حكم نكاح نساء أهل الكتاب
ما حكم نكاح نساء أهل الكتاب؟
حكم ذلك الحل والإباحة عند جمهور أهل العلم؛ لقول الله سبحانه: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْأِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [سورة المائدة، الآية 5]، والمحصنة هي: الحرة العفيفة، في أصح أقوال علماء التفسير.
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية ما نصه: (وقوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ} أي وأحل لكم نكاح الحرائر العفائف من النساء المؤمنات، وذكر هذا توطئة لما بعده، وهو قوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} فقيل: أراد المحصنات الحرائر دون الإماء، حكاه ابن جرير عن مجاهد، وإنما قال مجاهد: المحصنات الحرائر، فيحتمل أن يكون أراد ما حكاه عنه، ويحتمل أن يكون أراد بالحرة العفيفة، كما في الرواية الأخرى عنه، وهو قول الجمهور هاهنا، وهو الأشبه؛ لئلا يجتمع فيها أن يكون ذمية، وهي مع ذلك غير عفيفة، فيفسد حالها بالكلية، ويتحصل زوجها على ما قيل في المثل: حشف وسوء كيل. والظاهر من الآية أن المراد بالمحصنات: العفيفات عن الزنا، كما قال تعالى في الآية الأخرى: {مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ} [ سورة النساء، الآية 25] ثم اختلف المفسرون والعلماء في قوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} هل يعم كل كتابية عفيفة، سواء كانت حرة أو أمة؟
حكاه ابن جرير عن طائفة من السلف ممن فسر المحصنة بالعفيفة، وقيل: المراد بأهل الكتاب هاهنا الإسرائيليات، وهو مذهب الشافعي، وقيل: المراد بذلك الذميات دون الحربيات؛ لقوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} [سورة التوبة، الآية 29] الآية، وقد كان عبد الله بن عمر لا يرى التزويج بالنصرانية ويقول: لا أعلم شركاً أعظم من أن تقول إن ربها عيسى، وقد قال الله تعالى: {وَلاَ تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلاَ تُنكِحُواْ الْمُشِرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُواْ وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللّهُ يَدْعُوَ إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [سورة البقرة، الآية 221] الآية، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا محمد بن حاتم بن سليمان المؤدب، حدثنا القاسم بن مالك يعني المزني، حدثنا إسماعيل بن سميع عن أبي مالك الغفاري قال: نزلت هذه الآية: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} قال: فحجز الناس عنهن حتى نزلت الآية التي بعدها: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} فنكح الناس نساء أهل الكتاب، وقد تزوج جماعة من الصحابة من نساء النصارى، ولم يروا بذلك بأساً، أخذاً بهذه الآية الكريمة: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} ، فجعلوا هذه مخصصة للتي في السورة البقرة: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} إن قيل بدخول الكتابيات في عمومها، وإلا فلا معارضة بينهما؛ لأن أهل الكتاب قد انفصلوا في ذكرهم عن المشركين في غير موضع، كقوله تعالى: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ} [سورة البينة، الآية 1] وكقوله: {وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا} [سورة آل عمران، الآية 20] الآية). انتهى المقصود من كلام الحافظ ابن كثير رحمه الله.
وقال أبو محمد موفق الدين عبد الله بن أحمد بن قدامة الحنبلي رحمه الله، في كتابه ( المغني ) ما نصه: (ليس بين أهل العلم بحمد الله اختلاف في حل حرائر نساء أهل الكتاب، وممن روي عنه ذلك: عمر وعثمان وطلحة وحذيفة وسليمان وجابر وغيرهم، قال ابن المنذر: ولا يصح عن أحد من الأوائل أنه حرم ذلك، وروى الخلال بإسناده: أن حذيفة وطلحة والجارود بن المعلى وأذينة العبدي تزوجوا نساء من أهل الكتاب، وبه قال سائر أهل العلم، وحرمته الإمامية تمسكاً بقوله تعالى: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [سورة البقرة، الآية 221]، وقوله سبحانه: {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [سورة الممتحنة، الآية 10]، ولنا قول الله تعالى: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} إلى قوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [سورة المائدة، الآية 5]، وإجماع الصحابة، فأما قوله سبحانه: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} فروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنها نسخت بالآية التي في سورة المائدة، وكذلك ينبغي أن يكون ذلك في الآية الأخرى؛ لأنهما متقدمتان، والآية التي في آخر المائدة متأخرة عنهما، وقال آخرون: ليس هذا نسخاً فإن لفظة المشركين بإطلاقها لا تتناول أهل الكتاب؛ بدليل قوله سبحانه: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ} [سورة البينة، الآية 1]. وقال: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ} [سورة البينة، الآية 6] وقال: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} [سورة المائدة، الآية 82] وقال: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ} [سورة البقرة، الآية 105] وسائر آي القرآن يفصل بينهما، فدل على أن لفظة المشركين بإطلاقها غير متناولة لأهل الكتاب، وهذا معنى قول سعيد بن جبير وقتادة، ولأن ما احتجوا به عام في كل كافرة، وآيتنا خاصة في حل أهل الكتاب، والخاص يجب تقديمه. إذا ثبت هذا، فالأولى أن لا يتزوج كتابية؛ لأن عمر رضي الله عنه قال للذين تزوجوا من نساء أهل الكتاب: (طلقوهن)، فطلقوهن إلا حذيفة، فقال له عمر: (طلقها). قال: (تشهد أنها حرام)، قال: (هي خمرة طلقها)، قال: (تشهد أنها حرام)، قال: (هي خمرة)، قال: (قد علمت أنها خمرة، ولكنها لي حلال)، فلما كان بعد طلقها، فقيل له: ألا طلقتها حين أمرك عمر، قال: (كرهت أن يرى الناس أني ركبت أمراً لا ينبغي لي). ولأنه ربما مال إليها قلبه ففتنته، وربما كان بينهما ولد فيميل إليها. [المغني لابن قدامة (6/589)] انتهى كلام صاحب المغني رحمه الله.
والخلاصة مما ذكر الحافظ ابن كثير وصاحب المغني رحمة الله عليهما: أنه لا تعارض بين قوله سبحانه في سورة البقرة: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [سورة البقرة، الآية 221] الآية، وبين قوله عز وجل في سورة المائدة: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [سورة المائدة، الآية 5] الآية؛ لوجهين: أحدهما: أن أهل الكتاب غير داخلين في المشركين عند الإطلاق؛ لأن الله سبحانه فصل بينهم في آيات كثيرات، مثل قوله عز وجل: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ} [سورة البينة، الآية 1] الآية، وقوله سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا} [سورة البينة، الآية 6] الآية، وقوله عز وجل: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [سورة البقرة، الآية 105] الآية، إلى غير ذلك من الآيات المفرقة بين أهل الكتاب والمشركين، وعلى هذا الوجه لا تكون المحصنات من أهل الكتاب داخلات في المشركات لا تكون المحصنات من أهل الكتاب داخلات في المشركات المنهي عن نكاحهن في سورة البقرة، فلا يبقى بين الآيتين تعارض، وهذا القول فيه نظر، والأقرب أن أهل الكتاب داخلون في المشركين والمشركات عند الإطلاق رجالهم ونساؤهم؛ لأنهم كفار مشركون بلا شك، ولهذا يمنعون من دخول المسجد الحرام، لقوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [سورة التوبة، الآية 28] الآية، ولو كان أهل الكتاب لا يدخلون في اسم المشركين عند الإطلاق لم تشملهم هذه الآية، ولما ذكر سبحانه عقيدة اليهود والنصارى في سورة براءة قال بعد ذلك: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [سورة التوبة، الآية 31] فوصفهم جميعاً بالشرك؛ لأن اليهود قالوا: عزير ابن الله، والنصارى قالوا: المسيح ابن الله؛ ولأنهم جميعاً اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله، وهذا كله من أقبح الشرك، والآيات في هذا المعنى كثيرة.
والوجه الثاني: أن آية المائدة مخصصة لآية البقرة، والخاص يقضي على العام، ويقدم عليه، كما هو معروف في الأصول، وهو مجمع عليه في الجملة، وهذا هو الصواب؛ وبذالك يتضح أن المحصنات من أهل الكتاب حل للمسلمين غير داخلات في المشركات المهني عن نكاحهن عند جمهور أهل العلم، بل هو كالإجماع منهم؛ لما تقدم في كلام صاحب المغني، ولكن ترك نكاحهن والاستغناء عنهن بالمحصنات من المؤمنات أولى وأفضل؛ لما جاء في ذلك عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وابنه عبد الله، وجماعة من السلف الصالح رضي الله عنهم. ولأن نكاح نساء أهل الكتاب فيه خطر، ولا سيما في هذا العصر الذي استحكمت فيه غربة الإسلام، وقل فيه الرجال الصالحون الفقهاء في الدين، وكثر فيه الميل إلى النساء، والسمع والطاعة لهن في كل شيء إلا ما شاء الله، فيخشى على الزوج أن تجره زوجته الكتابية إلى دينها وأخلاقها، كما يخشى على أولادهما من ذلك والله المستعان. فإن قيل: فما وجه الحكمة في إباحة المحصنات من أهل الكتاب للمسلمين، وعدم إباحة المسلمات للرجال من أهل الكتاب؟ فالجواب عن ذلك والله أعلم أن يقال: إن المسلمين لما آمنوا بالله وبرسله وما أنزل عليهم، ومن جملتهم موسى بن عمران وعيسى بن مريم عليهما الصلاة والسلام، ومن جملة ما أنزل على الرسل؛ التوراة المنزلة على موسى، والإنجيل المنزل على عيسى، لما آمن المسلمون بهذا كله أباح الله لهم نساء أهل الكتاب المحصنات فضلاً منه عليهم، وإكمالاً لإحسانه إليهم، ولما كفر أهل الكتاب بمحمد صلى الله عليه وسلم وما أنزل عليه من الكتاب العظيم وهو القرآن، حرم الله عليهم نساء المسلمين حتى يؤمنوا بنبيه ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين، فإذا آمنوا به حل لهم نساؤنا، وصار لهم ما لنا، وعليهم ما علينا، والله سبحانه هو الحكم العادل البصير بأحوال عباده العليم بما يصلحهم، الحكيم في كل شيء، تعالى وتقدس وتنزه عن قول الضالين والكافرين وسائر المشركين. وهناك حكمة أخرى وهي: أن المرأة ضعيفة سريعة الانقياد للزوج، فلو أبيحت المسلمة لرجال أهل الكتاب؛ لأفضى بها ذلك غالباً إلى دين زوجها، فاقتضت حكمة الله سبحانه تحريم ذلك.
- التصنيف:
- المصدر: