العالِم الذي نريد "بئس حامل القرآن أنا إن أُتيتم من قِبلي"… كلمات تنوء لحملها الجبال يصدح بها ...

العالِم الذي نريد


"بئس حامل القرآن أنا إن أُتيتم من قِبلي"… كلمات تنوء لحملها الجبال يصدح بها الصحابي الجليل سالم مولى أبي حذيفة رضي الله عنه، أحد الصحابة القرّاء الذين ضعضعوا جيش مسيلمة الكذاب وهزموه في أروع صور البطولة لأشد المعارك الحاسمة في تاريخ الإسلام "معركة اليمامة".

كلمات تنبئ عن دور القراء والعلماء في المعارك في عصر الخلافة الراشدة، إذ كانوا مسعِّروها وروّادها، أما في العهد النبوي فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقود جيوش المسلمين ويعقد الألوية بنفسه عليه الصلاة والسلام، كيف لا وهو الذي أُنزل عليه {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التوبة:73].

ولو كانت القراءة والتجويد والتعليم كافية لأداء حق آيات الجهاد دون العمل بها، لما كلّف النبي صلى الله عليه وسلم نفسه عناء السفر إلى تبوك في أشد الظروف رغم بعد الشُقة وشدة الحر وشح الزاد للقاء عدوه أدنى بلاد العرب، ولَما قطع أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه أميالا إلى القسطنطينية حتى يموت على أسوارها محاصِرا لها مع جيش المسلمين، ولَما أجهد عبد الله بن عمر رضي الله عنهما نفسه لقطْع فيافي الصحراء الكبرى بطولها وعرضها لقتال البربر مع خيول الفاتحين في إفريقية، إنها {إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ}، إنها {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ}، إنها {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ}، إنها {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ}، إنها آيات الجهاد وأوامر الملك العلام.

تسبق هذه الأمة الأمم سواها حين يكون علماؤها مقدمة الركب وحُداته، فينهلون من الكتاب والسنة ويعملون، وتعمل الأمة بعملهم وتقتدي بفعالهم قبل أقوالهم، في مثال حسن للربانيين، فالكل حينها منقاد للكتاب والسنة.

وتعظم الرزايا على هذه الأمة حين يضل العلماء ويكونون أتباعا يستخدمهم الطواغيت لتثبيت عروشهم وقلب الحقائق والتمندل بهم!، في مثال سيئ للأحبار والرهبان، فيعبد الناس الطاغوت ويتحاكمون إليه.

إن حال الأمة اليوم واستسلامها للطواغيت ورضاها بواقع فاسد في دينها ودنياها، خطيئة مصنوعة يحمل وزرها الأكبر المنسوبون للعلم الساكتون عن الحق أو الملبّسون الحق بالباطل، الذين خلطوا الأمر على العامة، وماجوا وموّجوا غيرهم في الفتن.

بينما نجد رهبان النصارى وأحبار اليهود وملالي الرافضة يتقدمون صفوف الحرب على الإسلام، يحثون عليها ويبرّكون ويشجعون حشودهم الكافرة، كفعل الطاغوت الصليبي "فرنسيس" الذي جاء من روما إلى العراق ليرفع الصليب على أنقاض وركام الموصل بعدما دمرتها طائرات التحالف الدولي الصليبي لأنها حُكمت بشريعة الإسلام.

وفي المقابل يشنّ الأدعياء المحسوبون على أهل السنة حربا شعواء على دولة الإسلام، مبتداها إبطال شرعية الخلافة التي انتظرتها أجيال من المسلمين لعقود، إذ لا حل لاختلاف الأمة إلا الخلافة، حيث صاغوا لحربها الأقوال والأفعال، ولو بما هو حرام في "قانونهم".

إن أكثر المنتسبين للعلم اليوم يرجون خلافة لا يتحزّب عليها الكافرون ولا يقاتلونها! ولو كانت خلافة النبوة كذلك؛ لما أخذ النبي صلى الله عليه وسلم البيعة من الأنصار في "العقبة" لحمايته من العرب والعجم والأبيض والأسود، ولَما قال عليه الصلاة والسلام للمثنى بن حارثة رضي الله عنه حين عرض نفسه في الموسم عند اعتذاره عن حمايته من الفرس: (إن هذا الأمر لا يقوم به إلا من حاطه من جميع جوانبه).

وما خيانة أعظم للأمة من خيانة العالِم، فهي مخافة النبي صلى الله عليه وسلم على هذه الأمة، حيث قال عليه الصلاة والسلام: (وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين)؛ إذ يحاربون أهل الشريعة بنصوص الشريعة! فيَضلون ويُضلون، والعالم الضال داع على أبواب جهنم، ومن اجترأ فخان ربّه فهو لما دونه أجرأ خيانة.
إن السكوت عن الحق حين يتعيّن قوله جرم شنيع، ولو لم يكن جرما كبيرا لما كان جزاء كتمان العلم كبيرا إنه "اللعنة"! {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَىٰ مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَٰئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} [البقرة:159] ولو استشعر العالِم عذاب الله ولعنته وطرده من رحمة الله لهانت عليه تهديدات الطواغيت وعقوباتهم، فإن لعنة الله أشد وسخطه أعظم، ومن طرده الطاغوت آواه الله ومن طرده الله فلا مأوى له سوى النار -عياذا بالله-، وإن لجام النار في الآخرة أشد من "قرارات منع التدريس والتصدّر" وأشد من "سجن أعوام" تُقضى في خلوة مع الله.

وليهوننّ الطاغوت في نظره إن تذكّر وقوفه بين يدي الله يوم القيامة، فهذا الأوزاعي رحمه الله عند موقفه أمام عبدالله بن علي العباسي وسؤاله عن دماء بني أمية قال: "فذكرت مقامي بين يدي الله، فلفظتها فقلت: دماؤهم عليك حرام".

وقد قال عليه الصلاة والسلام: (إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواما ويضع به آخرين)، فالرفعة عند الله لا عند الطواغيت، فكم من عالِم في غياهب السجون بضع سنين أو تزيد ومقامه عند الله وعند الخلق مرفوع، وأقوام موسومون عند طواغيتهم بـ"كبار العلماء" ويُشيد بهم قادة تحالف الصليب! وهم عند الله أحقر من الذر، ما لم يتوبوا.

والتوبة معروضة بعدُ لمن أعان تحالف الصليب بفتوى كانت سببا لإزهاق أنفس معصومة، أو هدم بيوت مطمئنة، بشرط الإصلاح والبيان، قال الله: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَٰئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}. [البقرة:160]

وأعظم ما في الأمر الميثاق المأخوذ على أهل العلم ألا يكتموه، فأين المفر؟ والمصير إليه سبحانه، وأين المناص؟ وهو الحَكَم جل وعلا، وإن كان من نُوقش الحساب فقد عُذب بنص قول المصطفى عليه الصلاة والسلام، فكيف بمن حوسب على نقض الميثاق؟!

إن العالِم الذي نريد؛ يتقدم صفوف الجهاد يناصر المجاهدين ويفتيهم ويذب عنهم، فإنما هي حرب صليبية وليضع المؤمن نفسه سهما ضدها حيث ثغره، وإن الخلافة ترص الصفوف وِجاه تحالف الصليب كلٌ بقِرْنه حيال الكافرين والمنافقين، العلماء والكتاب والمجاهدون الغزاة والإعلاميون الكماة ومن يردفهم لتفرغهم، صفا واحدا مرصوصا، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ} [الصف:4]، والحمد لله رب العالمين.


• المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 301
الخميس 17 محرم 1443 هـ
...المزيد

الدولة الإسلامية - قصة شهيد • أبو خطاب الكشميري -تقبله الله- ما يزال جنود الخلافة في كل ...

الدولة الإسلامية - قصة شهيد


• أبو خطاب الكشميري -تقبله الله-

ما يزال جنود الخلافة في كل مكان يبذلون أرواحهم وتسيل دماؤهم رخيصة في سبيل نصرة الإسلام وإعادته حكَماً بين الناس كما كان عليه الحال في عهد النبوة والخلفاء الراشدين ومن تبعهم بإحسان، ولأجل هذه الغاية السامية فإنهم لا يبالون على أي جنب وفي أي أرض يُقتلون، طالماً أنهم يجاهدون في سبيل الله تعالى وعلى منهاج نبيه صلى الله عليه وسلم، طمعاً في إحدى الحسنين الظفر أو الشهادة.

وكان من هؤلاء السائرين على هذا الدرب الأخ أبو خطاب الكشميري المعروف أيضاً بـ"زاهد داس" تقبله الله، انضم إلى صفوف جنود الخلافة في الهند بعد انضمام ابن عمه إليها تقبله الله، ومنذ بداية جهاده كان أبو خطاب ثابت العقيدة والمنهج، يدعو إلى التوحيد بلا كلل أو ملل، حتى أصبح لاحقاً قائداً لإحدى مجموعات المجاهدين، فكان يهتم بإخوانه ويؤثرهم على نفسه مهما كانت الظروف.


- يخطط وينفذ العمليات بنفسه

رزقه الله إقداما وشجاعة يعرفها العدو قبل الصديق، يقول إخوانه: في إحدى المرات انقض أبو خطاب على أحد المشركين وضربه واغتنم سلاحه وانسحب من المنطقة، متبّعاً حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (وجعل رزقي تحت ظل رمحي).

كما كان حريصاً على تخطيط وتنفيذ العمليات بنفسه ضد قوات المشركين، ومن ذلك قام برفقة إحد إخوانه بصولة على القوات الهندوسية في (بيجبهارا) بكشمير، قتلوا ثلاثة عناصر منهم وزرعوا الرعب في قلوبهم وانسحبوا من المنطقة سالمين.


- شجاعة في كسر الحصار

في ذات مرة توجه أبو خطاب برفقة اثنين من المجاهدين إلى منزل يتحصنون به فعلمت القوات الكافرة بذلك، فقاموا بمحاصرة المنزل بأعداد كبيرة، لكن أبو خطاب رحمه الله خرج من المنزل زائراً كالأسد وبدأ بإطلاق النار باتجاههم بشكل مباغت، ورغم تفوقهم العددي إلا أن الكفار ولوا هاربين، وتمكن هو وإخوانه من الخروج من الحصار سالمين بفضل الله تعالى.

كان يقول دوماً لإخوانه إنه يريد أن يُقتل مهاجماً للكفار لا مدافعاً أو صاداً لهجومهم، وذلك كان شأنه في أغلب المواجهات مبادراً بالقتال لأعدائه مباغتاً لهم.


- ملاحقته من أجهزة الأمن

بعد العمليات التي نفذها أبو خطاب أصبح مطلوباً لأجهزة الأمن في المنطقة، ولثنيه عن طريقه قامت القوات الكافرة بالتضييق على عائلته للضغط عليه لتسليم نفسه، لكن ذلك لم يضعف عزيمته ولم يمنعه من مواصلة فريضة الجهاد.

وبعد أن اشتدت الملاحقة لأبي خطاب من قبل الكافرين اضطر إلى الخروج من (بيجبهارا) إلى مدينة (سريناغار) في كشمير، وهناك بدأ العمل مجدداً بكل جهده ليؤسس قاعدة انطلاق لمجاهدي الدولة الإسلامية، ولمهاراته ومعرفته بحرب العصابات، كان يعلم إخوانه مختلف خطط وتكتيكات العمل العسكري والأمني، ولم تتوقف مهمته عند ذلك بل كان أيضاً يرتب لهم المأوى والطعام والذخيرة وكل ما يحتاجون إليه، وقد ترك لإخوانه ميراثاً كبيراً من التضحية والبذل.


- قُتل كما كان يتمنى

بعد رحلة من الجلد والمطاردة والصبر على الجهاد، استطاعت القوات الكافرة تحديد أحد المنازل التي كان يتحصن بها أبو خطاب فأتوا بحدهم وحديدهم وحاصروا المنزل والمنطقة بأعداد كبيرة من القوات، وكان ذلك في الثاني عشر من شهر (ذي الحجة) عام 1441 ورغم ذلك وكعادته لم ينتظر أن يهاجمه الكفار بل بادر هو بمهاجمتهم بشكل أقوى من المرة الأخيرة وخرج مكبّراً وتمكن خلال الاشتباك من قتل عدد من عناصرهم وإصابة آخرين، إلى أن حانت اللحظة التي كان يتمناها، وكما كان يدعو الله تعالى من قبل أن يرزقه الشهادة مقبلاً مهاجماً لأعدائه استجاب الله دعاءه ورزقه ما تمناه، فقتل تقبله الله تعالى كما كان يتمنى، نحسبه والله حسيبه.



• المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 301
الخميس 17 محرم 1443 هـ
...المزيد

مقال: جاه الأكارم (1) الإيثار الحمد لله مجزل العطايا والهبات، والصلاة والسلام على نبي الهدى ...

مقال: جاه الأكارم (1) الإيثار


الحمد لله مجزل العطايا والهبات، والصلاة والسلام على نبي الهدى والمكرمات، وعلى آله وصحبه أولي النهى وأهل النجدات، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم جمع المخلوقات، وبعد.

فإن الأخلاق جمال الظاهر وإن كان الإنسان مبتذلا، وهي ثروة من لا ثروة له وجاه من لا جاه له، فصاحب الخلق في الدنيا موقّرٌ محبوبٌ، وفي الآخرة مُقرّبٌ محمود، والأخلاق الفاضلة مما بُعث به النبي صلى الله عليه وسلم كما قال: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) [البيهقي]، والأخلاق حُلة الداعية وصاحب الرسالة فعامة الناس تقيس الدعوة بخلق صاحبها وتعامله، وههنا طرق لبعض الأخلاق السامية التي تعتبر جاه الأكارم الميامين وسيما الأفاضل الطاهرين، ويأتي في مقدمتها خلق الإيثار، وما أدراكم ما الإيثار؟

الإيثار "فضيلة للنَّفس بها يكفُّ الإنسان عن بعض حاجاته التي تخصُّه حتى يبذله لمن يستحقُّه" [تهذيب الأخلاق لابن مسكويه]
والإيثَار "أن يقدِّم غيره على نفسه في النَّفع له، والدَّفع عنه، وهو النِّهاية في الأخوة" [التعريفات للجرجاني]

فالإيثار هو أكمل أنواع الجود، وهو خلق لا يستطيعه إلا من كمل له الخلق الحسن، فإن بلوغ النفس إلى درجة تستغني فيها عن محبوباتها وملذاتها فتجود بها للغير، يتطلب فصولا من المجاهدة تتساقط خلالها الأنفس الضعيفة، قال ابن العربي رحمه الله: "الإيثار هو تقديم الغير على النّفس في حظوظها الدنيويّة رغبة في الحظوظ الدينيّة، وذلك ينشأ عن قوة اليقين وتوكيد المحبة، والصبر على المشقّة" [أحكام القرآن]

والحض على هذه الخصلة أكده القرآن في مواطن كثيرة، منها قول الله تبارك وتعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:9].

قال شيخ المفسرين الإمام الطَّبري رحمه الله: "يقول تعالى ذكره: وهو يصفُ الأنصار: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ} مِن قبل المهاجرين، {وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ} يقول: ويعطون المهاجرين أموالهم إيثَارًا لهم بِها على أنفسهم {وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} يقول: ولو كان بهم حاجة وفاقة إلى ما آثَرُوا به مِن أموالهم على أنفسهم" [التفسير]

وقال ابن كثير: "أي: يقدِّمون المحاويج على حاجة أنفسهم، ويبدؤون بالنَّاس قبلهم في حال احتياجهم إلى ذلك" [التفسير]

ويقول ابن تيمية: "وأمَّا الإيثَار مع الخصاصة فهو أكمل مِن مجرَّد التَّصدق مع المحبَّة، فإنَّه ليس كلُّ متصدِّق محبًّا مؤْثرًا، ولا كلُّ متصدِّق يكون به خصاصة، بل قد يتصدَّق بما يحبُّ مع اكتفائه ببعضه مع محبَّة لا تبلغ به الخصاصة" [منهاج السنة]

وقال الله تعالى: {لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} [آل عمران:92]، قال الطبري: "لن تنالوا أيها المؤمنون جنة ربكم حتى تنفقوا مما تحبون، يقول: حتى تتصدقوا مما تحبون وتهوَوْن أن يكون لكم، من نفيس أموالكم" [التفسير]

أما في السنة، فما جاء شيء في الترغيب بالإيثار أبلغ من تجسّده بالعمل بين صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعدما ربّاهم عليه وكان لهم قدوة صلوات الله وسلامه عليه، فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّه أراد أن يغزو فقال: (يا معشر المهاجرين والأنصار إنَّ مِن إخوانكم قومًا ليس لهم مال ولا عشيرة، فليضمَّ أحدكم إليه الرَّجلين أو الثَّلاثة، فما لأحدنا مِن ظهرٍ يحمله إلَّا عُقْبَةٌ كعُقْبَةِ). (يعني: أحدهم)." فضممْتُ إليَّ اثنين أو ثلاثةً، قال: ما لي إلَّا عُقْبَةٌ كعُقْبَةِ أحدهم مِن جملي" [رواه أبو داود]. فانظر أخي لمعاني الإيثار في الجهاد رغم شدة حالهم وقلة مراكبهم يتعاقبون ركوب الجمال حتى لا يمشي المسافة كلها شخص على رجليه من طول الطريق، ثم تذكر أخي القاعد كيف جهادهم بالأمس وكيف جهاد اليوم؟ أي مشقة تلك التي كانوا يجدونها؟ ومع ذلك جاهد القوم وصبروا وآثر بعضهم بعضا.

وجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أي الصدقة أعظم أجرا؟ (قال: أن تصدق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر، وتأمل الغنى، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم، قلت لفلان كذا، ولفلان كذا وقد كان لفلان) [البخاري]
قال ابن بطَّال: "فيه أنَّ أعمال البرِّ كلَّما صعبت كان أجرها أعظم، لأنَّ الصَّحيح الشَّحيح إذا خشي الفقر، وأمَّل الغنى صعبت عليه النَّفقة، وسوَّل له الشَّيطان طول العمر، وحلول الفقر به، فمَن تصدَّق في هذه الحال، فهو مؤثر لثواب الله على هوى نفسه، وأمَّا إذا تصدَّق عند خروج نفسه، فيخشى عليه الضِّرار بميراثه والجوار في فعله". [شرح الصحيح]
وأما ما جاء في قصة أحد تلاميذ المدرسة النبوية وهو أبو طلحة الأنصاري وزوجه رضي الله عنهما حيث جاء رجلٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى أزواجه ليضيف هذا الرجل فما كان عندهم إلا الماء، فقال صلى الله عليه وسلم: (من يضيف هذا الليلة رحمه الله)، فقام رجلٌ من الأنصار فقال: أنا يا رسول الله، فانطلق به إلى رحله، فقال لامرأته: هل عندك شيءٌ؟ قالت: لا، إلّا قوت صبياني، قال: فعلّليهم بشيءٍ فإذا دخل ضيفنا فأطفئي السّراج وأريه أنّا نأكل فإذا أهوى ليأكل فقومي إلى السّراج حتّى تطفئيه، فقعدوا وأكل الضّيف فلمّا أصبح، غدا على النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم فقال: (قد عجب اللّه من صنيعكما بضيفكما اللّيلة) [رواه مسلم] والمراد بالعجب من الله تعالى أي: رضاه سبحانه بذلك الفعل. قال النووي في شرحه: "وقد أجمع العلماء على فضيلة الإيثار بالطعام ونحوه من أمور الدنيا، وحظوظ النفوس، وأما القربات فالأفضل أن لا يؤثر بها؛ لأن الحق فيها لله تعالى. والله أعلم".

ومن ذلك أيضًا قول أم المؤمنين عائشة وفعلها مع عمر بن الخطاب رضي الله عنهما حين أرسل إليها يستأذن في أن يدفن بجوار صاحبيه (النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر) فقالت: "كنت أريده (أي موضع الدفن) لنفسي، فَلأوثِرَنَّهُ اليوم على نفسي". ودُفنت هي بالبقيع رضي الله عنها.

وقد قسّم ابن القيم رحمه الله في كتابه (مدارج السالكين) الإيثار وجعله على ثلاث درجات:
"الأولى: أن تؤثر الخلق على نفسك فيما لا يخرم عليك دينًا، ولا يقطع عليك طريقًا -أي: إلى الله-، ولا يفسد عليك وقتًا، يعني أن تقدّمهم على نفسك في مصالحهم، مثل أن تطعمهم وتجوع، وتكسوهم وتعرى، وتسقيهم وتظمأ، بحيث لا يؤدّي ذلك إلى ارتكاب إتلاف لا يجوز في الدّين.

الثّانية: إيثار رضا اللّه على رضا غيره وإن عظمت فيه المحن، وثقلت فيه المؤن وضعف عنه الطّول والبدن، وإيثار رضا اللّه عزّ وجلّ على غيره: هو أن يريد ويفعل ما فيه مرضاته، ولو أغضب الخلق وهي درجة الأنبياء.

الثّالثة: أن تنسب إيثارك إلى اللّه دون نفسك، وأنّه هو الذي تفرّد بالإيثار لا أنت، فكأنّك سلّمت الإيثار إليه، فإذا آثرت غيرك بشيء؛ فإنّ الذي آثره هو الحقّ لا أنت فهو المؤثر على الحقيقة، إذ هو المعطي حقيقة. ا.هـ مختصرا

فتأمل أخا الإسلام إن كان هذا حال من آثر غيره ببعض محابِّ نفسه قد جاء مدحه بالقرآن والسنة فكيف بالذي جاد بنفسه إيثارا منه لتكون كلمة الله هي العليا؟، فآثر على نفسه الأمان ليأمن المسلمون، وفارق الأهل والخلان كي يدافع وينافح عن شريعة الرحمن، وتحمّل في سبيل ذلك الجوع والعطش والجراح وتصبّر بطون السجون، كله إيثارا لخدمة دين رب العالمين، فذا أمر قلّ مَن يستطيعه في هذا الزمان.

فإن هؤلاء يكابدون عناء شديدا على أنفسهم فأردفهم الله عونا منه فهان كل شيء بأعينهم، وكلما قوي جهاد العبد لنفسه هداه الله السبيل وأرشده الطريق القويم، {وَالَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}.

والمتصدق يجاهد النفس والهوى والشيطان ليُخرج صدقته، فما ظنك بالمجاهد كم سيجاهد غير هؤلاء الأعداء الثلاثة ليُوفّق للجهاد؟ فهناك علماء السوء والمخذلين والمثبطين والطاعنين، ومع ذلك لم تثنه عن الجود بنفسه؛ لِما قذف الله في قلبه من النور، فمضى راكبا جواد الموت لا يلفت وجهه، فلقد جادت نفسه راضية تريد جوار الرحمن، هناك هناك حيث الجنة ونعيمها وأعلاه النظر لوجه الله الكريم، فهي دار من أنفق لوجه الله ما أحب، {لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ} والحمد لله رب العالمين.


• المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 301
الخميس 17 محرم 1443 هـ
...المزيد

معركةُ التوحيد في كابل دوى صوت التفجير عند مدخل مطار كابل، مُبدِّدا أوهام الحالمين بالسلام، ...

معركةُ التوحيد في كابل


دوى صوت التفجير عند مدخل مطار كابل، مُبدِّدا أوهام الحالمين بالسلام، وراسما خارطة النور لمرحلة جديدة من مراحل الجهاد على منهاج النبوة، بينما عاد الجيش الأمريكي ليحدّث إحصائياته بشأن خسائره البشرية عقب الهجوم المبارك الذي خلط جيف قتلاه بجيف جواسيسه وحماتهم مِن مرتدي طالبان، في لحظة تاريخية اختصرت المشهد بدقة كبيرة، حيث اتحدوا جميعا في الحرب ضد دولة الإسلام، فتقاسموا المصير نفسه واختلطت دماؤهم وجيفهم وكأنهم جميعا سيّان.

وما هي إلا ساعات حتى خرج الطاغوت الأمريكي المأزوم عقب الضربة الموجعة مُرعدا مُزبدا مُتوعِّدا جنود الدولة الإسلامية بالحرب والانتقام، قائلا إنه "لم ينته منهم بعد"، ناسفًا بذلك مزاعم سلفه الأحمق "ترامب" بإعلانه القضاء على الدولة الإسلامية شرق أفغانستان، فإذا بها اليوم تفجعهم في قلب كابل وفي أكثر مناطقها تحصينا، فعلى من انتصرتم بالأمس؟ ومن تقاتلون اليوم؟!

كان هذا الهجوم المبارك "أكبر خسارة بشرية" تتلقاها القوات الأمريكية منذ عشرة أعوام، أجبرتها على "تنكيس أعلامها" حدادا على قتلاها، وهو ما لم تفعله أمريكا منذ سنوات حتى يوم أعلنت ميليشيا طالبان قبل أكثر من عام مقتل عشرات الجنود الأمريكيين في "حملة كذب متعمدة" لم يُصدقها فيها إلا أتباع تنظيم القاعدة.

لقد خرج الطاغوت الأمريكي يبكي على شاشات الرائي ويندب حظه في خطاب مهزوز يعكس حجم الضربة الأمنية الموجعة التي تلقتها أمريكا، حتى اقتصر سقف إنجازها الأمني على "التحذير من وقوع الهجوم" لا منعه أو إحباطه أو حتى تقليل خسائره! فكانت خسارة مضاعفة فقدت فيها أمريكا جنودها وكثيرا من هيبتها التي حطمها عبد الرحمن بمعول التوحيد.

الصدمة الأمريكية والعالمية جراء الهجوم، والخطاب المتشنج للطاغوت الأمريكي، والغارة الجوية الفاشلة، كلها دلالات على حجم المأزق والإحراج الذي وقعت فيه أمريكا، ومِن ذلك مسارعة طاغوتها إلى الإعلان عن استهداف "قيادي" في ولاية خراسان، دون أن يذكر اسمه، وهو ما لم يُقدم عليه حتى سلفه الأحمق "ترامب"!

لقد كانت أمريكا تتفاخر بأنها تُجري "أكبر عملية إجلاء جوي في تاريخها" لإخلاء الآلاف من رعاياها وجواسيسها، قبل أن يُحيل التفجير الاستشهادي مفاخر أمريكا إلى مخازٍ ومآتم وسراديب عزاء.

ولشدة ارتباكها، أخذت أمريكا تتحدث في تصريحاتها عن ولاية خراسان كما لو أنها للتو نشأت! وما ذلك إلا لإخفاء مزاعمهم الكاذبة سابقا بالقضاء عليها، فأين الذين زعموا نهاية ولاية خراسان؟ كلهم ذهبوا وفشلوا؛ "ترامب"، ثم الطاغوت الأفغاني الذي تخلت عنه أمريكا، ثم ها هو الطاغوت "بايدن" يبدأ فصلا جديدا من فصول الحرب على الدولة الإسلامية وسينتهي هذا الفصل كما انتهت فصول مَن سبقه!، يسقطون ويذهبون ويتغيرون بينما يُبقي الله تعالى -بفضله وتدبيره- الدولة الإسلامية شوكة في حلوقهم، نارا على الكافرين ونورا للمسلمين، يذهبون ويسقطون وتبقى الدولة الإسلامية ماضية تُعبّد الطريق للمسلمين نحو توحيد الله تعالى في عبادته وحاكميته، إنها ترسل جنودها البررة يعانقون الموت بقلوب مستبشرة ليحيا المسلمون حياة على الإيمان والعبودية لله تعالى وحده، إنها تفدي الإسلام روحا ومهجا وصبرا كبيرا ويقينا بموعود الله أكبر، إنها معركة التوحيد.

وإنها دولة الإسلام التي تكالب عليها كل كفار الأرض ليقضوا على دعوتها ويوقفوا جهادها؟ ولكن هيهات هيهات، فمن أبقاها رغم كل هذا؟! من حفظها؟ من أمدها بمدده؟ من أيدها بجنده؟ إنه الله جل شأنه والذي عادت وأبغضت وكفّرت وكفرت -لأجله تعالى- بكل طواغيت الأرض، ووالت فيه كل المسلمين، إنه الله تعالى الذي لا يبالي جنودها -في سبيله سبحانه- أين يصبحون؟ أفي قصر أم قبر أم أسْر؟ أفي صحراء قاحلة أو مغارة موحشة يؤنسهم فيها صهيل الصافنات وبكاء السحر.

وإلى جانب طواغيت العرب والعجم، فقد اضطربت مواقف الأحزاب المرتدة من الهجوم كذلك، إلا أن أغربها كان موقف أتباع تنظيم القاعدة الذين أكل التيه قلوبهم وداهمت الحيرة صفوفهم، فصاروا بين الخوض في "نظرية المؤامرة" على طريقة أبناء حركات الإخوان المرتدين، أو استنكار قتل "العدو القريب" ورأس الكفر الذي صدّعوا رؤوسنا بمحاربته بدلا من "العدو البعيد"!، ليتضح لاحقا أنه لا عدو أقرب إليهم من الدولة الإسلامية!

ولعل هذا الهجوم المبارك يضع الله فيه من البركة ما يوقظ قلوب بعض الغافلين الذين قادتهم طالبان والقاعدة إلى نفق الانحرافات، ليصحوا ويتوبوا ويفيئوا إلى الجماعة، ويُعلنوا مواصلة الجهاد ضد الكافرين كافة وعلى رأسهم أمريكا التي توجب عليهم اتفاقية الدوحة حمايتها والقتال دونها ضمن بند "مكافحة الإرهاب"!
إن الهجوم في أبعاده المنهجية، أبان الفرق بين سبيل المؤمنين وسبيل المشركين، وأكد مجددا على أبدية الجهاد واستمراره ولو حجّ إلى الدوحة من حجّ! ولو طاف بفنادقها من طاف! لأن الجهاد قدر الله تعالى فليوقفوا قدره إن استطاعوا!

ومن عِبر الهجوم المبارك، أن الاستشهادي -تقبله الله- كان أسيرا مستضعفا في سجون طاغوت خراسان قبل أن ييسر الله له أسباب الفرج، ليخرج الليث من عرينه مسارعا إلى تدوين اسمه في قائمة الاستشهاديين على درب البراء بن مالك، وهو وإخوانه من النفر الذين افترى عليهم مرتدو القاعدة وطالبان ووصفوهم -يوم العسرة- بأنّ أمريكا نقلتهم على متن طائراتها!، ليُظهر الله تعالى الحق من الباطل، فانقض هذا الليث على جموع الأمريكيين مفجّرا نفسه فيهم ناثرا أشلاءهم، في الوقت الذي انهمك فيه مقاتلو طالبان في تأمين رعايا الصليبيين وجواسيسهم وإيصالهم إلى مهابط الطائرات الأمريكية في بث حي ومباشر وما خفي أقذر! كما رأى العالم بأسره قادة طالبان تنقلهم طائرات طواغيت الشرق والغرب! فذبّ الله تعالى عن عرض أوليائه وأظهر حقيقية المرتدين على الملأ، فتأمل.

وبينما يواصل المجاهدون جهادهم وإعدادهم، يحتفل المرتدون بـ"الاستقلال"! ولا ندري عمّن استقلوا؟ بل هم اليوم أكثر صلة وارتباطا والتصاقا بأمريكا وطواغيت العالم من أي يوم مضى، بل إن بقاء طالبان في الحكم اليوم مرهون بشكل أساسي بسلوكها في "محاربة الإرهاب" وتلبية المطالب الأمريكية وتنسيقها الدائم مع طواغيت أوروبا.

إن الخروج "العسكري" لأمريكا من أفغانستان لا يعني سوى مرحلة أخرى من الحرب على الإسلام بوكلاء جدد يقودهم فيها "كرازي" جديد!، مرحلة سيشتد فيها القتال والمفاصلة بين جنود الخلافة وجنود الوطنية والقومية! ولا عجب إنها معركة التوحيد.


• المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 302
الخميس 24 محرم 1443 هـ
...المزيد

مقال: جاه الأكارم (2) كظمُ الغيظ الحمد لله رب العالمين ولي المتقين وملاذ المستضعفين ومعين ...

مقال: جاه الأكارم (2) كظمُ الغيظ


الحمد لله رب العالمين ولي المتقين وملاذ المستضعفين ومعين عباده من المردة الشياطين، والصلاة والسلام على من بُعث رحمة للعالمين، صاحب الخلق العظيم محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى من تبعه بإحسان إلى يوم الدين، وبعد.

فمن المعلوم أن الشيطان يتربص بابن آدم، فهو لا يكاد يترك ثغرة إلا استغلها لإفساد دين العباد وحياتهم، ومن المواطن التي يحرص الشيطان دائما أن يكون حاضرا فيها النزاعات والخصومات ليثير عندها غيظ ابن آدم وغضبه؛ لعلمه أن العقل حينها يصل لدرجة الإغلاق فيفقد المغتاظ السيطرة على جوارحه وانفعالاته؛ فيدفعه إلى شرور كثيرةٍ غير متوقعة كقتل النفوس بل يصل للكفر أحيانا -نعوذ بالله منه-.

وعلْم الشيطان بهذه الخصلة في ابن آدم ليس وليد اليوم، بل منذ خلق اللهُ تعالى آدم، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لما صور الله آدم في الجنة ترکه ما شاء الله أن يتركه، فجعل إبليس يطيف به، ينظر ما هو، فلما رآه أجوف، عرف أنه خلق خلقا لا يتمالك) [صحيح مسلم]، ومعنى (لا يتمالك) أي: ليس لديه القدرة على أن يملك نفسه عند الغيظ والغضب، أو لا يملك نفسه، ويحبِسها عن الشهوات، أو لا يملك دفع الوسواس عنه، كما ذكر ذلك الإمام النووي رحمه الله، ومن هنا جاء الترغيب في القرآن في كظم الغيظ ووصف أصحاب هذا الفعل من المتقين المستحقين للجنة على فعلهم، قال تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:۱۳۳-١٣٤]، فجعل من صفاتهم أنهم يكظمون الغيظ، ويعفون عمن ظلمهم.

الجارعون الغيظ!

قال الإمام الطبري رحمه الله في تفسير قوله: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ}، يعني: "والجارعين الغيظ عند امتلاء نفوسهم منه، يقال منه: "كظم فلان غيظه" إذا تجرعه، فحفظ نفسه من أن تمضي ما هي قادرة على إمضائه باستمكانها ممن غاظها، وانتصارها ممن ظلمها، وأصل ذلك من كظم القربة، يقال منه: "كظمت القربة" إذا ملأتها ماء، و" فلان كظيم ومكظوم" إذا كان ممتلئًا غمًا وحزنًا؛ ومنه قول الله عز وجل: {وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ} [يوسف:٨٤]، يعني: ممتلئ من الحزن، ومنه قيل لمجاري المياه: "الكظائم" لامتلائها بالماء، ومنه قيل: "أخذت بكظمه "يعني: بمجاري نفسه" [تفسير الطبري]، وقال قتادة رحمه الله: "قوم أنفقوا في العسر واليسر، والجهد والرخاء، فمن استطاع أن يغلب الشر بالخير فليفعل، ولا قوة إلا بالله، فنعمت والله يا ابن آدم الجرعة تجترعها من صبر وأنت مغيظ وأنت مظلوم" [تفسير الطبري].

وهل هناك فرق بين الغضب والغيظ؟ ذكر بعض أهل العلم أن بينهما فرق فمن ذلك أن الغضب يتبعه إرادة الانتقام، وليس الغيظ كذلك، وقيل: الغضب ما يظهر على الجوارح والبشرة من غير اختيار، والغيظ ليس كذلك، وقيل: هما متلازمان؛ إلا أن الغضب يصح إسناده إلى الله تعالى، والغيظ لا يصح فيه ذلك.

وبالعموم فإن من امتدحهم الله هم المتجرعون للغيظ الممسكون عليه عند امتلاء نفوسهم منه؛ فلا ينقمون ممن يدخل الضرر عليهم، ولا يبدون له ما يكره، بل يصبرون على ذلك مع قدرتهم على الإنفاذ والانتقام.

ولقد أنار الله تعالى قلوب عباد له فكانوا وقّافين عند كلام رب العزة جل في علاه، أخبر الإمام القرطبي رحمه الله عن ميمون بن مهران رحمه الله: "أن جاريته جاءت ذات يوم بصحفة فيها مرقة حارة، وعنده أضياف، فعثرت، فصبت المرقة عليه، فأراد ميمون أن يضربها، فقالت الجارية: يا مولاي استعمل قول الله تعالى: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ}، قال لها: قد فعلت، فقالت: اعمل بما بعده: {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ}، فقال: قد عفوت عنك، فقالت الجارية: {وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}، قال ميمون: قد أحسنت إليك، فأنت حرة لوجه الله تعالى". [تفسير القرطبي]

وجاء في السنة ما فيه ترغيب في تلك الخصلة الحميدة التي لا يلقاها إلا ذو حظ عظيم، فعن سهل بن معاذ عن أبيه رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من كظم غيظا وهو قادر على أن ينفذه، دعاه الله عز وجل على رؤوس الخلائق يوم القيامة حتى يخيره الله من الحور العين ما شاء) [رواه أبو داود]، ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة فهو صاحب الخلق الحسن والقلب السليم بأبي هو وأمي، قالت عائشة رضي الله عنها: "ما خُيِّر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثمًا، فإن كان إثمًا كان أبعد الناس منه، وما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه إلا أن تُنتهك حرمة الله فينتقم لله بها". [صحيح البخاري]
- والعفو أعظم أجرا

و إن كان كظم الغيط -عمن أساء إليك في نفسك- محمودا فالعفو أعظم أجرا وأطيب للنفس، ثم الإحسان للمسيء فإنه أعلى مرتبة وثماره أكثر وأعظم من العفو إذ به -مع راحة النفس- كبت الشيطان وإغاظته ثم امتلاك قلب المسيء وضمه ليكون لك نصيرا بعد أن كان عدوا قال تعالى: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:34]، ولأن هذا الخلق يحتاجه الداعية وصاحب الرسالة جاءت هذه الآية بعد قوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:33]، وقد قال ابن كثير في تفسير الآية الأولى: "{ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} أي: من أساء إليك فادفعه عنك بالإحسان إليه، كما قال عمر رضي الله عنه: ما عاقبت من عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه، وقوله: {فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} وهو الصديق، أي: إذا أحسنت إلى من أساء إليك قادته تلك الحسنة إليه إلى مصافاتك ومحبتك، والحنو عليك، حتى يصير كأنه ولي لك حميم أي: قريب إليك من الشفقة عليك والإحسان إليك". [التفسير]

ولأنه لا يقوم بهذا الخُلق إلا الندرة من الرجال وخواص الكرام قال بعدها: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت:35]، قال ابن كثير: "أي: وما يقبل هذه الوصية ويعمل بها إلا من صبر على ذلك، فإنه يشق على النفوس، {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} أي: ذو نصيب وافر من السعادة في الدنيا والأخرى، قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في تفسير هذه الآية: أمر الله المؤمنين بالصبر عند الغضب، والحلم عند الجهل، والعفو عند الإساءة، فإذا فعلوا ذلك عصمهم الله من الشيطان، وخضع لهم عدوهم كأنه ولي حميم". [التفسير]

فأي شيء أنفع لدعوتك من أن تجعل أعداءك أولياء ومحبين لك، فبذلك تستميل النفوس لدعوة الحق، وهذا من خلق النبي صلى الله عليه وسلم ودأبه، وإن عامة المسلمين اليوم لطالما غُيّبوا عن كثير من أحكام الشرع وشوهت عندهم سُبل الهدى حتى أصبحوا في نفرة عنها وعن أهلها، وقد يجد من يدعوهم شيئا من الأذى، وهنا يَجْمُل به كظم غيظه ودفع السيئة بالتي هي أحسن، وهكذا يملك المجاهد في دعوته زمام القلوب؛ لأن واجبه كيف يُخرج الناس من الظلمات إلى النور، فيرحم العباد ويحب هدايتهم ولو كرهوه، ويرجو لهم الرشاد وإن أبغضوه.

نسأل الله تعالى أن يرزقنا القلوب السليمة وأن يحسّن أخلاقنا كما حسّن خَلْقَنا سبحانه هو القادر المنعم المتفضل والحمد لله رب العالمين.


• المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 302
الخميس 24 محرم 1443 هـ
...المزيد

ثم نكس عل رأسه. اءنك لانت ضالم مماري وانتصر. يوسف -ماء. والبلد والافراح. و مفرقعات ...

ثم نكس عل رأسه. اءنك لانت ضالم مماري
وانتصر. يوسف -ماء. والبلد
والافراح. و مفرقعات



كلام لين. ينجي من ممارات وشتاءم للمرة الالف والموضوع مزعج انا .......بدأت ...

كلام لين. ينجي من ممارات وشتاءم



للمرة الالف والموضوع مزعج
انا .......بدأت ......خلق

قال برام. انضر خالد وبعض تقنيات في وقت مناسب. ولا سلطة6. علينا. ولم نكن44. يوما. وسعودية
يتم الآن تحديث اوقات الصلاة ...
00:00:00 يتبقى على
18 جمادى الآخرة 1447
الفجر 00:00 الظهر 00:00 العصر 00:00 المغرب 00:00 العشاء 00:00

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً