنتِ موقنةٌ بالإجابة، وإياكِ وتلبيسَ الشيطان عليكِ بترك الدعاءِ؛ بدعوى أنك لستِ أهلًا لذلك؛ فقد علَّمنا النبيُّ الله صلى الله عليه وسلم أن ندعُوا: "اللهم إني أسألُك فِعْلَ الخيرات، وترْكَ المنكَرات، وحبَّ المساكين، وأن تغفرَ لي، وترحمَني، وإذا أردتَ فتنةَ قوم، فَتَوَفَّنِي غيرَ مفتون، أسألُك حبَّك، وحبَّ مَن يحبك، وحبَّ عمل يقرِّبني إلى حبك"، وقال صلى الله عليه وسلم: "ادعُوا اللهَ وأنتم موقنون بالإجابة، واعلموا أن اللهَ لا يستجيب دعاءً مِن قلبٍ غافلٍ لَاهٍ".
والحاصل: أنك لا تستطيعين أن تُلزِمِي نفسَكِ الجِدَّ بصورةٍ مستمرةٍ، وهذا جوابُ جزءٍ من التناقُض الذي أشرتِ إليه.
أما مُرافَقة الفتيات غير المسلمات؛ فالشرع الحنيف نَهَى عن مودَّتهن، والركونِ إليهن، واتخاذِهن صديقاتٍ وخليلات ؛ لِما قد يترتب على ذلك من مَيلِ القلب إليهن، والرِّضا بدينِهِن؛ كما قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} [آل عمران: 118]، وقال سبحانه: {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ} [هود: 113]، وقال تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [المجادلة: 22]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا} [النساء: 144].
وقال صلى الله عليه وسلم: "مَن جَامَعَ المُشرك وسَكَنَ معه، فهو مثلُه" [رواه أبو داود].
وقال صلى الله عليه وسلم: "أنا بريءٌ من كل مسلمٍ يُقيم بين أظهُر المشركين، قالوا: يا رسول الله، ولم؟ قال: لا تَتَرَاءَى نارَاهُما" [رواه أبو داود والترمذي].
قال الشوكاني: "قوله: "فهو مثلُه" فيه دليلٌ على تحريم مُسَاكَنَةِ الكفَّار، ووجوب مفارقتهم". وقال: "قوله: "لا تتراءى ناراهما" يعني: لا ينبغي أن يكونا بموضعٍ بحيثُ تكون نارُ كلِّ واحدٍ منهما في مقابلةِ الأُخرى، على وجهٍ لو كانتْ متمكِّنةً من الإبصار لأَبصَرَت الأُخرى، فإثباتُ الرؤية للنار مجازٌ"، وقال في "نهاية المحتاج": "فلا تجبُ إجابةُ ذِمِّي، بل تسنُّ إن رُجِيَ إسلامُه، أو كان نحو قريبٍ أو جارٍ، وسيأتي في الجِزية حُرْمَةُ المَيلِ إليه بالقلب".
فمُوالاةُ الأخوات المسلمات من أوثقِ عُرَى الإيمان، وكذلك بُغْض الكافرات ؛ فقد روى أحمدُ عن البراء بن عازب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أوثقُ عُرَى الإيمان الموالاةُ في الله، والمعاداةُ في الله، والحبُّ في الله، والبغضُ في الله".
أمَّا إن كان مجردَ الإحسان إليهن، أو الهديةَ لهن، وبذْلَ المعروف، فهذا أمر جائزٌ، لا سيما إذا أُريد بذلك تأليفُهن للإسلام، ولكن بغير مودَّة القلب، أو تعظيمِ شعائر الكفر، فمتى أدَّى إلى أحد هذين، امتَنَع، وصار من قَبيل ما نُهِيَ عنه؛ كما قال تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة: 8].
أما سؤالُك أن يهبَكِ اللهُ زوجًا صالحًا، فلا يتناقضُ مع حبِّك لأسرتك؛ لأنهما شيئانِ غيرُ متعارضَيْنِ، بل متوافقَيْنِ، وهذه سنةٌ كونيةٌ قضاها اللهُ لبقاء العالم.

هذا؛ وسأذكر لكِ بعض الخُطُوات لعلاج الفتور عمومًا:
- الاستعاذةُ الدائمة من العجز والكسل؛ فهما العائقانِ لجميع السالكين في أمور الدنيا والآخرة، وقد كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يُكثِر التعوُّذَ منهما؛ كما في الصحيحين: "اللهم إني أعوذُ بك من العجز والكسل، والجُبنِ والهَرَمِ، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات، وأعوذ بك من عذاب القبر"؛ فالعاجز لا يريد أن يفعلَ، وفي نفس الوقت هو غيرُ قادر عليه، والكسول: أن يكونَ قادرًا، لكن لا همةَ عنده، وإنما يَعتريه الفُتور.
- تجديدُ التوبة؛ فالإنسان مطالَبٌ بتجديد التوبة مع كل نَفَسٍ جديدٍ، أو لحظةٍ تمرُّ بعُمُره، فهذه فرصةٌ جديدةٌ، ويبتعد عن مقولة: سأتوب، سأرجع، سأترك.
- احذري الغفلةَ، والسببُ الرئيسي لها الجهلُ، الذي كلما زاد عَمَّت الغفلةُ في الإنسان، والجهلُ عدوُّ الفضائل.
- احرصي على اقتناء بعض الكُتُب التي تُعينُكِ على معرفة دينكِ؛ ككتب شيخ الإسلام ابن القيم؛ ومنها: كتاب "مدارج السالكين"، "إغاثة اللهفان"، "الفوائد".

خالد عبد المنعم الرفاعي

يعمل مفتيًا ومستشارًا شرعيًّا بموقع الألوكة، وموقع طريق الإسلام

  • 0
  • 0
  • 13,116

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً