الماضي المؤلم وكيفية التغلب على أثره
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
أرجوكم ساعدوني، لقد تعبت كثيرًا، أرجوكم خلصوني مما أنا فيه، أرجوكم دلوني على حلٍّ سريع وفعال، أنا تعبت، من أين أبدأ؟ هل أبدأ من طفولتي المُرة، أو من حاضري؟ في طفولتي كان أبي يضرب أمِّي، وكنت أراهما وهو يصعد على بطنها وهي حامل في الشهور الأخيرة، ويضربها على وجهها، ثم طلِّقت أمِّي منه، عشت 5 سنوات وأنا متجولة بين أمي وأبي، أيامًا عند أمي وأيامًا عند أبي، ثُمَّ قرَّرت المحكمة أنْ أعيش عند أمي وأخوالي، الأيَّام التي قضيتها مع أخوالي هي أمرُّ الأيام.
هم لم يستخدموا العنف الجسدي، بل النفسي، وخاصَّة اثنتين من خالاتي كانتا أشر الناس عليَّ من لسانهما السَّليط، مع ذلك كان مستواي الدِّراسي ممتازًا، ولله الحمد؛ إذ إنَّ أمي كانت تدفعني للتفوُّق بكل معانيه، وعندما نأتيها ونحن في قِمَّة الأسى من فقدان الأب، تقول: ما ضركم؛ نبيُّنا كان أسوأ حالاً منكم، فهو فاقد الأم والأب.
مشت الأيام، كنت في المرحلة المتوسطة في قمة نشاطي، وكنت اجتماعية بدرجة عالية، فكنت أصاحب المعلِّمات، وأربط علاقتي بمديرتي، حتى إنِّي كنت مشهورة في المدرسة بتميُّزي وتفوقي وحفظي للقرآن، حتى إنَّ بعضهم كان يقول عني: سيكون لها مستقبل مشرق، وكانت أمي تخاف عليَّ كثيرًا من العين، ومن ألسنة الناس، وكنت في المدرسة نفسِها التي تدرِّس فيها إحدى خالاتي اللاتي يكرهنني، فكانت تُهينني أمام زميلاتي، وتنقصني في الدَّرجات من غير سبب، فأثَّر ذلك عليَّ، ونقلت إلى مدرسة أخرى، وما أن وصلت إلى المرحلة الثانوية، حتى بدأت أخبو قليلاً قليلاً، حتى وصلت لدرجة أنِّي أكره الناس، وأحب العزلة، فلم تعد لي تلك الصَّداقات، صداقاتي كلها محدودة وأنا لا أميل لهم، دخلت الجامعة والحمد لله، كنت في القسم الذي أهواه.
ولكن علاقاتي الاجتماعية صارت ضعيفة؛ إذ بدأت بالفعل أنعزل تمامًا عن الناس، لدرجة أنِّي أحب أن أنشغل عن البنات؛ حتى لا يكون هناك وقت لأجلس معهم، وكلما حاولت أنْ أغير من نفسي وأدخل في نشاط، أهرب وأتركه، ثم خُطبت، وما أن مرَّ شهر على خطبتنا إلاَّ وفسخت الخطبة وازدادت مُعاناتي النفسية، حتى إنِّي صرت أعتزل أخواتي في البيت، ثم تزوجت ولله الحمد من رجل هو من خيرة الشباب، ولكن مع أنه طيب القلب، فإنَّه تأتيني الوساوس بأنَّه لا يوجد رجلٌ على هذه الدُّنيا طيبَ القلب، فكل الرِّجال لا يهمهم إلاَّ أنفسهم، وأمي تقول لي ذلك.
والآن أنا نفسيتي محبطة، زوجي يدفعني دائمًا بأن ألتقي مع جاراتي، ويريدني أن أنتج، ودائمًا يقول لي: اكتبي مقالات وانشريها على (الإنترنت)، والآن يعلمني كيف أصمم موقعًا، ولكني أخاف جدًّا من النَّقد الذي سأواجه به من قبل خالاتي، أخاف جدًّا؛ لأنَّهن لن يتركنني في حالي أبدًا، أخواتي ينصحْنَني بأن ألغيهم من تفكيري، وأن أنشغل بأموري؛ حتى لا أفكر فيهنَّ، هنَّ دائمًا يدفعنني أنْ أبدأ وأبني مستقبلي بنفسي، فأغلب العظماء لم يكونوا في صِغَرهم من ذوي النعمة، أريد أن أتخلص من هذه النفسية السوداويَّة، أريد أن أكون اجتماعية محبوبة، كما كنت سابقًا، بل أفضل، حتى لو لم أكن في نظر الناس كما يريدون، ولكن في نظري أنا كما أريد.
أريد أن أتعلم فنَّ التعامُل مع الصعوبات، وكيف أستطيع مواجهاتها من غير أن تؤثِّر على نفسيتي، فالدنيا لا تخلو من المصاعب، أريد أن أتعلم كيف أواجه النَّقد، سواء من زوجي - فزوجي ينقدني في كلِّ شيء، وهذا يُؤثِّر عليَّ، صحيحٌ أنِّي لم أخبره؛ لأنَّه يقوله بأسلوب شبه مؤدب - أم من الناس عامَّة، أم من الذين يقعدون لنا بالمرصاد.
أريد أن أتعلم أن لا ألوم نفسي كثيرًا؛ لأنِّي أعتقد أنَّ هذا هو المدمرُ الأولُ لي، كيف أستطيع أن أكون إنسانة دائمًا متفائلة، وتسعى دائمًا نحو النَّجاح والتميُّز، أعلم أنِّي أطلت عليكم، ولكن صدركم الواسع ومشوراتكم الرائعة وآراؤكم السديدة، ونصحكم المخلص - هو الذي دفعني لكم بكلِّ قوة، وشكرًا جزيلاً لكم.
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته،
لم تطيلي عزيزتي، فنحن نرحِّب بالاستشارات الوافية، التي تشمل ذكرَ كل ما يُمكنه أن يفيدنا بالفهم والمساعدة، وأنت قد استوفيتِ كلَّ ما يُمكن أن يتبادر بأذهاننا من استفسارات باستشارتك، ليتَ الجميع يعي أسبابَ ما يعانيه مثل وعْيك.
أنت واعية بالكثير من المسبِّبات التي أوصلتك لهذه العزلة (التي هي اكتئاب في الحقيقة)، فالاكتئاب يحشر صاحبَه بين ثلاث زوايا كلها مُؤلمة: إحباط من ذاته (ويتمثَّل في لومك لنفسِك، وشعورك بعدم الثقة)، وإحباط ممن حوله (خوفك من النَّقد)، وإحباط من ظروفه وما يُحيط به (ماضيك وزواجك والمجتمع).
لو عدنا للأسباب التي أوصلتك لهذا، فهي - بناءً على حديثك - تتلخَّص في التالي:
• ذكرياتك المؤلمة لعلاقة والديك المتوتِّرة، وقسوة والدك على والدتك، ثم فقدانك للأب.
• خالاتك وقسوتهن عليك، وخاصَّة موقف خالتك معك بالمجتمع الذي كنت متفوقة به.
• فسخك للخطبة بعد شهر واحد فقط، ومعاناتك بعده.
• توقعك عن الرجال الذي انتقل لك من تجربتك وذكرى والدِك، ومن نظرة أمك للرجُل بعد تجربتها.
لكن تقابلها أمور رائعة أيضًا:
• دعم والدتك لكِ، ونفسيتها القوية، رغمَ ما حصل (ما شاء الله)، ورغم مضايقات أهلها لك.
• دعم أخواتك وتشجيعهن لك، وروح الإصرار التي تتمثَّل بأسرتك.
• دعم زوجك وطيبته، وتشجيعه لك؛ لإخراج قدراتك والاستفادة منها.
• قدراتك التي حباك الله بها، فواضحٌ من بين سطورك قُدرة مميزة على التواصُل والاجتماعية، وأيضًا تفوقك بمجالك الذي تحبينه ودراسته.
• قبل كل ذلك تذكرين أنَّ الله معك لم يتخلَّ عنك لحظةً من حياتك، بل يَسَّرَ لك كل ما من شأنه أن يعينَك، ومنه كل ما سبق أعلاه، فحمدًا لله ومِنَّة.
لكن أين تكمُن مشكلتك إذًا عزيزتي؟
أتوقعها تكمُن بكونك تُكبِّرين حجم ما تعانينه، وترغبين في حل سحري سريع، وكأنَّ كلَّ ما مضى ليس من حقه أن يترك آثارَه عليك، ويفترض أن يَمر مرور الكرام، مع أن الواقع عكس ذلك.
عزيزتي، كلنا نتألم ونعاني؛ بسبب ظروف نَمر بها، فالألم شعور طبيعي حبانا الله به؛ لنشعر بالنعمة بعد أن نتجاوز مسبباته، وستبقى جراحنا وذكرياتنا القديمة مهما اندملت، لكن لا بُدَّ من بعض المعاناة ما دمنا من البشر، ونعيش على الأرض، ذلك لا يعني أننا ضُعفاء، أو أننا غير قادرين على تجاوزها، لكن فقط لا تعطيها أكبر من حجمها، اسمحي لنفسك أن تتألم، وأخرجي مشاعرَك، لكن بعدها هوِّني عليك وعُودي لحياتك، واحمدي الله الذي جعلها جزءًا من الماضي، وأعانك على الخروج منه.
لا تتوقعي حلاًّ يَمسح كلَّ ما مضى، الحل فقط يكمُن بأن تكوني قادرةً على تقبُّل ماضيك والثِّقة بأنه انتهى، وركِّزي على اللحظة، ما الذي تملكينه الآن؟ حينما كنت طالبة بالمدرسة، كانت خالتك بموقعٍ أقوى منك، فاستطاعت أن تؤذيَك، لكنَّك كبرت الآن، فاختلفَ الوضع، ستكونين قادرة على أن تضعي لها حدًّا، وتجيبيها بثِقَة دون أن يؤثر ذلك عليك؛ (لأكون منصفة: لابد من أثر، لكن يُمكن تجاوزه حينما تثقين أنَّ المشكلة بها ليست بك، وحينما تدعين لها، وتحمدين الله أنك لست مثلها، فقلبٌ مُثقل بالحقد والكراهية يتعب صاحبُه في الدنيا والآخرة).
وأيضًا انتبهي - عزيزتي - فأصابعُ أيدينا لا تتماثل، وكذلك الناس؛ فخطأ فرد لا يعني أنَّ البقية مثله، فلا تعممي من تجاربك السابقة، استفيدي من خبراتك بأنْ تكوني أكثر قوة وإدراكًا دون أن يؤثر ذلك عليك سلبًا، كون زوجك رجلاً طيبًا ورائعًا - كما وصفتِه - فعزِّزي علاقتك معه، واستبعدي إيحاءات مَن حولك بأن الرِّجال لا يفكرون إلاَّ بأنفسهم؛ فواضح دعمه لك.
ركِّزي أنت - أيضًا - أن تتواصلي مع نفسك بثقةٍ دون أن يؤثر عليها أحد، سوى إيمانك وثقتك بالله وشعورك بمعيته وقربه، وقتها ستجدين علاقاتك بمن حولك صارت أفضلَ أيضًا، حتى أولئك الذين يُسبِّبون لك الأذى، سيرتدُّ أذاهم على أنفسِهم حينما تكونين أقوى بقُربك من الله، وتركيزك على ما ينفعك.
وفَّقك الله بحياتك، وأسعدك بالدَّارين، ننتظر أنْ تطمئنينا عليك، وتبلغينا بإنجازاتك القادمة بإذن الله.
________________________________________
أ. أريج الطباع
- التصنيف:
- المصدر:
Amatou Allah (Amatou allah)
منذ