حكم الاتفاق بين طبيبٍ وصاحب مختبرٍ لتحويل المرضى إليه مقابل نسبة من الأجرة

منذ 2013-02-17
السؤال:

أنا صاحب معمل تحاليل طبية، يقع معملي أمام عيادة أحد الأطباء المشهورين ببلدنا. كان في بادئ الأمر لا يرسل إلى معملي أي تحليل، بل كان يوجه إلى المعامل التي اتفق معها مسبقاً على نسبة؛ فاتفقت معه أن يوجه إلى معملي كما يوجه إلى المعامل الأخرى مقابل نسبة؛ حفاظاً على سمعة معملي؛ لئلا يُفهم من توجيهه إلى المعامل الأخرى البعيدة عنه دون معملي القريب سوء نتائج المعمل، أو ضعف المعمل بصفة عامة. وكما هو معلوم أن (المعمل سمعة)، وأن المريض يرى بعين طبيبه. فما حكم الشرع في هذه المعاملة مع العلم أن الاتفاق لم يشترط عدد تحاليل معين، ولا اشترطت عليه ألا يرسل إلى المعامل الأخرى، ولا اشترطت عليه أن يطلب من المرضى تحاليل أكثر مما يحتاجون؛ لترتفع القيمة. فالاتفاق فقط أن يرسل إليَّ كما يرسل إلى غيري، ودافعي المحافظة على سمعة المعمل كما ذكرت. ويشهد الله أن التحاليل التي نقوم بها في معملنا تمتاز نتائجها بالدقة، وأسعارها هي نفس أسعار المعامل الأخرى، بل أقل؛ لأنني أخفض للمرضى. فالنسبة التي أعطيها له من ربحي الخاص. والمريض لا يقع عليه من ناحيتي ضرر. فأنا لا أفعل كما تفعل بعض المعامل، وأضاعف ثمن التحليل؛ لأستخرج له نسبته بعيداً عن ربحي. فما الحكم مع الوضع في الاعتبار أنني في حال إيقاف التعامل معه أكون قد وضعت نفسي في مأزق كبير. فأنا أخشى أن يشيع بين مرضاه كلاماً يسئ إليَّ وإلى معملي. هذا إلى جانب أن عدداً ممن يترددون عليه يأتون إليَّ من تلقاء أنفسهم دون توجيه منه بحكم قرب المكان حيناً، وبحكم المعرفة السابقة أحياناً فإذا هو أساء إليَّ، أو إلى المعمل تكون خسارتي مضاعفة، فما حكم هذه المعاملة؟

الإجابة:

الأصل في مهنة الطب أنها مهنةٌ إنسانية، والأصل في المسلم عامةً، والطبيب المسلم خاصةً، أن يلتزم بالقيم والمبادئ الإنسانية المستمدة من شرعنا الحنيف، ولاشك أن كثيراً من الأطباء يلتزمون بالقيم والأخلاق الحسنة، ويلتزمون بسلوكيات المهنة وبالقسم الذي أقسموا عليه عندما تخرجوا من كليات الطب:

"أُقْسِمُ باللهِ العَظِيمْ أن أراقبَ اللّهَ في مِهنَتِي. وأن أصُونَ حياة الإنسان في كافّةِ أدوَارهَا في كل الظروف والأحَوال بَاذِلاً وسْعِي في استنقاذها مِن الهَلاكِ والمرَضِ والألَم والقَلق. وأن أَحفَظ لِلنّاسِ كَرَامَتهُم، وأسْتر عَوْرَتهُم، وأكتمَ سِرَّهُمْ. وأن أكونَ عَلى الدوَام من وسائِل رحمة الله، باذلاً رِعَايَتي الطبية للقريب والبعيد، للصالح والخاطئ، والصديق والعدو. وأن أثابر على طلب العلم، أُسَخِره لنفعِ الإنسَان لا لأذَاه. وأن أُوَقّرَ مَن عَلَّمَني، وأُعَلّمَ مَن يَصْغرُني، وأكون أخاً لِكُلِّ زَميلٍ في المِهنَةِ الطِبّيّة مُتعَاونِينَ عَلى البرِّ والتقوى. وأن تكون حياتي مِصْدَاق إيمَاني في سِرّي وَعَلانيَتي، نَقيّةً مِمّا يُشينهَا تجَاهَ الله وَرَسُولِهِ وَالمؤمِنين. والله على ما أقول شهيد".

إن هذا القسم ونحوه مما يجب شرعاً الوفاء به، وقد أمر الله عز وجل بالوفاء بالعقود في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1]،فهذه الآية الكريمة عامة تشمل كل العقود والعهود والالتزامات التي يلتزم بها الشخص مع غيره، قال الحسن البصري: "يعني بذلك عقود الدِّين، وهي ما عقده المرء على نفسه، من بيعٍ وشراءٍ وإجارةٍ وكراءٍ ومناكحةٍ وطلاقٍ ومزارعةٍ ومصالحةٍ وتمليكٍ وتخييرٍ وعتقٍ وتدبيرٍ وغير ذلك من الأمور، ما كان ذلك غيرُ خارجٍ عن الشريعة، وكذلك ما عقده على نفسه لله من الطاعات، كالحج والصيام والاعتكاف والقيام والنذر، وما أشبه ذلك من طاعات ملة الإسلام... وقال الزجاج: المعنى أوفوا بعقد الله عليكم، وبعقدكم بعضكم على بعض. وهذا كله راجعٌ إلى القول بالعموم، وهو الصحيح في الباب" تفسير القرطبي 6/32. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "فقد أمر الله سبحانه وتعالى بالوفاء بالعقود وهذا عام. وكذلك أمر بالوفاء بعهد الله وبالعهد وقد دخل في ذلك ما عقده المرء على نفسه بدليل قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا} [الأحزاب :15]. فدل على أن عهد الله يدخل فيه ما عقده المرء على نفسه وإن لم يكن الله قد أمر بنفس ذلك المعهود عليه قبل العهد كالنذر والبيع… وقال سبحانه: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} [النساء:1]. قال المفسرون {تساءلون به} تتعاهدون وتتعاقدون، وذلك لأن كل واحدٍ من المتعاقدين يطلب من الآخر ما أوجبه العقد من فعلٍ أو تركٍ أو مالٍ أو نفعٍ أو نحو ذلك" مجموع الفتاوى 29/138-139.

وهنالك بعض الأطباء جردوا مهنة الطب من معناها الإنساني، وحولوها إلى مكاسب ماليةٍ، بطرق يغلب عليها الطمعُ والجشعُ، بل تحول بعض الأطباء إلى سمسارة لبعض شركات الأدوية، لتسويق أدويتها مقابل نسبةٍ معينةٍ تدفعها لهم شركات الأدوية أو مندوبوها، ومنهم من يتقاضى عمولاتٍ مالية من بعض أصحاب المختبرات الطبية لتحويل المرضى إلى تلك المختبرات وزيادة عدد التحاليل، مع أن المريض لا يكون بحاجة لتلك التحاليل، ومنهم من يتفق مع بعض الصيادلة لتحويل المرضى إلى صيدلياتهم ووصف أدويةٍ كثيرةٍ لا يحتاج لها المرضى، مقابل نسبةٍ معينةٍ، وهنالك ممارسات كثيرة في الحقل الطبي يكون الهدف منها استغلال المريض واستنزافه مالياً، وهذه الأعمال وأمثالها جعلت بعض الأطباء تجاراً وسماسرة على حساب المرضى.

إذا تقرر هذا فإنه لا يجوز شرعاً أن يتفق صاحب مختبر مع طبيب ليحول له المرضى لعمل التحاليل الطبية في مختبره، لما في ذلك من المفاسد المترتبة على ذلك بناءً على قاعدة: "سد الذرائع مقدمٌ على جلب المصالح" وهي قاعدة معتبرة عند الأصوليين وتشهد لها قواعد الشرع وأصوله، فإن الشريعة الإسلامية تسعى دائماً إلى سدِّ الطرق المفضية إلى الفساد والإفساد والحرام، كما قـال الله تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} فالله سبحانه وتعالى حرَّم سبَّ آلهة المشركين؛ لكونه ذريعةً إلى سبَّ الله تعالى وكذلك نقول هنا: إن أخذ الأطباء للعمولات من شركات الأدوية وأصحاب المختبرات والصيادلة لو سلمنا أنه جائز لمنعنا منه، لأنه يفضي إلى الفساد، وإلى إرهاق المرضى مالياً.
ويحرم هذا الأمر أيضاً استناداً إلى قاعدة: "لا ضرر ولا ضرار" ومعناها أن‏ الفعل الضار محرمٌ، وأصل هذه القاعدة ما صح في الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "لا ضرر ولا ضرار" (رواه أحمد وابن ماجة والطبراني وهو حديث صحيح كما قال العلامة الألباني في السلسلة الصحيحة حديث رقم 250). ولا شك أن اتفاق الطبيب مع صاحب المختبر لتحويل المرضى إليه فيه إضرارٌ بأصحاب المختبرات الأخرى وفيه إلحاقٌ للأذى بهم، ويحرم على المسلم أن يلحق الضرر بغيره.

وقد تفرع على القاعدة السابقة أن درء المفاسد أولى من جلب المصالح.‏ ورد في شرح المادة رقم 30 من مجلة الأحكام العدلية: "درء المفاسد أولى من جلب المنافع، أي إذا تعارضت مفسدة ومصلحة، يُقدم دفعُ المفسدة على جلب المصلحة، فإذا أراد شخص مباشرة عملٍ يُنتجُ منفعةً له، ولكنه من الجهة الأخرى يستلزم ضرراً مساوياً لتلك المنفعة، أو أكبر منها يلحق بالآخرين، فيجب أن يقلع عن إجراء ذلك العمل درءً للمفسدة المقدم دفعها على جلب المنفعة، لأن الشرع اعتنى بالمنهيات أكثر من اعتنائه بالمأمور بها" درر الحكام شرح مجلة الأحكام1/41، فهنالك مفاسد تترتب على اتفاق الطبيب مع صاحب المختبر لتحويل المرضى إليه، أو اتفاق الطبيب مع شركة أدوية لتسويق أدويتها، أو اتفاق الطبيب مع صيدلي لتحويل المرضى إلى صيدليته، وكل ذلك مقابل عمولةٍ ماليةٍ، جاء في فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء:

"أولاً: إذا كان الواقع كما ذكر من الاتفاق السابق بين الطبيب في عيادته الخاصة وصاحب المختبر على أن يكون له نسبةٌ من أجرة التحليل فذلك غير جائز للطرفين؛ لما فيه من الأَثرة والتحجير على أصحاب المختبرات الأخرى، إلا إذا كان صاحب هذا المختبر له امتيازٌ على غيره من جهة الصدق والأمانة والتفوق في التحليل، فيجوز تخصيصه بالتحويل عليه؛ لما في ذلك من مزيد مصلحةٍ للمريض وإعانة للطبيب على إحكام العلاج، لكن لا يجوز للطبيب أن يأخذ نسبةً من أجرة التحليل؛ لأنه أَخْذُ مالٍ في غير مقابل.

ثانياً: إذا علم صاحب المختبر أن الطبيب طلب تحاليل غير لازمةٍ للمريض ليزيد فيما يأخذه من النسبة لم يجز له أن يقوم بعمل هذه التحاليل؛ لما في ذلك من التعاون معه على غش المريض وأكل ماله بالباطل، وعليه أن ينصح للطبيب عسى أن يتوب عن ذلك، وتسلم الأطراف الثلاثة،أما إذا لم يعلم صاحب المختبر بذلك فلا إثم عليه في القيام بتلك التحاليل" فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء24/432.
وجاء في فتاوى موقع الإسلام سؤال وجواب بإشراف الشيخ محمد المنجد: "الطبيبُ مطالبٌ بالأمانة والنصح وعدم الغش في عمله، فلا يجوز له أن يصف للمرضى ما لا يحتاجونه من الدواء، أو الفحوصات، لأن ذلك من الغش المحرم، وإذا كان هذا يعود على المستشفى بالنفع المادي لكون الدواء يُشترى منها أو لكونها هي التي تجري الفحوصات والاختبارات، فما يجلبه لها من المال، مال محرم؛ لأنه أخذ بالغش والخداع. وإذا كان الطبيب يأخذ من العمل نسبةً، مقابل هذه الكشوفات أو الفحوصات كان هذا المال حراماً عليه، لأنه اكتسبه بالغش. ولا فرق في ذلك بين أن يكون المريض هو من يدفع المال، أو تكون شركة التأمين هي من تتولى ذلك، فإن شركة التأمين جهةٌ يلزم الصدق معها وعدم الاحتيال عليها كما يلزم ذلك مع سائر الناس والجهات، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال:27]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [النساء:29]، وقال صلى الله عليه وسلم: "مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنِّي" (رواه مسلم).

وخلاصة الأمر أنه يحرم شرعاً أن يتفق صاحبُ مختبرٍ مع طبيبٍ ليحول له المرضى لعمل التحاليل الطبية في مختبره، لما في ذلك من المفاسد المترتبة على ذلك بناءً على قواعد الشريعة الإسلامية كقاعدة: "سد الذرائع مقدمٌ على جلب المصالح" وقاعدة: "لا ضرر ولا ضرار" وقاعدة "درء المفاسد أولى من جلب المصالح". وما يأخذه الطبيب من أموالٍ في هذه الحال يعتبر من أكل المال بالباطل حرام.


الجمعة, 11 نوفمبر 2011.

حسام الدين عفانه

دكتوراه فقه وأصول بتقدير جيد جداً، من كلية الشريعة جامعة أم القرى بالسعودية سنة 1985م.

  • 22
  • 1
  • 96,043

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً