وهذا من أبين الدلالة على خطأ قول من زعم أن الله لا يعذب أحدا على معصية ركبها أو ضلالة اعتقدها، إلا ...

وهذا من أبين الدلالة على خطأ قول من زعم أن الله لا يعذب أحدا على معصية ركبها أو ضلالة اعتقدها، إلا أن يأتيها بعد علم منه بصواب وجهها، فيركبها عنادا منه لربه فيها؛ لأن ذلك لو كان كذلك، لم يكن بين فريق الضلالة الذي ضل وهو يحسب أنه هاد، وفريق الهدى فرق، وقد فرق الله بين أسمائهما وأحكامهما في هذه الآية". ([11]) انتهى كلامه رحمه الله.

ومن الأدلة على عدم عذر الجاهل في الشـرك: قوله تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف: 103، 104].

قال الطبري رحمه الله: "وهذا من أدل الدلائل على خطأ قول من زعم أنه لا يكفر بالله أحد إلا من حيث يقصد إلى الكفر بعد العلم بوحدانيته؛ وذلك أن الله -تعالى ذكره- أخبر عن هؤلاء الذين وصف صفتهم في هذه الآية، أن سعيهم الذي سعوا في الدنيا ذهب ضلالا، وقد كانوا يحسبون أنهم محسنون في صنعهم ذلك، وأخبر عنهم أنهم هم الذين كفروا بآيات ربهم، ولو كان القول كما قال الذين زعموا أنه لا يكفر بالله أحد إلا من حيث يعلم لوجب أن يكون هؤلاء القوم في عملهم الذي أخبر الله عنهم أنهم كانوا يحسبون فيه أنهم يحسنون صنعه، كانوا مثابين مأجورين عليها، ولكن القول بخلاف ما قالوا، فأخبر جل ثناؤه عنهم: أنهم بالله كفرة، وأن أعمالهم حابطة". ([12]) انتهى كلامه رحمه الله.

طيب: إذا حكمنا على شخص ما بالكفر والشـرك، ما الذي يترتب على ذلك؟

يترتب على حكمنا على أحد بالكفر والشـرك ولو كان جاهلا: قطع الموالاة الإيمانية بيننا وبينه حتى يتوب إلى الله تعالى، وعدم التناكح معه أو أكل ذبيحته، وكذا عدم الاستغفار له إن مات على ذلك، وأنه لا حظ له من الحقوق التي أوجبها الله للمسلمين، وغير ذلك من الأحكام.

وأما تعذيبه في الدنيا والآخرة فهذا متوقف على قيام الحجة الرسالية، وهذا على الصحيح من أقوال العلماء، ودليله قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15]، وقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15].
ونؤكد على: أن من وقع في الشـرك من هذه الأمة فهو مشـرك كافر أيضا، وإن كان مدعيا للإسلام ناطقا بالشهادتين.

قال تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر: 65].

وقال تعالى بعد ذكره لأنبيائه عليهم السلام: {ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 88].

وهذه الآيات من أقوى الأدلة على أن الإسلام يحبط بالشـرك، وأن من أشرك من هذه الأمة فهو كافر، وإن كان ناطقا بالشهادتين عاملا بشعائر الإسلام الأخرى.
...المزيد

أصل الدين كما قلنا: لا يُعذر بالجهل به أيُّ أحد؛ أي لا يصح إسلام من نقضه ولا يرتفع عنه اسم ...

أصل الدين كما قلنا: لا يُعذر بالجهل به أيُّ أحد؛ أي لا يصح إسلام من نقضه ولا يرتفع عنه اسم الكفر.

• لماذا لم يعتبر بجهل الرجل العاقل أو المرأة العاقلة في أصل الدين؟

لأنه مما علم وثبت بالميثاق وضرورة الفطرة والعقل.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وأصل الدين هو عبادة الله، الذي أصله الحب والإنابة والإعراض عما سواه، وهو الفطرة التي فطر عليها الناس". ([8]) انتهى كلامه.

وقال ابن القيم رحمه الله: "وأي شيء يصح في العقل إذا لم يكن فيه علم بقبح الشرك الذاتي، وأن العلم بقبحه بديهي معلوم بضـرورة العقل، وأن الرسل نبهوا الأمم على ما في عقولهم وفطرهم من قبحه". ([9]) انتهى كلامه رحمه الله.

ومن هنا نعلم أن أصل الدين لا يشترط فيه إقامة الحجة للحكم بالكفر على من لم يأت به؛ أي نحكم على من لم يأت بأصل الدين بالكفر، سواء أقيمت عليه الحجة أم لم تقم.

ونؤكد على أنه لا عذر لأي أحد بالجهل في هذه المسائل، التي هي من أصل الدين؛ لأنها من العلوم الضرورية المستقرة في جميع الفطر والعقول، وبالتالي فمن انتقض أصل دينه فهو مشـرك، ولكن عذابه في الدنيا والآخرة متوقف على بلوغ الحجة الرسالية إليه.

قال العلامة ابن القيم رحمه الله: "وأما كفر الجهل مع عدم قيام الحجة، وعدم التمكن من معرفتها؛ فهذا الذي نفى الله التعذيب عنه حتى تقوم حجة الرسل". ([10]) انتهى كلامه رحمه الله.

سؤال: ما الذي يناقض أصل الدين؟
الجواب: الشـرك ...

حيث قلنا في تعريف أصل الدين: أنه الإقرار بالله وعبادته سبحانه وحده وترك عبادة ما سواه، والبراءة ممن أشرك به سبحانه، إذن: الشرك بـالله يناقض أصل الدين وينافيه.

ومعنى الشـرك شـرعا: هو جعل الشـريك أو الند لله تعالى في ربوبيته أو ألوهيته أو أسمائه وصفاته.

فمثال شـرك الربوبية: أن يجعل مع الله خالق أو رازق أو مدبر أو حاكم أو مشـرع.

ومثال الشـرك في الألوهية: السجود أوالدعاء أوالنذر أوالذبح لغير الله.

ومثال الشـرك في الأسماء والصفات: تعطيلها مثل نفي العلم والسمع والبصـر عن الله، أو تشبيهه سبحانه وتعالى بخلقه.

وكل هذا الشـرك لم يعذر فيه أحد من المشـركين بجهله؛ لأنه يناقض أصل الدين، والله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم حكم بكفر الأتباع والمقلدين، وحكم بكفر الأميين من أهل الكتاب مع جهلهم، وحكم بكفر جهلة مشـركي العرب قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم.

قال العلامة ابن القيم رحمه الله: "من مات مشـركا فهو في النار، وإن مات قبل البعثة؛ لأن المشـركين كانوا قد غيَّروا الحنيفية دين إبراهيم واستبدلوا بها الشـرك وارتكبوه، وليس معهم حجة من الله به، وقبحه والوعيد عليه بالنار لم يزل معلوما من دين الرسل كلهم من أولهم إلى آخرهم، وأخبار عقوبات الله لأهله متداولة بين الأمم قرنا بعد قرن، فلله الحجة البالغة على المشـركين في كل وقت، ولو لم يكن إلا ما فطر عباده عليه من توحيد ربوبيته المستلزم لتوحيد إلهيته، وأنه يستحيل في كل فطرة وعقل أن يكون معه إله آخر، وإن كان سبحانه لا يعذب بمقتضـى هذه الفطرة وحدها، فلم تزل دعوة الرسل إلى التوحيد في الأرض معلومة لأهلها، فالمشـرك يستحق العذاب بمخالفته دعوة الرسل، والله أعلم". انتهى كلامه رحمه الله.

وأما الجهلة من المشـركين بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم من المنتسبين للإسلام وغيرهم فالأمر فيهم أشد؛ لأن غالب جهلهم جاء من جهة الإعراض عن رسالته صلى الله عليه وسلم، والإعراض بمجرده كفر، فكيف لو كان معه شـرك؟!

قال الشوكاني رحمه الله: "ومن وقع في الشرك جاهلا لم يعذر، لأن الحجة قامت على جميع الخلق بمبعث محمد صلى الله عليه وسلم، فمن جهل فقد أتي من قبل نفسه؛ بسبب الإعراض عن الكتاب والسنة، وإلا ففيهما البيان الواضح؛ كما قال سبحانه في القرآن: {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً} [النحل: 89]، وكذلك السنة: قال أبو ذر رضي الله عنه: " توفي محمد صلى الله عليه وسلم وما ترك طائرا يقلب جناحيه بين السماء والأرض إلا ذكر لنا منه علما"، أو كما قال رضي الله عنه؛ فمن جهل فبسبب إعراضه، ولا يعذر أحد بالإعراض". انتهى كلامه رحمه الله.

هذا وأدلة عدم عذر الجاهل في الشـرك والذي يناقض أصل الدين كثيرة.

منها قوله تعالى: {فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأعراف: 30].

قال الطبري رحمه الله: "يقول تعالى ذكره: إن الفريق الذي حق عليهم الضلالة، إنما ضلوا عن سبيل الله وجاروا عن قصد المحجة، باتخاذهم الشياطين نصـراء من دون الله وظهراء؛ جهلا منهم بخطأ ما هم عليه من ذلك، بل فعلوا ذلك وهم يظنون أنهم على هدى وحق، وأن الصواب ما أتوه وركبوا.
...المزيد

السلسلة العلمية المنهجية 2 (أصل الدين) الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا ...

السلسلة العلمية المنهجية 2
(أصل الدين)

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الملك الحق المبين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، إمام الأولين والآخرين، أما بعد:

ففي هذه الحلقة سنتناول الحديث عن أصل الدين، وهو موضوع في غاية الأهمية؛ وذلك لأنه لا يصح إيمان أحد إلا إذا أتى به.


• فما هو أصل الدين؟

أصل الدين هو الإقرار بالله، وعبادته سبحانه وحده وترك عبادة ما سواه، والبراءة ممن أشرك به سبحانه.

أربعة أمور ...
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وإبراهيم وموسى قاما بأصل الدين؛ الذي هو الإقرار بالله، وعبادته وحده لا شـريك له، ومخاصمة من كفر بالله".([1]) انتهى كلامه.

"والبراءة ممن أشرك به سبحانه" هو ما عبَّر عنه شيخ الإسلام ابن تيمية هنا بقوله: "ومخاصمة من كفر بالله"، فكلا العبارتين معناهما واحد: مخاصمة المشـركين والبراءة منهم.

فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وأصل الدين أن يكون الحب لله، والبغض لله، والموالاة لله، والمعاداة لله، والعبادة لله". ([2]) انتهى كلامه.

فنقول بناء على ما سبق: لو أن شخصا أتى بثلاثة أمور من أصل الدين ولم يأت بالرابع؛ كترك عبادة ما سوى الله تعالى، أو ترك البراءة ممن أشـرك به سبحانه، هل يصح إسلامه؟، الجواب: لا.
فماذا يسمى؟، يسمى مشـركا كافرا.

وهذا القدر الذي هو أصل الدين لا يعذر من لم يأت به أحد بلغ حد التكليف ولو كان جاهلا، سواء بلغته الحجة الرسالية أو لم تبلغه، أو بلفظ آخر سواء جاءه رسول أو لم يأته.

قال إمام المفسـرين ابن جرير الطبري رحمه الله بعد ذكره لشـيء من أصل الدين، قال: "لا يعذر بالجهل به أحد بلغ حد التكليف؛ كان ممَّن أتاه من الله تعالى رسول، أو لم يأته رسول، عاين من الخلق غيره، أو لم يعاين أحدا سوى نفسه".([3]) انتهى كلامه رحمه الله.

لم يعاين أحدا سوى نفسه؛ يعني لم ير إلا نفسه؛ كمن كان في جزيرة نائية ولم ير أحدا من الناس سوى نفسه.

نقول: فإذا جاءه رسول دخل في أصل الدين الإيمان به وبما جاء به على وجه الإجمال.

إذن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم منذ بعثته إلى الآن، وبما جاء به على وجه الإجمال يدخل في أصل الدين؛ لأن أصل الدين هو الشهادتان.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "أصل الدين: شهادة أن لا إله إلا الله، وشهادة أن محمدا عبده ورسوله". ([4]) انتهى كلامه رحمه الله.

• طيِّب ما معنى (الإقرار بالله)؟

يعني: الإيمان بوجوده تعالى، وأنه متصف بصفات الكمال، ومنزه عن النقائص والعيوب، وأنه سبحانه المتفرِّد بالخلق والأمر.

قال الله تعالى: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} [الأعراف: 54]
والأمر منه ما هو كوني؛ أي أنه سبحانه يقول للشـيء كن فيكون، ومن الأمر ما هو شرعي؛ ويتمثل بتفرده سبحانه وتعالى بالتحليل والتحريم.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "فإن أصل الدين أنه لا حرام إلا ما حرمه الله، ولا دين إلا ما شرعه الله؛ فإن الله سبحانه في سورة الأنعام والأعراف عاب على المشـركين أنهم حرموا ما لم يحرمه الله، وأنهم شـرعوا من الدين ما لم يأذن به الله". ([5]) انتهى كلامه رحمه الله.

مرة ثانية: ما هو أصل الدين؟ هو الإقرار بالله، وعبادته سبحانه وحده وترك عبادة ما سواه، والبراءة ممن أشـرك به سبحانه، شرحنا الإقرار بالله.

طيب، ما معنى: عبادته سبحانه وحده، وترك عبادة ما سواه، والبراءة ممن أشرك به سبحانه؟
معناه: توحيد الله، ومحبة التوحيد وتحسينه، وموالاة أهله، وتقبيح الشـرك، واجتنابه، ومخاصمة أهله.

قال ابن القيم رحمه الله: "واعلم أنه إن لم يكن حسن التوحيد وقبح الشـرك معلوما بالعقل، مستقرا في الفطر، فلا وثوق بشـيء من قضايا العقل؛ فإن هذه القضية من أجل القضايا البديهيات، وأوضح ما ركب الله في العقول والفطر". ([6]) انتهى كلامه رحمه الله.

وموالاة أهله: هذا هو الولاء؛ موالاة المؤمنين ...، ومخاصمة أهله -يعني أهل الشـرك-: هذا هو البراء من المشركين ...

ومن هنا يتبيَّن أن الولاء والبراء يدخل في أصل الدين.

ولكن ههنا مسألة؛
وهي الفرق بين وجود العداوة للكافرين وبين إظهار العداوة، فالأول -وهو وجود العداوة- من أصل الدين، والثاني: وهو إظهار العداوة فمن واجبات الدين لا من أصله.

قال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن آل الشيخ رحمه الله: "ومسألة إظهار العداوة غير مسألة وجود العداوة؛ فالأول: يعذر به مع العجز والخوف، لقوله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} [آل عمران: 28]، والثاني: لا بد منه؛ لأنه يدخل في الكفر بالطاغوت، وبينه وبين حب لله ورسوله تلازم كلي، لا ينفك عنه المؤمن". ([7]) انتهى كلامه.
...المزيد

مِن أقوال علماء الملّة • قال الإمام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-: "قال تعالى: {هَا أَنتُمْ ...

مِن أقوال علماء الملّة

• قال الإمام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-:
"قال تعالى: {هَا أَنتُمْ هَٰؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم}، فقد أخبر تعالى أنه من يتولّ عن الجهاد بنفسه أو عن الإنفاق في سبيل الله اسْتبدل به، فهذه حال الجبان البخيل يستبدل الله به من ينصر الإسلام وينفق فيه". [مجموع الفتاوى] ...المزيد

وإن من البغي الاستطالة على المخالف، واتهامه في نيته، وقذف المسلم بالكفر أو البدعة تعديا وظلما جزافا ...

وإن من البغي الاستطالة على المخالف، واتهامه في نيته، وقذف المسلم بالكفر أو البدعة تعديا وظلما جزافا من غير بينة ...

أخرج ابن حبان في صحيحه عن حذيفة ؓ، قال: قال رسول الله ﷺ: «إن ما أتخوف عليكم رجل قرأ القرآن حتى إذا رئيت بهجته عليه، وكان ردئا للإسلام، غيره إلى ما شاء الله، فانسلخ منه ونبذه وراء ظهره، وسعى على جاره بالسيف، ورماه بالشـرك»، قال: قلت: يا نبي الله، أيهما أولى بالشـرك، المرمي أم الرامي؟ قال: «بل الرامي».

وقال الآجري ؒ: "إن الله عز وجل بمنه وفضله أخبرنا في كتابه عمن تقدم من أهل الكتابين اليهود والنصارى، أنهم إنما هلكوا لما افترقوا في دينهم، وأعلمنا مولانا الكريم أن الذي حملهم على الفرقة عن الجماعة والميل إلى الباطل الذي نهوا عنه، إنما هو البغي والحسد، بعد أن علموا ما لم يعلم غيرهم، فحملهم شدة البغي والحسد إلى أن صاروا فرقا فهلكوا، فحذرنا مولانا الكريم أن نكون مثلهم فنهلك كما هلكوا، بل أمرنا عز وجل بلزوم الجماعة، ونهانا عن الفرقة، وكذلك حذرنا النبي ﷺ من الفرقة وأمرنا بالجماعة، وكذلك حذرنا أئمتنا ممن سلف من علماء المسلمين، كلهم يأمرون بلزوم الجماعة, وينهون عن الفرقة". ([4]) انتهى كلام الآجري ؒ.

وننكر أشد النكير على من يبغي ويتعدى فيكفر العلماء أمثال ابن قدامة المقدسـي والنووي وابن حجر العسقلاني وغيرهم ô ممن لهم على أمة الإسلام أياد بيضاء في نشـر العلم ونصـرة الشـريعة، بل نحفظ مكانتهم ونترحم عليهم، ونعتذر عما بدر منهم من أخطاء وزلات.

قال الشعبي -أحد أئمة التابعين- ؒ: "كل أمة علماؤها شرارها، إلا المسلمين؛ فإن علماءهم خيارهم". ([5])

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية ؒ: دفع التكفير عن علماء المسلمين وإن أخطئوا هو من أحق الأغراض الشرعية". ([6]) انتهى كلامه ؒ.

وقال الشيخ عبد الله بن الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب ؒ: "ونحن كذلك: لا نقول بكفر من صحت ديانته، وشهر صلاحه، وعلم ورعه وزهده، وحسنت سيرته، وبلغ من نصحه الأمة ببذل نفسه لتدريس العلوم النافعة والتأليف فيها، وإن كان مخطئا في هذه المسألة أو غيرها". انتهى كلامه ؒ.

وممن نثني عليهم، ونحفظ حقهم علينا أمراء الدولة الإسلامية من أبي مصعب الزرقاوي؛ أمير الاستشهاديين، الصادع بالحق والتوحيد، وقتّال أهل الشـرك والتنديد، مرورا بالشيخ المجاهد أبي عمر البغدادي صاحب العقيدة الراسخة والمواقف الشامخة، ووزيره الشيخ المجاهد أبي حمزة المهاجر صاحب التآليف والتصانيف النافعة، والشيخ أبي محمد العدناني قامع المنحرفين، وكاسر حدود الكافرين، والعالم الرباني أبي علي الأنباري، وغيرهم من أمراء هذه الدولة الذين قضوا في سبيل الله، نحسبهم والله حسيبهم، ولا نزكي على الله أحدا.

وستشتمل هذه السلسلة بإذن الله تعالى على بيان أمور منها:
* حكم التوقف في تكفير المشركين أو الكفار.
* حكم الطوائف الممتنعة، وحكم المخالف فيها.
* حكم ساكني ديار الكفر الطارئ.
ونسأل الله تعالى أن يبارك في هذه السلسلة العلمية، وأن يجعلها سببا لجمع كلمة المجاهدين على الكتاب والسنة، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.


[1])) مجموع الفتاوى (3/279).
[2])) مصنف ﭐبن أبي شيبة (7/562/37931).
[3])) الاستقامة (1/37(.
[4])) الشـريعة (1/270).
[5])) مجموع الفتاوى (7/284).
[6])) مجموع الفتاوى (35/103).



• المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 98
الخميس 1 محرم 1439 ه‍ـ
...المزيد

مِن أقوال علماء الملّة • قال الإمام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-: "قال تعالى: {هَا أَنتُمْ ...

مِن أقوال علماء الملّة

• قال الإمام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-:
"قال تعالى: {هَا أَنتُمْ هَٰؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم}، فقد أخبر تعالى أنه من يتولّ عن الجهاد بنفسه أو عن الإنفاق في سبيل الله اسْتبدل به، فهذه حال الجبان البخيل يستبدل الله به من ينصر الإسلام وينفق فيه". [مجموع الفتاوى] ...المزيد

أخوّة الدين تتنوع العلاقات والوشائج التي تربط بين الناس، بتنوّع مقاصدهم ومآربهم وتختلف باختلاف ...

أخوّة الدين

تتنوع العلاقات والوشائج التي تربط بين الناس، بتنوّع مقاصدهم ومآربهم وتختلف باختلاف مناهجهم ومشاربهم، وكلٌّ على شكله يقع، لكن الذي يتفقون فيه هو تفرّقهم مهما اجتمعوا وتباعدهم مهما اتصلوا، فإنْ لم يكن ذلك في الدنيا وبسببها؛ كان {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ}.

كل خلّة إلى عداء عدا خلّة المتقين:

ولا يسلم من هذا التفرق والتبرؤ والتباعد إلا من بنى ودّه على أساس البر والتقوى، ووثَّق محبته بعرى الإيمان والهدى، فإنّ كل عروة إلى انتقاض خلا العروة الوثقى، وكل خلة إلى عداء عدا خلة أهل التقوى، والدليل قوله تعالى: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ}، قال ابن كثير رحمه الله: "أي: كل صداقة وصحابة لغير الله، فإنها تنقلب يوم القيامة عداوة، إلا ما كان لله عز وجل فإنه دائم بدوامه، وهذا كما قال إبراهيم عليه الصلاة والسلام لقومه: {إِنَّمَا اتَّخَذْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُم بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُم بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَّاصِرِينَ}".

وأما محبة المؤمنين وأخوتهم فهي أشد وأبقى، لأنها واجب أوجبه الله تعالى على عباده، إذ هي من الموالاة التي أمر بها في كتابه فقال سبحانه: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ}، فهي باقية في الدنيا ما بقي أهلها على الإسلام، وهي باقية في الآخرة أجرا ونعيما في ظلال العرش، نسأله تعالى من فضله.

كما إن رابطة الأخوة هي ثمرة محبة الله وتعظيمه وتقديم محابه على ما سواها، فإنّ المؤمنين يتحابون بطاعتهم لله، ويجتمعون بقربهم منه سبحانه، ويتباعدون بمعصيتهم إيّاه وبعدهم عنه، وفي هذا كان بعض السلف يقول: "ما تفرق أخوان إلا بذنب أذنبه أحدهما" وهذا له وجه لا يخفى.

"أشداء على الكفار"

ومن لوازم الأخوة الإيمانية محبة المؤمنين أينما كانوا ومناصرتهم والذود عنهم، وبغض أعدائهم ومعاداتهم، ولذا كان الصحابة رضوان الله عليهم أكثر التجمعات أخوة وتماسكا وترابطا، وقد طبقوا ومثلوا هذه الأخوة تمثيلا لا نظير له ولا مثيل، فقد كان الواحد منهم يشاطر أخاه ماله مناصفة، بل كانوا كما قال الله عنهم: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}، وفي المقابل كانوا يعادون ويتبرؤون من الكافر ولو كان أقرب الناس إليهم، فجمعوا بين منابذة الكافرين وقتالهم ومودة المؤمنين واللين معهم، وبذلك استحقوا ثناء الله عليهم: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ}، والمعنى كما بين الإمام الطبري وغيره: "غليظة قلوبهم على الكافرين، رقيقة قلوبهم للمؤمنين لينة أنفسهم لهم".

وفي واقعنا المُعاش، فإن هذه الأخوة الإيمانية تتجلى بأبهى صورها وتصفو من الدخن والدواخل في صفوف المسلمين القائمين بأمر الله تعالى وبالأخص بين المجاهدين في سبيل الله؛ فَيَوَدُّ أحدُهم لو بذل لإخوانه المسلمين نفسَه ومالَه، والصور والأمثلة أبين من أن يُشار إليها، وما عدد الاستشهاديين والانغماسيين الحاملين جراح أمتهم بقليل، بينما تنعدم وتتهدم الأخوة الإيمانية بين المجتمعات والتجمعات الجاهلية التي تحب وتبغض وتوالي وتعادي في الوطن والعرق والقبيلة والحزب، لا لله وفي الله، وهذه آفة الأمة اليوم.
محاذير شرعية صونا للأخوة:

ومما حث عليه النبي صلى الله عليه وسلم في باب الأخوة؛ إنزال الإخوان منزلة النفس في جلب المحبوب ودفع المكروه، ففي الصحيحين عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)، ولأجل ذلك حرّم الشارع الحكيم كل ما يؤدي إلى تمزق رابطة الإيمان ابتداءً بالهمز واللمز، مرورا بما هو أعظم من ذلك كالغيبة والنميمة والطعن في الأعراض والأنساب وإساءة الظن، وصولا إلى الاعتداء على الأموال والأعراض والدماء وغير ذلك مما شرعه الله تعالى صونا لرابطة الإيمان من التفكك والتمزق.

ولسنا بصدد حصر هذه المحرمات ولكن ضربا للمثال واستشهادا للمقال، وتأمل هذا الحديث النبوي الذي جمع عددا من المحرمات في هذا الباب المهم، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخوانا. المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره. التقوى ها هنا -ويشير إلى صدره ثلاث مرات- بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم. كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه). [رواه مسلم]، فهذا وأمثاله من سدّ ذرائع التفرقة، كما أن ضدها من الأوامر والتشريعات جلبا لأسباب الاجتماع والألفة الكثير.

أخوة الدين عون ونجاة:

ولذا فإن على المسلم أن يهتم بهذه الرابطة الدينية المتينة المبنية على أساس العقيدة والتوحيد، وأن لا يستبدلها بالعصبيات الجاهلية التي طالما روّج لها أعداء الإسلام كالروابط الوطنية والقومية والإنسانية وغيرها من العُرى المنقوضة سلفا! ليزاحموا رابطة الأخوة الإيمانية ويستبدلوها بها.

فينبغي للمسلم أن لا يعتاض عن الأخوة الإيمانية التي تكون له في الدنيا عونا وبُلْغة، وفي الآخرة نجاة وشفاعة، فقد روى الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله يقول يوم القيامة: أين المتحابون بجلالي، اليوم أظلهم في ظلي، يوم لا ظل إلا ظلي).

لعل من أبرز صفحات الأخوة الإيمانية في تاريخ المسلمين، أنها كانت اللبنة الأولى التي وضعها النبي صلى الله عليه وسلم لبناء المجتمع المسلم المتماسك بعد الهجرة إلى المدينة وبناء دولة الإسلام الأولى، ولن تقوم للمسلمين اليوم قائمة حتى ينقضوا كل عروة ورابطة غير رابطة الإيمان، ويبنوا علاقاتهم على رابطة التوحيد والتقوى كما فعل نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم وصحابتهم الكرام، ومن لم يربطه بالمسلمين دينهم وتوحيدهم فلا خير في ودّه ولا أخوته، وإن فني في محبتهم وذاب، بل هي سرعان ما تتبدل وتنقلب عداوة وخذلانا عند أول اختبار لها، فتحابوا أيها المؤمنون في الله تعالى وتآخوا في دينه، وتوحدوا تحت توحيده، تُؤجروا وتُنصروا.


• المصدر:
صحيفة النبأ – العدد 503
السنة السابعة عشرة - الخميس 15 المحرم 1447 هـ
...المزيد

أخوّة الدين تتنوع العلاقات والوشائج التي تربط بين الناس، بتنوّع مقاصدهم ومآربهم وتختلف باختلاف ...

أخوّة الدين

تتنوع العلاقات والوشائج التي تربط بين الناس، بتنوّع مقاصدهم ومآربهم وتختلف باختلاف مناهجهم ومشاربهم، وكلٌّ على شكله يقع، لكن الذي يتفقون فيه هو تفرّقهم مهما اجتمعوا وتباعدهم مهما اتصلوا، فإنْ لم يكن ذلك في الدنيا وبسببها؛ كان {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ}.

كل خلّة إلى عداء عدا خلّة المتقين:

ولا يسلم من هذا التفرق والتبرؤ والتباعد إلا من بنى ودّه على أساس البر والتقوى، ووثَّق محبته بعرى الإيمان والهدى، فإنّ كل عروة إلى انتقاض خلا العروة الوثقى، وكل خلة إلى عداء عدا خلة أهل التقوى، والدليل قوله تعالى: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ}، قال ابن كثير رحمه الله: "أي: كل صداقة وصحابة لغير الله، فإنها تنقلب يوم القيامة عداوة، إلا ما كان لله عز وجل فإنه دائم بدوامه، وهذا كما قال إبراهيم عليه الصلاة والسلام لقومه: {إِنَّمَا اتَّخَذْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُم بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُم بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَّاصِرِينَ}".

وأما محبة المؤمنين وأخوتهم فهي أشد وأبقى، لأنها واجب أوجبه الله تعالى على عباده، إذ هي من الموالاة التي أمر بها في كتابه فقال سبحانه: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ}، فهي باقية في الدنيا ما بقي أهلها على الإسلام، وهي باقية في الآخرة أجرا ونعيما في ظلال العرش، نسأله تعالى من فضله.

كما إن رابطة الأخوة هي ثمرة محبة الله وتعظيمه وتقديم محابه على ما سواها، فإنّ المؤمنين يتحابون بطاعتهم لله، ويجتمعون بقربهم منه سبحانه، ويتباعدون بمعصيتهم إيّاه وبعدهم عنه، وفي هذا كان بعض السلف يقول: "ما تفرق أخوان إلا بذنب أذنبه أحدهما" وهذا له وجه لا يخفى.

"أشداء على الكفار"

ومن لوازم الأخوة الإيمانية محبة المؤمنين أينما كانوا ومناصرتهم والذود عنهم، وبغض أعدائهم ومعاداتهم، ولذا كان الصحابة رضوان الله عليهم أكثر التجمعات أخوة وتماسكا وترابطا، وقد طبقوا ومثلوا هذه الأخوة تمثيلا لا نظير له ولا مثيل، فقد كان الواحد منهم يشاطر أخاه ماله مناصفة، بل كانوا كما قال الله عنهم: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}، وفي المقابل كانوا يعادون ويتبرؤون من الكافر ولو كان أقرب الناس إليهم، فجمعوا بين منابذة الكافرين وقتالهم ومودة المؤمنين واللين معهم، وبذلك استحقوا ثناء الله عليهم: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ}، والمعنى كما بين الإمام الطبري وغيره: "غليظة قلوبهم على الكافرين، رقيقة قلوبهم للمؤمنين لينة أنفسهم لهم".

وفي واقعنا المُعاش، فإن هذه الأخوة الإيمانية تتجلى بأبهى صورها وتصفو من الدخن والدواخل في صفوف المسلمين القائمين بأمر الله تعالى وبالأخص بين المجاهدين في سبيل الله؛ فَيَوَدُّ أحدُهم لو بذل لإخوانه المسلمين نفسَه ومالَه، والصور والأمثلة أبين من أن يُشار إليها، وما عدد الاستشهاديين والانغماسيين الحاملين جراح أمتهم بقليل، بينما تنعدم وتتهدم الأخوة الإيمانية بين المجتمعات والتجمعات الجاهلية التي تحب وتبغض وتوالي وتعادي في الوطن والعرق والقبيلة والحزب، لا لله وفي الله، وهذه آفة الأمة اليوم.
محاذير شرعية صونا للأخوة:

ومما حث عليه النبي صلى الله عليه وسلم في باب الأخوة؛ إنزال الإخوان منزلة النفس في جلب المحبوب ودفع المكروه، ففي الصحيحين عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)، ولأجل ذلك حرّم الشارع الحكيم كل ما يؤدي إلى تمزق رابطة الإيمان ابتداءً بالهمز واللمز، مرورا بما هو أعظم من ذلك كالغيبة والنميمة والطعن في الأعراض والأنساب وإساءة الظن، وصولا إلى الاعتداء على الأموال والأعراض والدماء وغير ذلك مما شرعه الله تعالى صونا لرابطة الإيمان من التفكك والتمزق.

ولسنا بصدد حصر هذه المحرمات ولكن ضربا للمثال واستشهادا للمقال، وتأمل هذا الحديث النبوي الذي جمع عددا من المحرمات في هذا الباب المهم، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخوانا. المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره. التقوى ها هنا -ويشير إلى صدره ثلاث مرات- بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم. كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه). [رواه مسلم]، فهذا وأمثاله من سدّ ذرائع التفرقة، كما أن ضدها من الأوامر والتشريعات جلبا لأسباب الاجتماع والألفة الكثير.

أخوة الدين عون ونجاة:

ولذا فإن على المسلم أن يهتم بهذه الرابطة الدينية المتينة المبنية على أساس العقيدة والتوحيد، وأن لا يستبدلها بالعصبيات الجاهلية التي طالما روّج لها أعداء الإسلام كالروابط الوطنية والقومية والإنسانية وغيرها من العُرى المنقوضة سلفا! ليزاحموا رابطة الأخوة الإيمانية ويستبدلوها بها.

فينبغي للمسلم أن لا يعتاض عن الأخوة الإيمانية التي تكون له في الدنيا عونا وبُلْغة، وفي الآخرة نجاة وشفاعة، فقد روى الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله يقول يوم القيامة: أين المتحابون بجلالي، اليوم أظلهم في ظلي، يوم لا ظل إلا ظلي).

لعل من أبرز صفحات الأخوة الإيمانية في تاريخ المسلمين، أنها كانت اللبنة الأولى التي وضعها النبي صلى الله عليه وسلم لبناء المجتمع المسلم المتماسك بعد الهجرة إلى المدينة وبناء دولة الإسلام الأولى، ولن تقوم للمسلمين اليوم قائمة حتى ينقضوا كل عروة ورابطة غير رابطة الإيمان، ويبنوا علاقاتهم على رابطة التوحيد والتقوى كما فعل نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم وصحابتهم الكرام، ومن لم يربطه بالمسلمين دينهم وتوحيدهم فلا خير في ودّه ولا أخوته، وإن فني في محبتهم وذاب، بل هي سرعان ما تتبدل وتنقلب عداوة وخذلانا عند أول اختبار لها، فتحابوا أيها المؤمنون في الله تعالى وتآخوا في دينه، وتوحدوا تحت توحيده، تُؤجروا وتُنصروا.


• المصدر:
صحيفة النبأ – العدد 503
السنة السابعة عشرة - الخميس 15 المحرم 1447 هـ
...المزيد

الدولة الإسلامية - صحيفة النبأ العدد 503 الافتتاحية: حصحص الحق! تنص الخارجية الأمريكية على ...

الدولة الإسلامية - صحيفة النبأ العدد 503
الافتتاحية:

حصحص الحق!

تنص الخارجية الأمريكية على إمكانية إلغاء التصنيف بالإرهاب في حال "أنّ الظروف الأصلية التي أدت إلى التصنيف؛ قد تغيّرت بما يكفي لتبرير إلغائه، أو أنّ مصالح الأمن القومي الأمريكي تُبرّر إلغاءه". وهذا ما حدث مع هيئة الجولاني المرتدة، حيث أزالوها من "قائمة الإرهاب" بعد انتفاء أسباب التصنيف وتحقُّق الشروط الأمريكية.

بعيدا عن التفسيرات الكثيرة لهذا القرار المتوقع، فإنّ حجر الزاوية في اعتماده هو الالتزام التام بحماية المصالح "الأمريكية-اليهودية" إذْ لا يمكن الفصل بينها، وليس من قبيل المصادفة أن يصدر إعلان براءة الجولاني من الطُهر بينما هو في أحضان "ابن زايد".

سلفًا، قدّم الطاغوت الجولاني ثمن هذا "الاستحقاق الجاهلي"، وفي أول لقاء له مع "ترامب" منحه حق الوصول لخيرات الشام فوق الأرض وتحتها، وأعاد له رعاياه جثثا وأسرى، وطمأن دويلة يهود وسهّل العثور على رفات جنودها، وسلّم إحداثيات "الأسلحة الكيماوية" خشية وصولها لمن يأخذها بحقها! وقبل هذا وذاك سخّر كل طاقاته وتفانى في حرب الدولة الإسلامية في سوريا وخارجها، لقد فعل كل ما تطلّبه القرار حتى الآن.

دوليًّا، تزامن القرار الأمريكي مع قرار روسيا الاعتراف بإمارة طالبان، كخطوة موازية للخطوة الأمريكية، كي لا يعيّر أحدهما الآخر بدعم "الإرهابيين" الذين طلّقوا "الإرهاب" ثلاثا، وتولوا محاربته من دمشق إلى كابل!

في زمن التراجعات أو "التحوّلات الفكرية" كما يسميها المتحوّلون، صار الثوار ينظرون لأمريكا كشريك في إعمار وتنمية سوريا! وصارت طالبان تنظر نفس النظرة إلى روسيا! فمع من كانت حروب هؤلاء على مرّ السنين؟! إنْ كانت أمريكا تبني وروسيا تعمّر فمن الذي دمر حواضر المسلمين؟ إن أصبح الثوار والجهاديون حلفاء أمريكا وروسيا فمن أعداؤهم إذن؟! وما المانع أن ينظروا لليهود نفس النظرة غدا؟!

في أبعاده السياسية، يمثّل القرار الأمريكي احتواء لنظام الجولاني في المعسكر الغربي، تماما كما يمثل القرار الروسي احتواء لنظام طالبان في المعسكر الشرقي.

لقد بات الثوار والجهاديون بيادق في صراعات المعسكرات الجاهلية، بينما أنت يا جندي الخلافة تقف وحدك في معسكر التوحيد ثابتا شامخا كالطود تنافح عن دينك وأمتك، وتلاقي ما تلاقي في سبيل ذلك، فاصبر واحتسب واحمد الله على هذا الموقف حق حمده، واشكره سبحانه حق شكره.

وانظر حولك وتأمل كيف تتسع "سوريا الجديدة" لكل الطوائف الكافرة إلا الطائفة المؤمنة المنصورة بإذن الله تعالى، التي ترتبط بالشام وملاحمها أشد من ارتباط الجولاني بالخيانة! انظر حولك يا جندي الخلافة وتأمل، وأنت في خراسان وما جاورها، تقاتل الروس والأمريكيين معا، بينما بات الناكثون اليوم يكفِّرون عن حروبهم السابقة معهما، كما لو أنها "خطيئة" أقلعوا عنها وأتبعوها بـ "محاربة الإرهاب" لمحوها!

فاحمد الله يا جندي الخلافة وأنت تحافظ على هويتك الدينية -منهاج النبوة-، بينما يدشّن "المتحوّل" هوية قومية وطنية تمثّل قطيعة مع كل رمز أو شعار إسلامي كان قد اتخذه في مراهقته الجهادية أو ثورته الجاهلية.

وعلى الهامش، لا شيء أنسب للهوية البصرية لنظام الجولاني، من صورة "الضبع" فهو لا يعيش إلا على الجيف ولا يقتل إلا غدرا، وتلك دورة حياة الجولاني من الخيانة إلى الرئاسة.

المسؤولون الأمريكيون كانوا منذ البداية صريحين في أنهم لن يقيّموا الجولاني وإدارته وفقا للأقوال بل للأفعال، وبالفعل فلم يخيّب "عدو الشرع" آمال الصليبيين، وكانت أفعاله في حرب الجهاد عند حسن ظنهم ومحط إعجابهم!، حتى تردّى في ردته وخيانته منتقلا من دائرة السر إلى العلن، ومن التبرير إلى المفاخرة! ولا عجب فالرجل "براغماتي" صرف كما مدحوه! لا يعرف معروفا ولا يُنكر منكرا ولا يؤمن إلا بالمصلحة، والغاية عنده أسوأ من الوسيلة.

في سوريا الجديدة يتفاخر الثوار بـ "تطبيع العلاقات" مع أمريكا بينما يتهربون من الحديث عن "التطبيع" مع اليهود، مع أنهما فعلان متصلان مترابطان متساويان، والسبب في هذا التناقض أنّ الإسلام خارج معادلتهم الثورية.

شرعيا، يتناسى هؤلاء المرتدون قوله تعالى: {وَلَن تَرْضَىٰ عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَىٰ حَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ}، قال الإمام البغوي: "(ولن ترضى عنك اليهود) إلا باليهودية، (ولا النصارى) إلا بالنصرانية". اه. فهذه لفتة مهمة من وحي الكتاب إلى هؤلاء أنه مهما تزلفتم وتقربتم لليهود والنصارى، فبغير اليهودية والنصرانية لن تنالوا رضاهم، وعاجلا أم آجلا يستبدلونكم بغيركم، فأنتم مجرد بيادق بأيديهم جئتم خلفا لسلفكم، وستذهبون أذلّ وأخزى من ذهابهم، فهل أنتم إلا بدائل "الأسد" و "كرزاي" ومن لفّ لفهم؟!
في الأوساط الجهادية، يقف خصوم الدولة الإسلامية اليوم أمام خيارات صعبة؛ فهم إما أنْ يعترفوا بصحة موقف الدولة الإسلامية يوم كشفت حقيقة هؤلاء مبكرا؛ بينما كان قادة "القاعدة" يشيدون بهم ويحيكون المؤامرات لترجيح كفتهم على الدولة الإسلامية حسدا من عند أنفسهم، وانحرافا عن منهاج النبوة الذي لم يعد يناسب "تراجعاتهم وتحديثاتهم" في عصر "الربيع الجاهلي" الذي انقلب خريفا عليهم؛ أو أنّ عليهم الإقرار بردة هذه الهيئات عملا بقواعد الإيمان والكفر المعتبرة، وعندها سيدرك أتباعهم أنهم ظلموا الدولة الإسلامية يوم حكموا بخارجيتها، وهو ما يخشاه عبدة الألقاب العلمية والرتب الجهادية لأنه يحطم رموزهم وينهي تاريخهم.

إن مسلسل التبديل والانحراف في الأوساط الجهادية، يقيم الحجة على هؤلاء الخصوم، ويضع كل فرد منهم أمام مفترق طرق؛ هل يتبع هواه وينكر البيّنات والحقائق والواضحات؟ أم يتبع الحق الذي حصحص وبان، فيكثّر سواده ويعذر إلى ربه قبل فوات الأوان.

ولئن كنتم تعجبون مما ترونه في الشام أو خراسان فإن الأعجب لم يأت بعد، فجدّدوا إيمانكم -معاشر المؤمنين- وعضوا على توحيدكم بالنواجذ، فإن الفتن ما زالت تتوالد، ولم يكتمل بعد الزمان الذي يمسي فيه الحليم حيرانا، وهل الحليم يحتار في أمر الجولاني وأمثاله؟!

بل إن ما يجري يحتاج منا وقفة تدبر وتأمل في ما آلت إليه أحوال هؤلاء، وهي لفتة تربوية مهمة للذين يلتحقون بالجهاد دون بصيرة من أمرهم، ويريدون أن يضبطوا فوهات البنادق ويحفروا الخنادق قبل أن يضبطوا بوصلة المناهج ويحفروا في صخر المفاصلة العقدية، فمن كان هذا حاله فالتبديل والتفريط مآله، فاسمعوا وعوا: المناهج المناهج! العقائد العقائد! فبها وإلا فإنّ العواقب "جولانية!".

الآن حصحص الحق لمن لا يؤمن بغير الأدلة المحسوسة صوتا وصورة، أما لأولي الأحلام والنهى فقد حصحص الحق قديما منذ صرخ الشيخ العدناني في الجموع: "ما كان هذا منهجنا ولن يكون".


• المصدر:
صحيفة النبأ – العدد 503
السنة السابعة عشرة - الخميس 15 المحرم 1447 هـ
...المزيد

الدولة الإسلامية - صحيفة النبأ العدد 503 الافتتاحية: حصحص الحق! تنص الخارجية الأمريكية على ...

الدولة الإسلامية - صحيفة النبأ العدد 503
الافتتاحية:

حصحص الحق!

تنص الخارجية الأمريكية على إمكانية إلغاء التصنيف بالإرهاب في حال "أنّ الظروف الأصلية التي أدت إلى التصنيف؛ قد تغيّرت بما يكفي لتبرير إلغائه، أو أنّ مصالح الأمن القومي الأمريكي تُبرّر إلغاءه". وهذا ما حدث مع هيئة الجولاني المرتدة، حيث أزالوها من "قائمة الإرهاب" بعد انتفاء أسباب التصنيف وتحقُّق الشروط الأمريكية.

بعيدا عن التفسيرات الكثيرة لهذا القرار المتوقع، فإنّ حجر الزاوية في اعتماده هو الالتزام التام بحماية المصالح "الأمريكية-اليهودية" إذْ لا يمكن الفصل بينها، وليس من قبيل المصادفة أن يصدر إعلان براءة الجولاني من الطُهر بينما هو في أحضان "ابن زايد".

سلفًا، قدّم الطاغوت الجولاني ثمن هذا "الاستحقاق الجاهلي"، وفي أول لقاء له مع "ترامب" منحه حق الوصول لخيرات الشام فوق الأرض وتحتها، وأعاد له رعاياه جثثا وأسرى، وطمأن دويلة يهود وسهّل العثور على رفات جنودها، وسلّم إحداثيات "الأسلحة الكيماوية" خشية وصولها لمن يأخذها بحقها! وقبل هذا وذاك سخّر كل طاقاته وتفانى في حرب الدولة الإسلامية في سوريا وخارجها، لقد فعل كل ما تطلّبه القرار حتى الآن.

دوليًّا، تزامن القرار الأمريكي مع قرار روسيا الاعتراف بإمارة طالبان، كخطوة موازية للخطوة الأمريكية، كي لا يعيّر أحدهما الآخر بدعم "الإرهابيين" الذين طلّقوا "الإرهاب" ثلاثا، وتولوا محاربته من دمشق إلى كابل!

في زمن التراجعات أو "التحوّلات الفكرية" كما يسميها المتحوّلون، صار الثوار ينظرون لأمريكا كشريك في إعمار وتنمية سوريا! وصارت طالبان تنظر نفس النظرة إلى روسيا! فمع من كانت حروب هؤلاء على مرّ السنين؟! إنْ كانت أمريكا تبني وروسيا تعمّر فمن الذي دمر حواضر المسلمين؟ إن أصبح الثوار والجهاديون حلفاء أمريكا وروسيا فمن أعداؤهم إذن؟! وما المانع أن ينظروا لليهود نفس النظرة غدا؟!

في أبعاده السياسية، يمثّل القرار الأمريكي احتواء لنظام الجولاني في المعسكر الغربي، تماما كما يمثل القرار الروسي احتواء لنظام طالبان في المعسكر الشرقي.

لقد بات الثوار والجهاديون بيادق في صراعات المعسكرات الجاهلية، بينما أنت يا جندي الخلافة تقف وحدك في معسكر التوحيد ثابتا شامخا كالطود تنافح عن دينك وأمتك، وتلاقي ما تلاقي في سبيل ذلك، فاصبر واحتسب واحمد الله على هذا الموقف حق حمده، واشكره سبحانه حق شكره.

وانظر حولك وتأمل كيف تتسع "سوريا الجديدة" لكل الطوائف الكافرة إلا الطائفة المؤمنة المنصورة بإذن الله تعالى، التي ترتبط بالشام وملاحمها أشد من ارتباط الجولاني بالخيانة! انظر حولك يا جندي الخلافة وتأمل، وأنت في خراسان وما جاورها، تقاتل الروس والأمريكيين معا، بينما بات الناكثون اليوم يكفِّرون عن حروبهم السابقة معهما، كما لو أنها "خطيئة" أقلعوا عنها وأتبعوها بـ "محاربة الإرهاب" لمحوها!

فاحمد الله يا جندي الخلافة وأنت تحافظ على هويتك الدينية -منهاج النبوة-، بينما يدشّن "المتحوّل" هوية قومية وطنية تمثّل قطيعة مع كل رمز أو شعار إسلامي كان قد اتخذه في مراهقته الجهادية أو ثورته الجاهلية.

وعلى الهامش، لا شيء أنسب للهوية البصرية لنظام الجولاني، من صورة "الضبع" فهو لا يعيش إلا على الجيف ولا يقتل إلا غدرا، وتلك دورة حياة الجولاني من الخيانة إلى الرئاسة.

المسؤولون الأمريكيون كانوا منذ البداية صريحين في أنهم لن يقيّموا الجولاني وإدارته وفقا للأقوال بل للأفعال، وبالفعل فلم يخيّب "عدو الشرع" آمال الصليبيين، وكانت أفعاله في حرب الجهاد عند حسن ظنهم ومحط إعجابهم!، حتى تردّى في ردته وخيانته منتقلا من دائرة السر إلى العلن، ومن التبرير إلى المفاخرة! ولا عجب فالرجل "براغماتي" صرف كما مدحوه! لا يعرف معروفا ولا يُنكر منكرا ولا يؤمن إلا بالمصلحة، والغاية عنده أسوأ من الوسيلة.

في سوريا الجديدة يتفاخر الثوار بـ "تطبيع العلاقات" مع أمريكا بينما يتهربون من الحديث عن "التطبيع" مع اليهود، مع أنهما فعلان متصلان مترابطان متساويان، والسبب في هذا التناقض أنّ الإسلام خارج معادلتهم الثورية.

شرعيا، يتناسى هؤلاء المرتدون قوله تعالى: {وَلَن تَرْضَىٰ عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَىٰ حَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ}، قال الإمام البغوي: "(ولن ترضى عنك اليهود) إلا باليهودية، (ولا النصارى) إلا بالنصرانية". اه. فهذه لفتة مهمة من وحي الكتاب إلى هؤلاء أنه مهما تزلفتم وتقربتم لليهود والنصارى، فبغير اليهودية والنصرانية لن تنالوا رضاهم، وعاجلا أم آجلا يستبدلونكم بغيركم، فأنتم مجرد بيادق بأيديهم جئتم خلفا لسلفكم، وستذهبون أذلّ وأخزى من ذهابهم، فهل أنتم إلا بدائل "الأسد" و "كرزاي" ومن لفّ لفهم؟!
في الأوساط الجهادية، يقف خصوم الدولة الإسلامية اليوم أمام خيارات صعبة؛ فهم إما أنْ يعترفوا بصحة موقف الدولة الإسلامية يوم كشفت حقيقة هؤلاء مبكرا؛ بينما كان قادة "القاعدة" يشيدون بهم ويحيكون المؤامرات لترجيح كفتهم على الدولة الإسلامية حسدا من عند أنفسهم، وانحرافا عن منهاج النبوة الذي لم يعد يناسب "تراجعاتهم وتحديثاتهم" في عصر "الربيع الجاهلي" الذي انقلب خريفا عليهم؛ أو أنّ عليهم الإقرار بردة هذه الهيئات عملا بقواعد الإيمان والكفر المعتبرة، وعندها سيدرك أتباعهم أنهم ظلموا الدولة الإسلامية يوم حكموا بخارجيتها، وهو ما يخشاه عبدة الألقاب العلمية والرتب الجهادية لأنه يحطم رموزهم وينهي تاريخهم.

إن مسلسل التبديل والانحراف في الأوساط الجهادية، يقيم الحجة على هؤلاء الخصوم، ويضع كل فرد منهم أمام مفترق طرق؛ هل يتبع هواه وينكر البيّنات والحقائق والواضحات؟ أم يتبع الحق الذي حصحص وبان، فيكثّر سواده ويعذر إلى ربه قبل فوات الأوان.

ولئن كنتم تعجبون مما ترونه في الشام أو خراسان فإن الأعجب لم يأت بعد، فجدّدوا إيمانكم -معاشر المؤمنين- وعضوا على توحيدكم بالنواجذ، فإن الفتن ما زالت تتوالد، ولم يكتمل بعد الزمان الذي يمسي فيه الحليم حيرانا، وهل الحليم يحتار في أمر الجولاني وأمثاله؟!

بل إن ما يجري يحتاج منا وقفة تدبر وتأمل في ما آلت إليه أحوال هؤلاء، وهي لفتة تربوية مهمة للذين يلتحقون بالجهاد دون بصيرة من أمرهم، ويريدون أن يضبطوا فوهات البنادق ويحفروا الخنادق قبل أن يضبطوا بوصلة المناهج ويحفروا في صخر المفاصلة العقدية، فمن كان هذا حاله فالتبديل والتفريط مآله، فاسمعوا وعوا: المناهج المناهج! العقائد العقائد! فبها وإلا فإنّ العواقب "جولانية!".

الآن حصحص الحق لمن لا يؤمن بغير الأدلة المحسوسة صوتا وصورة، أما لأولي الأحلام والنهى فقد حصحص الحق قديما منذ صرخ الشيخ العدناني في الجموع: "ما كان هذا منهجنا ولن يكون".


• المصدر:
صحيفة النبأ – العدد 503
السنة السابعة عشرة - الخميس 15 المحرم 1447 هـ
...المزيد
يتم الآن تحديث اوقات الصلاة ...
00:00:00 يتبقى على
21 ربيع الأول 1447
الفجر 00:00 الظهر 00:00 العصر 00:00 المغرب 00:00 العشاء 00:00

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً