تغير حالي بعد فسخ خطبتي

منذ 2016-11-07

فتاة كانتْ مخطوبة لشابٍّ ثم فسَخ الخطبة، ومنذ ذلك الوقت وهي متغيِّرة؛ تغيرْت في صلاتها وعبادتها، وأصبحتْ مُقَصِّرةً في كل شيء.

السؤال:

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

منذ مدة خُطِبْتُ، ثم تَمَّ الانفصالُ مِن جهة الخاطب؛ لأني كنتُ هادئةٌ وخجولًا؛ فلم يُعجبه هذا، وقال لي: لن نستطيع أن نكمل معًا!

تعبتْ نفسيتي، ثُم علمتُ أن الله قد أبعد عني شرًّا كان مِن الممكن حدوثُهُ إذا تم الزواج، وفوضتُ أمري إلى الله.

كنتُ قبل الخطبة أصلي، وأحافظ على قراءة القرآن، وكنتُ أدعو الله أن يرزقني الزوجَ الصالحَ، واستمررتُ على هذا الدعاء، وعلى هذا الحال حتى بعد فسْخ الخطبة.

المشكلة أني منذ شهرين لا أنتظم في الصلاة إطلاقًا، فأصلي فرضًا، وأترك الآخر، وأصبحتُ لا أقرأ القرآن الكريم، ولا أدعو الله بأن يرزقني الزوج الصالح إلا قليلًا، وبدأتُ أستمع للأغاني على الرغم من أنني كنتُ لا أستمع لها منذ فترة طويلة جدًّا.

إذا اقتربتُ من المصحف أشعر بأن هناك شيئًا يبعدني عنه، وأنا حزينةٌ جدًّا لِمَا حدث، كنتُ أقوم الليل كثيرًا، وأصلي الفجر في وقته، والآن تبخَّر كل هذا، لا أعرف ما الذي حدث؟

سؤالٌ آخر: هل الذي فعلتُهُ من عدم انتظامٍ في الصلاة وقراءة القرآن يمكن أن يمنع الله به عني رزقي؟ لأنني أدعو الله دائمًا أن يرزقني بالزوج الصالح، ولكن تحقيق الدعوة تأخَّر، وأنا أعلم أن في التأخير خيرًا لي، ولكني أريد أن أعرفَ مع العلم أن أمامي نماذج قامتْ بمعاصٍ كثيرةٍ جدًّا، وفي الوقت نفسه تعيش حياةً هادئةً وآمنةً وتحقَّقَ لها ما تريد.

الإجابة:

الحمدُ للهِ، والصلاةُ والسلامُ على رسولِ اللهِ، وعلى آلِهِ وصحبِهِ وَمَن والاهُ، أمَّا بعدُ:

فمما لا شك فيه - أيتُها الأُختُ الكريمةُ - أن فسخَ خِطبتِكِ له سببٌ كبيرٌ فيما وَصَلْتِ إليه من تقصيرٍ في جنب الله سبحانه وتعالى؛ فالمؤمنُ مُطمئنُّ القلبِ، ثابتُ القَدَمِ، هادئُ البالِ، موصولٌ بالله، وإيمانُهُ بالله هو الركيزةُ الثابتةُ في حياتِهِ، تضْطَرِبُ الدنيا من حوله، فَيَثْبُتُ على إيمانِهِ، وتصديقِهِ، وتتجاذَبُهُ الأحداثُ والدوافِعُ والابتلاءاتُ فَيَتَشَبَّثُ بِحَبْلِ إِيمَانِهِ المتينِ، تتزعزعُ وتَتَهَاوَى من حولِهِ الأَسْنَادُ، فيستَنِدُ هو إلى القاعدة التي لا تحولُ ولا تزولُ.

الأختُ الكريمةُ، هذه هي قيمةُ العقيدةِ التي يكون المؤمنُ في أشَدِّ حاجةٍ إليها عند الابتلاء، فيكونُ واثقًا أنَّ ما أَصَابَهُ لم يكن لِيُخْطِئَهُ، وما أخطأه لم يكن ليُصِيبَهُ، وأنه لو مات على غَيْرِ ذلك لَأَدْخَلَهُ اللهُ النارَ، فافتحي قَلْبَكِ لِلنُّورِ، واطلُبِي من الله الهُدَى، والاطمئنان بها؛ كما أمرنا سبحانه في الحديث القدسي: «يَا عِبَادِي، إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ على نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا، فَلَا تَظَالَمُوا، يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلَّا مَنْ هَدَيْتُهُ، فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ، يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلَّا مَنْ أَطْعَمْتُهُ، فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ، يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ عَارٍ إِلَّا مَنْ كَسَوْتُهُ، فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ، يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا، فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ، يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضرِّي فَتَضُرُّونِي، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي، يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا على أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ، مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا، يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا على أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا، يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ، يَا عِبَادِي إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا، فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ»؛ رَوَاهُ مسلمٌ.

تَذَكَّرِي أن الإيمانَ والتقوى والعبادة والصلة بالله وإقامة شريعة الله في حياتك كلُّ أولئك ثمرتُهُ لك، واللهُ سبحانه غَنِيٌّ عن العالمين، واللهُ أَمَرَنَا بالاستقامة على المنهج الإسلامي، لا لأنه سبحانه ينالُهُ شيءٌ من إيمانِ العِبَادِ وتَقْوَاهُمْ وعبادَتِهِمْ له، وتحقيقِ منهَجِهِ في الحياة، ولكن لأنه سبحانه يعلمُ أنه لا صَلَاحَ لنا ولا فَلَاحَ إلا بالِاستِقَامَةِ.

وَلْتَحْذَرِي - رَعَاكِ اللهُ - فهناكَ صنفٌ من الناس يجعَلُ الإيمانَ باللهِ صَفْقَةً في سوق التجارة؛ إن رَبِحَ قال: الإيمانُ خيرٌ، وهو ذَا يَجْلِبُ النفع، وَيُدِرُّ الضَّرْعَ، ويُنَمِّي الزَّرْعَ، ويُرْبِحُ التجارة، وَيَكْفُلُ الزواجَ، وإن أَصَابَهُ بَلَاءٌ جَزِعَ ولم يصبِرْ عليه، ولم يَتَمَاسَكْ له، ولم يَرْجِعْ إلى الله فيه، فَخِسَر دنياهُ وأُخراه بانتكاسِهِ عن الهُدَى الذي كان ميسرًا له؛ قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ على حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ على وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج: 11]، وقال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ} [العنكبوت: 10].

فاخرجي مما أَلَمَّ بِكِ، وخُذِي نفسَكِ بالشِّدَّةِ، وكُفِّي - بارك الله فيك - عن جميعِ الذُّنوب والمعاصي، والمخالَفات الشرعية، واحذري تضييعَ الصلاةِ فإنه لا حَظَّ لأحَدٍ في الإسلام أَضَاعَ الصلاة؛ كما قال الفاروق عمر.

فالمعاصي من أسبابِ الحِرْمانِ التي من أعظمها حرمانُ استجابة الدعاء، فقد روى الحاكم وغيره أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لَا يَرُدُّ الْقَدَرَ إِلَّا الدُّعَاءُ، وَلَا يَزِيدُ فِي الْعُمُرِ إِلَّا الْبِرُّ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيُحْرَمُ الرِّزْقَ بِالذَّنْبِ يُصِيبُهُ».

وقال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30]، قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنْهُما: "إنَّ لِلْحَسَنَةِ ضِيَاءً فِي الْوَجْهِ، وَنُورًا فِي الْقَلْبِ، وَسعَةً فِي الرِّزْقِ، وَقُوَّةً فِي الْبَدَنِ، وَمَحَبَّةً فِي قُلُوبِ الْخَلْقِ، وَإِنَّ لِلسَّيِّئَةِ سَوَادًا فِي الْوَجْهِ، وَظُلْمَةً فِي الْقَلْبِ، وَوَهَنًا فِي الْبَدَنِ، وَنَقْصًا فِي الرِّزْقِ، وَبُغْضَةً فِي قُلُوبِ الْخَلْقِ".

أما من تشاهدينَهُم من أهل المعاصي يرفُلُون في النعيم والحياة الهادئة، فهو استدراجٌ مِنَ اللهِ تعالى؛ {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} [الأنعام: 44]، والمُبلِسُ: الآيِسُ - كما قال ابن عباس.

وقال تعالى: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ} [المؤمنون: 55، 56]، وَقَالَ: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ} [الأعراف: 182].

فهذا استدراجٌ منه تعالى وإملاءٌ؛ عِيَاذًا باللهِ مِن مَكْرِهِ؛ ولهذا قال: {حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا}؛ أي: مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَالْأَرْزَاقِ، {أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً}؛ أي: على غَفْلَةٍ، {فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ}؛ أي: آيِسُونَ مِن كُلِّ خَيْرٍ؛ قَالَهُ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ.

قال ابنُ القيِّمِ - رحمه الله - في "الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي" أو "الداء والدواء": "وَهَا هُنَا نُكْتَةٌ دَقِيقَةٌ يَغْلَطُ فِيهَا النَّاسُ فِي أَمْرِ الذَّنْبِ، وَهِيَ أَنَّهُمْ لَا يَرَوْنَ تَأْثِيرَهُ فِي الْحَالِ، وَقَدْ يَتَأَخَّرُ تَأْثِيرُهُ فَيُنْسَى، وَيَظُنُّ الْعَبْدُ أَنَّهُ لَا يُغَبِّرُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَأَنَّ الْأَمْرَ كَمَا قَالَ الْقَائِلُ:

إِذَا لَمْ يُغَبِّرْ حَائِطٌ فِي وُقُوعِهِ        فَلَيْسَ لَهُ بَعْدَ  الْوُقُوعِ  غُبَارُ

وَسُبْحَانَ اللهِ، مَاذَا أَهْلَكَتْ هَذِهِ النُّكْتَةُ مِنَ الْخَلْقِ؟ وَكَمْ أَزَالَتْ غُبَارَ نِعْمَةٍ؟ وَكَمْ جَلَبَتْ مِنْ نِقْمَةٍ؟ وَمَا أَكْثَرَ الْمُغْتَرِّينَ بِهَا مِن الْعُلَمَاءِ وَالْفُضَلَاءِ، فَضْلًا عَنِ الْجُهَّالِ، وَلَمْ يَعْلَمِ الْمُغْتَرُّ أَنَّ الذَّنْبَ يَنْقَضُّ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ، كَمَا يَنْقَضُّ السُّمُّ، وَكَمَا يَنْقَضُّ الْجُرْحُ الْمُنْدَمِلُ على الْغِشِّ وَالدَّغَلِ، وَقَدْ ذَكَرَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ: اعْبُدُوا اللهَ كَأَنَّكُمْ تَرَوْنَهُ، وَعُدُّوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ الْمَوْتَى، وَاعْلَمُوا أَنَّ قَلِيلًا يُغْنِيكُمْ خَيْرٌ مِنْ كَثِيرٍ يُلْهِيكُمْ، وَاعْلَمُوا أَنَّ الْبِرَّ لَا يَبْلَى، وَأَنَّ الْإِثْمَ لَا يُنْسَى.

وَنَظَرَ بَعْضُ الْعُبَّادِ إِلَى صَبِيٍّ، فَتَأَمَّلَ مَحَاسِنَهُ، فَأُتِيَ فِي مَنَامِهِ، وَقِيلَ لَهُ: لَتَجِدَنَّ غِبَّهَا بَعْدَ أَرْبَعِينَ سَنَةً، هَذَا مَعَ أَنَّ لِلذَّنْبِ نَقْدًا مُعَجَّلًا لَا يَتَأَخَّرُ عَنْهُ، قَالَ سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ: إِنَّ الرَّجُلَ لَيُصِيبُ الذَّنْبَ فِي السِّرِّ فَيُصْبِحُ وَعَلَيْهِ مَذَلَّتُهُ، وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ الرَّازِيُّ: عَجِبْتُ مِنْ ذِي عَقْلٍ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ: اللَّهُمَّ لَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ، ثُمَّ هُوَ يُشْمِتُ بِنَفْسِهِ كُلَّ عَدُوٍّ لَهُ، قِيلَ: وَكَيْفَ ذَلِكَ؟ قَالَ: يَعْصِي اللهَ وَيَشْمَتُ بِهِ فِي الْقِيَامَةِ كُلُّ عَدُوٍّ، وَقَالَ ذُو النُّونِ: مَنْ خَانَ اللهَ فِي السِّرِّ، هَتَكَ اللَّهُ سِتْرَهُ فِي الْعَلَانِيَةِ، وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: إِنِّي لَأَعْصِي اللهَ فَأَرَى ذَلِكَ فِي خُلُقِ دَابَّتِي وَامْرَأَتِي.

وَمِنْهَا: تَعْسِيرُ أُمُورِهِ عَلَيْهِ، فَلَا يَتَوَجَّهُ لِأَمْرٍ إِلَّا يَجِدُهُ مُغْلَقًا دُونَهُ أَوْ مُتَعَسِّرًا عَلَيْهِ، وَهَذَا كَمَا أَنَّ مَنِ اتَّقَى اللهَ جَعَلَ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا، فَمَنْ عَطَّلَ التَّقْوَى جَعَلَ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ عُسْرًا، وَيَا للهِ الْعَجَبُ! كَيْفَ يَجِدُ الْعَبْدُ أَبْوَابَ الْخَيْرِ وَالْمَصَالِحِ مَسْدُودَةً عَنْهُ، وَطُرُقَهَا مُعَسَّرَةً عَلَيْهِ، وَهُوَ لَا يَعْلَمُ مِنْ أَيْنَ أُتِيَ؟". انتهى.

وقال ابن القيم - رحمه الله - في "مدارج السالكين" بعد أن ذَكَرَ أثَر ابن عباس: "فَكُلُّ نَقْصٍ وَبَلَاءٍ وَشَرٍّ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَسَبَبُهُ الذُّنُوبُ، وَمُخَالَفَةُ أَوَامِرِ الرَّبِّ، فَلَيْسَ فِي الْعَالَمِ شَرٌّ قَطُّ إِلَّا الذُّنُوبَ وَمُوجِبَاتِهَا.

وَآثَارُ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ فِي الْقُلُوبِ وَالْأَبْدَانِ وَالْأَمْوَالِ أَمْرٌ مَشْهُودٌ فِي الْعَالَمِ، لَا يُنْكِرُهُ ذُو عَقْلٍ سَلِيمٍ، بَلْ يَعْرِفُهُ الْمُؤْمِنُ وَالْكَافِرُ، وَالْبَرُّ وَالْفَاجِرُ.

وَشُهُودُ الْعَبْدِ هَذَا فِي نَفْسِهِ وَفِي غَيْرِهِ، وَتَأَمُّلُهُ وَمُطَالَعَتُهُ مِمَّا يُقَوِّي إِيمَانَهُ بِمَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ، وَبِالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، فَإِنَّ هَذَا عَدْلٌ مَشْهُودٌ مَحْسُوسٌ فِي هَذَا الْعَالَمِ". انتهى.

فَعُودِي لِصَلَاتِكِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، وَجَاهِدِي نَفْسَكِ وَأَنتِ مُوقِنَةٌ أَنَّ قَدَرَ اللهِ كُلَّهُ خَيْرٌ؛ قال تعالى: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216].

وَتَحَلَّيْ بِآدَابِ الدُّعاَءِ، وَابْتَعِدِي عَن مَوَانعِ وحواجبِ الاستجابة، وتأمَّلِي كَلَامَ طبيبِ الْقُلُوب الإمامِ ابْنِ القيِّم - رحمه الله تعالى - في كتابه "الدَّاءُ والدَّواءُ": "والْأدعِيَةُ والتَّعوُّذاتُ بِمَنزِلَةِ السِّلَاحِ، والسِّلَاحُ بضارِبِهِ، لا بِحَدِّهِ فقط، فَمَتى كان السِّلاحُ سلاحًا تامًّا لا آفةَ بِهِ، والسَّاعِدُ سَاعِدٌ قويٌّ، والمانعُ مفقودٌ؛ حَصَلَتْ به النِّكاية في العدوِّ، وَمَتى تَخَلَّفَ واحدٌ من هذه الثَّلَاثَةِ تَخَلَّفَ التَّأْثِيرُ".

وكان عُمَرُ - رضي الله عنه وأرضاه - من فقهه بكتاب الله يقول: "أنا لا أَحْمِلُ هَمَّ الإجابَةِ، لَكِنْ أَحْمِلُ هَمَّ الدُّعَاءِ".

ومن الأسباب المعينة للدَّاعي على تحقيق الإجابة:

  • الْإخلَاصُ في الدعاء، وهو أهمُّ الآدابِ وأعظمُها، وأمرَ اللهُ - عزَّ وجلَّ - بالإخلاصِ في الدعاء؛ فقال سبحانه: {وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [الأعراف: 29]، والْإخلَاص في الدُّعاء هو الاعتقاد الجازم بأنَّ المدعوَّ - وهو اللهُ عزَّ وجلَّ - هو القادر وحدَهُ على قَضَاءِ حَاجَتِهِ، والبعد عن مُرَاءاة الخَلْقِ بذلك.

 

  • التَّوبة من جميع المعاصي، والرجوع إلى الله تعالى؛ فإنَّ المعاصيَ من الأسباب الرئيسة لحَجْبِ الدُّعاء؛ فينبغي للدَّاعي أن يُبَادر للتَّوبة والاستغفار قبل دعائه؛ قال اللهُ - عزَّ وجلَّ - على لسان نوح عليه السلام: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ * وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا} [نوح: 10 - 12]، ومن أعظم الذنوب تلك الباطنةُ داخلَ النَّفْس؛ قال تعالى: {وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ} [الأنعام: 120].

 

  • التضرُّعُ والخشوعُ والتذلُّلُ، والرَّغبةُ والرَّهبةُ، وهذا هو رُوحُ الدُّعاء ولُبُّه ومقصوده؛ قال الله عزَّ وجلَّ: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [الأعراف: 55].

 

  • الإلحاحُ والتَّكرار، وعدم الضَّجَر والملل؛ اتِّباعًا لسُنَّة النبيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقد رَوَى ابنُ مسعودٍ - رضي الله عنه -: «أنَّ النبيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يُعْجِبُهُ أن يَدْعُوَ ثلاثًا، وَيَسْتَغْفِرَ ثلاثًا»؛ رواه أبو داود والنَّسائيُّ.

 

  • الدُّعاءُ حالَ الرَّخاء، والإكثارُ منه في وقت اليُسْر والسَّعَة؛ قال النبيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تَعَرَّفْ إِلَى اللهِ فِي الرَّخَاءِ، يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ»؛ رواه أحمد.

 

  • التوسُّل إلى الله بأسمائه الحسنى وصفاته العليا، في أوَّل الدُّعاء أو آخره؛ قال تعالى: {وَللهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف: 180].

 

  • اختيار جوامع الكَلِم، وأحسن الدُّعاء وأجمعه وأبيَنه، وخيرُ الدُّعاء دعاءُ النبيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ويجوزُ الدُّعاء بغيره مما يخصُّ الإنسانُ به نفسَه من حاجاتٍ.

 

  • استقبالُ القِبْلَة، والدُّعاء على حال طهارةٍ، واستفتاح الدُّعاء بالثَّناء على الله - عزَّ وجلَّ - وحَمْدِهِ، والصلاةِ على النبيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ورَفْعِ اليدينِ حالَ الدُّعاء؛ فعن سَلْمَانَ قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِنَّ رَبَّكُمْ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - حَيِىٌّ كَرِيمٌ، يَسْتَحْيِي مِنْ عَبْدِهِ إِذَا رَفَعَ يَدَيْهِ إِلَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا»؛ رواه أبو داود.

 

  • تحري الأوقات الفاضلة؛ وقتُ السَّحَر، وهو ما قبل الفَجْرِ، ومنها: الثُّلُثُ الآخرُ من الليل، ومنها: آخرُ ساعةٍ من يوم الجُمُعَةِ، ومنها: وقتُ نُزُولِ المَطَرِ، ومنها: بين الأذان والإقامَةِ.

 

هذا؛ وسأذكر لَكِ بعضَ موانعِ إجابة الدُّعاء؛ لتَتَجَنَّبِيهَا:

  • أن يكون الدُّعاء ضعيفًا في نَفْسِهِ؛ لما فيه من الاعتداء، أو سوء الأدب مع الله عزَّ وجلَّ، والاعتداءُ: هو سؤال الله - عزَّ وجلَّ - ما لا يجوزُ، أو أن يَدْعُوَ بإثمٍ، أو مُحَرَّمٍ، أو على النَّفس بالموت؛ فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَزَالُ يُسْتَجَابُ لِلْعَبْدِ ما لم يَدْعُ بِإِثْمٍ أَوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ»؛ رواه مسلمٌ.

 

  • أن يكون الدَّاعي ضعيفًا في نفسه؛ لضَعْف قلبِه في إقباله على الله تعالى، أو مشتملًا على سوءِ أَدَبٍ مع الله تعالى، فيدعوه دعاءَ المستغني المنصَرِفِ عَنْهُ، أو يتكلَّفَ في اللَّفظ؛ فينشغلَ به عن المعنى، أو يتكلَّفَ في البكاء والصِّياح دون وجوده!

 

  • أن يكون المانعُ من حصول الإجابة الوقوعَ في شيءٍ من محارم الله؛ مثل: المال الحرام؛ مأكلًا، ومَشْربًا، وملبسًا، ومسكنًا، ومركبًا، ودَخْلِ الوظائف المحرَّمة، ومثل رَيْنِ المعاصي على القلوب، والبدعةِ في الدِّين، واستيلاءِ الغَفْلَةِ على القَلْبِ.

 

  • استعجالُ الإجابةِ والاستحسَارُ بتَرْك الدُّعاء؛ فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يُسْتَجَابُ لِأَحَدِكُمْ مَا لم يَعْجَلْ، يقول: دَعَوْتُ فَلَمْ يُسْتَجَبْ لِي»؛ رواه البخارِيُّ ومسلمٌ.

 

وفقك الله لكل خير، ورزقك زوجًا صالحًا.

خالد عبد المنعم الرفاعي

يعمل مفتيًا ومستشارًا شرعيًّا بموقع الألوكة، وموقع طريق الإسلام

  • 3
  • 0
  • 31,956

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً