لقد كان في قصصهم عبرة 1 رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ ...

لقد كان في قصصهم عبرة 1

رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ

الحمد لله رب العالمين، باعث الرسل مبشرين ومنذرين، والصلاة على خاتم الأنبياء وسيد المرسلين، سلام الله عليهم أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم البعث والدين، أما بعد..

لقد أنزل الله -عز وجل- الكتاب على عبده -صلى الله عليه وسلم- {تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ{ [النحل: 89]، وقصَّ فيه على نبيه ما جهله من أنباء الأقوام السابقة، }تِلْكَ مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلَا قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَـذَا} [هود: 49]، وقد أوحى الله لرسوله هذه القصص لما فيها من التثبيت والمواعظ والتذكير، {وَكُلًّا نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [هود: 120]، وإن لهذه القصص أثر عظيم على أصحاب القلوب الحية، التي عمرها الإيمان والتصديق، وإن لهم فيها سلوى على ما يواجهونه من المحن والابتلاءات والزلازل، }لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ}[هود: 120]، ولذلك، سنسلط في هذه السلسلة الضوء على قصص الأنبياء عليهم السلام، لنستخلص منها الدروس والعبر، ونسير في طريقهم ونقتفي الأثر.

سنبدأ هذه السلسلة بالحديث عن إبراهيم عليه السلام، في قصة فريدة تظهر الإيمان الراسخ والتوكل الصادق واليقين المطلق بالله عز وجل، إنها قصته مع هاجر وابنه إسماعيل عليه السلام، بعد أن أنجاه الله وزوجه سارة من الملك الجبار، ورأى ذلك الملك الظالم منها ما رأى، وأوهبها جارية اسمها هاجر، وعاد إبراهيم -عليه السلام- إلى الأرض المباركة، أرض الشام، فلما لم يُرزق من سارة بالولد، وهبته جاريتها هاجر، فرُزق منها بإسماعيل عليه السلام، فلما تمكنت الغيرة من قلب سارة، بدأت قصتنا التي ذكر الله جزءا منها في قوله: {رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ * رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّـهِ مِن شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ}[إبراهيم: 37 - 38].

حيث أوحى الله إلى إبراهيم أن يسري بهاجر وإسماعيل ويتركهما حيث أمره، لحكمة يعلمها عز وجل، فمضى بهاجر من أرض الشام إلى مكة مصطحبة رضيعها، حتى بلغوا دوحة فوق زمزم عند موضع البيت، ولم يكن بمكة يومئذ أحد، ولا ماء ولا طعام، إنما كانت صحراء قاحلة قفرة، فوضعهما هناك ووضع عندهما جرابا فيه تمر وسقاء فيه ماء، ثم قفل إبراهيم راجعا، فتبعته أم إسماعيل قائلة: "يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه إنس ولا شيء؟"، قالت له ذلك مرارا وجعل لا يلتفت إليها، فاستدركت قائلة: "آلله الذي أمرك بهذا؟"، فأجاب أن نعم، فقالت بكل ثقة بالله وتوكل عليه عز وجل: "إذن لا يضيعنا"، ثم رجعت، فانطلق إبراهيم حتى إذا بلغ الثنية حيث لا يرونه، استقبل بوجهه البيت ثم دعا بهذه الكلمات ورفع يديه فقال: {رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم: 37].جعلت أم إسماعيل ترضع ابنها وتشرب من ذلك الماء حتى إذا نفد ما في السقاء عطشت وعطش رضيعها، وجعلت تنظر إليه وهو يتلوى، فانطلقت كراهية أن تنظر إليه، فنظرت في ما يليها من الأرض فلم تجد أقرب من الصفا، فانطلقت إليه حتى بلغت أعلاه، فقامت عليه، ثم استقبلت الوادي هل ترى من أحد فلم تر أحدا، فهبطت من الصفا حتى إذا بلغت الوادي سعت سعي الإنسان المجهود حتى جاوزت الوادي ثم أتت المروة، فقامت عليها ونظرت هل ترى من أحد فلم تر أحدا، وطفقت تسعى بين الصفا والمروة بحثا عن ماء أو بشر، حتى أتمت سبعة أشواط، فذلك سعي الناس اليوم بينهما، فلما أشرفت على المروة سمعت صوتا، فقالت: "صهِ"، تريد نفسها، ثم تسمعت أيضا فقالت: "قد أسمعت إن كان عندك غواث"، أي قد سمعت صوتك، فإن كان عندك ما يغيثني فأغثني، فإذا هي بمَلَك أرسله الله -عز وجل- عند موضع زمزم، فبحث بعقبه (وهو مؤخر قدمه) أو بجناحه في الأرض حتى ظهر الماء، فجعلت تحيطه بالتراب وتصنع له حوضا مخافة أن يفنى، وجعلت تغرف من الماء في سقائها وهو يفور، فشربت حتى ارتوت وارتوى إسماعيل عليه السلام، فقال لها الملك: "لا تخافوا الضيعة، فإن ها هنا بيت الله يبنيه هذا الغلام وأبوه وإن الله لا يضيع أهله"، وكان البيت مرتفعا من الأرض كالرابية، تأتيه السيول، فتأخذ عن يمينه وشماله، فكانت كذلك حتى مر بهم نفر من قبيلة (جُرْهُم)، فنزلوا في أسفل مكة، فرأوا طائرا حائما، فعرفوا أن بهذا الوادي ماء، وكانَ عهدهم به أنه واد مقفر، فأرسلوا رسولا من قبلهم، أو رسولين، فإذا هم بالماء، فرجعوا فأخبروهم به فأقبلوا، وأمُّ إسماعيل عند الماء، فقالوا: "أتأذنينَ لنا أن ننزل عندك؟" فأجابت أن نعم...

إن في هذه القصة لعبرا عديدة، ودروسا مفيدة، على رأسها التوكل على الله وإحسان الظن به، فمن حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (قال الله: أنا عند ظنِّ عبدي بي) [رواه البخاري]، فإن إحسان الظن بالله كان واضحا جليا في ترك إبراهيم -عليه السلام- أهله في واد غير ذي زرع، انعدمت فيه كل مقومات الحياة، متيقنا أن الله لن يضيع أهله، وأنه سيتكفل برزقهم وأنه خيرٌ حافظاً، وهو أرحم الراحمين، كما برز ذلك في كلام هاجر إذ قالت: "إذن لا يضيعنا"، فهي متيقنة أن الله إنما أمر إبراهيم -عليه السلام- بذلك لحكمة، محسنة ظنها به، ومنها كذلك التسليم المطلق لله -عز وجل- والرضا بقضائه، حيث أن نبي الله إبراهيم -عليه السلام- ترك أهله في الصحراء القاحلة حيث الموت محتَّم باعتبار انعدام الأسباب المادية للحياة، لكن تسليمه المطلق لأمر الله كان سببا في تركهم، فقفل راجعا بعد أن وصلوا إلى المكان الذي أمره الله أن يتركهم فيه، وكذلك أم إسماعيل، لما رأت المكان وانعدام الأنس والماء سألته مرارا مستنكرة: "يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه إنس ولا شيء؟"، فلما علمت أن الله أمره بذلك، أسلمت أمرها وخضعت لقضاء الله، متيقنة أن الله جاعل لها ولرضيعها مخرجا، فكان الله عند حسن ظنها به، وآنس وحشتها ورزقها من الطيبات.

إن قصص الأنبياء وأقوامهم فيها من الدروس ما نفعه دائم وخيره مستفيض، وإن أولي اللب إن قارنوا حالَهم بحالِهم تجلت لهم مسالك الخلاص مما هم فيه من بلاء محنة، وشق الله لهم في بحار الظلمات طريق النور، ورفعهم من دركات التيه إلى درجات الرشاد، فلا تحل بهم نازلة إلا وقد أنبأهم الله بدوائها، ولا يرون معضلة إلا وقد بين الله لهم حلها، {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص: 29].



* المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 104
الخميس 13 صفر 1439 ه‍ـ
...المزيد

السمع والطاعة (1) الحمد لله القوي المتين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وآله ...

السمع والطاعة (1)

الحمد لله القوي المتين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وآله وصحبه أجمعين، أما بعد...

مما هو معلوم لدى أهل السنة والجماعة وجوب السمع والطاعة، وهذا مما يتميز به أهل السنة والجماعة عن أهل البدع، قال ابن تيمية -رحمه الله- في الواسطية: "أهل السنة والجماعة هم الذين يتمسكون بكتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- قولاً وعملاً، ظاهراً وباطناً، على ما كان عليه السلف الصالح من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ويبتعدون عن البدع، ويرون السمع والطاعة لولاة الأمر في غير معصية، ويأمرون بالفضائل وينهون عن الرذائل".

فإن السمع والطاعة هي الركن الأول في البيعة، والحق الأعظم للإمام والأمير، قال عبادة بن الصامت: "دعانا النبي -صلى الله عليه وسلم- فبايعناه، فقال فيما أخذ علينا: أن بايعنا على السمع والطاعة، في منشطنا ومكرهنا، وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله، إلا أن تروا كفرا بواحا، عندكم من الله فيه برهان" [رواه البخار ي].

ولما كان للسمع والطاعة من الأهمية ما ذكرنا، كان بيان مفهومهما ضروريا للغاية، حتى لا يلتبس على الناس هذا المعنى العظيم الذي به ينتظم أمر دنياهم ويُحفظ عليهم دينهم القويم، فكانت هذه السلسلة (السمع والطاعة).


• وجوب السمع والطاعة:

إن مما انعقد عليه الإجماع وجوب السمع والطاعة، حتى أصبح السمع والطاعة علامة مميزة وفارقة لأهل السنة عن أهل البدع، بل أصبح السمع والطاعة يذكر في كتب عقائد أهل السنة.

قال ابن قدامة، رحمه الله: "ومن السنة: السمع والطاعة لأئمة المسلمين وأمراء المؤمنين -بَرِّهم وفاجرهم- ما لم يأمروا بمعصية الله، فإنه لا طاعة لأحد في معصية الله، ومن ولي الخلافة واجتمع عليه الناس ورضوا به، أو غلبهم بسيفه حتى صار الخليفة، وسمي أمير المؤمنين، وجبت طاعته وحرمت مخالفته والخروج عليه وشق عصا المسلمين" [لمعة الاعتقاد].

وقال ابن تيمية -رحمه الله- في الواسطية: "فطاعة الله ورسوله واجبة على كل أحد، وطاعة ولاة الأمور واجبة لأمر الله بطاعتهم، فمن أطاع الله ورسوله بطاعة ولاة الأمر لله فأجره على الله، ومن كان لا يطيعهم إلا لما يأخذه من الولاية والمال فإن أعطوه أطاعهم وإن منعوه عصاهم فما له في الآخرة من خلاق".

قال ابن رجب، رحمه الله: "أما السمع والطاعة لولاة أمور المسلمين، ففيها سعادة الدنيا، وبها تنتظم مصالح العباد في معايشهم، وبها يستعينون على إظهار دينهم، وطاعة ربهم".

وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله: "وأرى وجوب السمع والطاعة لأئمة المسلمين، بَرِّهم وفاجرهم ما لم يأمروا بمعصية اللَّه".

والأحاديث الصحيحة في هذا الباب كثيرة، ولم يقع خلل في دين الناس أو دنياهم إلا من الإخلال بهذه الوصية.

وقبل هذا جاء كلام الله ورسوله يؤكد وجوب السمع والطاعة، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء: 59]. قال ابن حجر: "قال ابن عيينة: سألت زيد بن أسلم عنها -أي عن أولي الأمر في هذه الآية- ولم يكن بالمدينة أحد يفسر القرآن بعد محمد بن كعب مثله، فقال: اقرأ ما قبلها تعرف، فقرأت: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمواْ بِالْعَدْل} [النساء: 58]. فقال: هذه في الولاة" [فتح الباري].

أما من السنة فالأحاديث كثيرة في وجوب السمع والطاعة للأئمة في غير معصية نذكر منها ما رواه البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- قال: "قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع أميرِي فقد أطاعَنِي، ومن عصى أميري فقد عصانِي).

ومنها ما رواه البخاري بسنده عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (اسمعوا وأطيعُوا، وإن استُعمل عليكم عبدٌ حبشيٌّ، كأنَّ رأسَه زبيبةٌ).

ومنها ما رواه مسلم عن عبد الله بن مسعود -رضي الله تعالى عنه- قال: "قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إنها ستكونُ بعدِي أثرةً وأمورٌ تُنكرونها). قالوا: "يا رسولَ اللهِ! كيف تأمر من أدركَ منّا ذلك؟" قال: (تُؤدّونَ الحقَّ الذي عليكُم، وتسألونَ اللهَ الذي لكُم)، إلى غير ذلك من الأحاديث الكثيرة الموجبة لطاعة الأئمة في غير معصية وإن جاروا.
حرمة مفارقة الجماعة:

إن الله لَمَّا أمر بالسمع والطاعة والجماعة، حَرَّم الخروج عنها والعصيان والتنازع، إذا لا يجوز لفرد أو جماعة الخروج على الإمام العادل، ومن خرج عليه وجب قتاله وقمعه، ورد شره وبغيه.

قال الله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات: 9]، وعن عرفجة -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يَقول: (من أتاكم، وأمركُم جميعٌ، على رجلٍ واحدٍ، يريدُ أن يشقُّ عصاكُم، أو يفرقَ جماعتكُم، فاقتلوهُ) [رواه مسلم].

وقال النبي، صلى الله عليه وسلم: (من رأى من أميرِه شيئاً يكرهُه فليصبر، فإنَّهُ ليس أحدٌ يُفارِقُ الجماعةَ شبراً فيموتُ، إلا مات ميتةَ جاهليةٍ) [متفق عليه]. قال الإمام البخاري، رحمه الله: "لقيت أكثر من ألف رجل من أهل العلم، أهل الحجاز ومكة والمدينة والكوفة والبصرة وواسط وبغداد والشام ومصر... -وذكر جماعة منهم ثم قال:- ما رأيت واحداً منهم يختلف في هذه الأشياء، فذكر أموراً منها: وأن لا ننازع الأمر أهله لقول النبي، صلى الله عليه وسلم: (ثلاث لا يَغِل عليهن قلب امرئ مسلم: إخلاص العمل لله، وطاعة ولاة الأمر، ولزوم جماعتهم، فإنَّ دعوتهم تحيط من ورائهم)". وقال أبو محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي: "سألت أبي وأبا زرعة عن مذهب أهل السنة في أصول الدين وما أدركا عليه العلماء في جميع الأمصار وما يعتقدان من ذلك؟ فقالا: أدركنا العلماء في جميع الأمصار حجازاً وعراقاً وشاماً ويمناً فكان من مذهبهم [...] فذكرا أموراً منها: ونقيم الجهاد والحج مع أئمة المسلمين في كل دهر وزمان، ولا نرى الخروج على الأئمة ولا القتال في الفتنة، ونسمع ونطيع لمن ولاه الله -عز وجل- أمرنا، ولا ننزع يداً من طاعة، ونتبع السنة والجماعة، ونجتنب الشذوذ والخلاف والفرقة، فإن الجهاد ماض مذ بعث الله -عز وجل- نبيه -عليه الصلاة والسلام- إلى قيام الساعة مع ولي الأمر من أئمة المسلمين لا يبطله شيء، والحج كذلك، ودفع الصدقات من السوائم إلى أولي الأمر من أئمة المسلمين".

وعن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (من خلع يداً من طاعةٍ، لقيَ اللهَ يومَ القيامةِ، لا حُجَّةَ له. ومن مات وليس في عُنُقِه بَيعةٌ، مات مِيتةً جاهليةً) [رواه مسلم].

فعلى المسلمين لزوم الجماعة لما تقدم ذكره، ولما في ذلك من عزة المسلمين ووحدتهم، وعليهم نبذ التنازع والفرقة والاختلاف، حتى لا يذهب ريحهم فيصيبهم الفشل، فتستباح بيضتهم وتباد خضراؤهم، والله أعلم، والحمد لله رب العالمين.



* المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 104
الخميس 13 صفر 1439 ه‍ـ
...المزيد

قصة شهيد: من جبال خراسان إلى ربوع الشام الشيخ المجاهد عبد الحكيم التتري: ‘‘أريد الوصول إلى ...

قصة شهيد:
من جبال خراسان إلى ربوع الشام

الشيخ المجاهد عبد الحكيم التتري: ‘‘أريد الوصول إلى أرض الخلافة والعيش فيها ولو أياماً فقط’’

"يكفيني أن أعيش في أرض الخلافة 4 أيام فقط، وإن قتلت بعد ذلك فقد حققت ما أريد"، عبارة كررها عشرات المرات عندما حاول أهله ثنيه عن الهجرة من خراسان إلى أرض الخلافة في العراق والشام، وبعد وصوله بأربعة أيام طلب المشاركة في غزوة كان يعد لها جنود الخلافة في بيجي، فقالت له زوجته ومن حوله: "انتظر يا شيخ حتى ترتاح من مشقة الطريق ووعثاء السفر"، فقال: "راحتي في ذلك"، وألحّ على إخوانه حتى شارك في الغزوة وقتل فيها، تقبله الله.

لقد صدق الله في طلبه فنال ما أراد، وهو الذي قاتل الكفار والمرتدين طيلة 8 أعوام في خراسان، كان ليناً مرحاً محبوباً من قبل إخوانه جميعا، كان أحدهم إذا جاءت نوبة رباطه في نقطة، سأل عن الموجودين في هذه النقطة فيقولون له فلان وفلان وفلان، فإذا علم بوجود الشيخ فيها سارع إليها فرحا مسرورا وإذا لم يجده بحث عنه.

كان أحد أكبر المحرضين على الجهاد في أرض الروس من خلال كلماته وتسجيلاته التي كانت دافعا كبيرا في هجرة العديد من الإخوة الروس إلى ساحات الجهاد.

إنه الشيخ المجاهد عبد الحكيم التتري -تقبله الله- صاحب 53 عاما، روسي الأصل، هاجر من أرض الروس الصليبيين إلى أرض خراسان قبل 15 عاما، والتحق بإخوانه بالحركة الإسلامية الأوزبكية في وزيرستان، التي بايعت خليفة المسلمين بعد إعلان الخلافة، وانضم جنودها لجنود الدولة الإسلامية في خراسان.

لم يكن الشيخ في مقتبل عمره ملتزما بأوامر الله ومنتهيا عن نواهيه، وكان له أخ من أمه قد عرف طريق الجهاد، وكان كثيرا ما يحدثه عن الجهاد في سبيل الله وفضله وما أعد الله للمجاهدين، حتى جاء الوقت الذي هدى الله فيه قلبه لدينه وللجهاد في سبيله، فعزم على الهجرة، والتحق بإخوانه في وزيرستان وأصبح جنديا في صفوف الحركة الأوزبكية الإسلامية، وجمع -رحمه الله- بين شقي الجهاد، جهاد اللسان وجهاد السنان، حيث كان يحرض المسلمين على النفير في سبيل الله من خلال كلماته الصوتية وتسجيلاته المصورة، ومن خلال قتاله ورباطه ضد المرتدين والكفار وأعوانهم.

وعن هجرته من أرض خراسان فور إعلان الخلافة إلى أرض الدولة الإسلامية، يحدثنا ابنه الذي كان معه في خراسان بقوله: "عندما أُعلنت الخلافة، عزم والدي أمره، وقال جهزوا أنفسكم سنهاجر إلى أرض الشام ونلتحق بركب الخلافة، فقلت له: "يا أبي هنا جهاد وهناك جهاد، والطريق طويلة واحتمال الأسر وارد جدا، ويجب علينا أن نجتاز حدود دول عديدة، ولا نملك جوازات للسفر أو بطاقات رسمية، إضافة إلى أننا لا نملك المال الكافي للوصول إلى الشام" فأجابني أبي: "الآن أعلنت الخلافة، وكم انتظرنا هذا اليوم، هل تعرف كم سنة انتظرناها؟! والآن عندما أُعلنت نتخلى عنها ولا نلتحق بركبها؟! لا يوجد أمامي هدف في أيامي القادمة سوى الوصول لأرض دولة الإسلام والالتحاق بالركب، ولن يستطيع أحد منعي من الالتحاق بها، فيكفيني أن أعيش فيها عدة أيام حتى وإن قتلت في أول غزوة أشارك بها".

وما هي إلا أيام حتى عزم الشيخ وزوجته وابنهما أمرهم مع عدد من الإخوة الآخرين وجهزوا أنفسهم للهجرة في سبيل الله، وجمعوا ما استطاعوا من المال، الذي قُدِّر بـ 900 دولار للشخص الواحد مع أن تكلفة الطريق للشخص كانت تزيد على 2000 دولار.

ومع فجر أحد الأيام، انطلقت المجموعة الصغيرة المهاجرة في سبيل الله إلى أرض الخلافة، من وزيرستان إلى أفغانستان وبعدها إلى باكستان، مرورا بدولة الروافض المشركين إيران، وصولا إلى تركيا، ليستريحوا عدة أيام ثم يكملوا طريقهم ويدخلوا أرض الشام بعد أكثر من شهرين منذ انطلاقتهم من وزيرستان.

وما أشق الطريق وأطوله، ويكفي فقط أن نعرف أنهم استقلوا أكثر من 50 سيارة منذ انطلاقهم، وركبوا العديد من الدراجات النارية في الطرق التي لا تسير فيها السيارات بين الجبال أثناء تنقلهم، ومشوا عشرات الكيلومترات على أرجلهم خلال عبورهم الحدود، وظلوا يوما كاملا مختبئين داخل صناديق خشبية حتى تمكنوا من عبور أحد الحواجز، وعادوا عدة مرات قبل ذلك.

ولاقوا ما لاقوا من أذى بسبب كذب المهربين، والخوف الذي عاشوه من كشف أمرهم للدرك والشرطة من الكفار والمرتدين، خاصة وأن الشيخ أحد أهم المطلوبين لدولة روسيا الصليبية، وصورته موزعة معروفة، إضافة إلى أن له العديد من الإصدارات التي يُحرض فيها على الجهاد وصورته واضحة بها، ورغم كل ذلك فلقد كانت رعاية الله وحفظه معهم.

وكانت الرحلة كذلك وبحسب أحد الإخوة في المجموعة أمتع رحلة في حياتهم بسبب وجود الشيخ معهم الذي كان كثير المزاح، ودائم السعادة والبهجة والذي كان يُحوّل أصعب المواقف وأحزنها إلى لطيفة ممتعة.وهناك في تركيا، تذكّر الشيخ والدته التي قاربت الثمانين عاما، فلم يشأ أن ينعم بالهجرة والعيش في أرض الخلافة دونها، فاتصل بها وقال: "أمي، أنا الآن في تركيا وأريد أن أراك لأني سأذهب إلى مكان ربما لا أستطيع -أو لا أودُّ- العودة منه، تعالي هنا نلتقي عدة أيام ثم تعودين"، وجاءت الأم والتقت بابنها، فما كان منه إلا أن أقنعها باستكمال طريق الهجرة معه وهو ما كان، ولا تزال الأم في أرض الدولة الإسلامية إلى يومنا هذا.

وبعد التقائه بوالدته تواصل مع أحد الإخوة في تركيا لينسق له دخوله، فطلبوا منه الجلوس والصبر ريثما يأتي دوره للدخول وعبور الحدود، حيث أن هناك عشرات الإخوة يريدون الدخول والأمر يتطلب تدابيرا وجهدا لتأمين الطريق لهم، فرفض وقال: "أريد الدخول اليوم"، فقالوا: "يجب أن تنتظر دورك يا شيخ"، فأجابهم: "اليوم دوري"، وأصر على طلبه فعندما شاهد الإخوة إصراره أدخلوه بعد يومين أو ثلاثة، وكان بعض الإخوة ينتظرون دورهم أكثر من شهر.

وبعد دخوله برفقه عائلة أخرى صغيرة بيومين، سأل عن أقرب غزوة يُعد لها جنود الدولة الإسلامية فقالوا له في بيجي، فحزم حقيبته الصغيرة واتجه إلى المعسكر لتوديع ابنه الوحيد فلم يتمكن من رؤيته، فاتجه إلى بيجي، ليبلُغ زوجتَه خبرُ استشهاده بعد أيام، قُتل -رحمه الله- دون أن يعلم أحد من الجنود الذين كانوا معه في الغزوة من هذا الرجل الغريب المُسن صاحب الهمة العالية الذي دخل الغزوة معهم ولا يعرفون عنه شيئا -تقبله الله- وأسكنه فسيح جنانه.



* المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 104
الخميس 13 صفر 1439 ه‍ـ
...المزيد

الدولة الإسلامية - صحيفة النبأ 104: الافتتاحية: الصبر واليقين حلة الصادقين إن أعظم الناس ...

الدولة الإسلامية - صحيفة النبأ 104:
الافتتاحية:

الصبر واليقين حلة الصادقين

إن أعظم الناس إيمانا، هو أعظمهم يقينا بالله -تعالى- أنه الإله الواحد الحق المستحق للعبادة، وأن دينه العظيم فوق جميع الأديان الباطلة، وبرهان ذلك اليقين الذي لا شك فيه هو قتال من كفر بالله وعدل معه غيره واستبدل بدينه أديان البشر الآسنة، وهذا اليقين هو من أعمال القلوب الجليلة التي لا يصح الإيمان إلا بها، وهو أحد الشروط التي لا بد منها لصحة كلمة التوحيد، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (من مات يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، موقنا من قلبه دخل الجنة) [رواه النسائي].

وهذا اليقين هو الذي يدفع صاحبه للمطاولة في طريق الدعوة إلى الله بالسيف والسنان والحجة والبيان، مع ما فيه من شدة البلاء وعظيم الخطب والزلزلة، وملاقاة الكفار والزحوف، واعتلاء مراكب المنايا والحتوف، إنه اليقين الذي يدفع صاحبه للصبر على كل ذلك، فلا يجد صاحبه بُدا من المطاولة والسعي الحثيث لنصرة الدين، ومرضاة رب العالمين، وهذا هو الإيمان الذي يتدرج بصاحبه حتى يصل إلى حق اليقين ثم عين اليقين، وأعظم الناس يقينا هم الرسل، لأنهم هم من تجري على أيديهم المعجزات وتتنزل عليهم الآيات، ولذلك عندما شكى خباب إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ما يلاقونه من أذى المشركين وطلب منه الدعاء والنصرة، كشف له النبي -صلى الله عليه وسلم- ما لاقاه الجيل الأول من أتباع كل رسول من الصبر العظيم على دين الله، وما هذا الصبر إلا من قوة الإيمان بالله -سبحانه- واليقين بوعده، والرضى بتلك المصائب في ذات الله، فعن خباب بن الأرتِّ -رضي الله عنه- قال: شكونا إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، فقلنا: ألا تستنصر لنا، ألا تدعو لنا؟ فقال: (قد كان من قبلكم، يُؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض، فيجعل فيها، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيُجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، فما يصده ذلك عن دينه، والله لَيُتمَّنَّ هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله، والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون) [رواه البخاري].

وهكذا يأتي الجيل بعد ذاك الجيل المبتلى الذي قامت عليه الدعوة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ممن أنعم الله عليهم بالإيمان والصبر واليقين، فيكون فضلهم على قدر ما هم عليه من يقين وتحمل وتصبر في القيام بأمر الله تعالى، وبهذه المعايير يكون التفاضل والدرجة في الجنة، فأخبرنا الله -تعالى- عن التفاضل بين بعض أجيال الصحابة الكرام، وأن درجة من أنفق وقاتل قبل فتح مكة ليس كمن آمن وقاتل بعد الفتح، وهؤلاء الصحابة الكرام -رضي الله عنهم- بمجموعهم ممن سبق ولحق، هم من أعظم الناس إيمانا واتباعا للنبي -صلى الله عليه وسلم- ويقينا وبلاء في سبيل الله، ولذلك هم خير القرون، وعندما ارتدت العرب وانحسرت رقعة الدولة في مكة والمدينة، ظهر مِن حُسن بلائِهم وجهادهم ما يدل على هذه الخيرية، فألقوا بأنفسهم في أتون حرب ضروس، ضَرَستْ أهل الردة وكسرت شوكتهم، وكانوا من أكثر الناس بذلا للدماء والأشلاء، وقُتل في وقعة اليمامة سبعون من قراء الصحابة، وهي وقعة واحدة من وقعات كثيرة، مما حدا بالصدّيق -رضي الله عنه- أن يجمع القرآن خشية أن يضيع منه شيء، أولئك هم جيل الهداة المهتدين، الذين نالوا الإمامة في الدين بالصبر واليقين، اليقين بوحدانية الله والحساب والجنة والنار، اليقين برضوان الله وتحقيق وعده، اليقين بكفر الطواغيت وأتباعهم وجندهم وأنصارهم من صليبيين ومرتدين، والصبر على نتائج القتال مهما عظمت، ولذلك تجد من المجاهدين اليوم من يذكرك بفعل أنس بن النضر -رضي الله عنه- يوم أحد وهو ممن عظم إيمانه ويقينه، فشقّ طريقه إلى ربه موقنا صابرا محتسبا مقبلا عليه قائلا حين فرّ الناس: "واها لريح الجنة، أجدها دون أحد"، وما أعجب تلك الكلمات، إنها كلمة تلهُّف وحنين للجنة، فهنيئا لمن سار على خطاه، وحث الخطى إلى دار السعادة والكرامة، فإن أعظم الناس إيمانا ويقينا من يقبل على ربه حين يدبر الناس، وينكلوا عن هذا الخير العظيم.


* المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 104
الخميس 13 صفر 1439 ه‍ـ
...المزيد

🌃رسائل الفجر١٤٤٧/١/١٩🌃 إنما نهى الله عن الخوض فيما لا يدركه العقل؛ لأنه باب للشيطان لإغواء الناس، ...

🌃رسائل الفجر١٤٤٧/١/١٩🌃
إنما نهى الله عن الخوض فيما لا يدركه العقل؛ لأنه باب للشيطان لإغواء الناس، فيستدرجهم إلى الخوض في غيبٍ لا يُحسنونه، ويَغرهم بعقولهم، وربما ابتدأ بهم بالمشروع تطميناً لنفوسهم حتى يجرهم إلى الممنوع، والنهي ليس للبدء بالتفكر المشروع، وإنما للحذر أن يكون طريقاً للممنوع.
🔻 🔻 🔻
‏من أراد دعوةَ أحدٍ إلى الحق، فلينظر إلى فطرتِه ومقدار انحرافها قبل دعوته، حتى يُقوِّم الإناء قبل الصبِّ فيه، ومن يدعو أصحاب فطر مبدَّلة أعظمُ أجراً ممن يدعو أصحاب الفطر الصحيحة، ولو كان أقل أتباعاً؛ فكل أولي العزم من الرسل أرسلوا إلى أمم مبدلة للفطرة.
🔻 🔻 🔻
‏الأمم التي تنشأ على الفطرة ولم تتبدل، فإنها أسرع لقَبول الحق والتسليم به، كما هو اليوم في كثير من بلدان إفريقية وبعض بلدان جنوب شرق آسيا، وأما التي تبدلت فطرتها وطال الأمد على انحرافها، فإن قبولها للحق شاق؛ لأن قلوبهم منحرفة، كالإناء المائل.(من كتاب المغربية للطريفي)
https://t.me/azzadden
...المزيد

لقد كان في قصصهم عبرة 1 رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ ...

لقد كان في قصصهم عبرة 1

رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ

الحمد لله رب العالمين، باعث الرسل مبشرين ومنذرين، والصلاة على خاتم الأنبياء وسيد المرسلين، سلام الله عليهم أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم البعث والدين، أما بعد..

لقد أنزل الله -عز وجل- الكتاب على عبده -صلى الله عليه وسلم- {تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ{ [النحل: 89]، وقصَّ فيه على نبيه ما جهله من أنباء الأقوام السابقة، }تِلْكَ مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلَا قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَـذَا} [هود: 49]، وقد أوحى الله لرسوله هذه القصص لما فيها من التثبيت والمواعظ والتذكير، {وَكُلًّا نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [هود: 120]، وإن لهذه القصص أثر عظيم على أصحاب القلوب الحية، التي عمرها الإيمان والتصديق، وإن لهم فيها سلوى على ما يواجهونه من المحن والابتلاءات والزلازل، }لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ}[هود: 120]، ولذلك، سنسلط في هذه السلسلة الضوء على قصص الأنبياء عليهم السلام، لنستخلص منها الدروس والعبر، ونسير في طريقهم ونقتفي الأثر.

سنبدأ هذه السلسلة بالحديث عن إبراهيم عليه السلام، في قصة فريدة تظهر الإيمان الراسخ والتوكل الصادق واليقين المطلق بالله عز وجل، إنها قصته مع هاجر وابنه إسماعيل عليه السلام، بعد أن أنجاه الله وزوجه سارة من الملك الجبار، ورأى ذلك الملك الظالم منها ما رأى، وأوهبها جارية اسمها هاجر، وعاد إبراهيم -عليه السلام- إلى الأرض المباركة، أرض الشام، فلما لم يُرزق من سارة بالولد، وهبته جاريتها هاجر، فرُزق منها بإسماعيل عليه السلام، فلما تمكنت الغيرة من قلب سارة، بدأت قصتنا التي ذكر الله جزءا منها في قوله: {رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ * رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّـهِ مِن شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ}[إبراهيم: 37 - 38].

حيث أوحى الله إلى إبراهيم أن يسري بهاجر وإسماعيل ويتركهما حيث أمره، لحكمة يعلمها عز وجل، فمضى بهاجر من أرض الشام إلى مكة مصطحبة رضيعها، حتى بلغوا دوحة فوق زمزم عند موضع البيت، ولم يكن بمكة يومئذ أحد، ولا ماء ولا طعام، إنما كانت صحراء قاحلة قفرة، فوضعهما هناك ووضع عندهما جرابا فيه تمر وسقاء فيه ماء، ثم قفل إبراهيم راجعا، فتبعته أم إسماعيل قائلة: "يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه إنس ولا شيء؟"، قالت له ذلك مرارا وجعل لا يلتفت إليها، فاستدركت قائلة: "آلله الذي أمرك بهذا؟"، فأجاب أن نعم، فقالت بكل ثقة بالله وتوكل عليه عز وجل: "إذن لا يضيعنا"، ثم رجعت، فانطلق إبراهيم حتى إذا بلغ الثنية حيث لا يرونه، استقبل بوجهه البيت ثم دعا بهذه الكلمات ورفع يديه فقال: {رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم: 37].
جعلت أم إسماعيل ترضع ابنها وتشرب من ذلك الماء حتى إذا نفد ما في السقاء عطشت وعطش رضيعها، وجعلت تنظر إليه وهو يتلوى، فانطلقت كراهية أن تنظر إليه، فنظرت في ما يليها من الأرض فلم تجد أقرب من الصفا، فانطلقت إليه حتى بلغت أعلاه، فقامت عليه، ثم استقبلت الوادي هل ترى من أحد فلم تر أحدا، فهبطت من الصفا حتى إذا بلغت الوادي سعت سعي الإنسان المجهود حتى جاوزت الوادي ثم أتت المروة، فقامت عليها ونظرت هل ترى من أحد فلم تر أحدا، وطفقت تسعى بين الصفا والمروة بحثا عن ماء أو بشر، حتى أتمت سبعة أشواط، فذلك سعي الناس اليوم بينهما، فلما أشرفت على المروة سمعت صوتا، فقالت: "صهِ"، تريد نفسها، ثم تسمعت أيضا فقالت: "قد أسمعت إن كان عندك غواث"، أي قد سمعت صوتك، فإن كان عندك ما يغيثني فأغثني، فإذا هي بمَلَك أرسله الله -عز وجل- عند موضع زمزم، فبحث بعقبه (وهو مؤخر قدمه) أو بجناحه في الأرض حتى ظهر الماء، فجعلت تحيطه بالتراب وتصنع له حوضا مخافة أن يفنى، وجعلت تغرف من الماء في سقائها وهو يفور، فشربت حتى ارتوت وارتوى إسماعيل عليه السلام، فقال لها الملك: "لا تخافوا الضيعة، فإن ها هنا بيت الله يبنيه هذا الغلام وأبوه وإن الله لا يضيع أهله"، وكان البيت مرتفعا من الأرض كالرابية، تأتيه السيول، فتأخذ عن يمينه وشماله، فكانت كذلك حتى مر بهم نفر من قبيلة (جُرْهُم)، فنزلوا في أسفل مكة، فرأوا طائرا حائما، فعرفوا أن بهذا الوادي ماء، وكانَ عهدهم به أنه واد مقفر، فأرسلوا رسولا من قبلهم، أو رسولين، فإذا هم بالماء، فرجعوا فأخبروهم به فأقبلوا، وأمُّ إسماعيل عند الماء، فقالوا: "أتأذنينَ لنا أن ننزل عندك؟" فأجابت أن نعم...

إن في هذه القصة لعبرا عديدة، ودروسا مفيدة، على رأسها التوكل على الله وإحسان الظن به، فمن حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (قال الله: أنا عند ظنِّ عبدي بي) [رواه البخاري]، فإن إحسان الظن بالله كان واضحا جليا في ترك إبراهيم -عليه السلام- أهله في واد غير ذي زرع، انعدمت فيه كل مقومات الحياة، متيقنا أن الله لن يضيع أهله، وأنه سيتكفل برزقهم وأنه خيرٌ حافظاً، وهو أرحم الراحمين، كما برز ذلك في كلام هاجر إذ قالت: "إذن لا يضيعنا"، فهي متيقنة أن الله إنما أمر إبراهيم -عليه السلام- بذلك لحكمة، محسنة ظنها به، ومنها كذلك التسليم المطلق لله -عز وجل- والرضا بقضائه، حيث أن نبي الله إبراهيم -عليه السلام- ترك أهله في الصحراء القاحلة حيث الموت محتَّم باعتبار انعدام الأسباب المادية للحياة، لكن تسليمه المطلق لأمر الله كان سببا في تركهم، فقفل راجعا بعد أن وصلوا إلى المكان الذي أمره الله أن يتركهم فيه، وكذلك أم إسماعيل، لما رأت المكان وانعدام الأنس والماء سألته مرارا مستنكرة: "يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه إنس ولا شيء؟"، فلما علمت أن الله أمره بذلك، أسلمت أمرها وخضعت لقضاء الله، متيقنة أن الله جاعل لها ولرضيعها مخرجا، فكان الله عند حسن ظنها به، وآنس وحشتها ورزقها من الطيبات.

إن قصص الأنبياء وأقوامهم فيها من الدروس ما نفعه دائم وخيره مستفيض، وإن أولي اللب إن قارنوا حالَهم بحالِهم تجلت لهم مسالك الخلاص مما هم فيه من بلاء محنة، وشق الله لهم في بحار الظلمات طريق النور، ورفعهم من دركات التيه إلى درجات الرشاد، فلا تحل بهم نازلة إلا وقد أنبأهم الله بدوائها، ولا يرون معضلة إلا وقد بين الله لهم حلها، {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص: 29].



* المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 104
الخميس 13 صفر 1439 ه‍ـ
...المزيد

لقد كان في قصصهم عبرة 1 رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي ...

لقد كان في قصصهم عبرة 1

رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ

الحمد لله رب العالمين، باعث الرسل مبشرين ومنذرين، والصلاة على خاتم الأنبياء وسيد المرسلين، سلام الله عليهم أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم البعث والدين، أما بعد..

لقد أنزل الله -عز وجل- الكتاب على عبده -صلى الله عليه وسلم- {تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ{ [النحل: 89]، وقصَّ فيه على نبيه ما جهله من أنباء الأقوام السابقة، }تِلْكَ مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلَا قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَـذَا} [هود: 49]، وقد أوحى الله لرسوله هذه القصص لما فيها من التثبيت والمواعظ والتذكير، {وَكُلًّا نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [هود: 120]، وإن لهذه القصص أثر عظيم على أصحاب القلوب الحية، التي عمرها الإيمان والتصديق، وإن لهم فيها سلوى على ما يواجهونه من المحن والابتلاءات والزلازل، }لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ}[هود: 120]، ولذلك، سنسلط في هذه السلسلة الضوء على قصص الأنبياء عليهم السلام، لنستخلص منها الدروس والعبر، ونسير في طريقهم ونقتفي الأثر.

سنبدأ هذه السلسلة بالحديث عن إبراهيم عليه السلام، في قصة فريدة تظهر الإيمان الراسخ والتوكل الصادق واليقين المطلق بالله عز وجل، إنها قصته مع هاجر وابنه إسماعيل عليه السلام، بعد أن أنجاه الله وزوجه سارة من الملك الجبار، ورأى ذلك الملك الظالم منها ما رأى، وأوهبها جارية اسمها هاجر، وعاد إبراهيم -عليه السلام- إلى الأرض المباركة، أرض الشام، فلما لم يُرزق من سارة بالولد، وهبته جاريتها هاجر، فرُزق منها بإسماعيل عليه السلام، فلما تمكنت الغيرة من قلب سارة، بدأت قصتنا التي ذكر الله جزءا منها في قوله: {رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ * رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّـهِ مِن شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ}[إبراهيم: 37 - 38].

حيث أوحى الله إلى إبراهيم أن يسري بهاجر وإسماعيل ويتركهما حيث أمره، لحكمة يعلمها عز وجل، فمضى بهاجر من أرض الشام إلى مكة مصطحبة رضيعها، حتى بلغوا دوحة فوق زمزم عند موضع البيت، ولم يكن بمكة يومئذ أحد، ولا ماء ولا طعام، إنما كانت صحراء قاحلة قفرة، فوضعهما هناك ووضع عندهما جرابا فيه تمر وسقاء فيه ماء، ثم قفل إبراهيم راجعا، فتبعته أم إسماعيل قائلة: "يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه إنس ولا شيء؟"، قالت له ذلك مرارا وجعل لا يلتفت إليها، فاستدركت قائلة: "آلله الذي أمرك بهذا؟"، فأجاب أن نعم، فقالت بكل ثقة بالله وتوكل عليه عز وجل: "إذن لا يضيعنا"، ثم رجعت، فانطلق إبراهيم حتى إذا بلغ الثنية حيث لا يرونه، استقبل بوجهه البيت ثم دعا بهذه الكلمات ورفع يديه فقال: {رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم: 37].
جعلت أم إسماعيل ترضع ابنها وتشرب من ذلك الماء حتى إذا نفد ما في السقاء عطشت وعطش رضيعها، وجعلت تنظر إليه وهو يتلوى، فانطلقت كراهية أن تنظر إليه، فنظرت في ما يليها من الأرض فلم تجد أقرب من الصفا، فانطلقت إليه حتى بلغت أعلاه، فقامت عليه، ثم استقبلت الوادي هل ترى من أحد فلم تر أحدا، فهبطت من الصفا حتى إذا بلغت الوادي سعت سعي الإنسان المجهود حتى جاوزت الوادي ثم أتت المروة، فقامت عليها ونظرت هل ترى من أحد فلم تر أحدا، وطفقت تسعى بين الصفا والمروة بحثا عن ماء أو بشر، حتى أتمت سبعة أشواط، فذلك سعي الناس اليوم بينهما، فلما أشرفت على المروة سمعت صوتا، فقالت: "صهِ"، تريد نفسها، ثم تسمعت أيضا فقالت: "قد أسمعت إن كان عندك غواث"، أي قد سمعت صوتك، فإن كان عندك ما يغيثني فأغثني، فإذا هي بمَلَك أرسله الله -عز وجل- عند موضع زمزم، فبحث بعقبه (وهو مؤخر قدمه) أو بجناحه في الأرض حتى ظهر الماء، فجعلت تحيطه بالتراب وتصنع له حوضا مخافة أن يفنى، وجعلت تغرف من الماء في سقائها وهو يفور، فشربت حتى ارتوت وارتوى إسماعيل عليه السلام، فقال لها الملك: "لا تخافوا الضيعة، فإن ها هنا بيت الله يبنيه هذا الغلام وأبوه وإن الله لا يضيع أهله"، وكان البيت مرتفعا من الأرض كالرابية، تأتيه السيول، فتأخذ عن يمينه وشماله، فكانت كذلك حتى مر بهم نفر من قبيلة (جُرْهُم)، فنزلوا في أسفل مكة، فرأوا طائرا حائما، فعرفوا أن بهذا الوادي ماء، وكانَ عهدهم به أنه واد مقفر، فأرسلوا رسولا من قبلهم، أو رسولين، فإذا هم بالماء، فرجعوا فأخبروهم به فأقبلوا، وأمُّ إسماعيل عند الماء، فقالوا: "أتأذنينَ لنا أن ننزل عندك؟" فأجابت أن نعم...

إن في هذه القصة لعبرا عديدة، ودروسا مفيدة، على رأسها التوكل على الله وإحسان الظن به، فمن حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (قال الله: أنا عند ظنِّ عبدي بي) [رواه البخاري]، فإن إحسان الظن بالله كان واضحا جليا في ترك إبراهيم -عليه السلام- أهله في واد غير ذي زرع، انعدمت فيه كل مقومات الحياة، متيقنا أن الله لن يضيع أهله، وأنه سيتكفل برزقهم وأنه خيرٌ حافظاً، وهو أرحم الراحمين، كما برز ذلك في كلام هاجر إذ قالت: "إذن لا يضيعنا"، فهي متيقنة أن الله إنما أمر إبراهيم -عليه السلام- بذلك لحكمة، محسنة ظنها به، ومنها كذلك التسليم المطلق لله -عز وجل- والرضا بقضائه، حيث أن نبي الله إبراهيم -عليه السلام- ترك أهله في الصحراء القاحلة حيث الموت محتَّم باعتبار انعدام الأسباب المادية للحياة، لكن تسليمه المطلق لأمر الله كان سببا في تركهم، فقفل راجعا بعد أن وصلوا إلى المكان الذي أمره الله أن يتركهم فيه، وكذلك أم إسماعيل، لما رأت المكان وانعدام الأنس والماء سألته مرارا مستنكرة: "يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه إنس ولا شيء؟"، فلما علمت أن الله أمره بذلك، أسلمت أمرها وخضعت لقضاء الله، متيقنة أن الله جاعل لها ولرضيعها مخرجا، فكان الله عند حسن ظنها به، وآنس وحشتها ورزقها من الطيبات.

إن قصص الأنبياء وأقوامهم فيها من الدروس ما نفعه دائم وخيره مستفيض، وإن أولي اللب إن قارنوا حالَهم بحالِهم تجلت لهم مسالك الخلاص مما هم فيه من بلاء محنة، وشق الله لهم في بحار الظلمات طريق النور، ورفعهم من دركات التيه إلى درجات الرشاد، فلا تحل بهم نازلة إلا وقد أنبأهم الله بدوائها، ولا يرون معضلة إلا وقد بين الله لهم حلها، {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص: 29].



* المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 104
الخميس 13 صفر 1439 ه‍ـ
...المزيد

السمع والطاعة (1) الحمد لله القوي المتين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وآله ...

السمع والطاعة (1)

الحمد لله القوي المتين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وآله وصحبه أجمعين، أما بعد...

مما هو معلوم لدى أهل السنة والجماعة وجوب السمع والطاعة، وهذا مما يتميز به أهل السنة والجماعة عن أهل البدع، قال ابن تيمية -رحمه الله- في الواسطية: "أهل السنة والجماعة هم الذين يتمسكون بكتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- قولاً وعملاً، ظاهراً وباطناً، على ما كان عليه السلف الصالح من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ويبتعدون عن البدع، ويرون السمع والطاعة لولاة الأمر في غير معصية، ويأمرون بالفضائل وينهون عن الرذائل".

فإن السمع والطاعة هي الركن الأول في البيعة، والحق الأعظم للإمام والأمير، قال عبادة بن الصامت: "دعانا النبي -صلى الله عليه وسلم- فبايعناه، فقال فيما أخذ علينا: أن بايعنا على السمع والطاعة، في منشطنا ومكرهنا، وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله، إلا أن تروا كفرا بواحا، عندكم من الله فيه برهان" [رواه البخار ي].

ولما كان للسمع والطاعة من الأهمية ما ذكرنا، كان بيان مفهومهما ضروريا للغاية، حتى لا يلتبس على الناس هذا المعنى العظيم الذي به ينتظم أمر دنياهم ويُحفظ عليهم دينهم القويم، فكانت هذه السلسلة (السمع والطاعة).


• وجوب السمع والطاعة:

إن مما انعقد عليه الإجماع وجوب السمع والطاعة، حتى أصبح السمع والطاعة علامة مميزة وفارقة لأهل السنة عن أهل البدع، بل أصبح السمع والطاعة يذكر في كتب عقائد أهل السنة.

قال ابن قدامة، رحمه الله: "ومن السنة: السمع والطاعة لأئمة المسلمين وأمراء المؤمنين -بَرِّهم وفاجرهم- ما لم يأمروا بمعصية الله، فإنه لا طاعة لأحد في معصية الله، ومن ولي الخلافة واجتمع عليه الناس ورضوا به، أو غلبهم بسيفه حتى صار الخليفة، وسمي أمير المؤمنين، وجبت طاعته وحرمت مخالفته والخروج عليه وشق عصا المسلمين" [لمعة الاعتقاد].

وقال ابن تيمية -رحمه الله- في الواسطية: "فطاعة الله ورسوله واجبة على كل أحد، وطاعة ولاة الأمور واجبة لأمر الله بطاعتهم، فمن أطاع الله ورسوله بطاعة ولاة الأمر لله فأجره على الله، ومن كان لا يطيعهم إلا لما يأخذه من الولاية والمال فإن أعطوه أطاعهم وإن منعوه عصاهم فما له في الآخرة من خلاق".

قال ابن رجب، رحمه الله: "أما السمع والطاعة لولاة أمور المسلمين، ففيها سعادة الدنيا، وبها تنتظم مصالح العباد في معايشهم، وبها يستعينون على إظهار دينهم، وطاعة ربهم".

وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله: "وأرى وجوب السمع والطاعة لأئمة المسلمين، بَرِّهم وفاجرهم ما لم يأمروا بمعصية اللَّه".

والأحاديث الصحيحة في هذا الباب كثيرة، ولم يقع خلل في دين الناس أو دنياهم إلا من الإخلال بهذه الوصية.

وقبل هذا جاء كلام الله ورسوله يؤكد وجوب السمع والطاعة، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء: 59]. قال ابن حجر: "قال ابن عيينة: سألت زيد بن أسلم عنها -أي عن أولي الأمر في هذه الآية- ولم يكن بالمدينة أحد يفسر القرآن بعد محمد بن كعب مثله، فقال: اقرأ ما قبلها تعرف، فقرأت: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمواْ بِالْعَدْل} [النساء: 58]. فقال: هذه في الولاة" [فتح الباري].

أما من السنة فالأحاديث كثيرة في وجوب السمع والطاعة للأئمة في غير معصية نذكر منها ما رواه البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- قال: "قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع أميرِي فقد أطاعَنِي، ومن عصى أميري فقد عصانِي).

ومنها ما رواه البخاري بسنده عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (اسمعوا وأطيعُوا، وإن استُعمل عليكم عبدٌ حبشيٌّ، كأنَّ رأسَه زبيبةٌ).

ومنها ما رواه مسلم عن عبد الله بن مسعود -رضي الله تعالى عنه- قال: "قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إنها ستكونُ بعدِي أثرةً وأمورٌ تُنكرونها). قالوا: "يا رسولَ اللهِ! كيف تأمر من أدركَ منّا ذلك؟" قال: (تُؤدّونَ الحقَّ الذي عليكُم، وتسألونَ اللهَ الذي لكُم)، إلى غير ذلك من الأحاديث الكثيرة الموجبة لطاعة الأئمة في غير معصية وإن جاروا.
حرمة مفارقة الجماعة:

إن الله لَمَّا أمر بالسمع والطاعة والجماعة، حَرَّم الخروج عنها والعصيان والتنازع، إذا لا يجوز لفرد أو جماعة الخروج على الإمام العادل، ومن خرج عليه وجب قتاله وقمعه، ورد شره وبغيه.

قال الله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات: 9]، وعن عرفجة -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يَقول: (من أتاكم، وأمركُم جميعٌ، على رجلٍ واحدٍ، يريدُ أن يشقُّ عصاكُم، أو يفرقَ جماعتكُم، فاقتلوهُ) [رواه مسلم].

وقال النبي، صلى الله عليه وسلم: (من رأى من أميرِه شيئاً يكرهُه فليصبر، فإنَّهُ ليس أحدٌ يُفارِقُ الجماعةَ شبراً فيموتُ، إلا مات ميتةَ جاهليةٍ) [متفق عليه]. قال الإمام البخاري، رحمه الله: "لقيت أكثر من ألف رجل من أهل العلم، أهل الحجاز ومكة والمدينة والكوفة والبصرة وواسط وبغداد والشام ومصر... -وذكر جماعة منهم ثم قال:- ما رأيت واحداً منهم يختلف في هذه الأشياء، فذكر أموراً منها: وأن لا ننازع الأمر أهله لقول النبي، صلى الله عليه وسلم: (ثلاث لا يَغِل عليهن قلب امرئ مسلم: إخلاص العمل لله، وطاعة ولاة الأمر، ولزوم جماعتهم، فإنَّ دعوتهم تحيط من ورائهم)". وقال أبو محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي: "سألت أبي وأبا زرعة عن مذهب أهل السنة في أصول الدين وما أدركا عليه العلماء في جميع الأمصار وما يعتقدان من ذلك؟ فقالا: أدركنا العلماء في جميع الأمصار حجازاً وعراقاً وشاماً ويمناً فكان من مذهبهم [...] فذكرا أموراً منها: ونقيم الجهاد والحج مع أئمة المسلمين في كل دهر وزمان، ولا نرى الخروج على الأئمة ولا القتال في الفتنة، ونسمع ونطيع لمن ولاه الله -عز وجل- أمرنا، ولا ننزع يداً من طاعة، ونتبع السنة والجماعة، ونجتنب الشذوذ والخلاف والفرقة، فإن الجهاد ماض مذ بعث الله -عز وجل- نبيه -عليه الصلاة والسلام- إلى قيام الساعة مع ولي الأمر من أئمة المسلمين لا يبطله شيء، والحج كذلك، ودفع الصدقات من السوائم إلى أولي الأمر من أئمة المسلمين".

وعن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (من خلع يداً من طاعةٍ، لقيَ اللهَ يومَ القيامةِ، لا حُجَّةَ له. ومن مات وليس في عُنُقِه بَيعةٌ، مات مِيتةً جاهليةً) [رواه مسلم].

فعلى المسلمين لزوم الجماعة لما تقدم ذكره، ولما في ذلك من عزة المسلمين ووحدتهم، وعليهم نبذ التنازع والفرقة والاختلاف، حتى لا يذهب ريحهم فيصيبهم الفشل، فتستباح بيضتهم وتباد خضراؤهم، والله أعلم، والحمد لله رب العالمين.



* المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 104
الخميس 13 صفر 1439 ه‍ـ
...المزيد

السمع والطاعة (1) الحمد لله القوي المتين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وآله ...

السمع والطاعة (1)

الحمد لله القوي المتين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وآله وصحبه أجمعين، أما بعد...

مما هو معلوم لدى أهل السنة والجماعة وجوب السمع والطاعة، وهذا مما يتميز به أهل السنة والجماعة عن أهل البدع، قال ابن تيمية -رحمه الله- في الواسطية: "أهل السنة والجماعة هم الذين يتمسكون بكتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- قولاً وعملاً، ظاهراً وباطناً، على ما كان عليه السلف الصالح من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ويبتعدون عن البدع، ويرون السمع والطاعة لولاة الأمر في غير معصية، ويأمرون بالفضائل وينهون عن الرذائل".

فإن السمع والطاعة هي الركن الأول في البيعة، والحق الأعظم للإمام والأمير، قال عبادة بن الصامت: "دعانا النبي -صلى الله عليه وسلم- فبايعناه، فقال فيما أخذ علينا: أن بايعنا على السمع والطاعة، في منشطنا ومكرهنا، وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله، إلا أن تروا كفرا بواحا، عندكم من الله فيه برهان" [رواه البخار ي].

ولما كان للسمع والطاعة من الأهمية ما ذكرنا، كان بيان مفهومهما ضروريا للغاية، حتى لا يلتبس على الناس هذا المعنى العظيم الذي به ينتظم أمر دنياهم ويُحفظ عليهم دينهم القويم، فكانت هذه السلسلة (السمع والطاعة).


• وجوب السمع والطاعة:

إن مما انعقد عليه الإجماع وجوب السمع والطاعة، حتى أصبح السمع والطاعة علامة مميزة وفارقة لأهل السنة عن أهل البدع، بل أصبح السمع والطاعة يذكر في كتب عقائد أهل السنة.

قال ابن قدامة، رحمه الله: "ومن السنة: السمع والطاعة لأئمة المسلمين وأمراء المؤمنين -بَرِّهم وفاجرهم- ما لم يأمروا بمعصية الله، فإنه لا طاعة لأحد في معصية الله، ومن ولي الخلافة واجتمع عليه الناس ورضوا به، أو غلبهم بسيفه حتى صار الخليفة، وسمي أمير المؤمنين، وجبت طاعته وحرمت مخالفته والخروج عليه وشق عصا المسلمين" [لمعة الاعتقاد].

وقال ابن تيمية -رحمه الله- في الواسطية: "فطاعة الله ورسوله واجبة على كل أحد، وطاعة ولاة الأمور واجبة لأمر الله بطاعتهم، فمن أطاع الله ورسوله بطاعة ولاة الأمر لله فأجره على الله، ومن كان لا يطيعهم إلا لما يأخذه من الولاية والمال فإن أعطوه أطاعهم وإن منعوه عصاهم فما له في الآخرة من خلاق".

قال ابن رجب، رحمه الله: "أما السمع والطاعة لولاة أمور المسلمين، ففيها سعادة الدنيا، وبها تنتظم مصالح العباد في معايشهم، وبها يستعينون على إظهار دينهم، وطاعة ربهم".

وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله: "وأرى وجوب السمع والطاعة لأئمة المسلمين، بَرِّهم وفاجرهم ما لم يأمروا بمعصية اللَّه".

والأحاديث الصحيحة في هذا الباب كثيرة، ولم يقع خلل في دين الناس أو دنياهم إلا من الإخلال بهذه الوصية.

وقبل هذا جاء كلام الله ورسوله يؤكد وجوب السمع والطاعة، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء: 59]. قال ابن حجر: "قال ابن عيينة: سألت زيد بن أسلم عنها -أي عن أولي الأمر في هذه الآية- ولم يكن بالمدينة أحد يفسر القرآن بعد محمد بن كعب مثله، فقال: اقرأ ما قبلها تعرف، فقرأت: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمواْ بِالْعَدْل} [النساء: 58]. فقال: هذه في الولاة" [فتح الباري].

أما من السنة فالأحاديث كثيرة في وجوب السمع والطاعة للأئمة في غير معصية نذكر منها ما رواه البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- قال: "قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع أميرِي فقد أطاعَنِي، ومن عصى أميري فقد عصانِي).

ومنها ما رواه البخاري بسنده عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (اسمعوا وأطيعُوا، وإن استُعمل عليكم عبدٌ حبشيٌّ، كأنَّ رأسَه زبيبةٌ).

ومنها ما رواه مسلم عن عبد الله بن مسعود -رضي الله تعالى عنه- قال: "قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إنها ستكونُ بعدِي أثرةً وأمورٌ تُنكرونها). قالوا: "يا رسولَ اللهِ! كيف تأمر من أدركَ منّا ذلك؟" قال: (تُؤدّونَ الحقَّ الذي عليكُم، وتسألونَ اللهَ الذي لكُم)، إلى غير ذلك من الأحاديث الكثيرة الموجبة لطاعة الأئمة في غير معصية وإن جاروا.
حرمة مفارقة الجماعة:

إن الله لَمَّا أمر بالسمع والطاعة والجماعة، حَرَّم الخروج عنها والعصيان والتنازع، إذا لا يجوز لفرد أو جماعة الخروج على الإمام العادل، ومن خرج عليه وجب قتاله وقمعه، ورد شره وبغيه.

قال الله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات: 9]، وعن عرفجة -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يَقول: (من أتاكم، وأمركُم جميعٌ، على رجلٍ واحدٍ، يريدُ أن يشقُّ عصاكُم، أو يفرقَ جماعتكُم، فاقتلوهُ) [رواه مسلم].

وقال النبي، صلى الله عليه وسلم: (من رأى من أميرِه شيئاً يكرهُه فليصبر، فإنَّهُ ليس أحدٌ يُفارِقُ الجماعةَ شبراً فيموتُ، إلا مات ميتةَ جاهليةٍ) [متفق عليه]. قال الإمام البخاري، رحمه الله: "لقيت أكثر من ألف رجل من أهل العلم، أهل الحجاز ومكة والمدينة والكوفة والبصرة وواسط وبغداد والشام ومصر... -وذكر جماعة منهم ثم قال:- ما رأيت واحداً منهم يختلف في هذه الأشياء، فذكر أموراً منها: وأن لا ننازع الأمر أهله لقول النبي، صلى الله عليه وسلم: (ثلاث لا يَغِل عليهن قلب امرئ مسلم: إخلاص العمل لله، وطاعة ولاة الأمر، ولزوم جماعتهم، فإنَّ دعوتهم تحيط من ورائهم)". وقال أبو محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي: "سألت أبي وأبا زرعة عن مذهب أهل السنة في أصول الدين وما أدركا عليه العلماء في جميع الأمصار وما يعتقدان من ذلك؟ فقالا: أدركنا العلماء في جميع الأمصار حجازاً وعراقاً وشاماً ويمناً فكان من مذهبهم [...] فذكرا أموراً منها: ونقيم الجهاد والحج مع أئمة المسلمين في كل دهر وزمان، ولا نرى الخروج على الأئمة ولا القتال في الفتنة، ونسمع ونطيع لمن ولاه الله -عز وجل- أمرنا، ولا ننزع يداً من طاعة، ونتبع السنة والجماعة، ونجتنب الشذوذ والخلاف والفرقة، فإن الجهاد ماض مذ بعث الله -عز وجل- نبيه -عليه الصلاة والسلام- إلى قيام الساعة مع ولي الأمر من أئمة المسلمين لا يبطله شيء، والحج كذلك، ودفع الصدقات من السوائم إلى أولي الأمر من أئمة المسلمين".

وعن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (من خلع يداً من طاعةٍ، لقيَ اللهَ يومَ القيامةِ، لا حُجَّةَ له. ومن مات وليس في عُنُقِه بَيعةٌ، مات مِيتةً جاهليةً) [رواه مسلم].

فعلى المسلمين لزوم الجماعة لما تقدم ذكره، ولما في ذلك من عزة المسلمين ووحدتهم، وعليهم نبذ التنازع والفرقة والاختلاف، حتى لا يذهب ريحهم فيصيبهم الفشل، فتستباح بيضتهم وتباد خضراؤهم، والله أعلم، والحمد لله رب العالمين.



* المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 104
الخميس 13 صفر 1439 ه‍ـ
...المزيد

قصة شهيد: من جبال خراسان إلى ربوع الشام الشيخ المجاهد عبد الحكيم التتري: ‘‘أريد الوصول إلى ...

قصة شهيد:
من جبال خراسان إلى ربوع الشام

الشيخ المجاهد عبد الحكيم التتري: ‘‘أريد الوصول إلى أرض الخلافة والعيش فيها ولو أياماً فقط’’

"يكفيني أن أعيش في أرض الخلافة 4 أيام فقط، وإن قتلت بعد ذلك فقد حققت ما أريد"، عبارة كررها عشرات المرات عندما حاول أهله ثنيه عن الهجرة من خراسان إلى أرض الخلافة في العراق والشام، وبعد وصوله بأربعة أيام طلب المشاركة في غزوة كان يعد لها جنود الخلافة في بيجي، فقالت له زوجته ومن حوله: "انتظر يا شيخ حتى ترتاح من مشقة الطريق ووعثاء السفر"، فقال: "راحتي في ذلك"، وألحّ على إخوانه حتى شارك في الغزوة وقتل فيها، تقبله الله.

لقد صدق الله في طلبه فنال ما أراد، وهو الذي قاتل الكفار والمرتدين طيلة 8 أعوام في خراسان، كان ليناً مرحاً محبوباً من قبل إخوانه جميعا، كان أحدهم إذا جاءت نوبة رباطه في نقطة، سأل عن الموجودين في هذه النقطة فيقولون له فلان وفلان وفلان، فإذا علم بوجود الشيخ فيها سارع إليها فرحا مسرورا وإذا لم يجده بحث عنه.

كان أحد أكبر المحرضين على الجهاد في أرض الروس من خلال كلماته وتسجيلاته التي كانت دافعا كبيرا في هجرة العديد من الإخوة الروس إلى ساحات الجهاد.

إنه الشيخ المجاهد عبد الحكيم التتري -تقبله الله- صاحب 53 عاما، روسي الأصل، هاجر من أرض الروس الصليبيين إلى أرض خراسان قبل 15 عاما، والتحق بإخوانه بالحركة الإسلامية الأوزبكية في وزيرستان، التي بايعت خليفة المسلمين بعد إعلان الخلافة، وانضم جنودها لجنود الدولة الإسلامية في خراسان.

لم يكن الشيخ في مقتبل عمره ملتزما بأوامر الله ومنتهيا عن نواهيه، وكان له أخ من أمه قد عرف طريق الجهاد، وكان كثيرا ما يحدثه عن الجهاد في سبيل الله وفضله وما أعد الله للمجاهدين، حتى جاء الوقت الذي هدى الله فيه قلبه لدينه وللجهاد في سبيله، فعزم على الهجرة، والتحق بإخوانه في وزيرستان وأصبح جنديا في صفوف الحركة الأوزبكية الإسلامية، وجمع -رحمه الله- بين شقي الجهاد، جهاد اللسان وجهاد السنان، حيث كان يحرض المسلمين على النفير في سبيل الله من خلال كلماته الصوتية وتسجيلاته المصورة، ومن خلال قتاله ورباطه ضد المرتدين والكفار وأعوانهم.

وعن هجرته من أرض خراسان فور إعلان الخلافة إلى أرض الدولة الإسلامية، يحدثنا ابنه الذي كان معه في خراسان بقوله: "عندما أُعلنت الخلافة، عزم والدي أمره، وقال جهزوا أنفسكم سنهاجر إلى أرض الشام ونلتحق بركب الخلافة، فقلت له: "يا أبي هنا جهاد وهناك جهاد، والطريق طويلة واحتمال الأسر وارد جدا، ويجب علينا أن نجتاز حدود دول عديدة، ولا نملك جوازات للسفر أو بطاقات رسمية، إضافة إلى أننا لا نملك المال الكافي للوصول إلى الشام" فأجابني أبي: "الآن أعلنت الخلافة، وكم انتظرنا هذا اليوم، هل تعرف كم سنة انتظرناها؟! والآن عندما أُعلنت نتخلى عنها ولا نلتحق بركبها؟! لا يوجد أمامي هدف في أيامي القادمة سوى الوصول لأرض دولة الإسلام والالتحاق بالركب، ولن يستطيع أحد منعي من الالتحاق بها، فيكفيني أن أعيش فيها عدة أيام حتى وإن قتلت في أول غزوة أشارك بها".

وما هي إلا أيام حتى عزم الشيخ وزوجته وابنهما أمرهم مع عدد من الإخوة الآخرين وجهزوا أنفسهم للهجرة في سبيل الله، وجمعوا ما استطاعوا من المال، الذي قُدِّر بـ 900 دولار للشخص الواحد مع أن تكلفة الطريق للشخص كانت تزيد على 2000 دولار.

ومع فجر أحد الأيام، انطلقت المجموعة الصغيرة المهاجرة في سبيل الله إلى أرض الخلافة، من وزيرستان إلى أفغانستان وبعدها إلى باكستان، مرورا بدولة الروافض المشركين إيران، وصولا إلى تركيا، ليستريحوا عدة أيام ثم يكملوا طريقهم ويدخلوا أرض الشام بعد أكثر من شهرين منذ انطلاقتهم من وزيرستان.

وما أشق الطريق وأطوله، ويكفي فقط أن نعرف أنهم استقلوا أكثر من 50 سيارة منذ انطلاقهم، وركبوا العديد من الدراجات النارية في الطرق التي لا تسير فيها السيارات بين الجبال أثناء تنقلهم، ومشوا عشرات الكيلومترات على أرجلهم خلال عبورهم الحدود، وظلوا يوما كاملا مختبئين داخل صناديق خشبية حتى تمكنوا من عبور أحد الحواجز، وعادوا عدة مرات قبل ذلك.

ولاقوا ما لاقوا من أذى بسبب كذب المهربين، والخوف الذي عاشوه من كشف أمرهم للدرك والشرطة من الكفار والمرتدين، خاصة وأن الشيخ أحد أهم المطلوبين لدولة روسيا الصليبية، وصورته موزعة معروفة، إضافة إلى أن له العديد من الإصدارات التي يُحرض فيها على الجهاد وصورته واضحة بها، ورغم كل ذلك فلقد كانت رعاية الله وحفظه معهم.

وكانت الرحلة كذلك وبحسب أحد الإخوة في المجموعة أمتع رحلة في حياتهم بسبب وجود الشيخ معهم الذي كان كثير المزاح، ودائم السعادة والبهجة والذي كان يُحوّل أصعب المواقف وأحزنها إلى لطيفة ممتعة.
وهناك في تركيا، تذكّر الشيخ والدته التي قاربت الثمانين عاما، فلم يشأ أن ينعم بالهجرة والعيش في أرض الخلافة دونها، فاتصل بها وقال: "أمي، أنا الآن في تركيا وأريد أن أراك لأني سأذهب إلى مكان ربما لا أستطيع -أو لا أودُّ- العودة منه، تعالي هنا نلتقي عدة أيام ثم تعودين"، وجاءت الأم والتقت بابنها، فما كان منه إلا أن أقنعها باستكمال طريق الهجرة معه وهو ما كان، ولا تزال الأم في أرض الدولة الإسلامية إلى يومنا هذا.

وبعد التقائه بوالدته تواصل مع أحد الإخوة في تركيا لينسق له دخوله، فطلبوا منه الجلوس والصبر ريثما يأتي دوره للدخول وعبور الحدود، حيث أن هناك عشرات الإخوة يريدون الدخول والأمر يتطلب تدابيرا وجهدا لتأمين الطريق لهم، فرفض وقال: "أريد الدخول اليوم"، فقالوا: "يجب أن تنتظر دورك يا شيخ"، فأجابهم: "اليوم دوري"، وأصر على طلبه فعندما شاهد الإخوة إصراره أدخلوه بعد يومين أو ثلاثة، وكان بعض الإخوة ينتظرون دورهم أكثر من شهر.

وبعد دخوله برفقه عائلة أخرى صغيرة بيومين، سأل عن أقرب غزوة يُعد لها جنود الدولة الإسلامية فقالوا له في بيجي، فحزم حقيبته الصغيرة واتجه إلى المعسكر لتوديع ابنه الوحيد فلم يتمكن من رؤيته، فاتجه إلى بيجي، ليبلُغ زوجتَه خبرُ استشهاده بعد أيام، قُتل -رحمه الله- دون أن يعلم أحد من الجنود الذين كانوا معه في الغزوة من هذا الرجل الغريب المُسن صاحب الهمة العالية الذي دخل الغزوة معهم ولا يعرفون عنه شيئا -تقبله الله- وأسكنه فسيح جنانه.



* المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 104
الخميس 13 صفر 1439 ه‍ـ
...المزيد

قصة شهيد: من جبال خراسان إلى ربوع الشام الشيخ المجاهد عبد الحكيم التتري: ‘‘أريد الوصول إلى أرض ...

قصة شهيد:
من جبال خراسان إلى ربوع الشام

الشيخ المجاهد عبد الحكيم التتري: ‘‘أريد الوصول إلى أرض الخلافة والعيش فيها ولو أياماً فقط’’

"يكفيني أن أعيش في أرض الخلافة 4 أيام فقط، وإن قتلت بعد ذلك فقد حققت ما أريد"، عبارة كررها عشرات المرات عندما حاول أهله ثنيه عن الهجرة من خراسان إلى أرض الخلافة في العراق والشام، وبعد وصوله بأربعة أيام طلب المشاركة في غزوة كان يعد لها جنود الخلافة في بيجي، فقالت له زوجته ومن حوله: "انتظر يا شيخ حتى ترتاح من مشقة الطريق ووعثاء السفر"، فقال: "راحتي في ذلك"، وألحّ على إخوانه حتى شارك في الغزوة وقتل فيها، تقبله الله.

لقد صدق الله في طلبه فنال ما أراد، وهو الذي قاتل الكفار والمرتدين طيلة 8 أعوام في خراسان، كان ليناً مرحاً محبوباً من قبل إخوانه جميعا، كان أحدهم إذا جاءت نوبة رباطه في نقطة، سأل عن الموجودين في هذه النقطة فيقولون له فلان وفلان وفلان، فإذا علم بوجود الشيخ فيها سارع إليها فرحا مسرورا وإذا لم يجده بحث عنه.

كان أحد أكبر المحرضين على الجهاد في أرض الروس من خلال كلماته وتسجيلاته التي كانت دافعا كبيرا في هجرة العديد من الإخوة الروس إلى ساحات الجهاد.

إنه الشيخ المجاهد عبد الحكيم التتري -تقبله الله- صاحب 53 عاما، روسي الأصل، هاجر من أرض الروس الصليبيين إلى أرض خراسان قبل 15 عاما، والتحق بإخوانه بالحركة الإسلامية الأوزبكية في وزيرستان، التي بايعت خليفة المسلمين بعد إعلان الخلافة، وانضم جنودها لجنود الدولة الإسلامية في خراسان.

لم يكن الشيخ في مقتبل عمره ملتزما بأوامر الله ومنتهيا عن نواهيه، وكان له أخ من أمه قد عرف طريق الجهاد، وكان كثيرا ما يحدثه عن الجهاد في سبيل الله وفضله وما أعد الله للمجاهدين، حتى جاء الوقت الذي هدى الله فيه قلبه لدينه وللجهاد في سبيله، فعزم على الهجرة، والتحق بإخوانه في وزيرستان وأصبح جنديا في صفوف الحركة الأوزبكية الإسلامية، وجمع -رحمه الله- بين شقي الجهاد، جهاد اللسان وجهاد السنان، حيث كان يحرض المسلمين على النفير في سبيل الله من خلال كلماته الصوتية وتسجيلاته المصورة، ومن خلال قتاله ورباطه ضد المرتدين والكفار وأعوانهم.

وعن هجرته من أرض خراسان فور إعلان الخلافة إلى أرض الدولة الإسلامية، يحدثنا ابنه الذي كان معه في خراسان بقوله: "عندما أُعلنت الخلافة، عزم والدي أمره، وقال جهزوا أنفسكم سنهاجر إلى أرض الشام ونلتحق بركب الخلافة، فقلت له: "يا أبي هنا جهاد وهناك جهاد، والطريق طويلة واحتمال الأسر وارد جدا، ويجب علينا أن نجتاز حدود دول عديدة، ولا نملك جوازات للسفر أو بطاقات رسمية، إضافة إلى أننا لا نملك المال الكافي للوصول إلى الشام" فأجابني أبي: "الآن أعلنت الخلافة، وكم انتظرنا هذا اليوم، هل تعرف كم سنة انتظرناها؟! والآن عندما أُعلنت نتخلى عنها ولا نلتحق بركبها؟! لا يوجد أمامي هدف في أيامي القادمة سوى الوصول لأرض دولة الإسلام والالتحاق بالركب، ولن يستطيع أحد منعي من الالتحاق بها، فيكفيني أن أعيش فيها عدة أيام حتى وإن قتلت في أول غزوة أشارك بها".

وما هي إلا أيام حتى عزم الشيخ وزوجته وابنهما أمرهم مع عدد من الإخوة الآخرين وجهزوا أنفسهم للهجرة في سبيل الله، وجمعوا ما استطاعوا من المال، الذي قُدِّر بـ 900 دولار للشخص الواحد مع أن تكلفة الطريق للشخص كانت تزيد على 2000 دولار.

ومع فجر أحد الأيام، انطلقت المجموعة الصغيرة المهاجرة في سبيل الله إلى أرض الخلافة، من وزيرستان إلى أفغانستان وبعدها إلى باكستان، مرورا بدولة الروافض المشركين إيران، وصولا إلى تركيا، ليستريحوا عدة أيام ثم يكملوا طريقهم ويدخلوا أرض الشام بعد أكثر من شهرين منذ انطلاقتهم من وزيرستان.

وما أشق الطريق وأطوله، ويكفي فقط أن نعرف أنهم استقلوا أكثر من 50 سيارة منذ انطلاقهم، وركبوا العديد من الدراجات النارية في الطرق التي لا تسير فيها السيارات بين الجبال أثناء تنقلهم، ومشوا عشرات الكيلومترات على أرجلهم خلال عبورهم الحدود، وظلوا يوما كاملا مختبئين داخل صناديق خشبية حتى تمكنوا من عبور أحد الحواجز، وعادوا عدة مرات قبل ذلك.

ولاقوا ما لاقوا من أذى بسبب كذب المهربين، والخوف الذي عاشوه من كشف أمرهم للدرك والشرطة من الكفار والمرتدين، خاصة وأن الشيخ أحد أهم المطلوبين لدولة روسيا الصليبية، وصورته موزعة معروفة، إضافة إلى أن له العديد من الإصدارات التي يُحرض فيها على الجهاد وصورته واضحة بها، ورغم كل ذلك فلقد كانت رعاية الله وحفظه معهم.

وكانت الرحلة كذلك وبحسب أحد الإخوة في المجموعة أمتع رحلة في حياتهم بسبب وجود الشيخ معهم الذي كان كثير المزاح، ودائم السعادة والبهجة والذي كان يُحوّل أصعب المواقف وأحزنها إلى لطيفة ممتعة.
وهناك في تركيا، تذكّر الشيخ والدته التي قاربت الثمانين عاما، فلم يشأ أن ينعم بالهجرة والعيش في أرض الخلافة دونها، فاتصل بها وقال: "أمي، أنا الآن في تركيا وأريد أن أراك لأني سأذهب إلى مكان ربما لا أستطيع -أو لا أودُّ- العودة منه، تعالي هنا نلتقي عدة أيام ثم تعودين"، وجاءت الأم والتقت بابنها، فما كان منه إلا أن أقنعها باستكمال طريق الهجرة معه وهو ما كان، ولا تزال الأم في أرض الدولة الإسلامية إلى يومنا هذا.

وبعد التقائه بوالدته تواصل مع أحد الإخوة في تركيا لينسق له دخوله، فطلبوا منه الجلوس والصبر ريثما يأتي دوره للدخول وعبور الحدود، حيث أن هناك عشرات الإخوة يريدون الدخول والأمر يتطلب تدابيرا وجهدا لتأمين الطريق لهم، فرفض وقال: "أريد الدخول اليوم"، فقالوا: "يجب أن تنتظر دورك يا شيخ"، فأجابهم: "اليوم دوري"، وأصر على طلبه فعندما شاهد الإخوة إصراره أدخلوه بعد يومين أو ثلاثة، وكان بعض الإخوة ينتظرون دورهم أكثر من شهر.

وبعد دخوله برفقه عائلة أخرى صغيرة بيومين، سأل عن أقرب غزوة يُعد لها جنود الدولة الإسلامية فقالوا له في بيجي، فحزم حقيبته الصغيرة واتجه إلى المعسكر لتوديع ابنه الوحيد فلم يتمكن من رؤيته، فاتجه إلى بيجي، ليبلُغ زوجتَه خبرُ استشهاده بعد أيام، قُتل -رحمه الله- دون أن يعلم أحد من الجنود الذين كانوا معه في الغزوة من هذا الرجل الغريب المُسن صاحب الهمة العالية الذي دخل الغزوة معهم ولا يعرفون عنه شيئا -تقبله الله- وأسكنه فسيح جنانه.



* المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 104
الخميس 13 صفر 1439 ه‍ـ
...المزيد

الدولة الإسلامية - صحيفة النبأ 104: الافتتاحية: الصبر واليقين حلة الصادقين إن أعظم الناس ...

الدولة الإسلامية - صحيفة النبأ 104:
الافتتاحية:

الصبر واليقين حلة الصادقين

إن أعظم الناس إيمانا، هو أعظمهم يقينا بالله -تعالى- أنه الإله الواحد الحق المستحق للعبادة، وأن دينه العظيم فوق جميع الأديان الباطلة، وبرهان ذلك اليقين الذي لا شك فيه هو قتال من كفر بالله وعدل معه غيره واستبدل بدينه أديان البشر الآسنة، وهذا اليقين هو من أعمال القلوب الجليلة التي لا يصح الإيمان إلا بها، وهو أحد الشروط التي لا بد منها لصحة كلمة التوحيد، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (من مات يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، موقنا من قلبه دخل الجنة) [رواه النسائي].

وهذا اليقين هو الذي يدفع صاحبه للمطاولة في طريق الدعوة إلى الله بالسيف والسنان والحجة والبيان، مع ما فيه من شدة البلاء وعظيم الخطب والزلزلة، وملاقاة الكفار والزحوف، واعتلاء مراكب المنايا والحتوف، إنه اليقين الذي يدفع صاحبه للصبر على كل ذلك، فلا يجد صاحبه بُدا من المطاولة والسعي الحثيث لنصرة الدين، ومرضاة رب العالمين، وهذا هو الإيمان الذي يتدرج بصاحبه حتى يصل إلى حق اليقين ثم عين اليقين، وأعظم الناس يقينا هم الرسل، لأنهم هم من تجري على أيديهم المعجزات وتتنزل عليهم الآيات، ولذلك عندما شكى خباب إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ما يلاقونه من أذى المشركين وطلب منه الدعاء والنصرة، كشف له النبي -صلى الله عليه وسلم- ما لاقاه الجيل الأول من أتباع كل رسول من الصبر العظيم على دين الله، وما هذا الصبر إلا من قوة الإيمان بالله -سبحانه- واليقين بوعده، والرضى بتلك المصائب في ذات الله، فعن خباب بن الأرتِّ -رضي الله عنه- قال: شكونا إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، فقلنا: ألا تستنصر لنا، ألا تدعو لنا؟ فقال: (قد كان من قبلكم، يُؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض، فيجعل فيها، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيُجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، فما يصده ذلك عن دينه، والله لَيُتمَّنَّ هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله، والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون) [رواه البخاري].

وهكذا يأتي الجيل بعد ذاك الجيل المبتلى الذي قامت عليه الدعوة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ممن أنعم الله عليهم بالإيمان والصبر واليقين، فيكون فضلهم على قدر ما هم عليه من يقين وتحمل وتصبر في القيام بأمر الله تعالى، وبهذه المعايير يكون التفاضل والدرجة في الجنة، فأخبرنا الله -تعالى- عن التفاضل بين بعض أجيال الصحابة الكرام، وأن درجة من أنفق وقاتل قبل فتح مكة ليس كمن آمن وقاتل بعد الفتح، وهؤلاء الصحابة الكرام -رضي الله عنهم- بمجموعهم ممن سبق ولحق، هم من أعظم الناس إيمانا واتباعا للنبي -صلى الله عليه وسلم- ويقينا وبلاء في سبيل الله، ولذلك هم خير القرون، وعندما ارتدت العرب وانحسرت رقعة الدولة في مكة والمدينة، ظهر مِن حُسن بلائِهم وجهادهم ما يدل على هذه الخيرية، فألقوا بأنفسهم في أتون حرب ضروس، ضَرَستْ أهل الردة وكسرت شوكتهم، وكانوا من أكثر الناس بذلا للدماء والأشلاء، وقُتل في وقعة اليمامة سبعون من قراء الصحابة، وهي وقعة واحدة من وقعات كثيرة، مما حدا بالصدّيق -رضي الله عنه- أن يجمع القرآن خشية أن يضيع منه شيء، أولئك هم جيل الهداة المهتدين، الذين نالوا الإمامة في الدين بالصبر واليقين، اليقين بوحدانية الله والحساب والجنة والنار، اليقين برضوان الله وتحقيق وعده، اليقين بكفر الطواغيت وأتباعهم وجندهم وأنصارهم من صليبيين ومرتدين، والصبر على نتائج القتال مهما عظمت، ولذلك تجد من المجاهدين اليوم من يذكرك بفعل أنس بن النضر -رضي الله عنه- يوم أحد وهو ممن عظم إيمانه ويقينه، فشقّ طريقه إلى ربه موقنا صابرا محتسبا مقبلا عليه قائلا حين فرّ الناس: "واها لريح الجنة، أجدها دون أحد"، وما أعجب تلك الكلمات، إنها كلمة تلهُّف وحنين للجنة، فهنيئا لمن سار على خطاه، وحث الخطى إلى دار السعادة والكرامة، فإن أعظم الناس إيمانا ويقينا من يقبل على ربه حين يدبر الناس، وينكلوا عن هذا الخير العظيم.


* المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 104
الخميس 13 صفر 1439 ه‍ـ
...المزيد
يتم الآن تحديث اوقات الصلاة ...
00:00:00 يتبقى على
19 محرم 1447
الفجر 00:00 الظهر 00:00 العصر 00:00 المغرب 00:00 العشاء 00:00

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً