لا إله إلا الله قول وعمل قال الشيخ محمد بن عبد الوهّاب، رحمه الله: اعلم رحمك الله تعالى، أن لا ...

لا إله إلا الله قول وعمل

قال الشيخ محمد بن عبد الوهّاب، رحمه الله:
اعلم رحمك الله تعالى، أن لا إله إلا الله هي الكلمة العالية، والشريفة الغالية، من استمسك بها فقد سلم، ومن اعتصم بها فقد عُصم، قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (من قال لا إله إلا الله، وكفر بما يعبد من دون الله، حرُم ماله ودمه، وحسابه على الله، عز وجل) [رواه مسلم عن طارق بن أشيم]، والحديث يفصح أن لا إله إلا الله، لها لفظ ومعنى.

ولكن الناس فيها ثلاث فرق: فرقة نطقوا بها وحقّقوها، وعلموا أن لها معنى وعملوا به، ولها نواقض فاجتنبوها. وفرقة: نطقوا بها في الظاهر، فزيّنوا ظواهرهم بالقول، واستبطنوا الكفر والشك. وفرقة: نطقوا بها ولم يعملوا بمعناها، وعملوا بنواقضها، فهؤلاء: {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} [الكهف: 104]؛ فالفرقة الأولى هي الناجية، وهم المؤمنون حقا، والثانية هم المنافقون، والثالثة هم المشركون.

فلا إله إلا الله حصن، ولكن نصبوا عليه منجنيق التكذيب، ورموه بحجارة التخريب، فدخل عليهم العدو، فسلبهم المعنى، وتركهم مع الصورة، وفي الحديث: (إن الله لا ينظر إلى صوركم وأبدانكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم) [رواه مسلم عن أبي هريرة]؛ سلبوا معنى لا إله إلا الله، فبقي معهم لقلقة باللسان، وقعقعة بالحروف، وهو ذِكر الحصن لا مع الحصن، فكما أن ذِكر النار لا يحرق، وذِكر الماء لا يغرق، وذِكر الخبز لا يشبع، وذِكر السيف لا يقطع، فكذلك ذِكر الحصن لا يمنع؛ فإن القول قشر، والمعنى لب، والقول صدف، والمعنى در، ماذا يُصنع بالقشر مع فقدان اللب؟ وماذا يُصنع بالصدف مع فقدان الجوهر؟
لا إله إلا الله مع معناها، بمنزلة الروح من الجسد، لا يُنتفع بالجسد دون الروح، فكذلك لا يُنتفع بهذه الكلمة دون معناها؛ فعالم الفضل أخذوا بهذه الكلمة بصورتها ومعناها، فزينوا بصورتها ظواهرهم بالقول، وبواطنهم بالمعنى، وبرزت لهم شهادة القدم بالتصديق، {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران: 18].

وعالم العدل [أي الشرك]: أخذوا هذه الكلمة بصورتها دون معناها، فزيّنوا ظواهرهم بالقول، وبواطنهم بالكفر، بالاعتقاد فيمن لا يضر ولا ينفع؛ فقلوبهم مسودة مظلمة، لم يجعل الله لهم فرقانا يُفرّقون به بين الحق والباطل، ويوم القيامة يبقون في ظلمة كفرهم، {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ} [البقرة: 17].

فمن قال: لا إله إلا الله، وهو عابد لهواه ودرهمه وديناره ودنياه، ماذا يكون جوابه يوم القيامة لمولاه؟ {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية: 23]، (تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة، تعس عبد الخميلة، إن أُعطي رضي، وإن لم يعط سخط، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش) [رواه البخاري عن أبي هريرة].

إذا قلت: لا إله إلا الله، فإن كان مسكنها منك اللسان لا ثمرة لها في القلب، فأنت منافق، وإن كان مسكنها منك القلب [مع التزام الجوارح بها]، فأنت مؤمن، وإياك أن تكون مؤمنا بلسانك دون قلبك، فتنادي عليك هذه الكلمة في عرصات القيامة: «إلهي صحبته كذا وكذا سنة، فما اعترف بحقي، ولا رعى لي حرمتي حق رعايتي!» فإن هذه الكلمة تشهد لك، أو عليك.

فعالم الفضل تشهد لهم بالاحترام، حتى تدخلهم الجنة؛ وعالم العدل [أي الشرك] تشهد لهم بالإجرام، حتى تدخلهم النار، {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى: 7].

لا إله إلا الله شجرة السعادة، إن غرستها في منبت التصديق، وسقيتها من ماء الإخلاص، ورعيتها بالعمل الصالح، رسخت عروقها، وثبت ساقها، واخضرت أوراقها، وأينعت ثمارها، وتضاعف أكلها، {تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} [إبراهيم: 25].
وإن غُرست هذه الشجرة في منبت التكذيب والشقاق، وأسقيتها بماء الرياء والنفاق، وتعاهدتها بالأعمال السيئة والأقوال القبيحة، وطفح عليها غدير الغدر ولفحها هجير هجر، تناثرت ثمارها، وتساقطت أوراقها، وانقشع ساقها، وتقطعت عروقها، وهبّت عليها عواصف القذر، ومزقتها كل ممزق، {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} [الفرقان: 23].

فإذا تحقق المسلم هذا، فلا بد معه من تمام بقية أركان الإسلام، كما في الحديث الصحيح: (بُني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت الحرام) من استطاع إليه سبيلا [رواه البخاري ومسلم عن ابن عمر]، {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 97]، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
انتهى كلامه رحمه الله بتصرف يسير.


المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 65
الخميس 27 ربيع الثاني 1438 ه‍ـ
...المزيد

إقامة الدولة الإسلامية بين منهاج النبوة وسبل أهل الضلالة (1) لن نبالغ بالقول إن تحدثنا أنَّ ...

إقامة الدولة الإسلامية
بين منهاج النبوة وسبل أهل الضلالة (1)

لن نبالغ بالقول إن تحدثنا أنَّ مئاتٍ من الحركات والأحزاب والفصائل قامت خلال القرن الماضي زاعمة العمل على إعادة الخلافة، وتطبيق الشريعة، وإقامة الدين في الأرض، ولكنها جميعا فشلت في تحقيق ذلك، رغم أن قليلا منها وصل إلى مرحلة التمكين الحقيقي أو الشكلي، بل منها من تمكن من إقامة بعض أحكام الشريعة، ولكن تلك الآمال كلّها لم تتحقق إلا في الدولة الإسلامية، والفضل لله من قبل ومن بعد.

ولو نظرنا إلى حال تلك الحركات لوجدنا أنها بغالبها صنعت لنفسها العقبات والعراقيل التي سدّت الطريق أمامها، أو دفعتها دفعاً إلى الانحراف عن الطريق الحقيقي والوحيد المُوصل للهدف السامي الذي كانوا يطمحون إليه، وذلك أنهم كلفوا أنفسهم بما لم يكلفهم به الله، وألزموا أنفسهم بما لم يُلزمهم به الله، سواء منهم من سلك طريق التشديد والغلو وافتراض ما لم يفرضه الله عليهم، أو من سلك طريق التفلّت من الأحكام الشرعية، وفي كلا الحالتين كان الابتعاد عن الصراط المستقيم، والمنهج القويم في إقامة الدين.

- حتميّات فاسدة:

ومن أبرز ما كلَّفوا به أنفسهم هو ما ابتدعوه من مناهج في العمل، وضعها لهم قادتهم ومنظروهم وعلماؤهم، أطلق بعضهم عليها أسماءً كالنظريات السياسية والمناهج الحركية أو ما شابه، ويقصدون بذلك ما افترضوه من مقدمات ضرورية للوصول إلى النتائج التي يرومون الوصول إليها من عملهم وحركتهم، حيث أن أفهامهم، وأهواءهم أوحت إليهم طرقاً في العمل ينبغي سلوكها للوصول إلى الهدف المنشود وهو إقامة دين الله في الأرض، ولم يكتفوا بوضع هذه النظريات، أو الفرضيات، بل جعلوها بمثابة الصراط المستقيم بالنسبة للعمل لإقامة دين الله، إذ لا يصح -في نظرهم- سلوك غيرها للوصول إلى الغاية، وبالتالي فقد سلكوا طريق الحتميّة، وكلّفوا أنفسهم ومن تبعهم ما لا يطيقون، مما لم يُفرض عليهم، فزادوا ضلالاً على ضلال، والله لا يهدي القوم الفاسقين.

وهذه الافتراضات قامت على أساس أن الطريق لإقامة الدين ينبغي أن يكون بالوصول إلى هدفٍ مرحلي ما، أو تجاوز عقبة رئيسة ما، وبدون تحقيق هذا أو ذاك لا يمكن -بحسب زعمهم- إقامة الدين، ولا الحديث عن دولة إسلامية، فضلاً عن إقامة خلافة على منهاج النبوة وإمامة عظمى لأمة واحدة.

والمشكلة الأكبر من وراء افتراضاتهم، هي أن الفرضيات -على العموم- لا يمكن إثبات صِحتها، أو بيان بطلانها، إلا بعد إخضاعها للتجربة، فإذا تطابقت النتيجة مع الفرضية، فقد بُرهنت، وعُدَّت نظرية صحيحة، ومع تكرار نجاح هذه النظرية في ظروف مختلفة فإنها تكتسب صفة المعادلة الثابتة، التي يمكن من خلالها توقع نتائج أي فعل، أو مستقبل أي حالة، إذا تطابقت عناصر الفعل وحالته، مع ما تتطلبه المعادلة، وهنا كانت مصيبة أولئك القوم، إذ إنهم عاملوا فرضياتهم على أنها نظرياتٌ مُبرهنٌ على صحتها، أو عاملوا نظريات الآخرين التي ظنوا صحتها في ظروفهم الخاصة على أنها معادلات ثابتة ينبغي العمل بها في كل حال، وزمان، ومكان.

- تجاربٌ أثمانُها الدماءُ:

وبما أن المجال الوحيد لتجربة الفرضيات، أو النظريات التي تخص البشر، أو قسماً منهم، وكل ما يتعلق بحياتهم، هو جعلهم أنفسَهم حقلاً للتجارب، بدفعها إلى تطبيق الفرضيات، وانتظار ظهور النتائج على الواقع، وتسجيلها، ثم الحكم من خلالها على صحة الفرضية، من خلال برهان الواقع، مما يعني تحمل تكلفة عالية للوصول إلى المبتغى، إضافة إلى الخسائر الكبيرة المتوقعة في حال كانت الفرضية خاطئة من الأساس، أو جرى تطبيقها بطريقة خاطئة، أو لمجرد دخول متغير أو عامل مؤثر -غير معتبر سلفا- في التجربة عليها، مع صعوبة أو استحالة إخراجه منها، بسبب تشابك واختلاط العوامل المؤثرة في الطبيعة، بخلاف تجارب المختبرات (كالتي تتعلق بعلمي الفيزياء والكيمياء التقليديين)، التي يمكن فيها عزل التجربة بدرجة كبيرة عن الوسط المحيط، وبالتالي الحصول على نتائج أكثر قرباً من الحقيقة.

فقد حمل المنظرون وقادة الحركات فرضياتهم، وأسقطوها على الأرض فوراً، محملين أتباعهم (وأنفسهم أحيانا) تكاليف تطبيق التجربة، وكلٌ منهم يجرّب فرضياته في من تبعه من الناس، حتى امتلأت الأرض بالتجارب الحركية التي قامت على أساس تلك الفرضيات، وبالتالي شهد القرن الماضي عددا من التجارب الرئيسة، التي تفرَّع عن كل منها عدّة تجارب، وبالمحصِّلة صرنا نجد العشرات من التجارب التي تطبق في آن واحد على المساحة الكبيرة التي ينتشر فيها المسلمون في العالم، بل تجد في البلد الواحد عدة تجارب، يتصارع أصحابها فيما بينهم أكثر مما يتصارعون مع الأنظمة الطاغوتية التي خرجوا في الأساس لمواجهتها.
...المزيد

- عُبّاد النظريات: لقد كانت نتيجة تلك التجارب كارثية بحق، فقد قُتل، وسُجن، وشُرِّد، الملايين ...

- عُبّاد النظريات:

لقد كانت نتيجة تلك التجارب كارثية بحق، فقد قُتل، وسُجن، وشُرِّد، الملايين من الناس على أيدي الأنظمة الطاغوتية، دون تحقيق نتيجة تذكر، وكان وراء ذلك في الغالب -بالإضافة إلى الضلال في العقيدة والمنهج- فرضيات خاطئة، حاول أصحابها تجربتها على الواقع، وقد أقنعوا أتباعهم سلفاً بأنها صحيحة، وأن نتائجها الإيجابية مضمونة، بل تعدت نتائج تلك الفرضيات الخسائر الكبيرة المادية والبشرية، لتصيب الدين ذاته، بما جرى إدخاله عليه من البدع والمنكرات باسم الوسائل الضرورية لإحداث التغيير المنشود، ووصل الأمر ببعضهم إلى سلوك طريق الشرك بالله، وهو يزعم أن هذا الطريق يؤدي بالأمة إلى التوحيد الخالص، فلا هم ديناً أقاموا، ولا هم دنياً أبقوا.

ولو تتبعنا الساحة اليوم لوجدنا أنها ما زالت تعج بتلك الفرضيات الفاسدة التي جعلها كثير من الناس إلهاً يُعبد من دون الله، فتتحزب حولها الحركات، ويتعصب لها الأفراد، ويُعقد عليها الولاء والبراء، رغم ما أثبتته من فشل، وما أحلّته بالأمة من كوارث، وفوق ذلك كله وضوح مخالفتها لأصل دين الإسلام، وأحكامه.

- أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ:

قال الإمام الطبري -رحمه الله- في تفسير قوله تعالى {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الملك: 22]:
«يقول تعالى ذكره: {أَفَمَنْ يَمْشِي} أيها الناس {مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ} لا يبصر ما بين يديه، وما عن يمينه وشماله {أَهْدَى}: أشدّ استقامة على الطريق، وأهدى له، {أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا} مشي بني آدم على قدميه {عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} يقول: على طريق لا اعوجاج فيه» [تفسير الطبري].

إذ لا يُتصور بحالٍ أن من يمشي وهو لا يرى الطريق أمامه أهدى من الذي يسير مستقيما على طريق لا عوج فيه ولا عقبات، فالأول مخوف عليه دائما أن يضل الطريق، أما الآخر فقد منّ الله عليه بقدرته على إبصار ما حوله وكذلك هو يسير على صراط مستقيم لا يؤدي به إلا إلى الهدى.

وهكذا الفرق بين مجاهدي الدولة الإسلامية وغيرهم من مرتدي الفصائل والتنظيمات وضُلَّالهم، فأهل الحق لا يسيرون خطوة إلى الأمام إلا بعد أن يعلموا الحكم الشرعي لهذه الخطوة، فلا يسيرونها إلا إن تأكدوا أنها مشروعة لن تخرجهم عن الصراط المستقيم الذي يوصلهم إلى الجنة، فضلا عن كونه سيوصلهم إلى غايتهم في إقامة الدين.

أما أهل الضلال فإنهم قد انكبوا بوجوههم على السبل التي خطها لهم قادتهم لا يرون غيرها، ولا يرون ما فيها من عِوج، ولا ما يعترضها من عقبات، لذلك لا يلبثون أن يصطدموا بعقبة كؤود أو ينحرفوا انحرافا يبعدهم عن الصراط المستقيم.
وسنقدّم -بإذن الله- في حلقات قادمة نماذج لسبل أهل الضلالة في سعيهم المزعوم لإقامة الدين، وتحكيم الشريعة، وإعادة الخلافة، ليظهر الفارق بينها وبين منهاج النبوة الذي سارت عليه -بفضل الله- الدولة الإسلامية حتى مكنها الله في الأرض، والحمد لله رب العالمين.


المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 65
الخميس 27 ربيع الثاني 1438 ه‍ـ
...المزيد

مِن أقوال علماء الملّة • قال الإمام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-: "قال تعالى: {هَا أَنتُمْ ...

مِن أقوال علماء الملّة

• قال الإمام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-:
"قال تعالى: {هَا أَنتُمْ هَٰؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم}، فقد أخبر تعالى أنه من يتولّ عن الجهاد بنفسه أو عن الإنفاق في سبيل الله اسْتبدل به، فهذه حال الجبان البخيل يستبدل الله به من ينصر الإسلام وينفق فيه". [مجموع الفتاوى] ...المزيد

الدولة الإسلامية - صحيفة النبأ العدد 503 الافتتاحية: حصحص الحق! تنص الخارجية الأمريكية على ...

الدولة الإسلامية - صحيفة النبأ العدد 503
الافتتاحية:

حصحص الحق!

تنص الخارجية الأمريكية على إمكانية إلغاء التصنيف بالإرهاب في حال "أنّ الظروف الأصلية التي أدت إلى التصنيف؛ قد تغيّرت بما يكفي لتبرير إلغائه، أو أنّ مصالح الأمن القومي الأمريكي تُبرّر إلغاءه". وهذا ما حدث مع هيئة الجولاني المرتدة، حيث أزالوها من "قائمة الإرهاب" بعد انتفاء أسباب التصنيف وتحقُّق الشروط الأمريكية.

بعيدا عن التفسيرات الكثيرة لهذا القرار المتوقع، فإنّ حجر الزاوية في اعتماده هو الالتزام التام بحماية المصالح "الأمريكية-اليهودية" إذْ لا يمكن الفصل بينها، وليس من قبيل المصادفة أن يصدر إعلان براءة الجولاني من الطُهر بينما هو في أحضان "ابن زايد".

سلفًا، قدّم الطاغوت الجولاني ثمن هذا "الاستحقاق الجاهلي"، وفي أول لقاء له مع "ترامب" منحه حق الوصول لخيرات الشام فوق الأرض وتحتها، وأعاد له رعاياه جثثا وأسرى، وطمأن دويلة يهود وسهّل العثور على رفات جنودها، وسلّم إحداثيات "الأسلحة الكيماوية" خشية وصولها لمن يأخذها بحقها! وقبل هذا وذاك سخّر كل طاقاته وتفانى في حرب الدولة الإسلامية في سوريا وخارجها، لقد فعل كل ما تطلّبه القرار حتى الآن.

دوليًّا، تزامن القرار الأمريكي مع قرار روسيا الاعتراف بإمارة طالبان، كخطوة موازية للخطوة الأمريكية، كي لا يعيّر أحدهما الآخر بدعم "الإرهابيين" الذين طلّقوا "الإرهاب" ثلاثا، وتولوا محاربته من دمشق إلى كابل!

في زمن التراجعات أو "التحوّلات الفكرية" كما يسميها المتحوّلون، صار الثوار ينظرون لأمريكا كشريك في إعمار وتنمية سوريا! وصارت طالبان تنظر نفس النظرة إلى روسيا! فمع من كانت حروب هؤلاء على مرّ السنين؟! إنْ كانت أمريكا تبني وروسيا تعمّر فمن الذي دمر حواضر المسلمين؟ إن أصبح الثوار والجهاديون حلفاء أمريكا وروسيا فمن أعداؤهم إذن؟! وما المانع أن ينظروا لليهود نفس النظرة غدا؟!

في أبعاده السياسية، يمثّل القرار الأمريكي احتواء لنظام الجولاني في المعسكر الغربي، تماما كما يمثل القرار الروسي احتواء لنظام طالبان في المعسكر الشرقي.

لقد بات الثوار والجهاديون بيادق في صراعات المعسكرات الجاهلية، بينما أنت يا جندي الخلافة تقف وحدك في معسكر التوحيد ثابتا شامخا كالطود تنافح عن دينك وأمتك، وتلاقي ما تلاقي في سبيل ذلك، فاصبر واحتسب واحمد الله على هذا الموقف حق حمده، واشكره سبحانه حق شكره.

وانظر حولك وتأمل كيف تتسع "سوريا الجديدة" لكل الطوائف الكافرة إلا الطائفة المؤمنة المنصورة بإذن الله تعالى، التي ترتبط بالشام وملاحمها أشد من ارتباط الجولاني بالخيانة! انظر حولك يا جندي الخلافة وتأمل، وأنت في خراسان وما جاورها، تقاتل الروس والأمريكيين معا، بينما بات الناكثون اليوم يكفِّرون عن حروبهم السابقة معهما، كما لو أنها "خطيئة" أقلعوا عنها وأتبعوها بـ "محاربة الإرهاب" لمحوها!

فاحمد الله يا جندي الخلافة وأنت تحافظ على هويتك الدينية -منهاج النبوة-، بينما يدشّن "المتحوّل" هوية قومية وطنية تمثّل قطيعة مع كل رمز أو شعار إسلامي كان قد اتخذه في مراهقته الجهادية أو ثورته الجاهلية.

وعلى الهامش، لا شيء أنسب للهوية البصرية لنظام الجولاني، من صورة "الضبع" فهو لا يعيش إلا على الجيف ولا يقتل إلا غدرا، وتلك دورة حياة الجولاني من الخيانة إلى الرئاسة.

المسؤولون الأمريكيون كانوا منذ البداية صريحين في أنهم لن يقيّموا الجولاني وإدارته وفقا للأقوال بل للأفعال، وبالفعل فلم يخيّب "عدو الشرع" آمال الصليبيين، وكانت أفعاله في حرب الجهاد عند حسن ظنهم ومحط إعجابهم!، حتى تردّى في ردته وخيانته منتقلا من دائرة السر إلى العلن، ومن التبرير إلى المفاخرة! ولا عجب فالرجل "براغماتي" صرف كما مدحوه! لا يعرف معروفا ولا يُنكر منكرا ولا يؤمن إلا بالمصلحة، والغاية عنده أسوأ من الوسيلة.

في سوريا الجديدة يتفاخر الثوار بـ "تطبيع العلاقات" مع أمريكا بينما يتهربون من الحديث عن "التطبيع" مع اليهود، مع أنهما فعلان متصلان مترابطان متساويان، والسبب في هذا التناقض أنّ الإسلام خارج معادلتهم الثورية.

شرعيا، يتناسى هؤلاء المرتدون قوله تعالى: {وَلَن تَرْضَىٰ عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَىٰ حَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ}، قال الإمام البغوي: "(ولن ترضى عنك اليهود) إلا باليهودية، (ولا النصارى) إلا بالنصرانية". اه. فهذه لفتة مهمة من وحي الكتاب إلى هؤلاء أنه مهما تزلفتم وتقربتم لليهود والنصارى، فبغير اليهودية والنصرانية لن تنالوا رضاهم، وعاجلا أم آجلا يستبدلونكم بغيركم، فأنتم مجرد بيادق بأيديهم جئتم خلفا لسلفكم، وستذهبون أذلّ وأخزى من ذهابهم، فهل أنتم إلا بدائل "الأسد" و "كرزاي" ومن لفّ لفهم؟!
في الأوساط الجهادية، يقف خصوم الدولة الإسلامية اليوم أمام خيارات صعبة؛ فهم إما أنْ يعترفوا بصحة موقف الدولة الإسلامية يوم كشفت حقيقة هؤلاء مبكرا؛ بينما كان قادة "القاعدة" يشيدون بهم ويحيكون المؤامرات لترجيح كفتهم على الدولة الإسلامية حسدا من عند أنفسهم، وانحرافا عن منهاج النبوة الذي لم يعد يناسب "تراجعاتهم وتحديثاتهم" في عصر "الربيع الجاهلي" الذي انقلب خريفا عليهم؛ أو أنّ عليهم الإقرار بردة هذه الهيئات عملا بقواعد الإيمان والكفر المعتبرة، وعندها سيدرك أتباعهم أنهم ظلموا الدولة الإسلامية يوم حكموا بخارجيتها، وهو ما يخشاه عبدة الألقاب العلمية والرتب الجهادية لأنه يحطم رموزهم وينهي تاريخهم.

إن مسلسل التبديل والانحراف في الأوساط الجهادية، يقيم الحجة على هؤلاء الخصوم، ويضع كل فرد منهم أمام مفترق طرق؛ هل يتبع هواه وينكر البيّنات والحقائق والواضحات؟ أم يتبع الحق الذي حصحص وبان، فيكثّر سواده ويعذر إلى ربه قبل فوات الأوان.

ولئن كنتم تعجبون مما ترونه في الشام أو خراسان فإن الأعجب لم يأت بعد، فجدّدوا إيمانكم -معاشر المؤمنين- وعضوا على توحيدكم بالنواجذ، فإن الفتن ما زالت تتوالد، ولم يكتمل بعد الزمان الذي يمسي فيه الحليم حيرانا، وهل الحليم يحتار في أمر الجولاني وأمثاله؟!

بل إن ما يجري يحتاج منا وقفة تدبر وتأمل في ما آلت إليه أحوال هؤلاء، وهي لفتة تربوية مهمة للذين يلتحقون بالجهاد دون بصيرة من أمرهم، ويريدون أن يضبطوا فوهات البنادق ويحفروا الخنادق قبل أن يضبطوا بوصلة المناهج ويحفروا في صخر المفاصلة العقدية، فمن كان هذا حاله فالتبديل والتفريط مآله، فاسمعوا وعوا: المناهج المناهج! العقائد العقائد! فبها وإلا فإنّ العواقب "جولانية!".

الآن حصحص الحق لمن لا يؤمن بغير الأدلة المحسوسة صوتا وصورة، أما لأولي الأحلام والنهى فقد حصحص الحق قديما منذ صرخ الشيخ العدناني في الجموع: "ما كان هذا منهجنا ولن يكون".


• المصدر:
صحيفة النبأ – العدد 503
السنة السابعة عشرة - الخميس 15 المحرم 1447 هـ
...المزيد

قصة شهيد: من جبال خراسان إلى ربوع الشام الشيخ المجاهد عبد الحكيم التتري: ‘‘أريد الوصول إلى ...

قصة شهيد:
من جبال خراسان إلى ربوع الشام

الشيخ المجاهد عبد الحكيم التتري: ‘‘أريد الوصول إلى أرض الخلافة والعيش فيها ولو أياماً فقط’’

"يكفيني أن أعيش في أرض الخلافة 4 أيام فقط، وإن قتلت بعد ذلك فقد حققت ما أريد"، عبارة كررها عشرات المرات عندما حاول أهله ثنيه عن الهجرة من خراسان إلى أرض الخلافة في العراق والشام، وبعد وصوله بأربعة أيام طلب المشاركة في غزوة كان يعد لها جنود الخلافة في بيجي، فقالت له زوجته ومن حوله: "انتظر يا شيخ حتى ترتاح من مشقة الطريق ووعثاء السفر"، فقال: "راحتي في ذلك"، وألحّ على إخوانه حتى شارك في الغزوة وقتل فيها، تقبله الله.

لقد صدق الله في طلبه فنال ما أراد، وهو الذي قاتل الكفار والمرتدين طيلة 8 أعوام في خراسان، كان ليناً مرحاً محبوباً من قبل إخوانه جميعا، كان أحدهم إذا جاءت نوبة رباطه في نقطة، سأل عن الموجودين في هذه النقطة فيقولون له فلان وفلان وفلان، فإذا علم بوجود الشيخ فيها سارع إليها فرحا مسرورا وإذا لم يجده بحث عنه.

كان أحد أكبر المحرضين على الجهاد في أرض الروس من خلال كلماته وتسجيلاته التي كانت دافعا كبيرا في هجرة العديد من الإخوة الروس إلى ساحات الجهاد.

إنه الشيخ المجاهد عبد الحكيم التتري -تقبله الله- صاحب 53 عاما، روسي الأصل، هاجر من أرض الروس الصليبيين إلى أرض خراسان قبل 15 عاما، والتحق بإخوانه بالحركة الإسلامية الأوزبكية في وزيرستان، التي بايعت خليفة المسلمين بعد إعلان الخلافة، وانضم جنودها لجنود الدولة الإسلامية في خراسان.

لم يكن الشيخ في مقتبل عمره ملتزما بأوامر الله ومنتهيا عن نواهيه، وكان له أخ من أمه قد عرف طريق الجهاد، وكان كثيرا ما يحدثه عن الجهاد في سبيل الله وفضله وما أعد الله للمجاهدين، حتى جاء الوقت الذي هدى الله فيه قلبه لدينه وللجهاد في سبيله، فعزم على الهجرة، والتحق بإخوانه في وزيرستان وأصبح جنديا في صفوف الحركة الأوزبكية الإسلامية، وجمع -رحمه الله- بين شقي الجهاد، جهاد اللسان وجهاد السنان، حيث كان يحرض المسلمين على النفير في سبيل الله من خلال كلماته الصوتية وتسجيلاته المصورة، ومن خلال قتاله ورباطه ضد المرتدين والكفار وأعوانهم.

وعن هجرته من أرض خراسان فور إعلان الخلافة إلى أرض الدولة الإسلامية، يحدثنا ابنه الذي كان معه في خراسان بقوله: "عندما أُعلنت الخلافة، عزم والدي أمره، وقال جهزوا أنفسكم سنهاجر إلى أرض الشام ونلتحق بركب الخلافة، فقلت له: "يا أبي هنا جهاد وهناك جهاد، والطريق طويلة واحتمال الأسر وارد جدا، ويجب علينا أن نجتاز حدود دول عديدة، ولا نملك جوازات للسفر أو بطاقات رسمية، إضافة إلى أننا لا نملك المال الكافي للوصول إلى الشام" فأجابني أبي: "الآن أعلنت الخلافة، وكم انتظرنا هذا اليوم، هل تعرف كم سنة انتظرناها؟! والآن عندما أُعلنت نتخلى عنها ولا نلتحق بركبها؟! لا يوجد أمامي هدف في أيامي القادمة سوى الوصول لأرض دولة الإسلام والالتحاق بالركب، ولن يستطيع أحد منعي من الالتحاق بها، فيكفيني أن أعيش فيها عدة أيام حتى وإن قتلت في أول غزوة أشارك بها".

وما هي إلا أيام حتى عزم الشيخ وزوجته وابنهما أمرهم مع عدد من الإخوة الآخرين وجهزوا أنفسهم للهجرة في سبيل الله، وجمعوا ما استطاعوا من المال، الذي قُدِّر بـ 900 دولار للشخص الواحد مع أن تكلفة الطريق للشخص كانت تزيد على 2000 دولار.

ومع فجر أحد الأيام، انطلقت المجموعة الصغيرة المهاجرة في سبيل الله إلى أرض الخلافة، من وزيرستان إلى أفغانستان وبعدها إلى باكستان، مرورا بدولة الروافض المشركين إيران، وصولا إلى تركيا، ليستريحوا عدة أيام ثم يكملوا طريقهم ويدخلوا أرض الشام بعد أكثر من شهرين منذ انطلاقتهم من وزيرستان.

وما أشق الطريق وأطوله، ويكفي فقط أن نعرف أنهم استقلوا أكثر من 50 سيارة منذ انطلاقهم، وركبوا العديد من الدراجات النارية في الطرق التي لا تسير فيها السيارات بين الجبال أثناء تنقلهم، ومشوا عشرات الكيلومترات على أرجلهم خلال عبورهم الحدود، وظلوا يوما كاملا مختبئين داخل صناديق خشبية حتى تمكنوا من عبور أحد الحواجز، وعادوا عدة مرات قبل ذلك.

ولاقوا ما لاقوا من أذى بسبب كذب المهربين، والخوف الذي عاشوه من كشف أمرهم للدرك والشرطة من الكفار والمرتدين، خاصة وأن الشيخ أحد أهم المطلوبين لدولة روسيا الصليبية، وصورته موزعة معروفة، إضافة إلى أن له العديد من الإصدارات التي يُحرض فيها على الجهاد وصورته واضحة بها، ورغم كل ذلك فلقد كانت رعاية الله وحفظه معهم.

وكانت الرحلة كذلك وبحسب أحد الإخوة في المجموعة أمتع رحلة في حياتهم بسبب وجود الشيخ معهم الذي كان كثير المزاح، ودائم السعادة والبهجة والذي كان يُحوّل أصعب المواقف وأحزنها إلى لطيفة ممتعة.وهناك في تركيا، تذكّر الشيخ والدته التي قاربت الثمانين عاما، فلم يشأ أن ينعم بالهجرة والعيش في أرض الخلافة دونها، فاتصل بها وقال: "أمي، أنا الآن في تركيا وأريد أن أراك لأني سأذهب إلى مكان ربما لا أستطيع -أو لا أودُّ- العودة منه، تعالي هنا نلتقي عدة أيام ثم تعودين"، وجاءت الأم والتقت بابنها، فما كان منه إلا أن أقنعها باستكمال طريق الهجرة معه وهو ما كان، ولا تزال الأم في أرض الدولة الإسلامية إلى يومنا هذا.

وبعد التقائه بوالدته تواصل مع أحد الإخوة في تركيا لينسق له دخوله، فطلبوا منه الجلوس والصبر ريثما يأتي دوره للدخول وعبور الحدود، حيث أن هناك عشرات الإخوة يريدون الدخول والأمر يتطلب تدابيرا وجهدا لتأمين الطريق لهم، فرفض وقال: "أريد الدخول اليوم"، فقالوا: "يجب أن تنتظر دورك يا شيخ"، فأجابهم: "اليوم دوري"، وأصر على طلبه فعندما شاهد الإخوة إصراره أدخلوه بعد يومين أو ثلاثة، وكان بعض الإخوة ينتظرون دورهم أكثر من شهر.

وبعد دخوله برفقه عائلة أخرى صغيرة بيومين، سأل عن أقرب غزوة يُعد لها جنود الدولة الإسلامية فقالوا له في بيجي، فحزم حقيبته الصغيرة واتجه إلى المعسكر لتوديع ابنه الوحيد فلم يتمكن من رؤيته، فاتجه إلى بيجي، ليبلُغ زوجتَه خبرُ استشهاده بعد أيام، قُتل -رحمه الله- دون أن يعلم أحد من الجنود الذين كانوا معه في الغزوة من هذا الرجل الغريب المُسن صاحب الهمة العالية الذي دخل الغزوة معهم ولا يعرفون عنه شيئا -تقبله الله- وأسكنه فسيح جنانه.



* المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 104
الخميس 13 صفر 1439 ه‍ـ
...المزيد

فقد قال الله تعالى: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا ...

فقد قال الله تعالى: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا * وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [النساء: 88 - 89]

وصح في سبب نزولها أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى أحد، فرجع ناس ممن كان معه، فكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فيهم فرقتين، قال بعضهم: "نقتلهم"، وقال بعضهم: "لا".(20)

وصح عن مجاهد -رحمه الله- أنه قال: "قوم خرجوا من مكة حتى أتوا المدينة يزعمون أنهم مهاجرون، ثم ارتدوا بعد ذلك، فـاستأذنوا النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة؛ ليأتوا ببضائع لهم يتجرون فيها، فـاختلف فيهم المؤمنون، فقائل يقول: "هم منافقون"، وقائل يقول: "هم مؤمنون"، فبين الله نفاقهم، فأمر بقتالهم".(21)

وقد روي بهذا المعنى عن عبد الرحمن بن عوف، وابن عباس -رضي الله عنهم-، وصح بنحوه مرسلا عن عدة من التابعين وهم: عكرمة، والسدي، وقتادة، ومحمد بن كعب القرظي رحمهم الله.
وقال الإمام الطبري -رحمه الله- في تأويل قوله تعالى: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا { [النساء: ٨٨]، قال: "يعني بذلك: والله ردهم إلى أحكام أهل الشـرك في إباحة دمائهم، وسبي ذراريهم". (22) انتهى كلامه.

وقد رجح الإمام الطبري أن هذه الآية نزلت في قوم ارتدوا عن الإسلام، حيث قال بعدما ذكر أقوال السلف في سبب نزولها: "وأولى هذه الأقوال بالصواب في ذلك: قول من قال: نزلت هذه الآية في اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوم كانوا ارتدوا عن الإسلام بعد إسلامهم من أهل مكة".(23) انتهى كلامه.

وقال ابن أبي زمنين -رحمه الله-: "هم قوم من المنافقين كانوا بالمدينة؛ فخرجوا منها إلى مكة، ثم خرجوا من مكة إلى اليمامة تجارا فـارتدوا عن الإسلام، وأظهروا ما في قلوبهم من الشـرك، فلقيهم المسلمون، فكانوا فيهم فئتين؛ أي فرقتين، فقال بعضهم: قد حلت دماؤهم؛ هم مشـركون مرتدون، وقال بعضهم: لم تحل دماؤهم؛ هم قوم عرضت لهم فتنة، فقال الله تعالى: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ}".(24) انْتَهَىٰ كَلَامُهُ رحمه الله.
ومن الأدلة أيضا: ما رجحه طائفة من العلماء أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- توقف في تكفير مانعي الزكاة في بادئ أمرهم، ولما بين له أبو بكر -رضي الله عنه- كفرهم وافقه، ولم يستتبه على توقفه فيهم.

فقد صح عن عمر -رضي الله عنه- أنه قال لأبي بكر -رضي الله عنه- في شأن "المرتدين" : كيف تقاتل الناس؟ وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فمن قالها فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه، وحسابه على الله ».(25)

وقد توقف بعض أئمة السلف -في بادئ الأمر- كفر من قال بخلق القرآن، ومنهم توقف في كفر الجهمية على الرغم من شدته، فلم يكونوا بذلك كفارا، ولما تبين لهم الدليل على كفرهم لم يتوقفوا فيهم، ولم يجددوا إسلامهم لأجل ما سبق من توقفهم.

فعن يعقوب بن إبراهيم الدورقي، قال: "سألت أحمد بن حنبل عمن يقول: القرآن مخلوق، فقال: "كنت لا أكفرهم حتى قرأت آيات من القرآن: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} [البقرة: 145]، وَقَوْلَهُ: {بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} [البقرة: 120[" وقوله: {أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ } [النساء: 166]" .(26)
وعن ابن عمار الموصلي -رحمه الله- قال: "يقول لي ابن المديني: ما يمنعك أن تكفرهم؟! -يعني: الجهمية- قال: وكنت أنا أولا أمتنع أن أكفرهم حتى قال ابن المديني ما قال، فلما أجاب إلى المحنة، كتبت إليه كتابا أذكره الله، وأذكره ما قال لي في تكفيرهم".(27)

وبذلك نكون قد انتهينا من المسألة الأولى...

ونشـرع الآن في بيان المسألة الثانية: وهي ما هو المناط أو العلة أو السبب في كفر المتوقف في تكفير المشـركين.

الجواب: هو تكذيب الشـرائع وردها.

فبالنظر إلى نصوص أهل العلم في هذا الناقض يظهر جليا ما قرروه من أن مناط الكفر في المتوقف في الكافر يرجع إلى تكذيب الشـرائع وردها، لا من جهة انتقاض أصل الدين.

وقد تتابع أكثر أهل العلم على ذكر هذا المناط بناء على أن الكفر إنما يكون بإنكار الأحكام المتواترة المجمع عليها، أو بإنكار المعلوم من الدين ضـرورة.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "والكفر إنما يكون بإنكار ما علم من الدين ضـرورة، أو بإنكار الأحكام المتواترة المجمع عليها ونحو ذلك". ا.هـ(28)
...المزيد

الدولة الإسلامية - صحيفة النبأ 104: الافتتاحية: الصبر واليقين حلة الصادقين إن أعظم الناس ...

الدولة الإسلامية - صحيفة النبأ 104:
الافتتاحية:

الصبر واليقين حلة الصادقين

إن أعظم الناس إيمانا، هو أعظمهم يقينا بالله -تعالى- أنه الإله الواحد الحق المستحق للعبادة، وأن دينه العظيم فوق جميع الأديان الباطلة، وبرهان ذلك اليقين الذي لا شك فيه هو قتال من كفر بالله وعدل معه غيره واستبدل بدينه أديان البشر الآسنة، وهذا اليقين هو من أعمال القلوب الجليلة التي لا يصح الإيمان إلا بها، وهو أحد الشروط التي لا بد منها لصحة كلمة التوحيد، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (من مات يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، موقنا من قلبه دخل الجنة) [رواه النسائي].

وهذا اليقين هو الذي يدفع صاحبه للمطاولة في طريق الدعوة إلى الله بالسيف والسنان والحجة والبيان، مع ما فيه من شدة البلاء وعظيم الخطب والزلزلة، وملاقاة الكفار والزحوف، واعتلاء مراكب المنايا والحتوف، إنه اليقين الذي يدفع صاحبه للصبر على كل ذلك، فلا يجد صاحبه بُدا من المطاولة والسعي الحثيث لنصرة الدين، ومرضاة رب العالمين، وهذا هو الإيمان الذي يتدرج بصاحبه حتى يصل إلى حق اليقين ثم عين اليقين، وأعظم الناس يقينا هم الرسل، لأنهم هم من تجري على أيديهم المعجزات وتتنزل عليهم الآيات، ولذلك عندما شكى خباب إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ما يلاقونه من أذى المشركين وطلب منه الدعاء والنصرة، كشف له النبي -صلى الله عليه وسلم- ما لاقاه الجيل الأول من أتباع كل رسول من الصبر العظيم على دين الله، وما هذا الصبر إلا من قوة الإيمان بالله -سبحانه- واليقين بوعده، والرضى بتلك المصائب في ذات الله، فعن خباب بن الأرتِّ -رضي الله عنه- قال: شكونا إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، فقلنا: ألا تستنصر لنا، ألا تدعو لنا؟ فقال: (قد كان من قبلكم، يُؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض، فيجعل فيها، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيُجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، فما يصده ذلك عن دينه، والله لَيُتمَّنَّ هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله، والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون) [رواه البخاري].

وهكذا يأتي الجيل بعد ذاك الجيل المبتلى الذي قامت عليه الدعوة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ممن أنعم الله عليهم بالإيمان والصبر واليقين، فيكون فضلهم على قدر ما هم عليه من يقين وتحمل وتصبر في القيام بأمر الله تعالى، وبهذه المعايير يكون التفاضل والدرجة في الجنة، فأخبرنا الله -تعالى- عن التفاضل بين بعض أجيال الصحابة الكرام، وأن درجة من أنفق وقاتل قبل فتح مكة ليس كمن آمن وقاتل بعد الفتح، وهؤلاء الصحابة الكرام -رضي الله عنهم- بمجموعهم ممن سبق ولحق، هم من أعظم الناس إيمانا واتباعا للنبي -صلى الله عليه وسلم- ويقينا وبلاء في سبيل الله، ولذلك هم خير القرون، وعندما ارتدت العرب وانحسرت رقعة الدولة في مكة والمدينة، ظهر مِن حُسن بلائِهم وجهادهم ما يدل على هذه الخيرية، فألقوا بأنفسهم في أتون حرب ضروس، ضَرَستْ أهل الردة وكسرت شوكتهم، وكانوا من أكثر الناس بذلا للدماء والأشلاء، وقُتل في وقعة اليمامة سبعون من قراء الصحابة، وهي وقعة واحدة من وقعات كثيرة، مما حدا بالصدّيق -رضي الله عنه- أن يجمع القرآن خشية أن يضيع منه شيء، أولئك هم جيل الهداة المهتدين، الذين نالوا الإمامة في الدين بالصبر واليقين، اليقين بوحدانية الله والحساب والجنة والنار، اليقين برضوان الله وتحقيق وعده، اليقين بكفر الطواغيت وأتباعهم وجندهم وأنصارهم من صليبيين ومرتدين، والصبر على نتائج القتال مهما عظمت، ولذلك تجد من المجاهدين اليوم من يذكرك بفعل أنس بن النضر -رضي الله عنه- يوم أحد وهو ممن عظم إيمانه ويقينه، فشقّ طريقه إلى ربه موقنا صابرا محتسبا مقبلا عليه قائلا حين فرّ الناس: "واها لريح الجنة، أجدها دون أحد"، وما أعجب تلك الكلمات، إنها كلمة تلهُّف وحنين للجنة، فهنيئا لمن سار على خطاه، وحث الخطى إلى دار السعادة والكرامة، فإن أعظم الناس إيمانا ويقينا من يقبل على ربه حين يدبر الناس، وينكلوا عن هذا الخير العظيم.


* المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 104
الخميس 13 صفر 1439 ه‍ـ
...المزيد

✍قال ابنُ المنذر: ((أجمَعوا على أنَّ الحُرَّ إذا طَلَّق الحُرَّةَ ثلاثًا، ثم انقَضَت عِدَّتُها، ...

✍قال ابنُ المنذر:
((أجمَعوا على أنَّ الحُرَّ إذا طَلَّق الحُرَّةَ ثلاثًا، ثم انقَضَت عِدَّتُها، ونكَحَت زوجًا غيرَه ودخل بها، ثمَّ فارَقَها وانقَضَت عِدَّتُها، ثمَّ يَنكِحُها الأوَّلُ: أنَّها تكونُ عنده على ثلاثِ تطليقاتٍ جَديدةٍ))
((الإجماع)) لابن المنذر (ص115)
════════❁══════
📙 خدمة فوائد علمية 📙
════════❁══════
📌 للاشتراك في الخدمة: تفضل بالضغط على الرابط التالي :
https://whatsapp.com/channel/0029VbAZ4HH8F2pGv35lJE25
...المزيد

سلسلة علمية في بيان مسائل منهجية (3-4) • تَكْفِيرُ الْمُشْـرِكِينَ الحمد لله رب العالمين، ...

سلسلة علمية
في بيان مسائل منهجية
(3-4)

• تَكْفِيرُ الْمُشْـرِكِينَ

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شـريك له الملك الحق المبين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله إمام الأولين والآخرين، أما بعد:

ففي هذه الحلقة نبدأ الحديث -بعون الله تعالى- عن تكفير المشـركين، وسنتكلم عن مسألتين:
المسألة الأولى: سنجيب فيها على سؤال: ما هي منزلة التكفير من الدين؟

المسألة الثانية: نذكر فيها العلة أو المناط أو السبب في كفر المتوقف في تكفير المشـركين.

وقبل الشـروع في ذلك نذكر بعض نصوص أهل العلم في كفر من لم يكفر الكافر...

قال أبو الحسين الملطي الشافعي -رحمه الله-: "جميع أهل القبلة لا اختلاف بينهم أن من شك في كافر فهو كافر". (1) انتهى كلامه.

وقال القاضـي عياض -رحمه الله: "نكفر من لم يكفر من دان بغير ملة المسلمين من الملل، أو وقف فيهم، أو شك، أو صحح مذهبهم، وإن أظهر مع ذلك الإسلام واعتقده واعتقد إبطال كل مذهب سواه، فهو كافر بإظهاره ما أظهر من خلاف ذلك". (2) انتهى كلامه.

وقال النووي -رحمه الله-: "من لم يكفر من دان بغير الإسلام كالنصارى، أو شك في تكفيرهم، أو صحح مذهبهم، فهو كافر". (3)

ونص الحجاوي -رحمه الله- على أن من "لم يكفر من دان بغير الإسلام؛ كالنصارى، أو شك في كفرهم أو صحح مذهبهم... فهو كافر".(4) انتهى كلامه.

ونص البهوتي -رحمه الله- على تكفير من "لم يكفر من دان بغير دين الإسلام كأهل الكتاب، أو شك في كفرهم، أو صحح مذهبهم".(5)

وقال الشيخ المجدد محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله-: "من لم يكفر المشـركين، أو شك في كفرهم، أو صحح مذهبهم كفر إجماعا". ا.هـ(6)

انتهى كلامهم رحمهم الله.


ونشـرع الآن في بيان المسألة الأولى: وهي الإجابة على سؤال: ما هي منزلة التكفير من الدين؟

والجواب هو أن التكفير حكم شـرعي محض، لا مدخل للعقل فيه، ولا يدخل تحت مسائل ومعاني أصل الدين، والتي سبق وأن بيناها في الحلقة السابقة.

إذن تكفير المشـركين من واجبات الدين وليس من أصل الدين.

طيب ما الفرق؟

الفرق أن ما كان من أصل الدين، فإنه لا يعذر المرء فيه بجهل، ولا تشترط إقامة الحجة على تاركه أو تارك بعضه.

أما التكفير فهو حكم شـرعي قد يعذر فيه بالجهل والتأويل.

ثم إن التكفير ليس على مستوى واحد، بل له مراتب، فأعلاها ما هو معلوم من الدين بالضـرورة؛ كتكفير من كفرهم الله تعالى في كتابه على التعيين؛ كإبليس وفرعون وكل من دان بغير الإسلام؛ كاليهود والنصارى وعباد الأصنام.

وأدناها ما اختلف في تكفير مرتكبه؛ كتارك الصلاة وغير ذلك، وبينهما مراتب متفاوتة، وهو ما سوف نتناوله في حلقة قادمة بإذن الله تعالى.

قلنا: إن التكفير من واجبات الدين، وأنه حكم شـرعي، وليس له مورد سوى الأدلة الشـرعية، ولا مدخل للعقل فيه، وقد تتابع أهل العلم على تقرير ذلك وتأكيده، وإليكم بعض أقوالهم:

قال القاضـي عياض -رحمه الله-: "فصل في بيان ما هو من المقالات كفر وما يتوقف أو يختلف فيه، وما ليس بكفر: اعلم أن تحقيق هذا الفصل وكشف اللبس فيه مورده الشـرع، ولا مجال للعقل فيه".(7) انتهى كلامه.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- : "التكفير حكم شـرعي، يرجع إلى إباحة المال، وسفك الدماء، والحكم بالخلود في النار، فمأخذه كمأخذ سائر الأحكام الشـرعية".(8)

وقال -رحمه الله-: "فإن الكفر والفسق أحكام شـرعية، ليس ذلك من الأحكام التي يستقل بها العقل؛ فالكافر من جعله الله ورسوله كافرا، والفاسق من جعله الله ورسوله فاسقا، كما أن المؤمن والمسلم من جعله الله ورسوله مؤمنا ومسلما..-إلى أن قال: - فهذه المسائل كلها ثابتة بالشـرع".(9)

وقال -رحمه الله-: "الإيمان والكفر هما من الأحكام التي ثبتت بالرسالة، وبالأدلة الشـرعية يميز بين المؤمن والكافر، لا بمجرد الأدلة العقلية". (10) انتهى كلامه.

وقال العلامة ابن القيم -رحمه الله- :
الكفر حق الله ثم رسوله
بالنص يثبت لا بقول فلان
من كان رب العالمين وعبده
قد كفراه فذاك ذو الكفران(11)

وقال ابن الوزير الصنعاني -رحمه الله: "أن الدليل على الكفر والفسق لا يكون إلا سمعيا قطعيا، ولا نزاع في ذلك".(12) انتهى كلامه

وعليه نقول: إن من جهل حكم الشـرع في أحد الكفار أو المشـركين أو إحدى طوائفهم: لا يكون حكمه كحكم من أشـرك، لأن الذي أشـرك نقض أصل الدين؛ كما ذكرنا في الحلقة السابقة، وإنما حكمه كحكم كل من جهل شـريعة أو فريضة من فرائض الإسلام، فمن قامت عليه الحجة الرسالية في ذلك كفر، ومن لم تبلغه الحجة الرسالية في ذلك فليس بكافر، بخلاف من جهل التوحيد؛ الذي هو أصل الدين؛ فإنه كافر كفر جهل.
...المزيد

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في طائفة من الباطنية: "وأما من قال: (لكلامهم تأويل يوافق ...

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في طائفة من الباطنية: "وأما من قال: (لكلامهم تأويل يوافق الشـريعة)؛ فإنه من رءوسهم وأئمتهم؛ فإنه إن كان ذكيا فإنه يعرف كذب نفسه فيما قاله، وإن كان معتقدا لهذا باطنا وظاهرا فهو أكفر من النصارى؛ فمن لم يكفر هؤلاء، وجعل لكلامهم تأويلا، كان عن تكفير النصارى بالتثليث والاتحاد أبعد".(15)
وقال أيضا رحمه الله: "وعنه -أي الإمام أحمد- في تكفير من لا يكفر روايتان؛ -يعني في تكفير من لم يكفر الجهمية- أصحهما لا يكفر".(16) انتهى كلامه.

وقال الإمام البخاري رحمه الله: "نظرت في كلام اليهود، والنصارى، والمجوس، فما رأيت قوما أضل في كفرهم منهم -يعني الجهمية-، وإني لأستجهل من لا يكفرهم، إلا من لا يعرف كفرهم".(17) انتهى كلامه رحمه الله.

والظاهر من قول الإمام البخاري أنه يذهب إلى عدم تكفير المتوقف في الجهمية؛ كإحدى الروايتين عن أحمد.

وقال المرداوي رحمه الله: "وذكر ابن حامد في أصوله كفر الخوارج والرافضة والقدرية والمرجئة، وقال: "من لم يكفر من كفرناه فسق وهجر، وفي كفره وجهان"، والذي ذكره هو وغيره من رواة المروذي، وأبي طالب، ويعقوب، وغيرهم: أنه لا يكفر -إلى أن قال:- وقال في إنكار المعتزلة استخراج قلبه صلى الله عليه وسلم ليلة الإسـراء وإعادته: في كفرهم به وجهان، بناء على أصله في القدرية الذين ينكرون علم الله وأنه صفة له، وعلى من قال: لا أكفر من لا يكفر الجهمية".(18) انتهى كلامه رحمه الله.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وأما السلف والأئمة فلم يتنازعوا في عدم تكفير المرجئة والشيعة المفضلة -يعني الذين يفضلون عليا على سائر الصحابة بلا طعن فيهم- ونحو ذلك، ولم تختلف نصوص أحمد في أنه لا يكفر هؤلاء، وإن كان من أصحابه من حكى في تكفير جميع أهل البدع -من هؤلاء وغيرهم- خلافا عنه أو في مذهبه، حتى أطلق بعضهم تخليد هؤلاء وغيرهم، وهذا غلط على مذهبه وعلى الشـريعة". (19) انتهى كلامه رحمه الله.

والقسم الثالث من المرتبة الثالثة: من كانت له أصول صحيحة فتأول؛ كما جاء في خطأ بعض الصحابة رضي الله عنهم في تكفير بعض المرتدين؛ حيث بين الله تعالى خطأ من توقف، ولم يحكم عليهم بكفر.

فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "كان قوم من أهل مكة أسلموا، وكانوا يستخفون بالإسلام، فأخرجهم المشـركون معهم يوم بدر، فأصيب بعضهم وقتل بعض، فقال المسلمون: "كان أصحابنا هؤلاء مسلمين وأكرهوا فـــاستغفروا لهم"، فنزلت: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 97]، قال: فكتب إلي من بقي من المسلمين بهذه الآية، وأنه لا عذر لهم، قال: فخرجوا فلحقهم المشـركون فأعطوهم الفتنة، فنزلت فيهم هذه الآية: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ} [العنكبوت: 10] الآية".(20)

وقال الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله: "فأنزل الله هذه الآية، وبين فيها حكم هؤلاء المشـركين، وأنهم من أهل النار، مع تكلمهم بالإسلام".(21) انتهى كلامه.

وروي أن الصحابة رضي الله عنهم اختلفوا في تكفير بعض المرتدين، فلما بين الله تعالى كفر هؤلاء القوم لم يأمر من توقف فيهم بتجديد إسلامه.

فقد قال الله تعالى:{فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا} [النساء: 88].

وصح في سبب نزولها أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى أحد، فرجع ناس ممن كان معه، فكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فيهم فرقتين، قال بعضهم: "نقتلهم"، وقال بعضهم: "لا".(22)

وصح عن مجاهد رحمه الله، أنه قال: "قوم خرجوا من مكة حتى أتوا المدينة يزعمون أنهم مهاجرون، ثم ارتدوا بعد ذلك، فـاستأذنوا النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة ليأتوا ببضائع لهم يتجرون فيها، فـاختلف فيهم المؤمنون، فقائل يقول: "هم منافقون"، وقائل يقول: "هم مؤمنون"، فبين الله نفاقهم، فأمر بقتالهم".(23)

وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "فكانوا كذلك فئتين والرسول عندهم لا ينهى واحدا من الفريقين عن شـيء، فنزلت: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ} [النساء: 88] الآية". (24)

وقال الإمام الطبري رحمه الله في تأويل قوله تعالى-: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا} [النساء: 88] قال: "يعني بذلك: والله ردهم إلى أحكام أهل الشـرك في إباحة دمائهم، وسبي ذراريهم".(25) انتهى كلامه رحمه الله.
...المزيد
يتم الآن تحديث اوقات الصلاة ...
00:00:00 يتبقى على
20 محرم 1447
الفجر 00:00 الظهر 00:00 العصر 00:00 المغرب 00:00 العشاء 00:00

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً