قصص من جهاد النساء 1
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد:
فقد ذكرنا في المقالة سابقا نموذجا من نساء القرن الأول المبارك، وكيف شاركن بأنفسهن في المعارك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتحملن في سبيل ذلك الصعاب.
وسنعرض في هذه المقالة جانبا من تحريضهن وصبرهن عند المصائب، كأمثلة نسوقها لك أيتها المجاهدة لتكون سلوى لك عند المصائب، وزادا على طريق الجهاد والمتاعب.
• أم سليم الأنصارية (رضي الله عنها) تذود عن نفسها بخنجر
فلك -أختي المسلمة- مثال واضح من أفعال الصحابية الجليلة تنبيك عن استعدادها للجهاد والدفاع عن دينها وعرضها، إنها أم سليم رضي الله عنها، تلك المرأة التي تميزت بقوة القلب في سبيل نصر دين الله، وخاطرت بنفسها ودخلت ميدان المعركة واستعدت لمواجهة الرجال، كل ذلك بسبب حبها للدين ونصر الإسلام، فعن أنس، أن أم سليم اتخذت يوم حنين خنجرا، فكان معها، فرآها أبو طلحة، فقال: يا رسول الله، هذه أم سليم معها خنجر، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما هذا الخنجر؟) قالت: اتخذته إن دنا مني أحد من المشركين، بقرت به بطنه، فجعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يضحك" [رواه مسلم].
• صفية (رضي الله عنها) تقتل يهودياً
وهاك أختي المجاهدة صحابية أخرى عندها من قوة القلب ما نحتاجه في كثير من نساء المسلمين، ولا نظن أن رجلاً يعلم أن وراءه مثلها فينكص عن الجهاد والإقدام، وهذا النموذج هو صفية بنت عبد المطلب عمةُ النبي -صلى الله عليه وسلم- فعندما رقى أحد اليهود الحصن الذي فيه النساء والذرية كانت له بالمرصاد، قال ابن سعد في طبقاته: "فأخذت عموداً فنزلت فختلته حتّى فتحت الباب قليلا قليلا، ثمّ حملت عليه فضربته بالعمود فقتلته".
ولك أختي المسلمة المجاهدة جانبا من تحريض صفية -رضي الله عنها- للرجال على القتال إذ لم تقتصر على التحريض بلسانها فقط، بل بفعالها أيضاً، قال ابن سعد: "عن هشام بن عروة، أنّ صفيّة بنت عبد المطّلب جاءت يوم أحد وقد انهزم النّاس وبيدها رمح تضرب في وجوه النّاس وتقول: انهزمتم عن رسول اللّه..." [الطبقات الكبرى].
• صبر صفية (رضي الله عنها)
وأما صبرها على المصيبة واحتسابها فهي جبل أشم، قال الإمام الطبري: "قال ابن إسحاق: وأقبلت -فيما بلغني- صفيّة بنت عبد المطّلب لتنظر إلى حمزة، وكان أخاها لأبيها وأمّها، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لابنها الزّبير بن العوّام: (القها فأرجعها، لا ترى ما بأخيها)، فلقيها الزّبير فقال لها: يا أمه، إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يأمرك أن ترجعي، فقالت: ولم، وقد بلغني أنّه مثّل بأخي وذلك في اللّه قليل! فما أرضانا بما كان من ذلك! لأحتسبنّ ولأصبرنّ إن شاء اللّه، فلمّا جاء الزّبير رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأخبره بذلك، قال: خلّ سبيلها، فأتته فنظرت إليه وصلّت عليه، واسترجعت واستغفرت له" [تاريخ الطبري].
• قتلت تسعة من الروم بعمود
وهذه قدوة أخرى لك في الفداء والإقدام، وهي أسماء بنت يزيد بن السكن بنت عم معاذ بن جبل رضي الله عنه، قال عنها الذهبي: "من المبايعات المجاهدات، وقتلت بعمود خبائها يوم اليرموك تسعة من الروم" [سير أعلام النبلاء].
ولكل أخت مجاهدة نقول: إن لم تستطيعي أن تفعلي فعل أسماء بنت يزيد فلا أقل من أن تدافعي عن نفسك إذا دهمك خطر الكفار والمرتدين فلا عذر لك حينئذ من القتال والمدافعة.
• زوجها يستشهد بعد سبعة أيام من زواجها
ولك أختي المسلمة في أم حكيم بنت الحارث عبرة، زوج عكرمة بن أبي جهل رضي الله عنه، وكيف تعالت على مصيبتها في زوجها، وتزوجت فارسا آخر وقاتلت معه في سبيل الله، ولكنه لم يبق معها سوى أيام وارتقى شهيدا، قال الذهبي: "وقال سعيد بن عبد العزيز: التقوا على النّهر عند الطّاحونة، فقتلت الرّوم يومئذ حتّى جرى النهر وطحنت طاحونتها بدمائهم فأنزل النّصر، وقتلت يومئذ أمّ حكيم سبعةً من الرّوم بعمود فسطاطها، وكانت تحت عكرمة بن أبي جهل، ثمّ تزوّجها خالد بن سعيد بن العاص، قال محمّد بن شعيب: فلم تقم معه إلّا سبعة أيّام" [تاريخ الإسلام].
• امرأة طلبت لقاء ربها
وهذه أختي في الله قدوة أخرى لك، أحبت لقاء ربها وطلب المنازل العلا فكانت من أهلها، إنها أم حرام رضي الله عنها، وهي من محارم النبي -صلى الله عليه وسلم- باتفاق العلماء، فقيل أنها خالته من الرضاعة وقيل خالة أبيه، فعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: كان رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- إذا ذهبَ إلى قُباء يدخل على أمِّ حرام بنتِ مِلْحَان فتُطعمُه، وكانت تحت عُبادة بن الصامت، فدخل عليها رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- يوماً فأطْعَمَتْه، فنام رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- ثم استيقظ وهو يضحك، قالت: فقلت: ما يُضْحِكك يا رسول الله؟ قال: ناسٌ من أمتي عُرِضوا عليَّ غُزَاة في سبيل الله، يركبون ثَبَجَ هذا البحر، مُلوكاً على الأسِرَّة -أو قال: مثلَ الملوك على الأسِرَّةِ- قالت: فقلت: يا رسول الله، ادْعُ الله أن يجعلني منهم، فدعا لها رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ثم وضع رأسه فنام، ثم استيقظ وهو يضحك، قالت :فقلتُ: ما يُضْحِكُك يا رسول الله؟ قال: ناسٌ من أمتي عُرِضوا عليَّ غزاة في سبيل الله -كما قال في الأولى- قالت: فقلت: يا رسول الله، ادْعُ الله أن يجعلَني منهم، قال: أنت من الأولين، فركبت أمُّ حرام بنت مِلْحان البحرَ في زمن معاوية بن أبي سفيان، رضي الله عنهما، فصُرِعت عن دابتها حين خرجت من البحر، فَهَلَكَت" [متفق عليه].
وكان ذلك في جزيرة قبرص حيث غزت أم حرام مع زوجها عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- وكانوا في جيش أمير المؤمنين معاوية رضي الله عنه، قال ابن الأثير: "وفي هذه الغزوة ماتت أمّ حرام بنت ملحان الأنصاريّة، ألقتها بغلتها بجزيرة قبرص فاندقّت عنقها فماتت، تصديقًا للنبي، صلى الله عليه وسلم، حيث أخبرها أنّها في أوّل من يغزو في البحر" [الكامل في التاريخ].
هذه أختي الكريمةَ أمُّ حرامٍ -رضي الله عنها- تشوقَت إلى مشاركة المجاهدين في أفعالهم وأجرِهم، فسألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يدعوَ لها لتكون من الغزاة في سبيل الله، وأن تكون النفر الذين هم مثل الملوك على الأسرة، وما كان هذا السؤال منها إلا لأن قلبها قد امتلأ بحب الله ورسوله والجهاد في سبيله، فاسترخصت النفس في مقابل ذلك، فرحمها الله ورضي عنها وأسكنها فسيح جناته. ...المزيد
مساعدة
الإبلاغ عن المادة
تعديل تدوينة
قصص من جهاد النساء 1 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين، ...
قصص من جهاد النساء 1
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد:
فقد ذكرنا في المقالة ...المزيد
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد:
فقد ذكرنا في المقالة ...المزيد
علاج مرض القلب من استيلاء النفس عليه قال ابن قيم الجوزية في كتاب (إغاثة اللهفان من مصايد ...
علاج مرض القلب من استيلاء النفس عليه
قال ابن قيم الجوزية في كتاب (إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان):
إن سائر أمراض القلب إنما تنشأ من جانب النفس، فالمواد الفاسدة كلها إليها تنصبُّ، ثم تنبعث منها إلى الأعضاء، وأول ما تنال القلب، وقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول فى خطبة الحاجة: (الحمدُ لله نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَهدِيهِ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا) [رواه أحمد].
وقد استعاذ النبي -صلى الله عليه وسلم- من شرها عموما، ومن شر ما يتولد منها من الأعمال، ومن شر ما يترتب على ذلك من المكاره والعقوبات، وجمع بين الاستعاذة من شر النفس وسيئات الأعمال..
وقد اتفق السالكون إلى الله -على اختلاف طرقهم، وتباين سلوكهم- على أن النفس قاطعة بين القلب وبين الوصول إلى الرب، وأنه لا يُدخَل عليه سبحانه ولا يُوصل إليه إلا بعد تركها، وإماتتها بمخالفتها والظفر بها.
• فإن الناس على قسمين:
قسم ظفرت به نفسه فملَكته وأهلكته وصار طوعا لها تحت أوامرها.
وقسم ظفروا بنفوسهم، فقهروها، فصارت طوعا لهم منقادة لأوامرهم.
قال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى وَآثَرَ الحياةَ الُّدنْيَا * فَإنَّ الجحِيمَ هِىَ الْمَأْوَى وَأمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنّ الجنَّةَ هِىَ المَأْوَى} [النازعات: 37 - 41].
فالنفس تدعو إلى الطغيان وإيثار الحياة الدنيا، والرب تعالى يدعو العبد إلى خوفه ونهي النفس عن الهوى، والقلب بين الداعيين، يميل إلى هذا الداعي مرة وإلى هذا مرة، وهذا موضع المحنة والابتلاء.
وقد وصف سبحانه النفس فى القرآن بثلاث صفات: المطمئنة، والأمارة بالسوء، واللوامة...
النفس المطمئنة
فالنفس إذا سكنت إلى الله، واطمأنت بذكره، وأنابت إليه، واشتاقت إلى لقائه، وأنست بقربه، فهى مطمئنة، وهى التى يُقال لها عند الموافاة. {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ المُطْمِئنَّةُ * ارْجِعِي إلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةَ} [الفجر: 27-28].
قال ابن عباس: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ المُطْمِئنَّةُ}، يقول: المصدِّقة، وقال قتادة: "هو المؤمن، اطمأنت نفسه إلى ما وعد الله"...
وحقيقة الطمأنينة: السكون والاستقرار، فهى التي قد سكنت إلى ربها وطاعته وأمره وذكره، ولم تسكن إلى سواه، فقد اطمأنت إلى محبته وعبوديته وذكره، واطمأنت إلى أمره ونهيه وخبره، واطمأنت إلى لقائه ووعده، واطمأنت إلى التصديق بحقائق أسمائه وصفاته، واطمأنت إلى الرضا به ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد رسولا، واطمأنت إلى قضائه وقدره، واطمأنت إلى كفايته وحسْبِه وضمانه، فاطمأنت بأنه وحدَه ربُّها وإلهها، ومعبودها ومليكها، ومالك أمرها كلِّه، وأن مرجعها إليه، وأنها لا غنى لها عنه طرفة عين.
• النفس الأمارة بالسوء
وإذا كانت بضد ذلك فهى أمَّارة بالسوء، تأمر صاحبها بما تهواه: من شهوات الغيِّ، واتباع الباطل، فهى مأوى كل سوء، وإن أطاعها قادته إلى كل قبيح وكل مكروه، وقد أخبر سبحانه أنها أمَّارة بالسوء، ولم يقل آمرة، لكثرة ذلك منها، وأنه عادتها ودأبها إلا إذا رحمها الله، وجعلها زاكية تأمر صاحبها بالخير...
• النفس اللوامة
وأما اللوامة فاختلف فى اشتقاق هذه اللفظة: هل هى من التلوم، وهو التلون والتردد؟ أو من اللوم؟ وعبارات السلف تدور على هذين المعنيين.
قال سعيد بن جبير: قلت لابن عباس: ما اللوامة؟ قال: "هى النفس اللئوم".
وقال مجاهد: "هى التى تَندَم على ما فات، وتلوم عليه" إلخ.
وأما من جعلها من التلوُّم فلكثرة ترددها وتلوُّمها، وأنها لا تستقر على حال واحدة. والأول أظهر.
• ثلاث حالات في ساعة واحدة
والنفس قد تكون تارة أمَّارة، وتارة لوامة، وتارة مطمئنة، بل فى اليوم الواحد والساعة الواحدة يحصل فيها هذا وهذا، والحكم للغالب عليها من أحوالها، فكونها مطمئنة وصفُ مدح لها، وكونها أمارةً بالسوء وصف ذمٍّ لها، وكونها لوامة ينقسم إلى المدح والذم، بحسب ما تلوم عليه.
• محاسبة النفس ومخالفتها
والمقصود: ذكر علاج مرض القلب باستيلاء النفس الأمَّارة عليه، وله علاجان: محاسبتها، ومخالفتها.
وهلاك القلب من إهمال محاسبتها، ومن موافقتها واتباع هواها، وفى الحديث الذى رواه أحمد وغيره من حديث شداد بن أوس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (الكَيِّسُ من دان نفسَه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسَه هواها، وتمنَّى على الله) دان نفسه: أي حاسبها.
وذكر الإمام أحمد عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أنه قال: "حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسَبوا، وزِنوا أنفسَكم قبل أن تُوزنوا، فإنه أهون عليكم فى الحساب غدا أن تُحاسِبوا أنفسَكم اليوم، وَتَزَيَّنوا للعرض الأكبر، يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية"..
وقال ميمون بن مهران: "لا يكون العبد تقيَّا حتى يكون لنفسه أشدَّ محاسبة من الشريك لشريكه"، ولهذا قيل: النفس كالشريك الخوَّان، إن لم تحاسبه ذهب بمالك".
• النفس مثل الشريك
وقد مُثَّلت النفسُ مع صاحبها بالشريك فى المال، فكما أنَّه لا يتم مقصود الشركة من الربح إلا بالمشارطة على ما يفعل الشريك أولا، ثم بمطالعة ما يعمل، والإشراف عليه ومراقبته ثانيا، ثم بمحاسبته ثالثا، ثم يمنعه من الخيانة إن اطلع عليه رابعا، فكذلك النفس، يُشارطها أولا على حفظ الجوارح السبعة التي حفظها هو رأس المال، والربح بعد ذلك، فمن ليس له رأس مال، فكيف يطمع فى الربح؟
وهذه الجوارح السبعة -وهي العين، والأذن، والفم، واللسان والفرج، واليد، والرِّجل: هى مركب العطب والنجاة، فمنها عطب من عطب بإهمالها، وعدم حفظها، ونجا من نجا بحفظها ومراعاتها، فحفظها أساس كل خير، وإهمالها أساس كل شر، قال تعالى: {قُلْ لِلمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيحفظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور: 30]، وقال تعالى: {وَلا تَمْشِ فى الأرْضِ مَرَحًا إِنّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الجبَالَ طُولا} [الإسراء: 37] وقال تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلٌم إِن السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً} [الإسراء: 36] وقال تعالى: {وَقُلْ لِعِبادى يَقُولُوا الّتى هِىَ أحْسَنُ} [الإسراء: 53] وَقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيداً} [الأحزاب: 70] وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} [الحشر: 18].
فإذا شارطها على حفظ هذه الجوارح انتقل منها إلى مطالعتها والإشراف عليها ومراقبتها، فلا يهملها، فإنه إن أهملها لحظة وقعت فى الخيانة ولا بد، فإن تمادى على الإهمال تمادت فى الخيانة، حتى يذهب رأس المال كلِّه، فمتى أحس بالنقصان انتقل إلى المحاسبة، فحينئذ يتبيَّن له حقيقة الربح والخسران، فإذا أحَسَّ بالخسران وتيقَّنه استدرك منها ما يستدركه الشريك من شريكه، من الرجوع عليه بما مضى، والقيام بالحفظ والمراقبة فى المستقبل، ولا مطمع له فى فسخ عقد الشركة مع هذا الخائن، والاستبدال بغيره، فإنه لا بد له منه، فليجتهد فى مراقبته ومحاسبته، وليحذر من إهماله.
• ما يعين على المحاسبة والمراقبة
ويعينه على هذه المراقبة والمحاسبة معرفته أنه كلما اجتهد فيها اليوم استراح منها غدا إذا صار الحساب إلى غيره، وكلما أهملها اليوم اشتد عليه الحساب غدا.
ويعينه عليها أيضا: معرفته أن ربح هذه التجارة سكنى الفردوس، والنظر إلى وجه الرب سبحانه، وخسارتها: دخول النار، والحجاب عن الرب تعالى، فإذا تيقن هذا هان عليه الحساب اليوم.
فحقٌّ على الحازم المؤمن بالله واليوم الآخر: أن لا يغفُل عن محاسبة نفسه والتضييق عليها فى حركاتها، وسكناتها وخطراتها وخطواتها، فكل نَفَس من أنفاس العمر جوهرة نفيسة.
فإضاعة هذه الأنفاس، أو اشتراء صاحبها بها ما يجلِب هلاكه: خسران عظيم لا يسمح بمثله إلا أجهل الناس وأحمقهم وأقلهم عقلا، وإنما يظهر له حقيقة هذا الخسران يوم التغابن: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيدا ً} [آل عمران: 30] . انتهى كلامه - باختصار ...المزيد
قال ابن قيم الجوزية في كتاب (إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان):
إن سائر أمراض القلب إنما تنشأ من جانب النفس، فالمواد الفاسدة كلها إليها تنصبُّ، ثم تنبعث منها إلى الأعضاء، وأول ما تنال القلب، وقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول فى خطبة الحاجة: (الحمدُ لله نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَهدِيهِ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا) [رواه أحمد].
وقد استعاذ النبي -صلى الله عليه وسلم- من شرها عموما، ومن شر ما يتولد منها من الأعمال، ومن شر ما يترتب على ذلك من المكاره والعقوبات، وجمع بين الاستعاذة من شر النفس وسيئات الأعمال..
وقد اتفق السالكون إلى الله -على اختلاف طرقهم، وتباين سلوكهم- على أن النفس قاطعة بين القلب وبين الوصول إلى الرب، وأنه لا يُدخَل عليه سبحانه ولا يُوصل إليه إلا بعد تركها، وإماتتها بمخالفتها والظفر بها.
• فإن الناس على قسمين:
قسم ظفرت به نفسه فملَكته وأهلكته وصار طوعا لها تحت أوامرها.
وقسم ظفروا بنفوسهم، فقهروها، فصارت طوعا لهم منقادة لأوامرهم.
قال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى وَآثَرَ الحياةَ الُّدنْيَا * فَإنَّ الجحِيمَ هِىَ الْمَأْوَى وَأمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنّ الجنَّةَ هِىَ المَأْوَى} [النازعات: 37 - 41].
فالنفس تدعو إلى الطغيان وإيثار الحياة الدنيا، والرب تعالى يدعو العبد إلى خوفه ونهي النفس عن الهوى، والقلب بين الداعيين، يميل إلى هذا الداعي مرة وإلى هذا مرة، وهذا موضع المحنة والابتلاء.
وقد وصف سبحانه النفس فى القرآن بثلاث صفات: المطمئنة، والأمارة بالسوء، واللوامة...
النفس المطمئنة
فالنفس إذا سكنت إلى الله، واطمأنت بذكره، وأنابت إليه، واشتاقت إلى لقائه، وأنست بقربه، فهى مطمئنة، وهى التى يُقال لها عند الموافاة. {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ المُطْمِئنَّةُ * ارْجِعِي إلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةَ} [الفجر: 27-28].
قال ابن عباس: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ المُطْمِئنَّةُ}، يقول: المصدِّقة، وقال قتادة: "هو المؤمن، اطمأنت نفسه إلى ما وعد الله"...
وحقيقة الطمأنينة: السكون والاستقرار، فهى التي قد سكنت إلى ربها وطاعته وأمره وذكره، ولم تسكن إلى سواه، فقد اطمأنت إلى محبته وعبوديته وذكره، واطمأنت إلى أمره ونهيه وخبره، واطمأنت إلى لقائه ووعده، واطمأنت إلى التصديق بحقائق أسمائه وصفاته، واطمأنت إلى الرضا به ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد رسولا، واطمأنت إلى قضائه وقدره، واطمأنت إلى كفايته وحسْبِه وضمانه، فاطمأنت بأنه وحدَه ربُّها وإلهها، ومعبودها ومليكها، ومالك أمرها كلِّه، وأن مرجعها إليه، وأنها لا غنى لها عنه طرفة عين.
• النفس الأمارة بالسوء
وإذا كانت بضد ذلك فهى أمَّارة بالسوء، تأمر صاحبها بما تهواه: من شهوات الغيِّ، واتباع الباطل، فهى مأوى كل سوء، وإن أطاعها قادته إلى كل قبيح وكل مكروه، وقد أخبر سبحانه أنها أمَّارة بالسوء، ولم يقل آمرة، لكثرة ذلك منها، وأنه عادتها ودأبها إلا إذا رحمها الله، وجعلها زاكية تأمر صاحبها بالخير...
• النفس اللوامة
وأما اللوامة فاختلف فى اشتقاق هذه اللفظة: هل هى من التلوم، وهو التلون والتردد؟ أو من اللوم؟ وعبارات السلف تدور على هذين المعنيين.
قال سعيد بن جبير: قلت لابن عباس: ما اللوامة؟ قال: "هى النفس اللئوم".
وقال مجاهد: "هى التى تَندَم على ما فات، وتلوم عليه" إلخ.
وأما من جعلها من التلوُّم فلكثرة ترددها وتلوُّمها، وأنها لا تستقر على حال واحدة. والأول أظهر.
• ثلاث حالات في ساعة واحدة
والنفس قد تكون تارة أمَّارة، وتارة لوامة، وتارة مطمئنة، بل فى اليوم الواحد والساعة الواحدة يحصل فيها هذا وهذا، والحكم للغالب عليها من أحوالها، فكونها مطمئنة وصفُ مدح لها، وكونها أمارةً بالسوء وصف ذمٍّ لها، وكونها لوامة ينقسم إلى المدح والذم، بحسب ما تلوم عليه.
• محاسبة النفس ومخالفتها
والمقصود: ذكر علاج مرض القلب باستيلاء النفس الأمَّارة عليه، وله علاجان: محاسبتها، ومخالفتها.
وهلاك القلب من إهمال محاسبتها، ومن موافقتها واتباع هواها، وفى الحديث الذى رواه أحمد وغيره من حديث شداد بن أوس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (الكَيِّسُ من دان نفسَه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسَه هواها، وتمنَّى على الله) دان نفسه: أي حاسبها.
وذكر الإمام أحمد عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أنه قال: "حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسَبوا، وزِنوا أنفسَكم قبل أن تُوزنوا، فإنه أهون عليكم فى الحساب غدا أن تُحاسِبوا أنفسَكم اليوم، وَتَزَيَّنوا للعرض الأكبر، يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية"..
وقال ميمون بن مهران: "لا يكون العبد تقيَّا حتى يكون لنفسه أشدَّ محاسبة من الشريك لشريكه"، ولهذا قيل: النفس كالشريك الخوَّان، إن لم تحاسبه ذهب بمالك".
• النفس مثل الشريك
وقد مُثَّلت النفسُ مع صاحبها بالشريك فى المال، فكما أنَّه لا يتم مقصود الشركة من الربح إلا بالمشارطة على ما يفعل الشريك أولا، ثم بمطالعة ما يعمل، والإشراف عليه ومراقبته ثانيا، ثم بمحاسبته ثالثا، ثم يمنعه من الخيانة إن اطلع عليه رابعا، فكذلك النفس، يُشارطها أولا على حفظ الجوارح السبعة التي حفظها هو رأس المال، والربح بعد ذلك، فمن ليس له رأس مال، فكيف يطمع فى الربح؟
وهذه الجوارح السبعة -وهي العين، والأذن، والفم، واللسان والفرج، واليد، والرِّجل: هى مركب العطب والنجاة، فمنها عطب من عطب بإهمالها، وعدم حفظها، ونجا من نجا بحفظها ومراعاتها، فحفظها أساس كل خير، وإهمالها أساس كل شر، قال تعالى: {قُلْ لِلمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيحفظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور: 30]، وقال تعالى: {وَلا تَمْشِ فى الأرْضِ مَرَحًا إِنّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الجبَالَ طُولا} [الإسراء: 37] وقال تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلٌم إِن السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً} [الإسراء: 36] وقال تعالى: {وَقُلْ لِعِبادى يَقُولُوا الّتى هِىَ أحْسَنُ} [الإسراء: 53] وَقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيداً} [الأحزاب: 70] وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} [الحشر: 18].
فإذا شارطها على حفظ هذه الجوارح انتقل منها إلى مطالعتها والإشراف عليها ومراقبتها، فلا يهملها، فإنه إن أهملها لحظة وقعت فى الخيانة ولا بد، فإن تمادى على الإهمال تمادت فى الخيانة، حتى يذهب رأس المال كلِّه، فمتى أحس بالنقصان انتقل إلى المحاسبة، فحينئذ يتبيَّن له حقيقة الربح والخسران، فإذا أحَسَّ بالخسران وتيقَّنه استدرك منها ما يستدركه الشريك من شريكه، من الرجوع عليه بما مضى، والقيام بالحفظ والمراقبة فى المستقبل، ولا مطمع له فى فسخ عقد الشركة مع هذا الخائن، والاستبدال بغيره، فإنه لا بد له منه، فليجتهد فى مراقبته ومحاسبته، وليحذر من إهماله.
• ما يعين على المحاسبة والمراقبة
ويعينه على هذه المراقبة والمحاسبة معرفته أنه كلما اجتهد فيها اليوم استراح منها غدا إذا صار الحساب إلى غيره، وكلما أهملها اليوم اشتد عليه الحساب غدا.
ويعينه عليها أيضا: معرفته أن ربح هذه التجارة سكنى الفردوس، والنظر إلى وجه الرب سبحانه، وخسارتها: دخول النار، والحجاب عن الرب تعالى، فإذا تيقن هذا هان عليه الحساب اليوم.
فحقٌّ على الحازم المؤمن بالله واليوم الآخر: أن لا يغفُل عن محاسبة نفسه والتضييق عليها فى حركاتها، وسكناتها وخطراتها وخطواتها، فكل نَفَس من أنفاس العمر جوهرة نفيسة.
فإضاعة هذه الأنفاس، أو اشتراء صاحبها بها ما يجلِب هلاكه: خسران عظيم لا يسمح بمثله إلا أجهل الناس وأحمقهم وأقلهم عقلا، وإنما يظهر له حقيقة هذا الخسران يوم التغابن: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيدا ً} [آل عمران: 30] . انتهى كلامه - باختصار ...المزيد
سلسلة علمية في بيان مسائل منهجية (5-6) الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان ...
سلسلة علمية في بيان مسائل منهجية (5-6)
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الملك الحق المبين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله إمام الأولين والآخِرين، أما بعد؛
فسنتكلم في هذه الحلقة بإذن الله تعالى عن المسائل التي حصل فيها النزاع حول حكم الطائفة الممتنعة عن شرائع الإسلام.
وقبل الدخول في موضوع الطائفة الممتنعة نود أن نبدأ بتقرير مقدمة يسيرة، فنقول:
إن أهل السنة والجماعة قد اتفقوا على أن الإيمان قول وعمل، ونقل غير واحد من أهل العلم إجماعهم على ذلك، وتفصيل ذلك القول هو بما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- فقال: "ومن أصول أهل السنة أن الدين والإيمان قولٌ وعمل؛ قول القلب واللسان وعمل القلب واللسان والجوارح"، انتهى كلامه.
وتوضيح ذلك أن الله تعالى إذا أمر بأمر كالصلاة والزكاة وغيرها، وركن الإيمان بأمر الله تعالى هو الانقياد له وذلك من عمل القلب، فمن لم يقم في قلبه انقياد لأمر الله تعالى فهو كافر، قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "ومعلوم أن الإيمان هو الإقرار لا مجرد التصديق، والإقرار ضمن قول القلب الذي هو التصديق وعملِ القلب الذي هو الانقياد"، إلى أن قال: "فمن لم يحصل في قلبه التَّصديق والانقياد فهو كافر"، انتهى كلامه رحمه الله.
ولا بدَّ أيضًا من التنبيه على أمر مهم؛ وهو أن انقياد القلب لأمر الله لا بدّ وأن يظهر أثرُه على الجوارح، فمن امتنع عن العمل دل امتناعُه على عدم إيمانه وانقياده أو ضعف إيمانه وانقياده، فالممتنع عن العمل إما أن يكون كافرًا وإما أن يكون فاسقًا، وهذا يختلف باختلاف صورة الامتناع عن العمل.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "فأصل الإيمان في القلب؛ وهو قول القلب وعملُه، وهو إقرارٌ بالتصديق والحب والانقياد، وما كان في القلب فلا بدَّ أن يظهر موجبُه ومقتضاه على الجوارح، وإذا لم يعمل بموجبه ومقتضاه دل على عدمه أو ضعفه"، انتهى كلامه.
والمقصود من ذلك أن الإنسان إذا امتنع عن عمل من أعمال الإسلام إباءً واستكبارًا فإنه يعد كافرًا لعدم انقياده، وكفر هذا كـكفر إبليس الذي امتنع عن السجود لآدم عليه السلام مع إقراره بالوجوب.
• نعود إلى مسألة الطائفة الممتنعة فنقول: ما هي الطائفة الممتنعة؟
الجواب: هي جماعة تنتسب إلى الإسلام ثم تمتنع بالقوة والقتال عن التزام شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة، ولو أقرت بوجوبها.
مثالها: لو امتنعت طائفة عن التزام أداء الزكاة أو عن التزام الصيام أو غير ذلك من شرائع الإسلام، ولو أقرُّوا بوجوبها، أو لم يلتزموا ترك المحرمات الظَّاهرة كالربا والخمر والزنا، ولو أقروا بتحريمها، ولم نقدر على إلزامهم إلا بالقتال، أو يكونون ذوي قوة يمتنعون بها عن التزام الشرائع الظاهرة ولو لم يباشروا القتال فعليًا.
• ثم نقول: ما حكم الطائفة الممتنعة؟
الجواب: حكم الطائفة الممتنعة على الصحيح من قولي العلماء هو الردة، والخروج عن الإسلام، وذلك بناءً على ما سبق ذكره في المقدمة عن مسمى الإيمان، وأنه قول وعمل، وأنه لا بدّ من الانقياد لأوامر الله تعالى.
والدليل على ذلك: إجماع الصحابة -رضي الله عنهم- المستند إلى الدليل فقد سموا مانعي الزكاة بالمرتدين.
يقول أبو عبيدٍ القاسم ابن سلّام: "والمصدق لهذا جهادُ أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- بالمهاجرين والأنصار على منع العرب الزكاة، كجهاد رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الشرك سواءا، لا فرق بينهما في سفك الدماء، وسبي الذرية، واغتنام المال، فإنما كانوا مانعين لها غير جاحدين بها"، انتهى كلامه.
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وقد اتفق الصحابة والأئمة بعدهم على قتال مانعي الزكاة وإن كانوا يُصلون الخمس، ويصومون شهر رمضان، وهؤلاء لم يكن لهم شبهة سائغة، فلهذا كانوا مرتدين، وهم يقاتَلون على منعها، وإن أقرّوا بالوجوب كما أمر الله"، انتهى كلامه.
ويقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب بعد نقله لكلام شيخ الإسلام: "فتأمل كلامه وتصريحه بأن الطائفة الممتنعة عن أداء الزكاة إلى الإمام أنهم يقاتلون، ويحكم عليهم بالكفر، والردة عن الإسلام، وتسبى ذراريُّهم، وتغنم أموالهم، وإن أقروا بوجوب الزكاة، وصلوا الصلوات الخمس، وفعلوا جميع شرائع الإسلام غير أداء الزكاة، وأن ذلك ليس بمسقط للقتال لهم، والحكم عليهم بالكفر، والردة، وأن ذلك قد ثبت بالكتاب والسنة، واتفاق الصحابة رضي الله عنهم، والله أعلم"، انتهى كلامه رحمه الله.
• حكم قتال الطائفة الممتنعة.
لقد دل الكتاب، والسنة، والإجماع على وجوب قتال الطائفة الممتنعة.
قال الله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّـهِ} [الأنفال : 39 ].
فإذا كان بعض الدين لله، وبعضه الآخر لغير الله: وجب القتال حتى يكون الدين كلُّه لله.
وفي الصحيحين عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أُمِرتُ أن أُقاتِلَ الناسَ حتى يشهدوا أن لا إلهَ إلا اللهُ وأن محمدًا رسولُ اللهِ، ويقيموا الصلاةَ، ويؤتوا الزكاةَ، فإذا فعلوا ذلك عَصَموا مني دماءَهم وأموالَهم إلا بحقِّ الإسلامِ، وحسابُهم على اللهِ).
وقال أبو بكر رضي الله عنه: "الزكاة حق المال، والله لو منعوني عَناقًا كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها".
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "وأجمع العلماء على أن كل طائفة ممتنعة عن شريعة متواترة من شرائع الإسلام، فإنه يجب قتالها حتى يكون الدين كله لله، كالمحاربين وأَولى".
وقال أيضًا رحمه الله: "فعُلم أن مجرد الاعتصام بالإسلام مع عدم التزام شرائعه ليس بمسقط للقتال، فالقتال واجب حتى يكون الدين كله لله، وحتى لا تكون فتنة، فمتى كان الدين لغير الله فالقتال واجب، فأيُّما طائفة امتنعت من بعض الصلوات المفروضات أو الصيام أو الحج أو عن التزام تحريم الدماء، والأموال، والخمر، والزنا، والميسر أو عن نكاح ذوات المحارم أو عن التزام جهاد الكفار أو ضرب الجزية على أهل الكتاب، وغير ذلك من واجبات الدين، ومحرماته التي لا عذر لأحد في جحودها وتركها، التي يكفر الجاحد لوجوبها، فإن الطائفة الممتنعة تقاتَل عليها، وإن كانت مقرة بها، وهذا مالا أعلم فيه خلافا بين العلماء"، انتهى كلامه رحمه الله.
فإذا كان هذا حكمَ الطائفة إذا امتنعت عن التزام شريعة واحدة من شرائع الإسلام فكيف إذا امتنعت عن أكثر من ذلك، بل كيف بمن يعلن عدم التزامه بشرع الله من خلال استبداله بقوانين ديمقراطية أو مبادئ وضعية؟!
إذا تقرر هذا فلا بدّ من التنبيه على مسائل:
المسألة الأولى: الخلاف الذي وقع بين علماء الصحابة: أبي بكر وعمر حول تكفير الطائفة الممتنعة.
إن الخلاف الذي وقع بين الصحابة في تكفير مانعي الزكاة في أول الأمر ثابت بنص الحديث الذي رواه الشيخان عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، واُستُخلف أبو بكر بعده، وكفر من كفر من العرب، قال عمر لأبي بكر: كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أُمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فمن قال لا إله إلا الله عصم مني ماله، ونفسه إلا بحقه، وحسابه على الله)، فقال: والله لأقاتلن من فرَّق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عِقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعه، فقال عمر: فوالله ما هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق".
فكان استدلال عمر -رضي الله عنه- على تحريم القتال بأنهم يقولون لا إله إلا الله، دليل واضح على أنه لم يكن يرى كُفرهم.
وممن نص على حدوث هذا الخلاف بين الصحابة الإمام ابن قدامة في كتابه الـمُغني، فقد قال بعد ذكره للروايتين في تكفير مانع الزكاة: "ووجه الأول أن عمر وغيره من الصحابة امتنعوا من القتال في بدء الأمر، ولو اعتقدوا كفرهم لما توقفوا عنه..." إلى آخر كلامه رحمه الله.
المسألة الثانية: ذكر الخلاف الذي وقع بين العلماء في هذه المسألة.
اختلف علماء أهل السنة في حكم كفر الطائفة الممتنعة بناءً على اختلاف الصحابة رضي الله عنهم، فذهب الشافعي -رحمه الله- إلى عدم كفر مانعي الزكاة، وذهب إلى أن نسبتهم إلى الردة نسبة لُغوية لا شرعية، فذهب إلى أن الصحابة إنما اختلفوا في القتال مع اتفاقهم على عدم التكفير، ووصفهم بأنهم ممتنعون عن أداء حق للإمام بتأويل.
قال الإمام الشافعي -رحمه الله-: "وأهل الردة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ضربان؛ منهم قوم أغروا بعد الإسلام مثل طليحة ومسيلمة والعنسي وأصحابِهم، ومنهم قوم تمسكوا بالإسلام ومنعوا الصدقات، فإن قال قائل: ما دلَّ على ذلك والعامة تقول لهم: أهلَ الردة؟ قال الشافعي: فهذا لسان عربي؛ فالردة الارتداد عما كانوا عليه بالكفر، والارتداد بمنع الحق، قال: ومن رجع عن شيء جاز أن يقال ارتدّ عن كذا"، انتهى كلامه.
وذهب الإمام أحمد إلى ذلك في رواية عنه، فنقل الأثرم عنه فيمن ترك صوم رمضان: "هو مثل تارك الصلاة؟ فقال: الصلاة آكد ليس هي كغيرها. فقيل له: تارك الزكاة؟ فقال: قد جاء عن عبد الله: ما تارك الزكاة بمسلم، وقد قاتل أبو بكر عليها والحديث في الصلاة"، انتهى كلامه.
قال القاضي أبو يعلى: "فظاهر هذا أنه حكى قول عبد الله، وفعل أبي بكر، ولم يقطع به لأنه قال: الحديث في الصلاة، يعني الحديث الوارد بالكفر لينظر هو في الصلاة، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (بينَ العبدِ وبينَ الْكفرِ ترْكُ الصَّلاةِ فمَن ترَكَ الصَّلاةَ فقَد كفَرَ)، ولأن الزكاة حق في المال فلم يكفر بمنعه، والقتال عليه كالكفارات وحقوق الآدميين"، انتهى كلامه.
ويقول شيخ الإسلام: "ثم تَنازع الفقهاءُ في كفر من منعها، وقاتل الإمام عليها مع إقراره بالوجوب على قولين، هما روايتان عن أحمد كالروايتين عنه في تكفير الخوارج"، انتهى كلامه.
المسألة الثالثة : هل المخالف في كفر الطائفة الممتنعة بدعيٌ أم سني؟
نقول: من كان يقول بعدم كفر الطائفة الممتنعة وبنى ذلك على قوله بأن الإيمان قول بلا عمل، فهو مرجئ، وأما من كان يقول: إن الإيمان قول وعمل ثم لم يكفر الطائفة الممتنعة، فإنه ليس بمبتدع، وإنما هو مُجتهد مخطئ، والإمام الشافعي من هذا الصنف، فهو ممن يقرر أن الإيمان قول وعمل كعامة أئمة السنة والجماعة.
قال الإمام الشافعي -رحمه الله: "وكان الإجماع من الصحابة والتابعين من بعدهم ممن أدركناهم، أن الإيمان قول وعمل ونية، لا يجزئ واحد من الثلاثة إلا بالآخر"، انتهى كلامه.
وهذا الأمر يشبه الخلاف في كفر تارك الصلاة؛ فمن العلماء من ذهب إلى عدم كفر تارك الصلاة مع قولهم: إن الإيمان قول وعمل، فهذا سني وليس بمبتدع.
وأما من قال بعدم تكفير تارك الصلاة أو أنه يقتل بعد أن يُدعى إليها حين يقتل مسلمًا فقد دخلت عليه الشبهة التي دخلت على المرجئة والجهمية في مسمى الإيمان، وبالتالي بنى قوله بعدم التكفير على ذلك.
قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: "فهذا الموضع ينبغي تدبُّره؛ فمن عرف ارتباط الظاهر بالباطن زالت عنه الشبهة في هذا الباب، وعلِم أن من قال من الفقهاء أنه إذا أقرَّ بالوجوب وامتنع عن الفعل لا يُقتل، أو يقتَل مع إسلامه، فإنه دخلت عليه الشبهة التي دخلت على المُرجئة والجهمية، والتي دخلت على من جعل الإرادة الجازمة مع القدرة التامة لا يكون بها شيء من الفعل، ولهذا كان الممتنعون من قتل هذا من الفقهاء بنوه على قولهم في مسألة الإيمان، وأن الأعمال ليست من الإيمان"، انتهى كلامه رحمه الله.
ونأخذ مثالاً على هذا:
وهو ما كان من ابن شهاب الزهري -رحمه الله- فقد روى المروزي في تعظيم قدر الصلاة عن ابن شهاب الزهري أنه سُئل عن الرجل يترك الصلاة فقال: "إن كان إنما تركها أنه ابتدع دينًا غير دين الإسلام قُتل، وإن كان إنما هو فاسق ضرب ضربًا مبرحًا وسجن".
فهذا واضح في أن ابن شهاب لم يكن يرى كفر تارك الصلاة، فقد روى اللالكائي عن معقل ابن عبيد الله العبسي قال لنافع مولى ابن عمر: قلت إنهم يقولون نحن نُقر بالصلاة فريضة ولا نصلي، وإن الخمر حرام ونحن نشربها، وإن نكاح الأمهات حرام ونحن نريده، فنتر يده من يدي وقال: من فعل هذا فهو كافر.
قال معقل: فلقيت الزهري فأخبرته بقولهم فقال: سبحان الله؛ أوقد أخذ الناس في هذه الخصومات، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلا يَشْرَبُ الشَّارِبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ).
فانظر إلى قوله بعدم تكفير تارك الصلاة مع إنكاره على المرجئة الذين يخرجون العمل من مسمى الإيمان، فهذا الذي يجعلنا لا نتهم أمثال الإمام الزهري بالإرجاء لمجرد أنه لا يرى كفر تارك الصلاة، فتأمل هذا الموطن جيدًا، ولا تغتر بكثرة المشغِّبين، ولا بأقوال المُغالين، والله المستعان.
وختامًا ينبغي التنبيه ها هنا على أمر هام
وهو أن أغلب من نقاتلهم اليوم من طوائف الكفر والردة لا يجري فيهم الخلاف الذي وقع بين أهل العلم في الطوائف الممتنعة؛ فجيوش الدول الطاغوتية وشرطهم وأعوانهم كفار باتفاق، وهم أقرب إلى كونهم كأتباع مسيلمة والأسود من كونهم كمانعي الزكاة؛ فجند الطاغوت وكل من قاتل في سبيله كافر بنص القرآن، كما قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّـهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} [النساء : 76].
ومن والى الطاغوت على الحكم بغير ما أنزل الله ومحاربة أولياء الله فهو كافر مثلُه؛ لأن من والى الكفار كان منهم لقوله تعالى: {وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [ المائدة : 51 ].
وقد مر معنا أن البراءة من المشركين وموالاة الموحدين من أصل الدين الذي لا يعذر فيه أحد بالجهل ولا بالتأويل، وهذا محل اتفاق في الجملة بحمد الله تعالى.
ونكتفي بهذا القدر، ونسأل الله تعالى أن ينفعنا بما علمنا، وأن يجمع على الحق كلمتنا، وأن يجعلنا هداة مهتدين، وآخر دعونا أن الحمد لله رب العالمين. ...المزيد
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الملك الحق المبين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله إمام الأولين والآخِرين، أما بعد؛
فسنتكلم في هذه الحلقة بإذن الله تعالى عن المسائل التي حصل فيها النزاع حول حكم الطائفة الممتنعة عن شرائع الإسلام.
وقبل الدخول في موضوع الطائفة الممتنعة نود أن نبدأ بتقرير مقدمة يسيرة، فنقول:
إن أهل السنة والجماعة قد اتفقوا على أن الإيمان قول وعمل، ونقل غير واحد من أهل العلم إجماعهم على ذلك، وتفصيل ذلك القول هو بما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- فقال: "ومن أصول أهل السنة أن الدين والإيمان قولٌ وعمل؛ قول القلب واللسان وعمل القلب واللسان والجوارح"، انتهى كلامه.
وتوضيح ذلك أن الله تعالى إذا أمر بأمر كالصلاة والزكاة وغيرها، وركن الإيمان بأمر الله تعالى هو الانقياد له وذلك من عمل القلب، فمن لم يقم في قلبه انقياد لأمر الله تعالى فهو كافر، قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "ومعلوم أن الإيمان هو الإقرار لا مجرد التصديق، والإقرار ضمن قول القلب الذي هو التصديق وعملِ القلب الذي هو الانقياد"، إلى أن قال: "فمن لم يحصل في قلبه التَّصديق والانقياد فهو كافر"، انتهى كلامه رحمه الله.
ولا بدَّ أيضًا من التنبيه على أمر مهم؛ وهو أن انقياد القلب لأمر الله لا بدّ وأن يظهر أثرُه على الجوارح، فمن امتنع عن العمل دل امتناعُه على عدم إيمانه وانقياده أو ضعف إيمانه وانقياده، فالممتنع عن العمل إما أن يكون كافرًا وإما أن يكون فاسقًا، وهذا يختلف باختلاف صورة الامتناع عن العمل.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "فأصل الإيمان في القلب؛ وهو قول القلب وعملُه، وهو إقرارٌ بالتصديق والحب والانقياد، وما كان في القلب فلا بدَّ أن يظهر موجبُه ومقتضاه على الجوارح، وإذا لم يعمل بموجبه ومقتضاه دل على عدمه أو ضعفه"، انتهى كلامه.
والمقصود من ذلك أن الإنسان إذا امتنع عن عمل من أعمال الإسلام إباءً واستكبارًا فإنه يعد كافرًا لعدم انقياده، وكفر هذا كـكفر إبليس الذي امتنع عن السجود لآدم عليه السلام مع إقراره بالوجوب.
• نعود إلى مسألة الطائفة الممتنعة فنقول: ما هي الطائفة الممتنعة؟
الجواب: هي جماعة تنتسب إلى الإسلام ثم تمتنع بالقوة والقتال عن التزام شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة، ولو أقرت بوجوبها.
مثالها: لو امتنعت طائفة عن التزام أداء الزكاة أو عن التزام الصيام أو غير ذلك من شرائع الإسلام، ولو أقرُّوا بوجوبها، أو لم يلتزموا ترك المحرمات الظَّاهرة كالربا والخمر والزنا، ولو أقروا بتحريمها، ولم نقدر على إلزامهم إلا بالقتال، أو يكونون ذوي قوة يمتنعون بها عن التزام الشرائع الظاهرة ولو لم يباشروا القتال فعليًا.
• ثم نقول: ما حكم الطائفة الممتنعة؟
الجواب: حكم الطائفة الممتنعة على الصحيح من قولي العلماء هو الردة، والخروج عن الإسلام، وذلك بناءً على ما سبق ذكره في المقدمة عن مسمى الإيمان، وأنه قول وعمل، وأنه لا بدّ من الانقياد لأوامر الله تعالى.
والدليل على ذلك: إجماع الصحابة -رضي الله عنهم- المستند إلى الدليل فقد سموا مانعي الزكاة بالمرتدين.
يقول أبو عبيدٍ القاسم ابن سلّام: "والمصدق لهذا جهادُ أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- بالمهاجرين والأنصار على منع العرب الزكاة، كجهاد رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الشرك سواءا، لا فرق بينهما في سفك الدماء، وسبي الذرية، واغتنام المال، فإنما كانوا مانعين لها غير جاحدين بها"، انتهى كلامه.
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وقد اتفق الصحابة والأئمة بعدهم على قتال مانعي الزكاة وإن كانوا يُصلون الخمس، ويصومون شهر رمضان، وهؤلاء لم يكن لهم شبهة سائغة، فلهذا كانوا مرتدين، وهم يقاتَلون على منعها، وإن أقرّوا بالوجوب كما أمر الله"، انتهى كلامه.
ويقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب بعد نقله لكلام شيخ الإسلام: "فتأمل كلامه وتصريحه بأن الطائفة الممتنعة عن أداء الزكاة إلى الإمام أنهم يقاتلون، ويحكم عليهم بالكفر، والردة عن الإسلام، وتسبى ذراريُّهم، وتغنم أموالهم، وإن أقروا بوجوب الزكاة، وصلوا الصلوات الخمس، وفعلوا جميع شرائع الإسلام غير أداء الزكاة، وأن ذلك ليس بمسقط للقتال لهم، والحكم عليهم بالكفر، والردة، وأن ذلك قد ثبت بالكتاب والسنة، واتفاق الصحابة رضي الله عنهم، والله أعلم"، انتهى كلامه رحمه الله.
• حكم قتال الطائفة الممتنعة.
لقد دل الكتاب، والسنة، والإجماع على وجوب قتال الطائفة الممتنعة.
قال الله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّـهِ} [الأنفال : 39 ].
فإذا كان بعض الدين لله، وبعضه الآخر لغير الله: وجب القتال حتى يكون الدين كلُّه لله.
وفي الصحيحين عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أُمِرتُ أن أُقاتِلَ الناسَ حتى يشهدوا أن لا إلهَ إلا اللهُ وأن محمدًا رسولُ اللهِ، ويقيموا الصلاةَ، ويؤتوا الزكاةَ، فإذا فعلوا ذلك عَصَموا مني دماءَهم وأموالَهم إلا بحقِّ الإسلامِ، وحسابُهم على اللهِ).
وقال أبو بكر رضي الله عنه: "الزكاة حق المال، والله لو منعوني عَناقًا كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها".
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "وأجمع العلماء على أن كل طائفة ممتنعة عن شريعة متواترة من شرائع الإسلام، فإنه يجب قتالها حتى يكون الدين كله لله، كالمحاربين وأَولى".
وقال أيضًا رحمه الله: "فعُلم أن مجرد الاعتصام بالإسلام مع عدم التزام شرائعه ليس بمسقط للقتال، فالقتال واجب حتى يكون الدين كله لله، وحتى لا تكون فتنة، فمتى كان الدين لغير الله فالقتال واجب، فأيُّما طائفة امتنعت من بعض الصلوات المفروضات أو الصيام أو الحج أو عن التزام تحريم الدماء، والأموال، والخمر، والزنا، والميسر أو عن نكاح ذوات المحارم أو عن التزام جهاد الكفار أو ضرب الجزية على أهل الكتاب، وغير ذلك من واجبات الدين، ومحرماته التي لا عذر لأحد في جحودها وتركها، التي يكفر الجاحد لوجوبها، فإن الطائفة الممتنعة تقاتَل عليها، وإن كانت مقرة بها، وهذا مالا أعلم فيه خلافا بين العلماء"، انتهى كلامه رحمه الله.
فإذا كان هذا حكمَ الطائفة إذا امتنعت عن التزام شريعة واحدة من شرائع الإسلام فكيف إذا امتنعت عن أكثر من ذلك، بل كيف بمن يعلن عدم التزامه بشرع الله من خلال استبداله بقوانين ديمقراطية أو مبادئ وضعية؟!
إذا تقرر هذا فلا بدّ من التنبيه على مسائل:
المسألة الأولى: الخلاف الذي وقع بين علماء الصحابة: أبي بكر وعمر حول تكفير الطائفة الممتنعة.
إن الخلاف الذي وقع بين الصحابة في تكفير مانعي الزكاة في أول الأمر ثابت بنص الحديث الذي رواه الشيخان عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، واُستُخلف أبو بكر بعده، وكفر من كفر من العرب، قال عمر لأبي بكر: كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أُمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فمن قال لا إله إلا الله عصم مني ماله، ونفسه إلا بحقه، وحسابه على الله)، فقال: والله لأقاتلن من فرَّق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عِقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعه، فقال عمر: فوالله ما هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق".
فكان استدلال عمر -رضي الله عنه- على تحريم القتال بأنهم يقولون لا إله إلا الله، دليل واضح على أنه لم يكن يرى كُفرهم.
وممن نص على حدوث هذا الخلاف بين الصحابة الإمام ابن قدامة في كتابه الـمُغني، فقد قال بعد ذكره للروايتين في تكفير مانع الزكاة: "ووجه الأول أن عمر وغيره من الصحابة امتنعوا من القتال في بدء الأمر، ولو اعتقدوا كفرهم لما توقفوا عنه..." إلى آخر كلامه رحمه الله.
المسألة الثانية: ذكر الخلاف الذي وقع بين العلماء في هذه المسألة.
اختلف علماء أهل السنة في حكم كفر الطائفة الممتنعة بناءً على اختلاف الصحابة رضي الله عنهم، فذهب الشافعي -رحمه الله- إلى عدم كفر مانعي الزكاة، وذهب إلى أن نسبتهم إلى الردة نسبة لُغوية لا شرعية، فذهب إلى أن الصحابة إنما اختلفوا في القتال مع اتفاقهم على عدم التكفير، ووصفهم بأنهم ممتنعون عن أداء حق للإمام بتأويل.
قال الإمام الشافعي -رحمه الله-: "وأهل الردة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ضربان؛ منهم قوم أغروا بعد الإسلام مثل طليحة ومسيلمة والعنسي وأصحابِهم، ومنهم قوم تمسكوا بالإسلام ومنعوا الصدقات، فإن قال قائل: ما دلَّ على ذلك والعامة تقول لهم: أهلَ الردة؟ قال الشافعي: فهذا لسان عربي؛ فالردة الارتداد عما كانوا عليه بالكفر، والارتداد بمنع الحق، قال: ومن رجع عن شيء جاز أن يقال ارتدّ عن كذا"، انتهى كلامه.
وذهب الإمام أحمد إلى ذلك في رواية عنه، فنقل الأثرم عنه فيمن ترك صوم رمضان: "هو مثل تارك الصلاة؟ فقال: الصلاة آكد ليس هي كغيرها. فقيل له: تارك الزكاة؟ فقال: قد جاء عن عبد الله: ما تارك الزكاة بمسلم، وقد قاتل أبو بكر عليها والحديث في الصلاة"، انتهى كلامه.
قال القاضي أبو يعلى: "فظاهر هذا أنه حكى قول عبد الله، وفعل أبي بكر، ولم يقطع به لأنه قال: الحديث في الصلاة، يعني الحديث الوارد بالكفر لينظر هو في الصلاة، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (بينَ العبدِ وبينَ الْكفرِ ترْكُ الصَّلاةِ فمَن ترَكَ الصَّلاةَ فقَد كفَرَ)، ولأن الزكاة حق في المال فلم يكفر بمنعه، والقتال عليه كالكفارات وحقوق الآدميين"، انتهى كلامه.
ويقول شيخ الإسلام: "ثم تَنازع الفقهاءُ في كفر من منعها، وقاتل الإمام عليها مع إقراره بالوجوب على قولين، هما روايتان عن أحمد كالروايتين عنه في تكفير الخوارج"، انتهى كلامه.
المسألة الثالثة : هل المخالف في كفر الطائفة الممتنعة بدعيٌ أم سني؟
نقول: من كان يقول بعدم كفر الطائفة الممتنعة وبنى ذلك على قوله بأن الإيمان قول بلا عمل، فهو مرجئ، وأما من كان يقول: إن الإيمان قول وعمل ثم لم يكفر الطائفة الممتنعة، فإنه ليس بمبتدع، وإنما هو مُجتهد مخطئ، والإمام الشافعي من هذا الصنف، فهو ممن يقرر أن الإيمان قول وعمل كعامة أئمة السنة والجماعة.
قال الإمام الشافعي -رحمه الله: "وكان الإجماع من الصحابة والتابعين من بعدهم ممن أدركناهم، أن الإيمان قول وعمل ونية، لا يجزئ واحد من الثلاثة إلا بالآخر"، انتهى كلامه.
وهذا الأمر يشبه الخلاف في كفر تارك الصلاة؛ فمن العلماء من ذهب إلى عدم كفر تارك الصلاة مع قولهم: إن الإيمان قول وعمل، فهذا سني وليس بمبتدع.
وأما من قال بعدم تكفير تارك الصلاة أو أنه يقتل بعد أن يُدعى إليها حين يقتل مسلمًا فقد دخلت عليه الشبهة التي دخلت على المرجئة والجهمية في مسمى الإيمان، وبالتالي بنى قوله بعدم التكفير على ذلك.
قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: "فهذا الموضع ينبغي تدبُّره؛ فمن عرف ارتباط الظاهر بالباطن زالت عنه الشبهة في هذا الباب، وعلِم أن من قال من الفقهاء أنه إذا أقرَّ بالوجوب وامتنع عن الفعل لا يُقتل، أو يقتَل مع إسلامه، فإنه دخلت عليه الشبهة التي دخلت على المُرجئة والجهمية، والتي دخلت على من جعل الإرادة الجازمة مع القدرة التامة لا يكون بها شيء من الفعل، ولهذا كان الممتنعون من قتل هذا من الفقهاء بنوه على قولهم في مسألة الإيمان، وأن الأعمال ليست من الإيمان"، انتهى كلامه رحمه الله.
ونأخذ مثالاً على هذا:
وهو ما كان من ابن شهاب الزهري -رحمه الله- فقد روى المروزي في تعظيم قدر الصلاة عن ابن شهاب الزهري أنه سُئل عن الرجل يترك الصلاة فقال: "إن كان إنما تركها أنه ابتدع دينًا غير دين الإسلام قُتل، وإن كان إنما هو فاسق ضرب ضربًا مبرحًا وسجن".
فهذا واضح في أن ابن شهاب لم يكن يرى كفر تارك الصلاة، فقد روى اللالكائي عن معقل ابن عبيد الله العبسي قال لنافع مولى ابن عمر: قلت إنهم يقولون نحن نُقر بالصلاة فريضة ولا نصلي، وإن الخمر حرام ونحن نشربها، وإن نكاح الأمهات حرام ونحن نريده، فنتر يده من يدي وقال: من فعل هذا فهو كافر.
قال معقل: فلقيت الزهري فأخبرته بقولهم فقال: سبحان الله؛ أوقد أخذ الناس في هذه الخصومات، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلا يَشْرَبُ الشَّارِبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ).
فانظر إلى قوله بعدم تكفير تارك الصلاة مع إنكاره على المرجئة الذين يخرجون العمل من مسمى الإيمان، فهذا الذي يجعلنا لا نتهم أمثال الإمام الزهري بالإرجاء لمجرد أنه لا يرى كفر تارك الصلاة، فتأمل هذا الموطن جيدًا، ولا تغتر بكثرة المشغِّبين، ولا بأقوال المُغالين، والله المستعان.
وختامًا ينبغي التنبيه ها هنا على أمر هام
وهو أن أغلب من نقاتلهم اليوم من طوائف الكفر والردة لا يجري فيهم الخلاف الذي وقع بين أهل العلم في الطوائف الممتنعة؛ فجيوش الدول الطاغوتية وشرطهم وأعوانهم كفار باتفاق، وهم أقرب إلى كونهم كأتباع مسيلمة والأسود من كونهم كمانعي الزكاة؛ فجند الطاغوت وكل من قاتل في سبيله كافر بنص القرآن، كما قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّـهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} [النساء : 76].
ومن والى الطاغوت على الحكم بغير ما أنزل الله ومحاربة أولياء الله فهو كافر مثلُه؛ لأن من والى الكفار كان منهم لقوله تعالى: {وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [ المائدة : 51 ].
وقد مر معنا أن البراءة من المشركين وموالاة الموحدين من أصل الدين الذي لا يعذر فيه أحد بالجهل ولا بالتأويل، وهذا محل اتفاق في الجملة بحمد الله تعالى.
ونكتفي بهذا القدر، ونسأل الله تعالى أن ينفعنا بما علمنا، وأن يجمع على الحق كلمتنا، وأن يجعلنا هداة مهتدين، وآخر دعونا أن الحمد لله رب العالمين. ...المزيد
الدولة الإسلامية - صحيفة النبأ العدد 102 الافتتاحية: • إن الله يدافع عن الذين آمنوا الحمد ...
الدولة الإسلامية - صحيفة النبأ العدد 102
الافتتاحية:
• إن الله يدافع عن الذين آمنوا
الحمد لله ولي المؤمنين، وقاهر المشركين، ومظهر دينه رغم أنوف الكافرين، والصلاة والسلام على من بُعث بالحق المبين، وآله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين...
إن حامية الصليب أمريكا عندما أعلنت حملتها العسكرية على الخلافة، أعماها البطر والكبرياء، فأقحمت نفسها في الحرب على المجاهدين مع بعض أوليائها، متحملة العبء الأكبر فيها، ولما حمي وطيس الحرب علم الزنجي الأخرق المجازفة التي قام بها، حيث بدأ مخزون القنابل عنده بالنفاد، وبدأت تكلفة الحرب ترهق اقتصاده المتهالك، فهرع إلى ملل الكفر قاطبة وإلى طواغيت العالم أجمعين، يطلب منهم العون والسند، والعُدة والعدد، لعلَّهم يُخرجونه من مستنقع الدماء الذي غرق فيه، فبدأ الكفار دولا وجماعات يسارعون فيه طلبا للعزة والرفعة، حتى كثر حوله الأولياء والأنصار، وبايعته على حرب الدين دول وأمصار، فظنوا أن لن يقدر عليهم أحد، وأنهم جميع منتصر، وأنهم هم الوارثون.
ثم إنه عندما شمرت الحرب عن ساق، واضطرم أوار المعارك، ولفح لهيبها المستعر الصليبييِّن في عقر دارهم، أحجم من له عقل عن قتال المجاهدين، فيما بقي الآخرون في تردد وخوف، فما إن ينزلوا إلى الأرض حتى يذوقوا من بأس المجاهدين ما يدفعهم للنأي بأنفسهم عن المواجهة المباشرة، فتراهم يدفعون بأوليائهم دفعا إلى القتال، ويمدونهم بالعدد والعتاد والمال، ويدعمونهم بقصف الطائرات وضرب المدافع، وبات أئمة الكفر يدافعون عن أوليائهم، فترى أمريكا تدافع عن ملاحدة الأكراد، وروسيا تدافع عن النصيرية، وإيران تدافع عن الروافض، وتركيا تدافع عن الصحوات، ظانِّين بذلك أنهم سيحمون وكلاءهم وسيبيدون المجاهدين، وأنهم بذلك سيُعلون راياتهم ويكسرون شوكة المسلمين، ولم يعلم هؤلاء كلهم {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} [الحج: 38].
نعم... إن الله يدافع عن المجاهدين من صواريخ الصليبيين، ويدافع عنهم من جحافل الكافرين، ويدفع عنهم الضرر العظيم فلا يصيبهم من بأس عدوهم إلا أذى، {لَن يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنصَرُونَ} [آل عمران: 111].
إن كفار العالم أجمعين قد وصلوا اليوم إلى حافة الانهيار، بعد أن أنفقوا الغالي والنفيس لإطفاء نور الله وإفناء الخلافة، وأنهكت جيوشهم الجراح، وأثقلتهم الديون، بينما لا تزال الدولة الإسلامية صامدة ثابتة بفضل الله، تقارع أمم الكفر مجتمعة ذودا عن حياض المسلمين، وحفظا لبيضة الدين، ويتجلَّى في كل يوم للعدو قبل الصديق دفاع الله عنها، وحفظه لها.
فعلى جنود الخلافة اليوم مواصلة البذل في سبيل الله، آخذين في ذلك بكل سبب، متوكلين على ربهم وحده، وأن لا يفتُروا عن القتال، ولا يتأخروا عن سوح النزال، فإن الكفار وإن نالوا من المسلمين مرة أو مرتين، أو انتزعوا منهم بعض الأرضين، فليتيقَّن الموحدون أن العاقبة لهم ما اتقوا ربهم وصبروا، {قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف: 128]، وأن انتفاش الباطل واختياله ما هو إلا ابتلاء من الله لهم ليعلم من ينصره ورسله بالغيب، {لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} [آل عمران: 196-197]، عالمين أن أعداءهم يألمون كما يألمون، وأن الله أعد لهم جنات وأعد للكافرين سعيرا، {وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء: 104]. ...المزيد
الافتتاحية:
• إن الله يدافع عن الذين آمنوا
الحمد لله ولي المؤمنين، وقاهر المشركين، ومظهر دينه رغم أنوف الكافرين، والصلاة والسلام على من بُعث بالحق المبين، وآله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين...
إن حامية الصليب أمريكا عندما أعلنت حملتها العسكرية على الخلافة، أعماها البطر والكبرياء، فأقحمت نفسها في الحرب على المجاهدين مع بعض أوليائها، متحملة العبء الأكبر فيها، ولما حمي وطيس الحرب علم الزنجي الأخرق المجازفة التي قام بها، حيث بدأ مخزون القنابل عنده بالنفاد، وبدأت تكلفة الحرب ترهق اقتصاده المتهالك، فهرع إلى ملل الكفر قاطبة وإلى طواغيت العالم أجمعين، يطلب منهم العون والسند، والعُدة والعدد، لعلَّهم يُخرجونه من مستنقع الدماء الذي غرق فيه، فبدأ الكفار دولا وجماعات يسارعون فيه طلبا للعزة والرفعة، حتى كثر حوله الأولياء والأنصار، وبايعته على حرب الدين دول وأمصار، فظنوا أن لن يقدر عليهم أحد، وأنهم جميع منتصر، وأنهم هم الوارثون.
ثم إنه عندما شمرت الحرب عن ساق، واضطرم أوار المعارك، ولفح لهيبها المستعر الصليبييِّن في عقر دارهم، أحجم من له عقل عن قتال المجاهدين، فيما بقي الآخرون في تردد وخوف، فما إن ينزلوا إلى الأرض حتى يذوقوا من بأس المجاهدين ما يدفعهم للنأي بأنفسهم عن المواجهة المباشرة، فتراهم يدفعون بأوليائهم دفعا إلى القتال، ويمدونهم بالعدد والعتاد والمال، ويدعمونهم بقصف الطائرات وضرب المدافع، وبات أئمة الكفر يدافعون عن أوليائهم، فترى أمريكا تدافع عن ملاحدة الأكراد، وروسيا تدافع عن النصيرية، وإيران تدافع عن الروافض، وتركيا تدافع عن الصحوات، ظانِّين بذلك أنهم سيحمون وكلاءهم وسيبيدون المجاهدين، وأنهم بذلك سيُعلون راياتهم ويكسرون شوكة المسلمين، ولم يعلم هؤلاء كلهم {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} [الحج: 38].
نعم... إن الله يدافع عن المجاهدين من صواريخ الصليبيين، ويدافع عنهم من جحافل الكافرين، ويدفع عنهم الضرر العظيم فلا يصيبهم من بأس عدوهم إلا أذى، {لَن يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنصَرُونَ} [آل عمران: 111].
إن كفار العالم أجمعين قد وصلوا اليوم إلى حافة الانهيار، بعد أن أنفقوا الغالي والنفيس لإطفاء نور الله وإفناء الخلافة، وأنهكت جيوشهم الجراح، وأثقلتهم الديون، بينما لا تزال الدولة الإسلامية صامدة ثابتة بفضل الله، تقارع أمم الكفر مجتمعة ذودا عن حياض المسلمين، وحفظا لبيضة الدين، ويتجلَّى في كل يوم للعدو قبل الصديق دفاع الله عنها، وحفظه لها.
فعلى جنود الخلافة اليوم مواصلة البذل في سبيل الله، آخذين في ذلك بكل سبب، متوكلين على ربهم وحده، وأن لا يفتُروا عن القتال، ولا يتأخروا عن سوح النزال، فإن الكفار وإن نالوا من المسلمين مرة أو مرتين، أو انتزعوا منهم بعض الأرضين، فليتيقَّن الموحدون أن العاقبة لهم ما اتقوا ربهم وصبروا، {قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف: 128]، وأن انتفاش الباطل واختياله ما هو إلا ابتلاء من الله لهم ليعلم من ينصره ورسله بالغيب، {لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} [آل عمران: 196-197]، عالمين أن أعداءهم يألمون كما يألمون، وأن الله أعد لهم جنات وأعد للكافرين سعيرا، {وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء: 104]. ...المزيد
الدولة الإسلامية - مقال: العبوات الناسفة أهميتها وطرق استعمالها • بضع سنين فقط، كان ...
الدولة الإسلامية - مقال:
العبوات الناسفة
أهميتها وطرق استعمالها
• بضع سنين فقط، كان ميزان القوة يميل كل الميل لصالح الرافضة ومِن خلفهم الأمريكان ضد دولة العراق الإسلامية، وفي ذلك الزمن كان لا بد من التكيف مع الوضع الجديد، حيث فَقَد المجاهدون أغلب الأرض في معارك طاحنة في سنة 2007، وانحازت القوة القليلة المتبقية إلى قلعة السُّنة الأخيرة، الموصل.
وفي بداية 2008 كان من غير الممكن الاستمرار بالقتال التقليدي، وعندها قال أمير المؤمنين أبو عمر البغدادي -رحمه الله-: "لم يبق لنا الآن مكان نستطيع الصمود فيه ربع ساعة"، فكان لا بد لوزير الحرب أبي حمزة المهاجر -رحمه الله- أن يغيِّر طريقة القتال للحفاظ على ما تبقى من القوة، وهذا يعني التغيير الجذري في كل شيء، وأصدر وزير الحرب أمراً جريئاً غير مسبوق.
• قرار جريء:
العبوات، لقد تم إلغاء مفارز الاشتباكات والقناصة وغيرها، وتم تدريب الجميع على استخدام العبوات بدءً من الشهر الثالث من 2008، وبقليل من الوقت اقتنع المجاهدون بالطريقة الجديدة، فبدل الاصطدام بالجيش الأمريكي المدجج بالسلاح بقواتنا قليلة العدد والعدة، كان القتال داخل المدن يأخذ شكلاً جديداً تماماً، مفرزة تصنع المتفجرات في أحد البيوت، وأخرى تصنع أجهزة التفجير، ويتم تدريب مفرزة ثالثة على كيفية تمويه وزرع العبوات في الشوارع التي تمر بها مركبات المرتدين والصليبيين ودورياتهم، ويتم تدريب مفرزة أخرى على الرباط وتفجير العبوة، وكل هؤلاء يعملون في الخفاء، ويمكن أن يرابط المجاهد على العبوة أياماً طويلة دون أن يلاحظه أحد، كان هذا هو أهم المتطلبات في طريقة العمل الجديدة.
• الاستنزاف بالعبوات:
وبدأت بهذا مرحلة استنزاف طويلة دامت سنين صعبة، كان الطرفان فيها يألمان طول الوقت، ولكن المجاهدين يرجون من الله ما لا يرجوه الكفرة.
وقد شهد العالم الإبداع منقطع النظير للمجاهدين في حرب الصبر والتخفي طوال تلك السنين الصعبة، وقد أتقن المجاهدون هذا النوع من الحرب أيَّما إتقان، ولا يوجد أي مانع أن يستخدم هذا الأسلوب القتالي اليوم في الحرب ضد التحالف الصليبي، بل إن الحاجة إلى القتال تحت الطيران وإخفاء موقع رباط المجاهدين عن الطيران تحتم استخدام هذا الأسلوب في الدفاع.
• كيف نقاتل بالعبوات:
إن لهذا الأسلوب في القتال ركنان اثنان، إتقان التحضير والصبر على الرباط، والتحضير للعمل يقوم على تحديد الأماكن التي يتوقع للعدو الهجوم منها، واختيار نوع وحجم العبوات المطلوبة بلا إفراط أو تفريط، فلا حاجة للعبوات الضخمة لضرب تقدم المشاة أو السيارات غير المصفحة، وعند توقع تقدم العدو بسيارات مصفحة أو دبابات، فيجب تحضير العبوات المناسبة ووضعها في المواضع الصحيحة، وهنا يأتي دور العسكري المجرب لتوقع حركة العدو، وطريقة تقدمه، وبعد اختيار نوع العبوات، واختيار مواضع زرعها، يأتي دور طريقة التفخيخ المثلى، وهنا يأتي دور الكتائب الهندسية الخبيرة في التشريك الميكانيكي البسيط أو الإلكترونيات، والفرق بين الأسلوبين كبير، وإن الخطأ في استخدام التشريك الميكانيكي مكان الإلكتروني أو العكس يؤدي إلى نتائج سيئة، وقد يؤدي إلى تقييد حركة المجاهدين بدل وقف تقدم العدو.
• الأنواع الشائعة من العبوات:
العبوات المتحكم بها: إن العبوات الأنجع هي تلك التي يتحكم بها المجاهد المرابط ويفجِّرها بنفسه، سواءً عبر جهاز لاسلكي أو عبر سلك موصول بالعبوة لتجنب التشويش إن وُجد، ويستخدم السلك أيضاً عند عدم توفر أجهزة التفجير، ويجب طبعاً إخفاء السلك الواصل بين العبوة ومكان المجاهد المرابط، والتحضير لهذه العبوات يتضمن اختيار البطارية المناسبة لطول فترة الرباط، فلا يمكن استخدام بطارية صغيرة تنفد خلال أيام لعبوة قد يطول الرباط عليها شهراً. وفي هذا النوع من الرباط يجب على المجاهد أن يحضِّر نفسه للصبر الطويل دون أن يبتعد عن عبوته، وأن يحتضن بعينيه وتفكيره الطرق المؤدية إلى العبوة طول الوقت، وهذا العمل ينجح فيه أهل التسبيح والذكر بإذن الله، ومن المهم ألَّا يتأخر المرابط عن اللحظة المثلى للتفجير.
• التشريك ويسمى "مصائد المغفلين":
وهو عبارة عن العبوات غير المتحكم بها ومن أشهرها تلك المسماة بالمسطرة والمسبحة، ومبدؤها ببساطة هي أن العدو عندما يدوس على المسطرة أو المسبحة أو غيرها من أشكال التشريك فإنه يصل قطبي البطارية بالصاعق فيفجِّر العبوة على نفسه، وهذا النوع من التشريك يتميَّز بدقة الإصابة بإذن الله، وكذلك بطول عمر العبوة، فإن البطارية لا تنفد لمدة سنين، ولكن هذا النوع هو الأسوأ والأخطر في نفس الوقت على المجاهدين عندما يتم استخدامه بشكل خاطئ، لأنه لا يميز بين العدو والصديق.
• التشريك المتحكَّم به عن بعد:
إن ميزة التشريك هي أن العدو هو الذي يعطي بجسده أو مركبته إشارة التفجير للصاعق، وهذا يعني دقة الإصابة بإذن الله، وأما عندما يفجِّر المرابط العبوة المتحكم بها من بُعد فإن دقة الإصابة تعتمد على دقة الرؤية للهدف وعلى زمن تأخير أداة التفجير (في بعض الأجهزة)، ولكن العبوات المتحكم بها تتيح حرية الحركة حول العبوة بدون أن تنفجر بالخطأ، ولذلك فقد اخترع بعض الإخوة أسلوباً يجمع فوائد الطريقتين، وهو ببساطة أن يكون هناك مفتاحان بين البطارية والصاعق، أحدها يقوم المرابط بتوصيله عند اقتراب العدو، وأما الثاني فيقوم العدو بتوصيله بنفسه عبر الضغط على المسبحة أو غيرها من أساليب التشريك، أي أن التشريك هو مفتاح ثانٍ لا يؤدي إلى الانفجار إلا إذا كان المجاهد قد فعل المفتاح الأول من عنده، وبهذا تكون العبوة آمنة بإذن الله طالما بقي المفتاح الذي بيد المرابط مفتوحاً.
• التشريك الخاطئ:
أسوأ ممارسات التشريك هي زرع العبوات غير المتحكم بها في الأراضي المفتوحة لتكون حقل ألغام، وهذا يؤدي إلى تفكيك الطرف الذي لديه مفارز هندسية متمرِّسة للعبوات وأخذها ببساطة، وفور انفجار أول عبوة سيُدرك العدو وجود حقل عبوات فيبدأ بتفكيكها بحرية، خصوصاً إذا لم يكن المكان خاضعاً لسيطرة المجاهدين النارية بالقنص أو بالرشاشات الثقيلة أو غيرها، ونادراً ما نجحت هذه العبوات في صدِّ العدو لفترة طويلة. وأما إذا كانت مواقع هذه العبوات غير مسجلة بدقة فإن حركة المجاهدين عبرها ستكون صعبة خصوصاً إذا كان هناك قرار بالتقدم لاحقاً عبر المنطقة المفخخة.
• التشريك الجيد:
إن زرع العبوات غير المتحكم بها يكون مفيداً في حالتين:
الأولى: عندما يكون التفخيخ لمنطقة لنا عليها سطوة نارية، وتقع ضمن مدى نيراننا، وبهذا لا يمكن للعدو أن يفككها ويتقدم، بل سوف تبطئ تقدمه بشكل هائل وتوقع فيه الخسائر، فلا يمكن للفرق الهندسية العمل على التفكيك تحت النيران.
الثانية: عند إرادة منع تقدم العدو من طريق معين محدد، وهنا يكون للنجاح شرطان: أن يتم تسجيل موقع العبوة لكي نتمكن من إزالتها أو تجنبها لاحقاً إذا احتجنا لذلك، وكذلك أن يكون تمويه العبوات جيداً جداً، فلا يكون تفكيك العبوات أو تجنبها سهلاً على العدو.
أسباب السلامة عند التعامل مع العبوات:
تتكون كل عبوة يستخدمها المجاهدون من أداة تفجير أولاً، وهو الجهاز الإلكتروني أو المسبحة أو غيرها، وتقوم أداة التفجير بتوصيل سلكين لغلق الدارة الكهربائية وهذا هو الذي يمرر تيار تفجير الصاعق.
ثانياً الصاعق وهو الذي تدخل فيه الإشارة الكهربائية فينفجر انفجاراً محدود المسافة ولكن ضغطه عالٍ جداً.
ثالثاً المادة المتفجرة وهي التي تحيط بالصاعق وتنفجر بسبب انفجار الصاعق، ويمكن استخدام خلطات مختلفة أو مراحل متعددة من المتفجرات حسب المتوفر، فنضع المواد الأكثر حساسية حول الصاعق، ثم الأقل حساسية بعيداً عن الصاعق.
يُستخدم في أكثر الأحيان حبل الكوارتكس شديد الانفجار، فيتم عَقدُه في داخل المواد المتفجرة لتعمل العقدة كالصاعق، ويتم إخراج طرف الحبل البعيد عن العقدة من العبوة، وهذا يسهل ربط الصاعق وفكه حسب الحاجة، فتثبيت الصاعق إلى حبل الكوارتكس وفكه سهل نسبياً، أما وضع الصاعق في العبوة وإخراجه عند تفكيك العبوة فهو صعب، ومن الخطر نقل العبوة والصاعق موصول بها، بل يجب إبعاد الصاعق عن العبوة طالما هي في حالة خمول غير مستخدمة في الرباط.
• يتم تجهيز العبوة بثلاث خطوات مرتبة لا تقديم ولا تأخير فيها:
أولاً: ربط البطارية إلى أداة التفجير وفحصها إن كانت تعمل بشكل جيد أو لا، ويجب ألَّا يمرر الجهاز الإلكتروني التيار في الوضع العادي، بل يمرر الجهاز التيار فقط في حالة إعطاء إشارة التفجير لاسلكياً أو سلكياً، وأما التشريك فيجب أن يمرر التيار فقط عند الضغط على المسطرة أو المسبحة أو أسلوب التشريك المستعمل.
ثانياً: تربط أداة التفجير بالصاعق بعيداً عن العبوة مترين إلى ثلاثة أمتار، وهذا لضمان عدم انفجار العبوة إن كان هناك خللٌ ما، بل يحصل انفجار الصاعق وحده، والأذكياء يهتمون بهذه الخطوة ويجعلون للصاعق سلكاً طوله متران من نحاس جيد جداً، ويضعون الصاعق خلف ساتر يفصل بين الأخ والصاعق أثناء ربط سلك الصاعق بأداة التفجير، وهنا يجب ربط الأسلاك ببعضها بإحكام وعزل الموجب عن السالب بإتقان، وإلا فسوف يفشل التفجير لاحقاً إذا لم تكن الأسلاك موصلة توصيلاً جيداً أو كان فيها تماس بين القطبين.
ثالثاً: يتم ربط الصاعق بإحكام إلى العبوة وهي في مكانها النهائي المزروعة فيه، وسيفشل التفجير إن لم يكن الصاعق ملاصقاً بقوة لحبل الكوارتكس الخارج من جسم العبوة.
وأما فك العبوة بأسلوب آمن بإذن الله فيتم بعكس الترتيب السابق تماماً: يتم فك وإبعاد الصاعق عن العبوة، ثم يتم فك سلك الصاعق عن أداة التفجير، وأخيراً يتم فك البطارية عن أداة التفجير.
• الخطأ الأكبر:
وأخطر الممارسات في التعامل مع العبوة هي فك أو تركيب البطارية مع كون العبوة جاهزة للتفجير وجميع قطعها متصلة ببعضها، فإن فك أو تركيب البطارية يُدخل الجهاز الإلكتروني في حالةٍ غيرِ مُعروفةِ النتيجة للحظةٍ زمنيةٍ قصيرةٍ جداً، وهنا يكمن الخطر، فيجب ألا تربط أو تفك البطارية إلا عندما يكون الجهاز الإلكتروني منعزلا فقط.
• من الذي يعمل في التفخيخ:
إن فائدة الرباط بالعبوات تُحتم على جميع المجاهدين تعلمها، ولا يوجد نقطة رباط إلا ويمكن لها الاستفادة الكبيرة من زرع العبوات للعدو لوقف تقدمه وإيقاع الخسائر به، وإن سهولة استخدام العبوات وعِظَمَ فائدتها تجعل تعلُّمَها مغرياً للجميع، ولكن للعمل بها خطوات لا بد من اتباعها بلا اجتهاد أو تهور.
مثال ناجح على استخدام إبداعي للعبوات:
في معارك ريف حلب الشمالي قام فريق من المجاهدين بتحضير حفلة نارية رائعة لمرتدي الصحوات، عملوا طوال أيام بذكاءٍ نادر، وقاموا بتفخيخ قرية كاملة قبل الانسحاب منها، فخخوا كل شيء في القرية، وقاموا بتمويه العبوات بحيث لا يمكن تمييزها، ولم يقتصروا على تفخيخ الشوارع أو الصخور والحُفر كالعادة، بل لبنات الجدران داخل البيوت، والدَّرج والعتبات والدراجات، وحتى داخل خزائن الملابس وأثاث المنازل، وعندما هجم المرتدون كما هو متوقع، قام الإخوة بصدهم قليلاً ثم انحازوا إلى القرى التي في الخلف، ليدخل المرتدون وهم يعيشون وَهم النصر إلى هزيمة مميزة ما زلنا نضحك منها حتى اليوم.
كان تمويه العبوات ناجحاً تماماً، وكانت العبوات معدة للعمل بعد ساعات وليس عند أول دخول المرتدين. قام المرتدون بتمشيط القرية ولم يجدوا شيئاً، ثم انتشروا في المنازل للاحتفال واللّعب والتصوير والنوم، ومن بعيد كان الإخوة الذين زرعوا العبوات ينتظرون ساعة الحصاد.
في الليل، كان المرتدون نائمين عندما استيقظت العبوات، وأصبحت جاهزة للتفاعل مع أي لمسة أو حركة، وعندما جاء صباح الكافرين، كان يوماً دامياً، كان كل شيءٍ قابلاً للانفجار، يمر أحدهم بعتبة الباب فلا يسير بعدها خطوة واحدة، وتجد جزءاً من قدميه ملتصقاً بالسقف، يفتح أحدهم الخزانة فلا يجدون بعدها من جسده شيئاً، بدؤوا بالركض على غير هدى، وهم يفجرون أنفسهم في كل حركة، وفي وقت قصير انتهت الحفلة الصاخبة، ولم يخرج من الحضور أحد، ولم يعرف الذين قُتلوا كيف انتهت أعمارهم، ولم يجدوا سعة من الوقت ليخبروا أحداً عن الذي حصل.
• أسباب النجاح:
أهم القواعد هي أن تعلم أن "وقت العمل الحقيقي هو وقت زرع العبوات"، وأما بعد ذلك فهو وقت الحصاد وليس وقت الزرع، فلا تهتم بأي وقت قدر اهتمامك بوقت زرع العبوة، اختر المكان الجيد والتمويه الجيد وطريقة التفجير المناسبة، وسوف تحصد حصاداً جيداً بإذن الله.
ويتميز العاملون الناجحون في هذا المجال بالذكر وبشدة التعلق بالله، وربما يكون هذا بسبب طول وقت الرباط.
• التعويض عن فرق القوة النارية:
كما هو واضح، فإن قوةً مدججةً بالسلاح يمكن إفناؤها إذا تم استخدام العبوات بشكل صحيح، فإن مجاهداً واحداً يرابط بصدق على عبواته ويتقن عمله يستطيع بعون الله صدَّ أكبر قوة تتقدم إلى منطقة دفاعه، وإن المجاهد إذا تمكن من البقاء مختفياً فلن يستفيد العدو من طيرانه أو قوته النارية الأرضية، أي أن العبوات توفر الفرصة لضرب العدو من حيث لا يدري، وفي هذا الأسلوب القتالي لا يحتاج المجاهد لتغيير مكانه بعد التنفيذ، بل يحتاج فقط أن يضبط أعصابه وأن لا ينساق لحيل العدو لمعرفة مكانه، فلا يطلق النار على العدو ولا ينسى ما هو سلاحه الرئيسي، وأما البندقية والمسدس فهي فقط للدفاع الشخصي إذا وصل إليه العدو، والوضع الطبيعي هو أن لا يحتاجها.
• المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 101
الخميس 22 محرم 1439 هـ ...المزيد
العبوات الناسفة
أهميتها وطرق استعمالها
• بضع سنين فقط، كان ميزان القوة يميل كل الميل لصالح الرافضة ومِن خلفهم الأمريكان ضد دولة العراق الإسلامية، وفي ذلك الزمن كان لا بد من التكيف مع الوضع الجديد، حيث فَقَد المجاهدون أغلب الأرض في معارك طاحنة في سنة 2007، وانحازت القوة القليلة المتبقية إلى قلعة السُّنة الأخيرة، الموصل.
وفي بداية 2008 كان من غير الممكن الاستمرار بالقتال التقليدي، وعندها قال أمير المؤمنين أبو عمر البغدادي -رحمه الله-: "لم يبق لنا الآن مكان نستطيع الصمود فيه ربع ساعة"، فكان لا بد لوزير الحرب أبي حمزة المهاجر -رحمه الله- أن يغيِّر طريقة القتال للحفاظ على ما تبقى من القوة، وهذا يعني التغيير الجذري في كل شيء، وأصدر وزير الحرب أمراً جريئاً غير مسبوق.
• قرار جريء:
العبوات، لقد تم إلغاء مفارز الاشتباكات والقناصة وغيرها، وتم تدريب الجميع على استخدام العبوات بدءً من الشهر الثالث من 2008، وبقليل من الوقت اقتنع المجاهدون بالطريقة الجديدة، فبدل الاصطدام بالجيش الأمريكي المدجج بالسلاح بقواتنا قليلة العدد والعدة، كان القتال داخل المدن يأخذ شكلاً جديداً تماماً، مفرزة تصنع المتفجرات في أحد البيوت، وأخرى تصنع أجهزة التفجير، ويتم تدريب مفرزة ثالثة على كيفية تمويه وزرع العبوات في الشوارع التي تمر بها مركبات المرتدين والصليبيين ودورياتهم، ويتم تدريب مفرزة أخرى على الرباط وتفجير العبوة، وكل هؤلاء يعملون في الخفاء، ويمكن أن يرابط المجاهد على العبوة أياماً طويلة دون أن يلاحظه أحد، كان هذا هو أهم المتطلبات في طريقة العمل الجديدة.
• الاستنزاف بالعبوات:
وبدأت بهذا مرحلة استنزاف طويلة دامت سنين صعبة، كان الطرفان فيها يألمان طول الوقت، ولكن المجاهدين يرجون من الله ما لا يرجوه الكفرة.
وقد شهد العالم الإبداع منقطع النظير للمجاهدين في حرب الصبر والتخفي طوال تلك السنين الصعبة، وقد أتقن المجاهدون هذا النوع من الحرب أيَّما إتقان، ولا يوجد أي مانع أن يستخدم هذا الأسلوب القتالي اليوم في الحرب ضد التحالف الصليبي، بل إن الحاجة إلى القتال تحت الطيران وإخفاء موقع رباط المجاهدين عن الطيران تحتم استخدام هذا الأسلوب في الدفاع.
• كيف نقاتل بالعبوات:
إن لهذا الأسلوب في القتال ركنان اثنان، إتقان التحضير والصبر على الرباط، والتحضير للعمل يقوم على تحديد الأماكن التي يتوقع للعدو الهجوم منها، واختيار نوع وحجم العبوات المطلوبة بلا إفراط أو تفريط، فلا حاجة للعبوات الضخمة لضرب تقدم المشاة أو السيارات غير المصفحة، وعند توقع تقدم العدو بسيارات مصفحة أو دبابات، فيجب تحضير العبوات المناسبة ووضعها في المواضع الصحيحة، وهنا يأتي دور العسكري المجرب لتوقع حركة العدو، وطريقة تقدمه، وبعد اختيار نوع العبوات، واختيار مواضع زرعها، يأتي دور طريقة التفخيخ المثلى، وهنا يأتي دور الكتائب الهندسية الخبيرة في التشريك الميكانيكي البسيط أو الإلكترونيات، والفرق بين الأسلوبين كبير، وإن الخطأ في استخدام التشريك الميكانيكي مكان الإلكتروني أو العكس يؤدي إلى نتائج سيئة، وقد يؤدي إلى تقييد حركة المجاهدين بدل وقف تقدم العدو.
• الأنواع الشائعة من العبوات:
العبوات المتحكم بها: إن العبوات الأنجع هي تلك التي يتحكم بها المجاهد المرابط ويفجِّرها بنفسه، سواءً عبر جهاز لاسلكي أو عبر سلك موصول بالعبوة لتجنب التشويش إن وُجد، ويستخدم السلك أيضاً عند عدم توفر أجهزة التفجير، ويجب طبعاً إخفاء السلك الواصل بين العبوة ومكان المجاهد المرابط، والتحضير لهذه العبوات يتضمن اختيار البطارية المناسبة لطول فترة الرباط، فلا يمكن استخدام بطارية صغيرة تنفد خلال أيام لعبوة قد يطول الرباط عليها شهراً. وفي هذا النوع من الرباط يجب على المجاهد أن يحضِّر نفسه للصبر الطويل دون أن يبتعد عن عبوته، وأن يحتضن بعينيه وتفكيره الطرق المؤدية إلى العبوة طول الوقت، وهذا العمل ينجح فيه أهل التسبيح والذكر بإذن الله، ومن المهم ألَّا يتأخر المرابط عن اللحظة المثلى للتفجير.
• التشريك ويسمى "مصائد المغفلين":
وهو عبارة عن العبوات غير المتحكم بها ومن أشهرها تلك المسماة بالمسطرة والمسبحة، ومبدؤها ببساطة هي أن العدو عندما يدوس على المسطرة أو المسبحة أو غيرها من أشكال التشريك فإنه يصل قطبي البطارية بالصاعق فيفجِّر العبوة على نفسه، وهذا النوع من التشريك يتميَّز بدقة الإصابة بإذن الله، وكذلك بطول عمر العبوة، فإن البطارية لا تنفد لمدة سنين، ولكن هذا النوع هو الأسوأ والأخطر في نفس الوقت على المجاهدين عندما يتم استخدامه بشكل خاطئ، لأنه لا يميز بين العدو والصديق.
• التشريك المتحكَّم به عن بعد:
إن ميزة التشريك هي أن العدو هو الذي يعطي بجسده أو مركبته إشارة التفجير للصاعق، وهذا يعني دقة الإصابة بإذن الله، وأما عندما يفجِّر المرابط العبوة المتحكم بها من بُعد فإن دقة الإصابة تعتمد على دقة الرؤية للهدف وعلى زمن تأخير أداة التفجير (في بعض الأجهزة)، ولكن العبوات المتحكم بها تتيح حرية الحركة حول العبوة بدون أن تنفجر بالخطأ، ولذلك فقد اخترع بعض الإخوة أسلوباً يجمع فوائد الطريقتين، وهو ببساطة أن يكون هناك مفتاحان بين البطارية والصاعق، أحدها يقوم المرابط بتوصيله عند اقتراب العدو، وأما الثاني فيقوم العدو بتوصيله بنفسه عبر الضغط على المسبحة أو غيرها من أساليب التشريك، أي أن التشريك هو مفتاح ثانٍ لا يؤدي إلى الانفجار إلا إذا كان المجاهد قد فعل المفتاح الأول من عنده، وبهذا تكون العبوة آمنة بإذن الله طالما بقي المفتاح الذي بيد المرابط مفتوحاً.
• التشريك الخاطئ:
أسوأ ممارسات التشريك هي زرع العبوات غير المتحكم بها في الأراضي المفتوحة لتكون حقل ألغام، وهذا يؤدي إلى تفكيك الطرف الذي لديه مفارز هندسية متمرِّسة للعبوات وأخذها ببساطة، وفور انفجار أول عبوة سيُدرك العدو وجود حقل عبوات فيبدأ بتفكيكها بحرية، خصوصاً إذا لم يكن المكان خاضعاً لسيطرة المجاهدين النارية بالقنص أو بالرشاشات الثقيلة أو غيرها، ونادراً ما نجحت هذه العبوات في صدِّ العدو لفترة طويلة. وأما إذا كانت مواقع هذه العبوات غير مسجلة بدقة فإن حركة المجاهدين عبرها ستكون صعبة خصوصاً إذا كان هناك قرار بالتقدم لاحقاً عبر المنطقة المفخخة.
• التشريك الجيد:
إن زرع العبوات غير المتحكم بها يكون مفيداً في حالتين:
الأولى: عندما يكون التفخيخ لمنطقة لنا عليها سطوة نارية، وتقع ضمن مدى نيراننا، وبهذا لا يمكن للعدو أن يفككها ويتقدم، بل سوف تبطئ تقدمه بشكل هائل وتوقع فيه الخسائر، فلا يمكن للفرق الهندسية العمل على التفكيك تحت النيران.
الثانية: عند إرادة منع تقدم العدو من طريق معين محدد، وهنا يكون للنجاح شرطان: أن يتم تسجيل موقع العبوة لكي نتمكن من إزالتها أو تجنبها لاحقاً إذا احتجنا لذلك، وكذلك أن يكون تمويه العبوات جيداً جداً، فلا يكون تفكيك العبوات أو تجنبها سهلاً على العدو.
أسباب السلامة عند التعامل مع العبوات:
تتكون كل عبوة يستخدمها المجاهدون من أداة تفجير أولاً، وهو الجهاز الإلكتروني أو المسبحة أو غيرها، وتقوم أداة التفجير بتوصيل سلكين لغلق الدارة الكهربائية وهذا هو الذي يمرر تيار تفجير الصاعق.
ثانياً الصاعق وهو الذي تدخل فيه الإشارة الكهربائية فينفجر انفجاراً محدود المسافة ولكن ضغطه عالٍ جداً.
ثالثاً المادة المتفجرة وهي التي تحيط بالصاعق وتنفجر بسبب انفجار الصاعق، ويمكن استخدام خلطات مختلفة أو مراحل متعددة من المتفجرات حسب المتوفر، فنضع المواد الأكثر حساسية حول الصاعق، ثم الأقل حساسية بعيداً عن الصاعق.
يُستخدم في أكثر الأحيان حبل الكوارتكس شديد الانفجار، فيتم عَقدُه في داخل المواد المتفجرة لتعمل العقدة كالصاعق، ويتم إخراج طرف الحبل البعيد عن العقدة من العبوة، وهذا يسهل ربط الصاعق وفكه حسب الحاجة، فتثبيت الصاعق إلى حبل الكوارتكس وفكه سهل نسبياً، أما وضع الصاعق في العبوة وإخراجه عند تفكيك العبوة فهو صعب، ومن الخطر نقل العبوة والصاعق موصول بها، بل يجب إبعاد الصاعق عن العبوة طالما هي في حالة خمول غير مستخدمة في الرباط.
• يتم تجهيز العبوة بثلاث خطوات مرتبة لا تقديم ولا تأخير فيها:
أولاً: ربط البطارية إلى أداة التفجير وفحصها إن كانت تعمل بشكل جيد أو لا، ويجب ألَّا يمرر الجهاز الإلكتروني التيار في الوضع العادي، بل يمرر الجهاز التيار فقط في حالة إعطاء إشارة التفجير لاسلكياً أو سلكياً، وأما التشريك فيجب أن يمرر التيار فقط عند الضغط على المسطرة أو المسبحة أو أسلوب التشريك المستعمل.
ثانياً: تربط أداة التفجير بالصاعق بعيداً عن العبوة مترين إلى ثلاثة أمتار، وهذا لضمان عدم انفجار العبوة إن كان هناك خللٌ ما، بل يحصل انفجار الصاعق وحده، والأذكياء يهتمون بهذه الخطوة ويجعلون للصاعق سلكاً طوله متران من نحاس جيد جداً، ويضعون الصاعق خلف ساتر يفصل بين الأخ والصاعق أثناء ربط سلك الصاعق بأداة التفجير، وهنا يجب ربط الأسلاك ببعضها بإحكام وعزل الموجب عن السالب بإتقان، وإلا فسوف يفشل التفجير لاحقاً إذا لم تكن الأسلاك موصلة توصيلاً جيداً أو كان فيها تماس بين القطبين.
ثالثاً: يتم ربط الصاعق بإحكام إلى العبوة وهي في مكانها النهائي المزروعة فيه، وسيفشل التفجير إن لم يكن الصاعق ملاصقاً بقوة لحبل الكوارتكس الخارج من جسم العبوة.
وأما فك العبوة بأسلوب آمن بإذن الله فيتم بعكس الترتيب السابق تماماً: يتم فك وإبعاد الصاعق عن العبوة، ثم يتم فك سلك الصاعق عن أداة التفجير، وأخيراً يتم فك البطارية عن أداة التفجير.
• الخطأ الأكبر:
وأخطر الممارسات في التعامل مع العبوة هي فك أو تركيب البطارية مع كون العبوة جاهزة للتفجير وجميع قطعها متصلة ببعضها، فإن فك أو تركيب البطارية يُدخل الجهاز الإلكتروني في حالةٍ غيرِ مُعروفةِ النتيجة للحظةٍ زمنيةٍ قصيرةٍ جداً، وهنا يكمن الخطر، فيجب ألا تربط أو تفك البطارية إلا عندما يكون الجهاز الإلكتروني منعزلا فقط.
• من الذي يعمل في التفخيخ:
إن فائدة الرباط بالعبوات تُحتم على جميع المجاهدين تعلمها، ولا يوجد نقطة رباط إلا ويمكن لها الاستفادة الكبيرة من زرع العبوات للعدو لوقف تقدمه وإيقاع الخسائر به، وإن سهولة استخدام العبوات وعِظَمَ فائدتها تجعل تعلُّمَها مغرياً للجميع، ولكن للعمل بها خطوات لا بد من اتباعها بلا اجتهاد أو تهور.
مثال ناجح على استخدام إبداعي للعبوات:
في معارك ريف حلب الشمالي قام فريق من المجاهدين بتحضير حفلة نارية رائعة لمرتدي الصحوات، عملوا طوال أيام بذكاءٍ نادر، وقاموا بتفخيخ قرية كاملة قبل الانسحاب منها، فخخوا كل شيء في القرية، وقاموا بتمويه العبوات بحيث لا يمكن تمييزها، ولم يقتصروا على تفخيخ الشوارع أو الصخور والحُفر كالعادة، بل لبنات الجدران داخل البيوت، والدَّرج والعتبات والدراجات، وحتى داخل خزائن الملابس وأثاث المنازل، وعندما هجم المرتدون كما هو متوقع، قام الإخوة بصدهم قليلاً ثم انحازوا إلى القرى التي في الخلف، ليدخل المرتدون وهم يعيشون وَهم النصر إلى هزيمة مميزة ما زلنا نضحك منها حتى اليوم.
كان تمويه العبوات ناجحاً تماماً، وكانت العبوات معدة للعمل بعد ساعات وليس عند أول دخول المرتدين. قام المرتدون بتمشيط القرية ولم يجدوا شيئاً، ثم انتشروا في المنازل للاحتفال واللّعب والتصوير والنوم، ومن بعيد كان الإخوة الذين زرعوا العبوات ينتظرون ساعة الحصاد.
في الليل، كان المرتدون نائمين عندما استيقظت العبوات، وأصبحت جاهزة للتفاعل مع أي لمسة أو حركة، وعندما جاء صباح الكافرين، كان يوماً دامياً، كان كل شيءٍ قابلاً للانفجار، يمر أحدهم بعتبة الباب فلا يسير بعدها خطوة واحدة، وتجد جزءاً من قدميه ملتصقاً بالسقف، يفتح أحدهم الخزانة فلا يجدون بعدها من جسده شيئاً، بدؤوا بالركض على غير هدى، وهم يفجرون أنفسهم في كل حركة، وفي وقت قصير انتهت الحفلة الصاخبة، ولم يخرج من الحضور أحد، ولم يعرف الذين قُتلوا كيف انتهت أعمارهم، ولم يجدوا سعة من الوقت ليخبروا أحداً عن الذي حصل.
• أسباب النجاح:
أهم القواعد هي أن تعلم أن "وقت العمل الحقيقي هو وقت زرع العبوات"، وأما بعد ذلك فهو وقت الحصاد وليس وقت الزرع، فلا تهتم بأي وقت قدر اهتمامك بوقت زرع العبوة، اختر المكان الجيد والتمويه الجيد وطريقة التفجير المناسبة، وسوف تحصد حصاداً جيداً بإذن الله.
ويتميز العاملون الناجحون في هذا المجال بالذكر وبشدة التعلق بالله، وربما يكون هذا بسبب طول وقت الرباط.
• التعويض عن فرق القوة النارية:
كما هو واضح، فإن قوةً مدججةً بالسلاح يمكن إفناؤها إذا تم استخدام العبوات بشكل صحيح، فإن مجاهداً واحداً يرابط بصدق على عبواته ويتقن عمله يستطيع بعون الله صدَّ أكبر قوة تتقدم إلى منطقة دفاعه، وإن المجاهد إذا تمكن من البقاء مختفياً فلن يستفيد العدو من طيرانه أو قوته النارية الأرضية، أي أن العبوات توفر الفرصة لضرب العدو من حيث لا يدري، وفي هذا الأسلوب القتالي لا يحتاج المجاهد لتغيير مكانه بعد التنفيذ، بل يحتاج فقط أن يضبط أعصابه وأن لا ينساق لحيل العدو لمعرفة مكانه، فلا يطلق النار على العدو ولا ينسى ما هو سلاحه الرئيسي، وأما البندقية والمسدس فهي فقط للدفاع الشخصي إذا وصل إليه العدو، والوضع الطبيعي هو أن لا يحتاجها.
• المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 101
الخميس 22 محرم 1439 هـ ...المزيد
سلسلة علمية في بيان مسائل منهجية (3-4) • تَكْفِيرُ الْمُشْـرِكِينَ الحمد لله رب العالمين، ...
سلسلة علمية
في بيان مسائل منهجية
(3-4)
• تَكْفِيرُ الْمُشْـرِكِينَ
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شـريك له الملك الحق المبين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله إمام الأولين والآخرين، أما بعد:
ففي هذه الحلقة نبدأ الحديث -بعون الله تعالى- عن تكفير المشـركين، وسنتكلم عن مسألتين:
المسألة الأولى: سنجيب فيها على سؤال: ما هي منزلة التكفير من الدين؟
المسألة الثانية: نذكر فيها العلة أو المناط أو السبب في كفر المتوقف في تكفير المشـركين.
وقبل الشـروع في ذلك نذكر بعض نصوص أهل العلم في كفر من لم يكفر الكافر...
قال أبو الحسين الملطي الشافعي -رحمه الله-: "جميع أهل القبلة لا اختلاف بينهم أن من شك في كافر فهو كافر". (1) انتهى كلامه.
وقال القاضـي عياض -رحمه الله: "نكفر من لم يكفر من دان بغير ملة المسلمين من الملل، أو وقف فيهم، أو شك، أو صحح مذهبهم، وإن أظهر مع ذلك الإسلام واعتقده واعتقد إبطال كل مذهب سواه، فهو كافر بإظهاره ما أظهر من خلاف ذلك". (2) انتهى كلامه.
وقال النووي -رحمه الله-: "من لم يكفر من دان بغير الإسلام كالنصارى، أو شك في تكفيرهم، أو صحح مذهبهم، فهو كافر". (3)
ونص الحجاوي -رحمه الله- على أن من "لم يكفر من دان بغير الإسلام؛ كالنصارى، أو شك في كفرهم أو صحح مذهبهم... فهو كافر".(4) انتهى كلامه.
ونص البهوتي -رحمه الله- على تكفير من "لم يكفر من دان بغير دين الإسلام كأهل الكتاب، أو شك في كفرهم، أو صحح مذهبهم".(5)
وقال الشيخ المجدد محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله-: "من لم يكفر المشـركين، أو شك في كفرهم، أو صحح مذهبهم كفر إجماعا". ا.هـ(6)
انتهى كلامهم رحمهم الله.
ونشـرع الآن في بيان المسألة الأولى: وهي الإجابة على سؤال: ما هي منزلة التكفير من الدين؟
والجواب هو أن التكفير حكم شـرعي محض، لا مدخل للعقل فيه، ولا يدخل تحت مسائل ومعاني أصل الدين، والتي سبق وأن بيناها في الحلقة السابقة.
إذن تكفير المشـركين من واجبات الدين وليس من أصل الدين.
طيب ما الفرق؟
الفرق أن ما كان من أصل الدين، فإنه لا يعذر المرء فيه بجهل، ولا تشترط إقامة الحجة على تاركه أو تارك بعضه.
أما التكفير فهو حكم شـرعي قد يعذر فيه بالجهل والتأويل.
ثم إن التكفير ليس على مستوى واحد، بل له مراتب، فأعلاها ما هو معلوم من الدين بالضـرورة؛ كتكفير من كفرهم الله تعالى في كتابه على التعيين؛ كإبليس وفرعون وكل من دان بغير الإسلام؛ كاليهود والنصارى وعباد الأصنام.
وأدناها ما اختلف في تكفير مرتكبه؛ كتارك الصلاة وغير ذلك، وبينهما مراتب متفاوتة، وهو ما سوف نتناوله في حلقة قادمة بإذن الله تعالى.
قلنا: إن التكفير من واجبات الدين، وأنه حكم شـرعي، وليس له مورد سوى الأدلة الشـرعية، ولا مدخل للعقل فيه، وقد تتابع أهل العلم على تقرير ذلك وتأكيده، وإليكم بعض أقوالهم:
قال القاضـي عياض -رحمه الله-: "فصل في بيان ما هو من المقالات كفر وما يتوقف أو يختلف فيه، وما ليس بكفر: اعلم أن تحقيق هذا الفصل وكشف اللبس فيه مورده الشـرع، ولا مجال للعقل فيه".(7) انتهى كلامه.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- : "التكفير حكم شـرعي، يرجع إلى إباحة المال، وسفك الدماء، والحكم بالخلود في النار، فمأخذه كمأخذ سائر الأحكام الشـرعية".(8)
وقال -رحمه الله-: "فإن الكفر والفسق أحكام شـرعية، ليس ذلك من الأحكام التي يستقل بها العقل؛ فالكافر من جعله الله ورسوله كافرا، والفاسق من جعله الله ورسوله فاسقا، كما أن المؤمن والمسلم من جعله الله ورسوله مؤمنا ومسلما..-إلى أن قال: - فهذه المسائل كلها ثابتة بالشـرع".(9)
وقال -رحمه الله-: "الإيمان والكفر هما من الأحكام التي ثبتت بالرسالة، وبالأدلة الشـرعية يميز بين المؤمن والكافر، لا بمجرد الأدلة العقلية". (10) انتهى كلامه.
وقال العلامة ابن القيم -رحمه الله- :
الكفر حق الله ثم رسوله
بالنص يثبت لا بقول فلان
من كان رب العالمين وعبده
قد كفراه فذاك ذو الكفران(11)
وقال ابن الوزير الصنعاني -رحمه الله: "أن الدليل على الكفر والفسق لا يكون إلا سمعيا قطعيا، ولا نزاع في ذلك".(12) انتهى كلامه
وعليه نقول: إن من جهل حكم الشـرع في أحد الكفار أو المشـركين أو إحدى طوائفهم: لا يكون حكمه كحكم من أشـرك، لأن الذي أشـرك نقض أصل الدين؛ كما ذكرنا في الحلقة السابقة، وإنما حكمه كحكم كل من جهل شـريعة أو فريضة من فرائض الإسلام، فمن قامت عليه الحجة الرسالية في ذلك كفر، ومن لم تبلغه الحجة الرسالية في ذلك فليس بكافر، بخلاف من جهل التوحيد؛ الذي هو أصل الدين؛ فإنه كافر كفر جهل.
هذا وقد تتابع أهل العلم على تقرير الفرق بين الجهل بأصل الدين والجهل بالواجبات الشـرعية:
فقد نقل الإمام محمد بن نصـر المروزي عن طائفة من أهل الحديث قولهم: "ولما كان العلم بـالله إيمانا والجهل به كفرا، وكان العمل بالفرائض إيمانا والجهل بها قبل نزولها ليس بكفر... إلى أن قالوا: وإنما يكفر من جحدها لتكذيبه خبر الله، ولو لم يأت خبر من الله ما كان بجهلها كافرا، وبعد مجيء الخبر من لم يسمع بالخبر من المسلمين لم يكن بجهلها كافرا، والجهل بـالله في كل حال كفر، قبل الخبر وبعد الخبر". (13) انتهى كلامه -رحمه الله-
وأما صفة قيام الحجة وكيفية تحقيق هذا الشـرط قبل التكفير، فإن ذلك يختلف بحسب ظهور المسألة وخفائها، فقد تقوم الحجة بمجرد وجود المتوقف عن التكفير في مظنة العلم، بحيث يكون بتوقفه معرضا لا جاهلا، وبحيث لا يعذر إلا من كان حديث عهد بإسلام، أو نشأ في بادية بعيدة، وقد تكون إقامة الحجة بتبيين النص الشـرعي الدال على كفر من فعل كذا أو قال كذا، ولا يكتفى بمجرد البلوغ العام للقرآن، وقد تكون إقامة الحجة بتبيين الدليل مع إزالة الشبهة والإجابة عن الدليل المعارض، وسيأتي مزيد توضيح لهذه المسألة عند الحديث عن مراتب المتوقفين.
ويستدل على التفريق بين الجهل بالشـرائع والجهل بأصل الدين أو على أن تكفير المشـركين من الشـرائع ليس من أصل الدين بعدة من الأدلة، أذكر منها:
إن جميع الأنبياء عليهم السلام بدءوا أقوامهم بالدعوة إلى عبادة الله وحده لا شـريك له، ولو أن الجهل بأحكام التكفير كفر لما تأخر بيانها عن بيان أصل الدين لحظة واحدة.
ومن الأدلة أيضا على التفريق أن التكفير من واجبات الدين وأنه حكم شـرعي وليس من أصل الدين ما ثبت أن من الصحابة رضي الله عنهم، من توقف في تكفير قوم وقعوا في الردة، وسموهم مسلمين، ولما نزلت الآيات التي بينت كفر هؤلاء القوم لم يستتابوا من توقفهم، بينما ثبت أن أحد الصحابة وقع في الشـرك جاهلا، ومع ذلك كفره الصحابة، وأمره النبي صلى الله عليه وسلم بتجديد إسلامه، وهذا يدل على الفرق بين من وقع في الشـرك جاهلا، وبين من جهل الشـرائع.
فعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "كان قوم من أهل مكة أسلموا، وكانوا يستخفون بالإسلام، فأخرجهم المشـركون معهم يوم بدر، فأصيب بعضهم وقتل بعض، فقال المسلمون: "كان أصحابنا هؤلاء مسلمين وأكرهوا فـــاستغفروا لهم"، فنزلت: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 97، 98]، قال: فكتب إلي من بقي من المسلمين بهذه الآية، وأنه لا عذر لهم، قال: فخرجوا فلحقهم المشـركون فأعطوهم الفتنة، فنزلت فيهم هذه الآية: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ} [العنكبوت: ١٠] الْآيَةَ".(14)
قال الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله : "فأنزل الله هذه الآية، وبين فيها حكم هؤلاء المشـركين، وأنهم من أهل النار مع تكلمهم بالإسلام".(15) انتهى كلامه.
وعن سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- قال: كنا نذكر بعض الأمر، وأنا حديث عهد بالجاهلية، فحلفت باللات والعزى، فقال لي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: بئس ما قلت، ائت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره؛ فإنا لا نراك إلا قد كفرت، فلقيته فأخبرته، فقال: «قل: لا إله إلا الله وحده ثلاث مرات، وتعوذ من الشيطان ثلاث مرات، واتفل عن شمالك ثلاث مرات، ولا تعد له».(16)
وقال ابن الوزير الصنعاني-رحمه الله- معلقا على هذا الحديث: "وهذا أمر بتجديد الإسلام".(17) انتهى كلامه.
وقال ابن العربي المالكي -رحمه الله- "فمن قال في الإسلام في يمينه واللات والعزى مؤكدا ليمينه بذلك على معنى التعظيم فيه: كافر حقيقة". ا.هـ(18)
وقال الشيخ سليمان بن عبد الله -رحمه الله- : "أخذ به -يعني حديث سعد -رضي الله عنه- طائفة من العلماء فقالوا يكفر من حلف بغير الله كفر شـرك، قالوا: ولهذا أمره النبي صلى الله عليه وسلم بتجديد إسلامه بقول لا إله إلا الله، فلولا أنه كفر ينقل عن الملة لم يؤمر بذلك، وقال الجمهور: لا يكفر كفرا ينقله عن الملة، لكنه من الشـرك الأصغر".(19) انتهى كلامه.
فلم يعذر- رضي الله عنه- في ذلك مع أنه حديث عهد بجاهلية..
ومن الأدلة أيضا على التفريق أن التكفير من واجبات الدين، وأنه حكم شـرعي وليس من أصل الدين الذي لا يعذر فيه أحد: ما روي أن الصحابة -رضي الله عنهم- اختلفوا في تكفير بعض المرتدين، فلما بين الله تعالى كفر هؤلاء القوم لم يأمر من توقف فيهم بتجديد إسلامه.
فقد قال الله تعالى: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا * وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [النساء: 88 - 89]
وصح في سبب نزولها أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى أحد، فرجع ناس ممن كان معه، فكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فيهم فرقتين، قال بعضهم: "نقتلهم"، وقال بعضهم: "لا".(20)
وصح عن مجاهد -رحمه الله- أنه قال: "قوم خرجوا من مكة حتى أتوا المدينة يزعمون أنهم مهاجرون، ثم ارتدوا بعد ذلك، فـاستأذنوا النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة؛ ليأتوا ببضائع لهم يتجرون فيها، فـاختلف فيهم المؤمنون، فقائل يقول: "هم منافقون"، وقائل يقول: "هم مؤمنون"، فبين الله نفاقهم، فأمر بقتالهم".(21)
وقد روي بهذا المعنى عن عبد الرحمن بن عوف، وابن عباس -رضي الله عنهم-، وصح بنحوه مرسلا عن عدة من التابعين وهم: عكرمة، والسدي، وقتادة، ومحمد بن كعب القرظي رحمهم الله.
وقال الإمام الطبري -رحمه الله- في تأويل قوله تعالى: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا { [النساء: ٨٨]، قال: "يعني بذلك: والله ردهم إلى أحكام أهل الشـرك في إباحة دمائهم، وسبي ذراريهم". (22) انتهى كلامه.
وقد رجح الإمام الطبري أن هذه الآية نزلت في قوم ارتدوا عن الإسلام، حيث قال بعدما ذكر أقوال السلف في سبب نزولها: "وأولى هذه الأقوال بالصواب في ذلك: قول من قال: نزلت هذه الآية في اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوم كانوا ارتدوا عن الإسلام بعد إسلامهم من أهل مكة".(23) انتهى كلامه.
وقال ابن أبي زمنين -رحمه الله-: "هم قوم من المنافقين كانوا بالمدينة؛ فخرجوا منها إلى مكة، ثم خرجوا من مكة إلى اليمامة تجارا فـارتدوا عن الإسلام، وأظهروا ما في قلوبهم من الشـرك، فلقيهم المسلمون، فكانوا فيهم فئتين؛ أي فرقتين، فقال بعضهم: قد حلت دماؤهم؛ هم مشـركون مرتدون، وقال بعضهم: لم تحل دماؤهم؛ هم قوم عرضت لهم فتنة، فقال الله تعالى: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ}".(24) انْتَهَىٰ كَلَامُهُ رحمه الله.
ومن الأدلة أيضا: ما رجحه طائفة من العلماء أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- توقف في تكفير مانعي الزكاة في بادئ أمرهم، ولما بين له أبو بكر -رضي الله عنه- كفرهم وافقه، ولم يستتبه على توقفه فيهم.
فقد صح عن عمر -رضي الله عنه- أنه قال لأبي بكر -رضي الله عنه- في شأن "المرتدين" : كيف تقاتل الناس؟ وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فمن قالها فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه، وحسابه على الله ».(25)
وقد توقف بعض أئمة السلف -في بادئ الأمر- كفر من قال بخلق القرآن، ومنهم توقف في كفر الجهمية على الرغم من شدته، فلم يكونوا بذلك كفارا، ولما تبين لهم الدليل على كفرهم لم يتوقفوا فيهم، ولم يجددوا إسلامهم لأجل ما سبق من توقفهم.
فعن يعقوب بن إبراهيم الدورقي، قال: "سألت أحمد بن حنبل عمن يقول: القرآن مخلوق، فقال: "كنت لا أكفرهم حتى قرأت آيات من القرآن: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} [البقرة: 145]، وَقَوْلَهُ: {بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} [البقرة: 120[" وقوله: {أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ } [النساء: 166]" .(26)
وعن ابن عمار الموصلي -رحمه الله- قال: "يقول لي ابن المديني: ما يمنعك أن تكفرهم؟! -يعني: الجهمية- قال: وكنت أنا أولا أمتنع أن أكفرهم حتى قال ابن المديني ما قال، فلما أجاب إلى المحنة، كتبت إليه كتابا أذكره الله، وأذكره ما قال لي في تكفيرهم".(27)
وبذلك نكون قد انتهينا من المسألة الأولى...
ونشـرع الآن في بيان المسألة الثانية: وهي ما هو المناط أو العلة أو السبب في كفر المتوقف في تكفير المشـركين.
الجواب: هو تكذيب الشـرائع وردها.
فبالنظر إلى نصوص أهل العلم في هذا الناقض يظهر جليا ما قرروه من أن مناط الكفر في المتوقف في الكافر يرجع إلى تكذيب الشـرائع وردها، لا من جهة انتقاض أصل الدين.
وقد تتابع أكثر أهل العلم على ذكر هذا المناط بناء على أن الكفر إنما يكون بإنكار الأحكام المتواترة المجمع عليها، أو بإنكار المعلوم من الدين ضـرورة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "والكفر إنما يكون بإنكار ما علم من الدين ضـرورة، أو بإنكار الأحكام المتواترة المجمع عليها ونحو ذلك". ا.هـ(28)
* وإليكم بعض ما وقفنا عليه من أقوال أهل العلم الذين نصوا على مناط كفر المتوقف في الكافر:
فقد علل القاضـي عياض تكفير المتوقف في اليهود والنصارى ومن فارق دين الإسلام بما نقله عن الباقلاني، قال: "لأن التوقيف والإجماع اتفقا على كفرهم، فمن وقف في ذلك فقد كذب النص والتوقيف، أو شك فيه، والتكذيب أو الشك فيه لا يقع إلا من كافر".(29) انتهى كلامه.
وقال ابن الوزير الصنعاني -رحمه الله- في تكفير الشاك في عابد الصنم ومن لم يكفره: "ولا علة لذلك إلا أن كفره معلوم من الدين ضـرورة". (30) انتهى كلامه.
وعلل الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- تكفير من قال: (أن من شهد الشهادتين لا يجوز تكفيره ولو عبد غير الله)، فقال: "لأن قائل هذا القول مكذب لله ورسوله، وإجماع المسلمين". (31) انتهى كلامه
وقال بعض أئمة الدعوة النجدية: "فإن الذي لا يكفر المشـركين غير مصدق بالقرآن، فإن القرآن قد كفر المشـركين، وأمر بتكفيرهم، وعداوتهم وقتالهم".(32) انتهى كلامهم.
ونكتفي بهذا القدر، وإلى لقاء آخر في حلقة قادمة إن شاء الله تعالى...
ونسأل الله تعالى العون والتوفيق والسداد، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا...
• ( الْحَلَقَةُ الرابعة )
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شـريك له الملك الحق المبين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله إمام الأولين والآخرين، أما بعد:
فهذه حلقة نتناول فيها الحديث -بعون الله تعالى- عن مسألتين:
الأولى: هل تكفير المشـركين كله على مرتبة واحدة أم على مراتب...
والثانية: نذكر فيها مراتب المتوقفين في تكفير المشـركين...
ونشـرع الآن في المسألة الأولى: هل تكفير المشـركين كله على مرتبة واحدة أم على مراتب؟
• والجواب: نص أهل العلم على أن التكفير حكم شـرعي له مراتب بحسب أمرين:
فالأول: قوة ثبوته في الشـرع؛ أي وضوح وظهور الدليل الشـرعي على كفر فلان من الناس، وهو ما يعرف بمعرفة الحكم...
والثاني: قوة ثبوته على المعين الذي وقع في الشـرك أو الكفر، وهو ما يسمى بمعرفة الحال، ويكون من خلال الرؤية أو السماع أو شهادة الشهود...
فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "التكفير حكم شـرعي، يرجع إلى إباحة المال، وسفك الدماء، والحكم بالخلود في النار، فمأخذه كمأخذ سائر الأحكام الشـرعية، فتارة يدرك بيقين، وتارة يدرك بظن غالب، وتارة يتردد فيه، ومهما حصل تردد فالتوقف عن التكفير أولى، والمبادرة إلى التكفير إنما تغلب على طباع من يغلب عليهم الجهل ".(1) انتهى كلامه رحمه الله.
وذلك بخلاف من زعم أن جميع صور الكفر أو الشـرك على مرتبة واحدة؛ بحيث يستوي في إدراكها العالم والجاهل، ولا شك في بطلان هذا القول، ومخالفته لما قرره أهل العلم في هذا الشأن، بل ومخالفته للنصوص التي دلت على أن الكفر بعضه أشد من بعض.
قَالَ تَعَالَىٰ: {هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ} [آل عمران: 167]، وَقَالَ تَعَالَىٰ: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا} [آل عمران: 90]، وَقَالَ تَعَالَىٰ: {الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا} [التوبة: 97].
أما المسألة الثانية: وهي مراتب المتوقفين في تكفير المشـركين...
فنقول: إن للمتوقفين في المشـركين مراتب يؤثر فيها قوة الدليل الشـرعي، وظهور الكفر أو الشـرك...
قال الشيخ المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: "فهؤلاء الطواغيت الذين يعتقد الناس فيهم من أهل الخرج وغيرهم مشهورون عند الخاص والعام بذلك، وأنهم يترشحون له، ويأمرون به الناس: كلهم كفار مرتدون عن الإسلام، ومن جادل عنهم، أو أنكر على من كفرهم، أو زعم أن فعلهم هذا لو كان باطلا فلا يخرجهم إلى الكفر: فأقل أحوال هذا المجادل أنه فاسق، لا يقبل خطه ولا شهادته، ولا يصلى خلفه". (2) انتهى كلامه رحمه الله.
فتأمل كلامه؛ كيف أنه جعل للمتوقف في هؤلاء الطواغيت أحوالا أقلها الفسق، وهذا يؤكد على أن للمتوقفين في المشـركين أحوالا ومراتب.
* وهذه المراتب يؤثر فيها قوة الدليل الشـرعي، وظهور الكفر أو الشـرك بغض النظر عن شدته؛ فقد يكون الشـرك أشد في حال من الأحوال، ولكنه في الظهور أقل مما هو أخف منه شدة.
مثال ذلك: شـرك عباد الأصنام مع شـرك الجهمية؛ فالحكم بتكفير المتوقف في عباد الأصنام أقوى من الحكم بتكفير المتوقف في الجهمية؛ وذلك لأن عبادة الأصنام أشد ظهورا من التجهم، مع أن التجهم أشد شـركا.
قال العلامة ابن القيم رحمه الله: "فإن المشـرك المقر بصفات الرب خير من المعطل الجاحد لصفات كماله... فأين القدح في صفات الكمال والجحد لها من عبادة واسطة بين المعبود الحق وبين العابد، يتقرب إليه بعبادة تلك الواسطة إعظاما له وإجلالا؟ فداء التعطيل هذا الداء العضال الذي لا دواء له".(3)
وقال أيضا رحمه الله: "فشـرك عباد الأصنام والأوثان والشمس والقمر والكواكب خير من توحيد هؤلاء بكثير، فإنه شـرك في الإلهية مع إثبات صانع العالم وصفاته وأفعاله وقدرته ومشيئته وعلمه بالكليات والجزئيات، وتوحيد هؤلاء تعطيل لربوبيته وإلهيته وسائر صفاته، وهذا التوحيد ملازم لأعظم أنواع الشـرك، ولهذا كلما كان الرجل أعظم تعطيلا كان أعظم شـركا".(4) انتهى كلامه رحمه الله.
بناء على ما سبق؛ سنذكر مراتب المتوقفين في المشـركين أو الكفار بناء على ظهور الأدلة على كفرهم وشهرتها، معتمدين على نصوص أهل العلم في ذلك:
المرتبة الأولى- من توقف فيمن علم كفره بالضـرورة من دين أهل الملل، فمن ذلك:
أولا: من توقف في إبليس أو فرعون أو مدع الإلهية لنفسه أو لغيره.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في تكفير من لم يكفر فرعون: "وقد علم بالاضطرار من دين أهل الملل؛ المسلمين واليهود والنصارى: أن فرعون من أكفر الخلق بـالله". (5) انتهى كلامه رحمه الله.
ثانيا: من توقف في عباد الأصنام، ولو انتسبوا للإسلام.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في تكفير من صحح عبادة الأصنام: "ومن لم يكفرهم فهو أكفر من اليهود والنصارى؛ فإن اليهود والنصارى يكفرون عباد الأصنام".(6) انتهى كلامه.
وقال ابن الوزير الصنعاني رحمه الله: "ولا شك أن من شك في كفر عابد الأصنام وجب تكفيره، ومن لم يكفره، ولا علة لذلك إلا أن كفره معلوم من الدين ضـرورة".(7) انتهى كلامه.
وحكم المتوقف في هذه المرتبة الكفر، ولا يعذر بالجهل في ذلك كل من بلغته الحجة الرسالية.
المرتبة الثانية- من توقف فيمن علم كفرهم بالضـرورة من دين المسلمين خاصة؛ كمن توقف في اليهود والنصارى، أو كل من فارق دين الإسلام.
قال القاضـي عياض رحمه الله: "نكفر من لم يكفر من دان بغير ملة المسلمين من الملل، أو وقف فيهم، أو شك، أو صحح مذهبهم".(8) انتهى كلامه.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "ومن لم يحرم التدين بعد مبعثه صلى الله عليه وسلم بدين اليهود والنصارى، بل من لم يكفرهم ويبغضهم فليس بمسلم بـاتفاق المسلمين". (9) انتهى كلامه.
وحكم المتوقف في هذه المرتبة الكفر، ولا يعذر بالجهل في ذلك كل من بلغته الحجة الرسالية.
المرتبة الثالثة- من توقف فيمن ينتسب للإسلام ووقع في شـرك أو كفر مجمع على كفر من وقع فيه، وهؤلاء على مراتب:
الأول من المرتبة الثالثة: من لم يكن له تأويل؛ فإنه إما أن يقتصـر على تبيين الحال له، وإما أن يقتصـر على تبيين حكم الشـرع فيهم، وإما أن تبين له حالهم ويبين له حكم الشـرع فيهم، وهذا بناء على ظهور الشـرك وظهور حال المتوقف فيهم؛ فإن توقف بعد ذلك فهو كافر، وأما إن كان حالهم ظاهرا، وحكم الشـرع فيهم ظاهرا؛ فيحكم بكفر المتوقف من غير تبيين.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في طائفة من الباطنية: "ومن كان محسنا للظن بهم، وادعى أنه لم يعرف حالهم: عرف حالهم؛ فإن لم يباينهم ويظهر لهم الإنكار وإلا ألحق بهم وجعل منهم".(10) انتهى كلامه.
* فـانظر هنا كيف اقتصـر شيخ الإسلام في تكفير المتوقف في هذه الطائفة على تعريفه بحالهم.
وقال الشيخ سليمان بن عبد الله رحمهما الله في بعض مرتدي زمانه: "فإن كان شاكا في كفرهم أو جاهلا بكفرهم، بينت له الأدلة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم على كفرهم، فإن شك بعد ذلك أو تردد، فإنه كافر بإجماع العلماء على: أن من شك في كفر الكافر فهو كافر".(11) انتهى كلامه رحمه الله.
* نلاحظ هنا أن الشيخ سليمان اشترط تبيين الحكم الشـرعي للمتوقف قبل تكفيره.
وقال الإمام أبو حاتم الرازي رحمه الله فيمن قال بخلق القرآن: "ومن شك في كفره ممن يفهم ولا يجهل فهو كافر، ومن كان جاهلا علم؛ فإن أذعن بالحق بتكفيره وإلا ألزم الكفر". (12) انتهى كلامه رحمه الله.
* في هذه الصورة اشترط أبو حاتم تعليم المتوقف قبل تكفيره.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في الحلولية: "ومن شك في كفر هؤلاء بعد معرفة قولهم ومعرفة دين الإسلام فهو كافر؛ كمن يشك في كفر اليهود والنصارى والمشـركين".(13) انتهى كلامه.
* أما في هذه الصورة فقد اشترط تعريف الحال والحكم الشـرعي معا.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في "طائفة الدروز": "كفر هؤلاء مما لا يختلف فيه المسلمون؛ بل من شك في كفرهم فهو كافر مثلهم". (14) انتهى كلامه.
* ونلاحظ في هذه الصورة أنه لم يشترط في تكفير المتوقف تبيين الحال، ولا تبيين الحكم؛ وذلك لظهور حال تلك الطائفة، وظهور الأدلة على كفرهم.
والقسم الثاني من المرتبة الثالثة: من كانت له أصول فاسدة فتأول؛ فيؤثر في الحكم عليه شدة ظهور كفر المعين أو الطائفة، ففي حال شدة ظهور الكفر يعتبر كافرا معاندا متسترا بتأويله، وفي حالات أخرى اختلف بين تفسيقه وتكفيره.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في طائفة من الباطنية: "وأما من قال: (لكلامهم تأويل يوافق الشـريعة)؛ فإنه من رءوسهم وأئمتهم؛ فإنه إن كان ذكيا فإنه يعرف كذب نفسه فيما قاله، وإن كان معتقدا لهذا باطنا وظاهرا فهو أكفر من النصارى؛ فمن لم يكفر هؤلاء، وجعل لكلامهم تأويلا، كان عن تكفير النصارى بالتثليث والاتحاد أبعد".(15)
وقال أيضا رحمه الله: "وعنه -أي الإمام أحمد- في تكفير من لا يكفر روايتان؛ -يعني في تكفير من لم يكفر الجهمية- أصحهما لا يكفر".(16) انتهى كلامه.
وقال الإمام البخاري رحمه الله: "نظرت في كلام اليهود، والنصارى، والمجوس، فما رأيت قوما أضل في كفرهم منهم -يعني الجهمية-، وإني لأستجهل من لا يكفرهم، إلا من لا يعرف كفرهم".(17) انتهى كلامه رحمه الله.
والظاهر من قول الإمام البخاري أنه يذهب إلى عدم تكفير المتوقف في الجهمية؛ كإحدى الروايتين عن أحمد.
وقال المرداوي رحمه الله: "وذكر ابن حامد في أصوله كفر الخوارج والرافضة والقدرية والمرجئة، وقال: "من لم يكفر من كفرناه فسق وهجر، وفي كفره وجهان"، والذي ذكره هو وغيره من رواة المروذي، وأبي طالب، ويعقوب، وغيرهم: أنه لا يكفر -إلى أن قال:- وقال في إنكار المعتزلة استخراج قلبه صلى الله عليه وسلم ليلة الإسـراء وإعادته: في كفرهم به وجهان، بناء على أصله في القدرية الذين ينكرون علم الله وأنه صفة له، وعلى من قال: لا أكفر من لا يكفر الجهمية".(18) انتهى كلامه رحمه الله.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وأما السلف والأئمة فلم يتنازعوا في عدم تكفير المرجئة والشيعة المفضلة -يعني الذين يفضلون عليا على سائر الصحابة بلا طعن فيهم- ونحو ذلك، ولم تختلف نصوص أحمد في أنه لا يكفر هؤلاء، وإن كان من أصحابه من حكى في تكفير جميع أهل البدع -من هؤلاء وغيرهم- خلافا عنه أو في مذهبه، حتى أطلق بعضهم تخليد هؤلاء وغيرهم، وهذا غلط على مذهبه وعلى الشـريعة". (19) انتهى كلامه رحمه الله.
والقسم الثالث من المرتبة الثالثة: من كانت له أصول صحيحة فتأول؛ كما جاء في خطأ بعض الصحابة رضي الله عنهم في تكفير بعض المرتدين؛ حيث بين الله تعالى خطأ من توقف، ولم يحكم عليهم بكفر.
فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "كان قوم من أهل مكة أسلموا، وكانوا يستخفون بالإسلام، فأخرجهم المشـركون معهم يوم بدر، فأصيب بعضهم وقتل بعض، فقال المسلمون: "كان أصحابنا هؤلاء مسلمين وأكرهوا فـــاستغفروا لهم"، فنزلت: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 97]، قال: فكتب إلي من بقي من المسلمين بهذه الآية، وأنه لا عذر لهم، قال: فخرجوا فلحقهم المشـركون فأعطوهم الفتنة، فنزلت فيهم هذه الآية: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ} [العنكبوت: 10] الآية".(20)
وقال الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله: "فأنزل الله هذه الآية، وبين فيها حكم هؤلاء المشـركين، وأنهم من أهل النار، مع تكلمهم بالإسلام".(21) انتهى كلامه.
وروي أن الصحابة رضي الله عنهم اختلفوا في تكفير بعض المرتدين، فلما بين الله تعالى كفر هؤلاء القوم لم يأمر من توقف فيهم بتجديد إسلامه.
فقد قال الله تعالى:{فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا} [النساء: 88].
وصح في سبب نزولها أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى أحد، فرجع ناس ممن كان معه، فكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فيهم فرقتين، قال بعضهم: "نقتلهم"، وقال بعضهم: "لا".(22)
وصح عن مجاهد رحمه الله، أنه قال: "قوم خرجوا من مكة حتى أتوا المدينة يزعمون أنهم مهاجرون، ثم ارتدوا بعد ذلك، فـاستأذنوا النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة ليأتوا ببضائع لهم يتجرون فيها، فـاختلف فيهم المؤمنون، فقائل يقول: "هم منافقون"، وقائل يقول: "هم مؤمنون"، فبين الله نفاقهم، فأمر بقتالهم".(23)
وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "فكانوا كذلك فئتين والرسول عندهم لا ينهى واحدا من الفريقين عن شـيء، فنزلت: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ} [النساء: 88] الآية". (24)
وقال الإمام الطبري رحمه الله في تأويل قوله تعالى-: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا} [النساء: 88] قال: "يعني بذلك: والله ردهم إلى أحكام أهل الشـرك في إباحة دمائهم، وسبي ذراريهم".(25) انتهى كلامه رحمه الله.
وقد رجح الإمام الطبري أن هذه الآية نزلت في قوم ارتدوا عن الإسلام، حيث قال بعدما ذكر أقوال السلف في سبب نزولها: "وأولى هذه الأقوال بالصواب في ذلك: قول من قال: نزلت هذه الآية في اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوم كانوا ارتدوا عن الإسلام بعد إسلامهم من أهل مكة".(26) انتهى كلامه رحمه الله.
وقال ابن أبي زَمَنِين رحمه الله -وهو من أئمة أهل السنة-: "هم قوم من المنافقين كانوا بالمدينة؛ فخرجوا منها إلى مكة، ثم خرجوا من مكة إلى اليمامة تجارا فـرتدوا عن الإسلام، وأظهروا ما في قلوبهم من الشـرك، فلقيهم المسلمون، فكانوا فيهم فئتين؛ أي فرقتين، فقال بعضهم: قد حلت دماؤهم؛ هم مشـركون مرتدون، وقال بعضهم: لم تحل دماؤهم؛ هم قوم عرضت لهم فتنة، فقال الله -تعالى-: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ} [النساء: 88]".(27) انتهى كلامه رحمه الله.
ورجح طائفة من العلماء أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه توقف في تكفير مانعي الزكاة في بادئ أمرهم، ولما بين له أبو بكر رضي الله عنه كفرهم وافقه، ولم يستتبه على توقفه فيهم؛ فقد صح عن عمر رضي الله عنه، أنه قال لأبي بكر رضي الله عنه في شأن "المرتدين": كيف تقاتل الناس؟ وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فمن قالها فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه، وحسابه على الله ».(28)
* والحكم في هذه الحال: أن المتوقف لا يكفر ابتداء، بل يحكم عليه بالخطأ، وهذا الحكم مبني على أن التكفير من الأحكام الشـرعية، وأن حكم المجتهد المخطئ فيه كحكم غيره ممن أخطأ في المسائل الشـرعية، فإذا بينت له الأدلة وانقطع تأويله ثم توقف بعد ذلك فهو كافر.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "فإن الإيمان بوجوب الواجبات الظاهرة المتواترة وتحريم المحرمات الظاهرة المتواترة: هو من أعظم أصول الإيمان وقواعد الدين والجاحد لها كافر بالاتفاق مع أن المجتهد في بعضها ليس بكافر بالاتفاق مع خطئه".(29) انتهى كلامه رحمه الله.
وقال الشيخ سليمان بن سحمان رحمه الله: "ثم لو قدر أن أحدا من العلماء توقف عن القول بكفر أحد من هؤلاء الجهال المقلدين للجهمية، أو الجهال المقلدين لعباد القبور، أمكن أن نعتذر عنه بأنه مخطئ معذور، ولا نقول بكفره لعدم عصمته من الخطأ، والإجماع في ذلك قطعي".(30) انتهى كلامه.
المرتبة الرابعة- من توقف فيمن وقع في كفر أو شـرك، وكان سبب توقفه غرضا شـرعيا مباحا، فمن ذلك:
1- من توقف فيمن وقع في نوع شـرك أو كفر مختلف في أنه مخرج من الملة؛ كترك الصلاة.
2- ومن ذلك من توقف فيمن انتسب للعلم الشـرعي بغرض الدفع عن تكفير علماء المسلمين.
وحكم المتوقف في هاتين الصورتين أنه مجتهد مأجور بإذن الله؛ إن أصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر واحد.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: دفع التكفير عن علماء المسلمين وإن أخطئوا هو من أحق الأغراض الشـرعية؛ حتى لو فرض أن دفع التكفير عن القائل يعتقد أنه ليس بكافر حماية له، ونصـرا لأخيه المسلم: لكان هذا غرضا شـرعيا حسنا، وهو إذا اجتهد في ذلك فأصاب فله أجران، وإن اجتهد فيه فأخطأ فله أجر واحد". (31) انتهى كلامه.
* وههنا سؤال مهم، وهو: أين مرتبة المتوقف في عباد القبور من هذه المراتب؟
• والجواب أن مرتبة المتوقف في القبورية تختلف بحسب ظهور الشـرك أو الاعتقاد في صاحب القبر، ولا شك أن منها ما يماثل عبادة الأصنام أو يزيد عليها، ومنها ما هو دون ذلك، ومنها ما يقتصـر على الابتداع في الدين ولا يبلغ الشـرك.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "والمراتب في هذا الباب ثلاث:
إحداها: أن يدعو غير الله وهو ميت أو غائب، سواء كان من الأنبياء والصالحين أو غيرهم فيقول: يا سيدي فلان أغثني، أو أنا أستجير بك، أو أستغيث بك، أو انصـرني على عدوي، ونحو ذلك فهذا هو الشـرك بالله...
* وأعظم من ذلك أن يقول: اغفر لي وتب علي؛ كما يفعله طائفة من الجهال المشـركين..
* وأعظم من ذلك: أن يسجد لقبره ويصلي إليه، ويرى الصلاة أفضل من استقبال القبلة، حتى يقول بعضهم: هذه قبلة الخواص، والكعبة قبلة العوام..
* وأعظم من ذلك: أن يرى السفر إليه من جنس الحج، حتى يقول: (إن السفر إليه مرات يعدل حجة)، وغلاتهم يقولون: (الزيارة إليه مرة أفضل من حج البيت مرات متعددة)، ونحو ذلك؛ فهذا شـرك بهم، وإن كان يقع كثير من الناس في بعضه..
الثانية: أن يقال للميت أو الغائب من الأنبياء والصالحين: ادع الله لي، أو ادع لنا ربك، أو اسأل الله لنا؛ كما تقول النصارى لمريم وغيرها؛ فهذا أيضا لا يستريب عالم أنه غير جائز، وأنه من البدع التي لم يفعلها أحد من سلف الأمة...
فعلم أنه لا يجوز أن يسأل الميت شيئا: لا يطلب منه أن يدعو الله له ولا غير ذلك، ولا يجوز أن يشكى إليه شـيء من مصائب الدنيا والدين؛ ولو جاز أن يشكى إليه ذلك في حياته؛ فإن ذلك في حياته لا يفضـي إلى الشـرك، وهذا يفضـي إلى الشـرك..
الثالثة: أن يقال: أسألك بفلان أو بجاه فلان عندك ونحو ذلك الذي تقدم عن أبي حنيفة وأبي يوسف وغيرهما أنه منهي عنه".(32) انتهى كلامه رحمه الله.
ونكتفي بهذا القدر، ونسأل الله تعالى التوفيق والعون والسداد، وصلى الله على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
• المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 101
الخميس 22 محرم 1439 هـ ...المزيد
في بيان مسائل منهجية
(3-4)
• تَكْفِيرُ الْمُشْـرِكِينَ
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شـريك له الملك الحق المبين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله إمام الأولين والآخرين، أما بعد:
ففي هذه الحلقة نبدأ الحديث -بعون الله تعالى- عن تكفير المشـركين، وسنتكلم عن مسألتين:
المسألة الأولى: سنجيب فيها على سؤال: ما هي منزلة التكفير من الدين؟
المسألة الثانية: نذكر فيها العلة أو المناط أو السبب في كفر المتوقف في تكفير المشـركين.
وقبل الشـروع في ذلك نذكر بعض نصوص أهل العلم في كفر من لم يكفر الكافر...
قال أبو الحسين الملطي الشافعي -رحمه الله-: "جميع أهل القبلة لا اختلاف بينهم أن من شك في كافر فهو كافر". (1) انتهى كلامه.
وقال القاضـي عياض -رحمه الله: "نكفر من لم يكفر من دان بغير ملة المسلمين من الملل، أو وقف فيهم، أو شك، أو صحح مذهبهم، وإن أظهر مع ذلك الإسلام واعتقده واعتقد إبطال كل مذهب سواه، فهو كافر بإظهاره ما أظهر من خلاف ذلك". (2) انتهى كلامه.
وقال النووي -رحمه الله-: "من لم يكفر من دان بغير الإسلام كالنصارى، أو شك في تكفيرهم، أو صحح مذهبهم، فهو كافر". (3)
ونص الحجاوي -رحمه الله- على أن من "لم يكفر من دان بغير الإسلام؛ كالنصارى، أو شك في كفرهم أو صحح مذهبهم... فهو كافر".(4) انتهى كلامه.
ونص البهوتي -رحمه الله- على تكفير من "لم يكفر من دان بغير دين الإسلام كأهل الكتاب، أو شك في كفرهم، أو صحح مذهبهم".(5)
وقال الشيخ المجدد محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله-: "من لم يكفر المشـركين، أو شك في كفرهم، أو صحح مذهبهم كفر إجماعا". ا.هـ(6)
انتهى كلامهم رحمهم الله.
ونشـرع الآن في بيان المسألة الأولى: وهي الإجابة على سؤال: ما هي منزلة التكفير من الدين؟
والجواب هو أن التكفير حكم شـرعي محض، لا مدخل للعقل فيه، ولا يدخل تحت مسائل ومعاني أصل الدين، والتي سبق وأن بيناها في الحلقة السابقة.
إذن تكفير المشـركين من واجبات الدين وليس من أصل الدين.
طيب ما الفرق؟
الفرق أن ما كان من أصل الدين، فإنه لا يعذر المرء فيه بجهل، ولا تشترط إقامة الحجة على تاركه أو تارك بعضه.
أما التكفير فهو حكم شـرعي قد يعذر فيه بالجهل والتأويل.
ثم إن التكفير ليس على مستوى واحد، بل له مراتب، فأعلاها ما هو معلوم من الدين بالضـرورة؛ كتكفير من كفرهم الله تعالى في كتابه على التعيين؛ كإبليس وفرعون وكل من دان بغير الإسلام؛ كاليهود والنصارى وعباد الأصنام.
وأدناها ما اختلف في تكفير مرتكبه؛ كتارك الصلاة وغير ذلك، وبينهما مراتب متفاوتة، وهو ما سوف نتناوله في حلقة قادمة بإذن الله تعالى.
قلنا: إن التكفير من واجبات الدين، وأنه حكم شـرعي، وليس له مورد سوى الأدلة الشـرعية، ولا مدخل للعقل فيه، وقد تتابع أهل العلم على تقرير ذلك وتأكيده، وإليكم بعض أقوالهم:
قال القاضـي عياض -رحمه الله-: "فصل في بيان ما هو من المقالات كفر وما يتوقف أو يختلف فيه، وما ليس بكفر: اعلم أن تحقيق هذا الفصل وكشف اللبس فيه مورده الشـرع، ولا مجال للعقل فيه".(7) انتهى كلامه.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- : "التكفير حكم شـرعي، يرجع إلى إباحة المال، وسفك الدماء، والحكم بالخلود في النار، فمأخذه كمأخذ سائر الأحكام الشـرعية".(8)
وقال -رحمه الله-: "فإن الكفر والفسق أحكام شـرعية، ليس ذلك من الأحكام التي يستقل بها العقل؛ فالكافر من جعله الله ورسوله كافرا، والفاسق من جعله الله ورسوله فاسقا، كما أن المؤمن والمسلم من جعله الله ورسوله مؤمنا ومسلما..-إلى أن قال: - فهذه المسائل كلها ثابتة بالشـرع".(9)
وقال -رحمه الله-: "الإيمان والكفر هما من الأحكام التي ثبتت بالرسالة، وبالأدلة الشـرعية يميز بين المؤمن والكافر، لا بمجرد الأدلة العقلية". (10) انتهى كلامه.
وقال العلامة ابن القيم -رحمه الله- :
الكفر حق الله ثم رسوله
بالنص يثبت لا بقول فلان
من كان رب العالمين وعبده
قد كفراه فذاك ذو الكفران(11)
وقال ابن الوزير الصنعاني -رحمه الله: "أن الدليل على الكفر والفسق لا يكون إلا سمعيا قطعيا، ولا نزاع في ذلك".(12) انتهى كلامه
وعليه نقول: إن من جهل حكم الشـرع في أحد الكفار أو المشـركين أو إحدى طوائفهم: لا يكون حكمه كحكم من أشـرك، لأن الذي أشـرك نقض أصل الدين؛ كما ذكرنا في الحلقة السابقة، وإنما حكمه كحكم كل من جهل شـريعة أو فريضة من فرائض الإسلام، فمن قامت عليه الحجة الرسالية في ذلك كفر، ومن لم تبلغه الحجة الرسالية في ذلك فليس بكافر، بخلاف من جهل التوحيد؛ الذي هو أصل الدين؛ فإنه كافر كفر جهل.
هذا وقد تتابع أهل العلم على تقرير الفرق بين الجهل بأصل الدين والجهل بالواجبات الشـرعية:
فقد نقل الإمام محمد بن نصـر المروزي عن طائفة من أهل الحديث قولهم: "ولما كان العلم بـالله إيمانا والجهل به كفرا، وكان العمل بالفرائض إيمانا والجهل بها قبل نزولها ليس بكفر... إلى أن قالوا: وإنما يكفر من جحدها لتكذيبه خبر الله، ولو لم يأت خبر من الله ما كان بجهلها كافرا، وبعد مجيء الخبر من لم يسمع بالخبر من المسلمين لم يكن بجهلها كافرا، والجهل بـالله في كل حال كفر، قبل الخبر وبعد الخبر". (13) انتهى كلامه -رحمه الله-
وأما صفة قيام الحجة وكيفية تحقيق هذا الشـرط قبل التكفير، فإن ذلك يختلف بحسب ظهور المسألة وخفائها، فقد تقوم الحجة بمجرد وجود المتوقف عن التكفير في مظنة العلم، بحيث يكون بتوقفه معرضا لا جاهلا، وبحيث لا يعذر إلا من كان حديث عهد بإسلام، أو نشأ في بادية بعيدة، وقد تكون إقامة الحجة بتبيين النص الشـرعي الدال على كفر من فعل كذا أو قال كذا، ولا يكتفى بمجرد البلوغ العام للقرآن، وقد تكون إقامة الحجة بتبيين الدليل مع إزالة الشبهة والإجابة عن الدليل المعارض، وسيأتي مزيد توضيح لهذه المسألة عند الحديث عن مراتب المتوقفين.
ويستدل على التفريق بين الجهل بالشـرائع والجهل بأصل الدين أو على أن تكفير المشـركين من الشـرائع ليس من أصل الدين بعدة من الأدلة، أذكر منها:
إن جميع الأنبياء عليهم السلام بدءوا أقوامهم بالدعوة إلى عبادة الله وحده لا شـريك له، ولو أن الجهل بأحكام التكفير كفر لما تأخر بيانها عن بيان أصل الدين لحظة واحدة.
ومن الأدلة أيضا على التفريق أن التكفير من واجبات الدين وأنه حكم شـرعي وليس من أصل الدين ما ثبت أن من الصحابة رضي الله عنهم، من توقف في تكفير قوم وقعوا في الردة، وسموهم مسلمين، ولما نزلت الآيات التي بينت كفر هؤلاء القوم لم يستتابوا من توقفهم، بينما ثبت أن أحد الصحابة وقع في الشـرك جاهلا، ومع ذلك كفره الصحابة، وأمره النبي صلى الله عليه وسلم بتجديد إسلامه، وهذا يدل على الفرق بين من وقع في الشـرك جاهلا، وبين من جهل الشـرائع.
فعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "كان قوم من أهل مكة أسلموا، وكانوا يستخفون بالإسلام، فأخرجهم المشـركون معهم يوم بدر، فأصيب بعضهم وقتل بعض، فقال المسلمون: "كان أصحابنا هؤلاء مسلمين وأكرهوا فـــاستغفروا لهم"، فنزلت: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 97، 98]، قال: فكتب إلي من بقي من المسلمين بهذه الآية، وأنه لا عذر لهم، قال: فخرجوا فلحقهم المشـركون فأعطوهم الفتنة، فنزلت فيهم هذه الآية: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ} [العنكبوت: ١٠] الْآيَةَ".(14)
قال الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله : "فأنزل الله هذه الآية، وبين فيها حكم هؤلاء المشـركين، وأنهم من أهل النار مع تكلمهم بالإسلام".(15) انتهى كلامه.
وعن سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- قال: كنا نذكر بعض الأمر، وأنا حديث عهد بالجاهلية، فحلفت باللات والعزى، فقال لي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: بئس ما قلت، ائت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره؛ فإنا لا نراك إلا قد كفرت، فلقيته فأخبرته، فقال: «قل: لا إله إلا الله وحده ثلاث مرات، وتعوذ من الشيطان ثلاث مرات، واتفل عن شمالك ثلاث مرات، ولا تعد له».(16)
وقال ابن الوزير الصنعاني-رحمه الله- معلقا على هذا الحديث: "وهذا أمر بتجديد الإسلام".(17) انتهى كلامه.
وقال ابن العربي المالكي -رحمه الله- "فمن قال في الإسلام في يمينه واللات والعزى مؤكدا ليمينه بذلك على معنى التعظيم فيه: كافر حقيقة". ا.هـ(18)
وقال الشيخ سليمان بن عبد الله -رحمه الله- : "أخذ به -يعني حديث سعد -رضي الله عنه- طائفة من العلماء فقالوا يكفر من حلف بغير الله كفر شـرك، قالوا: ولهذا أمره النبي صلى الله عليه وسلم بتجديد إسلامه بقول لا إله إلا الله، فلولا أنه كفر ينقل عن الملة لم يؤمر بذلك، وقال الجمهور: لا يكفر كفرا ينقله عن الملة، لكنه من الشـرك الأصغر".(19) انتهى كلامه.
فلم يعذر- رضي الله عنه- في ذلك مع أنه حديث عهد بجاهلية..
ومن الأدلة أيضا على التفريق أن التكفير من واجبات الدين، وأنه حكم شـرعي وليس من أصل الدين الذي لا يعذر فيه أحد: ما روي أن الصحابة -رضي الله عنهم- اختلفوا في تكفير بعض المرتدين، فلما بين الله تعالى كفر هؤلاء القوم لم يأمر من توقف فيهم بتجديد إسلامه.
فقد قال الله تعالى: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا * وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [النساء: 88 - 89]
وصح في سبب نزولها أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى أحد، فرجع ناس ممن كان معه، فكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فيهم فرقتين، قال بعضهم: "نقتلهم"، وقال بعضهم: "لا".(20)
وصح عن مجاهد -رحمه الله- أنه قال: "قوم خرجوا من مكة حتى أتوا المدينة يزعمون أنهم مهاجرون، ثم ارتدوا بعد ذلك، فـاستأذنوا النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة؛ ليأتوا ببضائع لهم يتجرون فيها، فـاختلف فيهم المؤمنون، فقائل يقول: "هم منافقون"، وقائل يقول: "هم مؤمنون"، فبين الله نفاقهم، فأمر بقتالهم".(21)
وقد روي بهذا المعنى عن عبد الرحمن بن عوف، وابن عباس -رضي الله عنهم-، وصح بنحوه مرسلا عن عدة من التابعين وهم: عكرمة، والسدي، وقتادة، ومحمد بن كعب القرظي رحمهم الله.
وقال الإمام الطبري -رحمه الله- في تأويل قوله تعالى: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا { [النساء: ٨٨]، قال: "يعني بذلك: والله ردهم إلى أحكام أهل الشـرك في إباحة دمائهم، وسبي ذراريهم". (22) انتهى كلامه.
وقد رجح الإمام الطبري أن هذه الآية نزلت في قوم ارتدوا عن الإسلام، حيث قال بعدما ذكر أقوال السلف في سبب نزولها: "وأولى هذه الأقوال بالصواب في ذلك: قول من قال: نزلت هذه الآية في اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوم كانوا ارتدوا عن الإسلام بعد إسلامهم من أهل مكة".(23) انتهى كلامه.
وقال ابن أبي زمنين -رحمه الله-: "هم قوم من المنافقين كانوا بالمدينة؛ فخرجوا منها إلى مكة، ثم خرجوا من مكة إلى اليمامة تجارا فـارتدوا عن الإسلام، وأظهروا ما في قلوبهم من الشـرك، فلقيهم المسلمون، فكانوا فيهم فئتين؛ أي فرقتين، فقال بعضهم: قد حلت دماؤهم؛ هم مشـركون مرتدون، وقال بعضهم: لم تحل دماؤهم؛ هم قوم عرضت لهم فتنة، فقال الله تعالى: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ}".(24) انْتَهَىٰ كَلَامُهُ رحمه الله.
ومن الأدلة أيضا: ما رجحه طائفة من العلماء أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- توقف في تكفير مانعي الزكاة في بادئ أمرهم، ولما بين له أبو بكر -رضي الله عنه- كفرهم وافقه، ولم يستتبه على توقفه فيهم.
فقد صح عن عمر -رضي الله عنه- أنه قال لأبي بكر -رضي الله عنه- في شأن "المرتدين" : كيف تقاتل الناس؟ وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فمن قالها فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه، وحسابه على الله ».(25)
وقد توقف بعض أئمة السلف -في بادئ الأمر- كفر من قال بخلق القرآن، ومنهم توقف في كفر الجهمية على الرغم من شدته، فلم يكونوا بذلك كفارا، ولما تبين لهم الدليل على كفرهم لم يتوقفوا فيهم، ولم يجددوا إسلامهم لأجل ما سبق من توقفهم.
فعن يعقوب بن إبراهيم الدورقي، قال: "سألت أحمد بن حنبل عمن يقول: القرآن مخلوق، فقال: "كنت لا أكفرهم حتى قرأت آيات من القرآن: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} [البقرة: 145]، وَقَوْلَهُ: {بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} [البقرة: 120[" وقوله: {أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ } [النساء: 166]" .(26)
وعن ابن عمار الموصلي -رحمه الله- قال: "يقول لي ابن المديني: ما يمنعك أن تكفرهم؟! -يعني: الجهمية- قال: وكنت أنا أولا أمتنع أن أكفرهم حتى قال ابن المديني ما قال، فلما أجاب إلى المحنة، كتبت إليه كتابا أذكره الله، وأذكره ما قال لي في تكفيرهم".(27)
وبذلك نكون قد انتهينا من المسألة الأولى...
ونشـرع الآن في بيان المسألة الثانية: وهي ما هو المناط أو العلة أو السبب في كفر المتوقف في تكفير المشـركين.
الجواب: هو تكذيب الشـرائع وردها.
فبالنظر إلى نصوص أهل العلم في هذا الناقض يظهر جليا ما قرروه من أن مناط الكفر في المتوقف في الكافر يرجع إلى تكذيب الشـرائع وردها، لا من جهة انتقاض أصل الدين.
وقد تتابع أكثر أهل العلم على ذكر هذا المناط بناء على أن الكفر إنما يكون بإنكار الأحكام المتواترة المجمع عليها، أو بإنكار المعلوم من الدين ضـرورة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "والكفر إنما يكون بإنكار ما علم من الدين ضـرورة، أو بإنكار الأحكام المتواترة المجمع عليها ونحو ذلك". ا.هـ(28)
* وإليكم بعض ما وقفنا عليه من أقوال أهل العلم الذين نصوا على مناط كفر المتوقف في الكافر:
فقد علل القاضـي عياض تكفير المتوقف في اليهود والنصارى ومن فارق دين الإسلام بما نقله عن الباقلاني، قال: "لأن التوقيف والإجماع اتفقا على كفرهم، فمن وقف في ذلك فقد كذب النص والتوقيف، أو شك فيه، والتكذيب أو الشك فيه لا يقع إلا من كافر".(29) انتهى كلامه.
وقال ابن الوزير الصنعاني -رحمه الله- في تكفير الشاك في عابد الصنم ومن لم يكفره: "ولا علة لذلك إلا أن كفره معلوم من الدين ضـرورة". (30) انتهى كلامه.
وعلل الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- تكفير من قال: (أن من شهد الشهادتين لا يجوز تكفيره ولو عبد غير الله)، فقال: "لأن قائل هذا القول مكذب لله ورسوله، وإجماع المسلمين". (31) انتهى كلامه
وقال بعض أئمة الدعوة النجدية: "فإن الذي لا يكفر المشـركين غير مصدق بالقرآن، فإن القرآن قد كفر المشـركين، وأمر بتكفيرهم، وعداوتهم وقتالهم".(32) انتهى كلامهم.
ونكتفي بهذا القدر، وإلى لقاء آخر في حلقة قادمة إن شاء الله تعالى...
ونسأل الله تعالى العون والتوفيق والسداد، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا...
• ( الْحَلَقَةُ الرابعة )
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شـريك له الملك الحق المبين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله إمام الأولين والآخرين، أما بعد:
فهذه حلقة نتناول فيها الحديث -بعون الله تعالى- عن مسألتين:
الأولى: هل تكفير المشـركين كله على مرتبة واحدة أم على مراتب...
والثانية: نذكر فيها مراتب المتوقفين في تكفير المشـركين...
ونشـرع الآن في المسألة الأولى: هل تكفير المشـركين كله على مرتبة واحدة أم على مراتب؟
• والجواب: نص أهل العلم على أن التكفير حكم شـرعي له مراتب بحسب أمرين:
فالأول: قوة ثبوته في الشـرع؛ أي وضوح وظهور الدليل الشـرعي على كفر فلان من الناس، وهو ما يعرف بمعرفة الحكم...
والثاني: قوة ثبوته على المعين الذي وقع في الشـرك أو الكفر، وهو ما يسمى بمعرفة الحال، ويكون من خلال الرؤية أو السماع أو شهادة الشهود...
فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "التكفير حكم شـرعي، يرجع إلى إباحة المال، وسفك الدماء، والحكم بالخلود في النار، فمأخذه كمأخذ سائر الأحكام الشـرعية، فتارة يدرك بيقين، وتارة يدرك بظن غالب، وتارة يتردد فيه، ومهما حصل تردد فالتوقف عن التكفير أولى، والمبادرة إلى التكفير إنما تغلب على طباع من يغلب عليهم الجهل ".(1) انتهى كلامه رحمه الله.
وذلك بخلاف من زعم أن جميع صور الكفر أو الشـرك على مرتبة واحدة؛ بحيث يستوي في إدراكها العالم والجاهل، ولا شك في بطلان هذا القول، ومخالفته لما قرره أهل العلم في هذا الشأن، بل ومخالفته للنصوص التي دلت على أن الكفر بعضه أشد من بعض.
قَالَ تَعَالَىٰ: {هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ} [آل عمران: 167]، وَقَالَ تَعَالَىٰ: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا} [آل عمران: 90]، وَقَالَ تَعَالَىٰ: {الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا} [التوبة: 97].
أما المسألة الثانية: وهي مراتب المتوقفين في تكفير المشـركين...
فنقول: إن للمتوقفين في المشـركين مراتب يؤثر فيها قوة الدليل الشـرعي، وظهور الكفر أو الشـرك...
قال الشيخ المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: "فهؤلاء الطواغيت الذين يعتقد الناس فيهم من أهل الخرج وغيرهم مشهورون عند الخاص والعام بذلك، وأنهم يترشحون له، ويأمرون به الناس: كلهم كفار مرتدون عن الإسلام، ومن جادل عنهم، أو أنكر على من كفرهم، أو زعم أن فعلهم هذا لو كان باطلا فلا يخرجهم إلى الكفر: فأقل أحوال هذا المجادل أنه فاسق، لا يقبل خطه ولا شهادته، ولا يصلى خلفه". (2) انتهى كلامه رحمه الله.
فتأمل كلامه؛ كيف أنه جعل للمتوقف في هؤلاء الطواغيت أحوالا أقلها الفسق، وهذا يؤكد على أن للمتوقفين في المشـركين أحوالا ومراتب.
* وهذه المراتب يؤثر فيها قوة الدليل الشـرعي، وظهور الكفر أو الشـرك بغض النظر عن شدته؛ فقد يكون الشـرك أشد في حال من الأحوال، ولكنه في الظهور أقل مما هو أخف منه شدة.
مثال ذلك: شـرك عباد الأصنام مع شـرك الجهمية؛ فالحكم بتكفير المتوقف في عباد الأصنام أقوى من الحكم بتكفير المتوقف في الجهمية؛ وذلك لأن عبادة الأصنام أشد ظهورا من التجهم، مع أن التجهم أشد شـركا.
قال العلامة ابن القيم رحمه الله: "فإن المشـرك المقر بصفات الرب خير من المعطل الجاحد لصفات كماله... فأين القدح في صفات الكمال والجحد لها من عبادة واسطة بين المعبود الحق وبين العابد، يتقرب إليه بعبادة تلك الواسطة إعظاما له وإجلالا؟ فداء التعطيل هذا الداء العضال الذي لا دواء له".(3)
وقال أيضا رحمه الله: "فشـرك عباد الأصنام والأوثان والشمس والقمر والكواكب خير من توحيد هؤلاء بكثير، فإنه شـرك في الإلهية مع إثبات صانع العالم وصفاته وأفعاله وقدرته ومشيئته وعلمه بالكليات والجزئيات، وتوحيد هؤلاء تعطيل لربوبيته وإلهيته وسائر صفاته، وهذا التوحيد ملازم لأعظم أنواع الشـرك، ولهذا كلما كان الرجل أعظم تعطيلا كان أعظم شـركا".(4) انتهى كلامه رحمه الله.
بناء على ما سبق؛ سنذكر مراتب المتوقفين في المشـركين أو الكفار بناء على ظهور الأدلة على كفرهم وشهرتها، معتمدين على نصوص أهل العلم في ذلك:
المرتبة الأولى- من توقف فيمن علم كفره بالضـرورة من دين أهل الملل، فمن ذلك:
أولا: من توقف في إبليس أو فرعون أو مدع الإلهية لنفسه أو لغيره.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في تكفير من لم يكفر فرعون: "وقد علم بالاضطرار من دين أهل الملل؛ المسلمين واليهود والنصارى: أن فرعون من أكفر الخلق بـالله". (5) انتهى كلامه رحمه الله.
ثانيا: من توقف في عباد الأصنام، ولو انتسبوا للإسلام.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في تكفير من صحح عبادة الأصنام: "ومن لم يكفرهم فهو أكفر من اليهود والنصارى؛ فإن اليهود والنصارى يكفرون عباد الأصنام".(6) انتهى كلامه.
وقال ابن الوزير الصنعاني رحمه الله: "ولا شك أن من شك في كفر عابد الأصنام وجب تكفيره، ومن لم يكفره، ولا علة لذلك إلا أن كفره معلوم من الدين ضـرورة".(7) انتهى كلامه.
وحكم المتوقف في هذه المرتبة الكفر، ولا يعذر بالجهل في ذلك كل من بلغته الحجة الرسالية.
المرتبة الثانية- من توقف فيمن علم كفرهم بالضـرورة من دين المسلمين خاصة؛ كمن توقف في اليهود والنصارى، أو كل من فارق دين الإسلام.
قال القاضـي عياض رحمه الله: "نكفر من لم يكفر من دان بغير ملة المسلمين من الملل، أو وقف فيهم، أو شك، أو صحح مذهبهم".(8) انتهى كلامه.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "ومن لم يحرم التدين بعد مبعثه صلى الله عليه وسلم بدين اليهود والنصارى، بل من لم يكفرهم ويبغضهم فليس بمسلم بـاتفاق المسلمين". (9) انتهى كلامه.
وحكم المتوقف في هذه المرتبة الكفر، ولا يعذر بالجهل في ذلك كل من بلغته الحجة الرسالية.
المرتبة الثالثة- من توقف فيمن ينتسب للإسلام ووقع في شـرك أو كفر مجمع على كفر من وقع فيه، وهؤلاء على مراتب:
الأول من المرتبة الثالثة: من لم يكن له تأويل؛ فإنه إما أن يقتصـر على تبيين الحال له، وإما أن يقتصـر على تبيين حكم الشـرع فيهم، وإما أن تبين له حالهم ويبين له حكم الشـرع فيهم، وهذا بناء على ظهور الشـرك وظهور حال المتوقف فيهم؛ فإن توقف بعد ذلك فهو كافر، وأما إن كان حالهم ظاهرا، وحكم الشـرع فيهم ظاهرا؛ فيحكم بكفر المتوقف من غير تبيين.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في طائفة من الباطنية: "ومن كان محسنا للظن بهم، وادعى أنه لم يعرف حالهم: عرف حالهم؛ فإن لم يباينهم ويظهر لهم الإنكار وإلا ألحق بهم وجعل منهم".(10) انتهى كلامه.
* فـانظر هنا كيف اقتصـر شيخ الإسلام في تكفير المتوقف في هذه الطائفة على تعريفه بحالهم.
وقال الشيخ سليمان بن عبد الله رحمهما الله في بعض مرتدي زمانه: "فإن كان شاكا في كفرهم أو جاهلا بكفرهم، بينت له الأدلة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم على كفرهم، فإن شك بعد ذلك أو تردد، فإنه كافر بإجماع العلماء على: أن من شك في كفر الكافر فهو كافر".(11) انتهى كلامه رحمه الله.
* نلاحظ هنا أن الشيخ سليمان اشترط تبيين الحكم الشـرعي للمتوقف قبل تكفيره.
وقال الإمام أبو حاتم الرازي رحمه الله فيمن قال بخلق القرآن: "ومن شك في كفره ممن يفهم ولا يجهل فهو كافر، ومن كان جاهلا علم؛ فإن أذعن بالحق بتكفيره وإلا ألزم الكفر". (12) انتهى كلامه رحمه الله.
* في هذه الصورة اشترط أبو حاتم تعليم المتوقف قبل تكفيره.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في الحلولية: "ومن شك في كفر هؤلاء بعد معرفة قولهم ومعرفة دين الإسلام فهو كافر؛ كمن يشك في كفر اليهود والنصارى والمشـركين".(13) انتهى كلامه.
* أما في هذه الصورة فقد اشترط تعريف الحال والحكم الشـرعي معا.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في "طائفة الدروز": "كفر هؤلاء مما لا يختلف فيه المسلمون؛ بل من شك في كفرهم فهو كافر مثلهم". (14) انتهى كلامه.
* ونلاحظ في هذه الصورة أنه لم يشترط في تكفير المتوقف تبيين الحال، ولا تبيين الحكم؛ وذلك لظهور حال تلك الطائفة، وظهور الأدلة على كفرهم.
والقسم الثاني من المرتبة الثالثة: من كانت له أصول فاسدة فتأول؛ فيؤثر في الحكم عليه شدة ظهور كفر المعين أو الطائفة، ففي حال شدة ظهور الكفر يعتبر كافرا معاندا متسترا بتأويله، وفي حالات أخرى اختلف بين تفسيقه وتكفيره.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في طائفة من الباطنية: "وأما من قال: (لكلامهم تأويل يوافق الشـريعة)؛ فإنه من رءوسهم وأئمتهم؛ فإنه إن كان ذكيا فإنه يعرف كذب نفسه فيما قاله، وإن كان معتقدا لهذا باطنا وظاهرا فهو أكفر من النصارى؛ فمن لم يكفر هؤلاء، وجعل لكلامهم تأويلا، كان عن تكفير النصارى بالتثليث والاتحاد أبعد".(15)
وقال أيضا رحمه الله: "وعنه -أي الإمام أحمد- في تكفير من لا يكفر روايتان؛ -يعني في تكفير من لم يكفر الجهمية- أصحهما لا يكفر".(16) انتهى كلامه.
وقال الإمام البخاري رحمه الله: "نظرت في كلام اليهود، والنصارى، والمجوس، فما رأيت قوما أضل في كفرهم منهم -يعني الجهمية-، وإني لأستجهل من لا يكفرهم، إلا من لا يعرف كفرهم".(17) انتهى كلامه رحمه الله.
والظاهر من قول الإمام البخاري أنه يذهب إلى عدم تكفير المتوقف في الجهمية؛ كإحدى الروايتين عن أحمد.
وقال المرداوي رحمه الله: "وذكر ابن حامد في أصوله كفر الخوارج والرافضة والقدرية والمرجئة، وقال: "من لم يكفر من كفرناه فسق وهجر، وفي كفره وجهان"، والذي ذكره هو وغيره من رواة المروذي، وأبي طالب، ويعقوب، وغيرهم: أنه لا يكفر -إلى أن قال:- وقال في إنكار المعتزلة استخراج قلبه صلى الله عليه وسلم ليلة الإسـراء وإعادته: في كفرهم به وجهان، بناء على أصله في القدرية الذين ينكرون علم الله وأنه صفة له، وعلى من قال: لا أكفر من لا يكفر الجهمية".(18) انتهى كلامه رحمه الله.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وأما السلف والأئمة فلم يتنازعوا في عدم تكفير المرجئة والشيعة المفضلة -يعني الذين يفضلون عليا على سائر الصحابة بلا طعن فيهم- ونحو ذلك، ولم تختلف نصوص أحمد في أنه لا يكفر هؤلاء، وإن كان من أصحابه من حكى في تكفير جميع أهل البدع -من هؤلاء وغيرهم- خلافا عنه أو في مذهبه، حتى أطلق بعضهم تخليد هؤلاء وغيرهم، وهذا غلط على مذهبه وعلى الشـريعة". (19) انتهى كلامه رحمه الله.
والقسم الثالث من المرتبة الثالثة: من كانت له أصول صحيحة فتأول؛ كما جاء في خطأ بعض الصحابة رضي الله عنهم في تكفير بعض المرتدين؛ حيث بين الله تعالى خطأ من توقف، ولم يحكم عليهم بكفر.
فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "كان قوم من أهل مكة أسلموا، وكانوا يستخفون بالإسلام، فأخرجهم المشـركون معهم يوم بدر، فأصيب بعضهم وقتل بعض، فقال المسلمون: "كان أصحابنا هؤلاء مسلمين وأكرهوا فـــاستغفروا لهم"، فنزلت: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 97]، قال: فكتب إلي من بقي من المسلمين بهذه الآية، وأنه لا عذر لهم، قال: فخرجوا فلحقهم المشـركون فأعطوهم الفتنة، فنزلت فيهم هذه الآية: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ} [العنكبوت: 10] الآية".(20)
وقال الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله: "فأنزل الله هذه الآية، وبين فيها حكم هؤلاء المشـركين، وأنهم من أهل النار، مع تكلمهم بالإسلام".(21) انتهى كلامه.
وروي أن الصحابة رضي الله عنهم اختلفوا في تكفير بعض المرتدين، فلما بين الله تعالى كفر هؤلاء القوم لم يأمر من توقف فيهم بتجديد إسلامه.
فقد قال الله تعالى:{فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا} [النساء: 88].
وصح في سبب نزولها أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى أحد، فرجع ناس ممن كان معه، فكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فيهم فرقتين، قال بعضهم: "نقتلهم"، وقال بعضهم: "لا".(22)
وصح عن مجاهد رحمه الله، أنه قال: "قوم خرجوا من مكة حتى أتوا المدينة يزعمون أنهم مهاجرون، ثم ارتدوا بعد ذلك، فـاستأذنوا النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة ليأتوا ببضائع لهم يتجرون فيها، فـاختلف فيهم المؤمنون، فقائل يقول: "هم منافقون"، وقائل يقول: "هم مؤمنون"، فبين الله نفاقهم، فأمر بقتالهم".(23)
وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "فكانوا كذلك فئتين والرسول عندهم لا ينهى واحدا من الفريقين عن شـيء، فنزلت: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ} [النساء: 88] الآية". (24)
وقال الإمام الطبري رحمه الله في تأويل قوله تعالى-: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا} [النساء: 88] قال: "يعني بذلك: والله ردهم إلى أحكام أهل الشـرك في إباحة دمائهم، وسبي ذراريهم".(25) انتهى كلامه رحمه الله.
وقد رجح الإمام الطبري أن هذه الآية نزلت في قوم ارتدوا عن الإسلام، حيث قال بعدما ذكر أقوال السلف في سبب نزولها: "وأولى هذه الأقوال بالصواب في ذلك: قول من قال: نزلت هذه الآية في اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوم كانوا ارتدوا عن الإسلام بعد إسلامهم من أهل مكة".(26) انتهى كلامه رحمه الله.
وقال ابن أبي زَمَنِين رحمه الله -وهو من أئمة أهل السنة-: "هم قوم من المنافقين كانوا بالمدينة؛ فخرجوا منها إلى مكة، ثم خرجوا من مكة إلى اليمامة تجارا فـرتدوا عن الإسلام، وأظهروا ما في قلوبهم من الشـرك، فلقيهم المسلمون، فكانوا فيهم فئتين؛ أي فرقتين، فقال بعضهم: قد حلت دماؤهم؛ هم مشـركون مرتدون، وقال بعضهم: لم تحل دماؤهم؛ هم قوم عرضت لهم فتنة، فقال الله -تعالى-: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ} [النساء: 88]".(27) انتهى كلامه رحمه الله.
ورجح طائفة من العلماء أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه توقف في تكفير مانعي الزكاة في بادئ أمرهم، ولما بين له أبو بكر رضي الله عنه كفرهم وافقه، ولم يستتبه على توقفه فيهم؛ فقد صح عن عمر رضي الله عنه، أنه قال لأبي بكر رضي الله عنه في شأن "المرتدين": كيف تقاتل الناس؟ وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فمن قالها فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه، وحسابه على الله ».(28)
* والحكم في هذه الحال: أن المتوقف لا يكفر ابتداء، بل يحكم عليه بالخطأ، وهذا الحكم مبني على أن التكفير من الأحكام الشـرعية، وأن حكم المجتهد المخطئ فيه كحكم غيره ممن أخطأ في المسائل الشـرعية، فإذا بينت له الأدلة وانقطع تأويله ثم توقف بعد ذلك فهو كافر.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "فإن الإيمان بوجوب الواجبات الظاهرة المتواترة وتحريم المحرمات الظاهرة المتواترة: هو من أعظم أصول الإيمان وقواعد الدين والجاحد لها كافر بالاتفاق مع أن المجتهد في بعضها ليس بكافر بالاتفاق مع خطئه".(29) انتهى كلامه رحمه الله.
وقال الشيخ سليمان بن سحمان رحمه الله: "ثم لو قدر أن أحدا من العلماء توقف عن القول بكفر أحد من هؤلاء الجهال المقلدين للجهمية، أو الجهال المقلدين لعباد القبور، أمكن أن نعتذر عنه بأنه مخطئ معذور، ولا نقول بكفره لعدم عصمته من الخطأ، والإجماع في ذلك قطعي".(30) انتهى كلامه.
المرتبة الرابعة- من توقف فيمن وقع في كفر أو شـرك، وكان سبب توقفه غرضا شـرعيا مباحا، فمن ذلك:
1- من توقف فيمن وقع في نوع شـرك أو كفر مختلف في أنه مخرج من الملة؛ كترك الصلاة.
2- ومن ذلك من توقف فيمن انتسب للعلم الشـرعي بغرض الدفع عن تكفير علماء المسلمين.
وحكم المتوقف في هاتين الصورتين أنه مجتهد مأجور بإذن الله؛ إن أصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر واحد.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: دفع التكفير عن علماء المسلمين وإن أخطئوا هو من أحق الأغراض الشـرعية؛ حتى لو فرض أن دفع التكفير عن القائل يعتقد أنه ليس بكافر حماية له، ونصـرا لأخيه المسلم: لكان هذا غرضا شـرعيا حسنا، وهو إذا اجتهد في ذلك فأصاب فله أجران، وإن اجتهد فيه فأخطأ فله أجر واحد". (31) انتهى كلامه.
* وههنا سؤال مهم، وهو: أين مرتبة المتوقف في عباد القبور من هذه المراتب؟
• والجواب أن مرتبة المتوقف في القبورية تختلف بحسب ظهور الشـرك أو الاعتقاد في صاحب القبر، ولا شك أن منها ما يماثل عبادة الأصنام أو يزيد عليها، ومنها ما هو دون ذلك، ومنها ما يقتصـر على الابتداع في الدين ولا يبلغ الشـرك.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "والمراتب في هذا الباب ثلاث:
إحداها: أن يدعو غير الله وهو ميت أو غائب، سواء كان من الأنبياء والصالحين أو غيرهم فيقول: يا سيدي فلان أغثني، أو أنا أستجير بك، أو أستغيث بك، أو انصـرني على عدوي، ونحو ذلك فهذا هو الشـرك بالله...
* وأعظم من ذلك أن يقول: اغفر لي وتب علي؛ كما يفعله طائفة من الجهال المشـركين..
* وأعظم من ذلك: أن يسجد لقبره ويصلي إليه، ويرى الصلاة أفضل من استقبال القبلة، حتى يقول بعضهم: هذه قبلة الخواص، والكعبة قبلة العوام..
* وأعظم من ذلك: أن يرى السفر إليه من جنس الحج، حتى يقول: (إن السفر إليه مرات يعدل حجة)، وغلاتهم يقولون: (الزيارة إليه مرة أفضل من حج البيت مرات متعددة)، ونحو ذلك؛ فهذا شـرك بهم، وإن كان يقع كثير من الناس في بعضه..
الثانية: أن يقال للميت أو الغائب من الأنبياء والصالحين: ادع الله لي، أو ادع لنا ربك، أو اسأل الله لنا؛ كما تقول النصارى لمريم وغيرها؛ فهذا أيضا لا يستريب عالم أنه غير جائز، وأنه من البدع التي لم يفعلها أحد من سلف الأمة...
فعلم أنه لا يجوز أن يسأل الميت شيئا: لا يطلب منه أن يدعو الله له ولا غير ذلك، ولا يجوز أن يشكى إليه شـيء من مصائب الدنيا والدين؛ ولو جاز أن يشكى إليه ذلك في حياته؛ فإن ذلك في حياته لا يفضـي إلى الشـرك، وهذا يفضـي إلى الشـرك..
الثالثة: أن يقال: أسألك بفلان أو بجاه فلان عندك ونحو ذلك الذي تقدم عن أبي حنيفة وأبي يوسف وغيرهما أنه منهي عنه".(32) انتهى كلامه رحمه الله.
ونكتفي بهذا القدر، ونسأل الله تعالى التوفيق والعون والسداد، وصلى الله على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
• المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 101
الخميس 22 محرم 1439 هـ ...المزيد
الدولة الإسلامية - صحيفة النبأ العدد 101 الافتتاحية: أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ ...
الدولة الإسلامية - صحيفة النبأ العدد 101
الافتتاحية:
أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ
إن النَّاظر في حال الكفار اليوم بمختلف مللهم ونحلهم، يرى فيهم الكبر والعجب، والبطر والخيلاء، يصُّبون حِمم حقدهم على المسلمين، أينما وُجدوا، ولا يألون في ذلك جهدا، ولا يدَّخرون فيه وُسعا، يبذلون الغالي والنفيس لإطفاء نور الله، وردِّ المسلمين عن دينهم، حسِبوا أنهم على ذلك قادرون، وله منجزون، مصرِّحين للعالم أجمع بقولهم: "من أشد منا قوة"، قالوها وقد مُلئت قلوبهم تجبُّرا وعنادا، وكفرا وإلحادا، ظانِّين أنهم مُعجِزو الله، وأن لن يقدر عليهم أحد، {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} [فصلت: 15]، {أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ} [التوبة: 70]،{ أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِن وَاقٍ} [غافر: 21].
إن الله الذي أهلك عادا وثمود، وفرعون وهامان وجنودهما، وكلَّ من قاتل الأنبياء وعادى الرُّسل، لن تُعجزه أمريكا وروسيا، ولا الروافض والنصيرية، ولا ملاحدة الأكراد ومرتدو الصحوات، بل ولا كفار الأرض مجتمعين، فإن إهلاكهم عليه يسير، وإنه عليهم لقدير، {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ} [الأنفال: 59]، كيف لا، وهم لا يشاؤون إلا أن يشاء، ولا يقدرون إلا أن يأذن، فإن طائراتهم تطير بقدر الله، وهو قادر على إسقاطها إن شاء، وإن سفنهم تجري بأمر الله، وهو قادر على إغراقها إن شاء، وإن آلياتهم تمشي بإذن الله، وهو قادر على تدميرها إن شاء، {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ} [إبراهيم: 42].
وإن المسلمين إذا تيقنوا بأن الله للكافرين قاهر، ودينه عليهم ظاهر، وأن الله يبتليهم بالكافرين، ويبتلي الكافرين بهم، توكلوا على خالقهم حق التوكل، سألوه النصر وحده، وخاضوا غمار الحرب، حاديهم قول نبيهم صلى الله عليه وسلم: (واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك) [سنن الترمذي]، فإن الله ناصر جنده، ومعزُّ عباده، وهو قاهر أعدائه، {وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} [الأنعام: 147]، وإن من ظنُّوا غير ذلك فإنما {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} [آل عمران: 154]، {مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ} [الحج: 15].
وإننا كلما اشتدت الكروب، وعظمت الخطوب، ازددنا يقينا بأن الله منجزنا ما وعدنا، وأن نصره لنا قد اقترب، وأن الله لن يخذلنا، وأنه جاعل لنا من هذا الضيق مخرجا، إنما هو الابتلاء الذي يُنقى به الصف، والامتحان الذي يخرج به الخبث، وإن الله قد ابتلى من كان قبلنا بما هو أشد، حتى إذا أذن بنزول النصر نزل، لم يمنعه عدد الكفار وعتادهم، ولا قوتهم وجبروتهم، {حَتَّىٰ إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} [يوسف: 110].
وإننا نعلن لأمم الكفر قاطبة، أننا اليوم بتنا من النصر أقرب من أي وقت مضى، فقد صقلتنا الشدائد، وخرج من صفوفنا الخبث، ونزداد في كل يوم من الله قربا وإليه التجاءً، وتزدادون منه بعدا وعنه نفورا، فما هي إلا مسألة وقت حتى تخور قواكم ويُكسر كبرياؤكم، {لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} [آل عمران: 196-197]، فأنتم تتربصون بنا أن تُفنينا حملتكم الأخيرة هذه، {وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبِّصُونَ} [التوبة: 52]، {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} [الشعراء: 227].
• المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 101
الخميس 22 محرم 1439 هـ ...المزيد
الافتتاحية:
أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ
إن النَّاظر في حال الكفار اليوم بمختلف مللهم ونحلهم، يرى فيهم الكبر والعجب، والبطر والخيلاء، يصُّبون حِمم حقدهم على المسلمين، أينما وُجدوا، ولا يألون في ذلك جهدا، ولا يدَّخرون فيه وُسعا، يبذلون الغالي والنفيس لإطفاء نور الله، وردِّ المسلمين عن دينهم، حسِبوا أنهم على ذلك قادرون، وله منجزون، مصرِّحين للعالم أجمع بقولهم: "من أشد منا قوة"، قالوها وقد مُلئت قلوبهم تجبُّرا وعنادا، وكفرا وإلحادا، ظانِّين أنهم مُعجِزو الله، وأن لن يقدر عليهم أحد، {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} [فصلت: 15]، {أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ} [التوبة: 70]،{ أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِن وَاقٍ} [غافر: 21].
إن الله الذي أهلك عادا وثمود، وفرعون وهامان وجنودهما، وكلَّ من قاتل الأنبياء وعادى الرُّسل، لن تُعجزه أمريكا وروسيا، ولا الروافض والنصيرية، ولا ملاحدة الأكراد ومرتدو الصحوات، بل ولا كفار الأرض مجتمعين، فإن إهلاكهم عليه يسير، وإنه عليهم لقدير، {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ} [الأنفال: 59]، كيف لا، وهم لا يشاؤون إلا أن يشاء، ولا يقدرون إلا أن يأذن، فإن طائراتهم تطير بقدر الله، وهو قادر على إسقاطها إن شاء، وإن سفنهم تجري بأمر الله، وهو قادر على إغراقها إن شاء، وإن آلياتهم تمشي بإذن الله، وهو قادر على تدميرها إن شاء، {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ} [إبراهيم: 42].
وإن المسلمين إذا تيقنوا بأن الله للكافرين قاهر، ودينه عليهم ظاهر، وأن الله يبتليهم بالكافرين، ويبتلي الكافرين بهم، توكلوا على خالقهم حق التوكل، سألوه النصر وحده، وخاضوا غمار الحرب، حاديهم قول نبيهم صلى الله عليه وسلم: (واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك) [سنن الترمذي]، فإن الله ناصر جنده، ومعزُّ عباده، وهو قاهر أعدائه، {وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} [الأنعام: 147]، وإن من ظنُّوا غير ذلك فإنما {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} [آل عمران: 154]، {مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ} [الحج: 15].
وإننا كلما اشتدت الكروب، وعظمت الخطوب، ازددنا يقينا بأن الله منجزنا ما وعدنا، وأن نصره لنا قد اقترب، وأن الله لن يخذلنا، وأنه جاعل لنا من هذا الضيق مخرجا، إنما هو الابتلاء الذي يُنقى به الصف، والامتحان الذي يخرج به الخبث، وإن الله قد ابتلى من كان قبلنا بما هو أشد، حتى إذا أذن بنزول النصر نزل، لم يمنعه عدد الكفار وعتادهم، ولا قوتهم وجبروتهم، {حَتَّىٰ إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} [يوسف: 110].
وإننا نعلن لأمم الكفر قاطبة، أننا اليوم بتنا من النصر أقرب من أي وقت مضى، فقد صقلتنا الشدائد، وخرج من صفوفنا الخبث، ونزداد في كل يوم من الله قربا وإليه التجاءً، وتزدادون منه بعدا وعنه نفورا، فما هي إلا مسألة وقت حتى تخور قواكم ويُكسر كبرياؤكم، {لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} [آل عمران: 196-197]، فأنتم تتربصون بنا أن تُفنينا حملتكم الأخيرة هذه، {وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبِّصُونَ} [التوبة: 52]، {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} [الشعراء: 227].
• المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 101
الخميس 22 محرم 1439 هـ ...المزيد
السلسلة العلمية المنهجية 2 (أصل الدين) الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا ...
السلسلة العلمية المنهجية 2
(أصل الدين)
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الملك الحق المبين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، إمام الأولين والآخرين، أما بعد:
ففي هذه الحلقة سنتناول الحديث عن أصل الدين، وهو موضوع في غاية الأهمية؛ وذلك لأنه لا يصح إيمان أحد إلا إذا أتى به.
• فما هو أصل الدين؟
أصل الدين هو الإقرار بالله، وعبادته سبحانه وحده وترك عبادة ما سواه، والبراءة ممن أشرك به سبحانه.
أربعة أمور ...
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وإبراهيم وموسى قاما بأصل الدين؛ الذي هو الإقرار بالله، وعبادته وحده لا شـريك له، ومخاصمة من كفر بالله".([1]) انتهى كلامه.
"والبراءة ممن أشرك به سبحانه" هو ما عبَّر عنه شيخ الإسلام ابن تيمية هنا بقوله: "ومخاصمة من كفر بالله"، فكلا العبارتين معناهما واحد: مخاصمة المشـركين والبراءة منهم.
فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وأصل الدين أن يكون الحب لله، والبغض لله، والموالاة لله، والمعاداة لله، والعبادة لله". ([2]) انتهى كلامه.
فنقول بناء على ما سبق: لو أن شخصا أتى بثلاثة أمور من أصل الدين ولم يأت بالرابع؛ كترك عبادة ما سوى الله تعالى، أو ترك البراءة ممن أشـرك به سبحانه، هل يصح إسلامه؟، الجواب: لا.
فماذا يسمى؟، يسمى مشـركا كافرا.
وهذا القدر الذي هو أصل الدين لا يعذر من لم يأت به أحد بلغ حد التكليف ولو كان جاهلا، سواء بلغته الحجة الرسالية أو لم تبلغه، أو بلفظ آخر سواء جاءه رسول أو لم يأته.
قال إمام المفسـرين ابن جرير الطبري رحمه الله بعد ذكره لشـيء من أصل الدين، قال: "لا يعذر بالجهل به أحد بلغ حد التكليف؛ كان ممَّن أتاه من الله تعالى رسول، أو لم يأته رسول، عاين من الخلق غيره، أو لم يعاين أحدا سوى نفسه".([3]) انتهى كلامه رحمه الله.
لم يعاين أحدا سوى نفسه؛ يعني لم ير إلا نفسه؛ كمن كان في جزيرة نائية ولم ير أحدا من الناس سوى نفسه.
نقول: فإذا جاءه رسول دخل في أصل الدين الإيمان به وبما جاء به على وجه الإجمال.
إذن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم منذ بعثته إلى الآن، وبما جاء به على وجه الإجمال يدخل في أصل الدين؛ لأن أصل الدين هو الشهادتان.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "أصل الدين: شهادة أن لا إله إلا الله، وشهادة أن محمدا عبده ورسوله". ([4]) انتهى كلامه رحمه الله.
• طيِّب ما معنى (الإقرار بالله)؟
يعني: الإيمان بوجوده تعالى، وأنه متصف بصفات الكمال، ومنزه عن النقائص والعيوب، وأنه سبحانه المتفرِّد بالخلق والأمر.
قال الله تعالى: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} [الأعراف: 54]
والأمر منه ما هو كوني؛ أي أنه سبحانه يقول للشـيء كن فيكون، ومن الأمر ما هو شرعي؛ ويتمثل بتفرده سبحانه وتعالى بالتحليل والتحريم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "فإن أصل الدين أنه لا حرام إلا ما حرمه الله، ولا دين إلا ما شرعه الله؛ فإن الله سبحانه في سورة الأنعام والأعراف عاب على المشـركين أنهم حرموا ما لم يحرمه الله، وأنهم شـرعوا من الدين ما لم يأذن به الله". ([5]) انتهى كلامه رحمه الله.
مرة ثانية: ما هو أصل الدين؟ هو الإقرار بالله، وعبادته سبحانه وحده وترك عبادة ما سواه، والبراءة ممن أشـرك به سبحانه، شرحنا الإقرار بالله.
طيب، ما معنى: عبادته سبحانه وحده، وترك عبادة ما سواه، والبراءة ممن أشرك به سبحانه؟
معناه: توحيد الله، ومحبة التوحيد وتحسينه، وموالاة أهله، وتقبيح الشـرك، واجتنابه، ومخاصمة أهله.
قال ابن القيم رحمه الله: "واعلم أنه إن لم يكن حسن التوحيد وقبح الشـرك معلوما بالعقل، مستقرا في الفطر، فلا وثوق بشـيء من قضايا العقل؛ فإن هذه القضية من أجل القضايا البديهيات، وأوضح ما ركب الله في العقول والفطر". ([6]) انتهى كلامه رحمه الله.
وموالاة أهله: هذا هو الولاء؛ موالاة المؤمنين ...، ومخاصمة أهله -يعني أهل الشـرك-: هذا هو البراء من المشركين ...
ومن هنا يتبيَّن أن الولاء والبراء يدخل في أصل الدين.
ولكن ههنا مسألة؛
وهي الفرق بين وجود العداوة للكافرين وبين إظهار العداوة، فالأول -وهو وجود العداوة- من أصل الدين، والثاني: وهو إظهار العداوة فمن واجبات الدين لا من أصله.
قال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن آل الشيخ رحمه الله: "ومسألة إظهار العداوة غير مسألة وجود العداوة؛ فالأول: يعذر به مع العجز والخوف، لقوله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} [آل عمران: 28]، والثاني: لا بد منه؛ لأنه يدخل في الكفر بالطاغوت، وبينه وبين حب لله ورسوله تلازم كلي، لا ينفك عنه المؤمن". ([7]) انتهى كلامه.
أصل الدين كما قلنا: لا يُعذر بالجهل به أيُّ أحد؛ أي لا يصح إسلام من نقضه ولا يرتفع عنه اسم الكفر.
• لماذا لم يعتبر بجهل الرجل العاقل أو المرأة العاقلة في أصل الدين؟
لأنه مما علم وثبت بالميثاق وضرورة الفطرة والعقل.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وأصل الدين هو عبادة الله، الذي أصله الحب والإنابة والإعراض عما سواه، وهو الفطرة التي فطر عليها الناس". ([8]) انتهى كلامه.
وقال ابن القيم رحمه الله: "وأي شيء يصح في العقل إذا لم يكن فيه علم بقبح الشرك الذاتي، وأن العلم بقبحه بديهي معلوم بضـرورة العقل، وأن الرسل نبهوا الأمم على ما في عقولهم وفطرهم من قبحه". ([9]) انتهى كلامه رحمه الله.
ومن هنا نعلم أن أصل الدين لا يشترط فيه إقامة الحجة للحكم بالكفر على من لم يأت به؛ أي نحكم على من لم يأت بأصل الدين بالكفر، سواء أقيمت عليه الحجة أم لم تقم.
ونؤكد على أنه لا عذر لأي أحد بالجهل في هذه المسائل، التي هي من أصل الدين؛ لأنها من العلوم الضرورية المستقرة في جميع الفطر والعقول، وبالتالي فمن انتقض أصل دينه فهو مشـرك، ولكن عذابه في الدنيا والآخرة متوقف على بلوغ الحجة الرسالية إليه.
قال العلامة ابن القيم رحمه الله: "وأما كفر الجهل مع عدم قيام الحجة، وعدم التمكن من معرفتها؛ فهذا الذي نفى الله التعذيب عنه حتى تقوم حجة الرسل". ([10]) انتهى كلامه رحمه الله.
سؤال: ما الذي يناقض أصل الدين؟
الجواب: الشـرك ...
حيث قلنا في تعريف أصل الدين: أنه الإقرار بالله وعبادته سبحانه وحده وترك عبادة ما سواه، والبراءة ممن أشرك به سبحانه، إذن: الشرك بـالله يناقض أصل الدين وينافيه.
ومعنى الشـرك شـرعا: هو جعل الشـريك أو الند لله تعالى في ربوبيته أو ألوهيته أو أسمائه وصفاته.
فمثال شـرك الربوبية: أن يجعل مع الله خالق أو رازق أو مدبر أو حاكم أو مشـرع.
ومثال الشـرك في الألوهية: السجود أوالدعاء أوالنذر أوالذبح لغير الله.
ومثال الشـرك في الأسماء والصفات: تعطيلها مثل نفي العلم والسمع والبصـر عن الله، أو تشبيهه سبحانه وتعالى بخلقه.
وكل هذا الشـرك لم يعذر فيه أحد من المشـركين بجهله؛ لأنه يناقض أصل الدين، والله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم حكم بكفر الأتباع والمقلدين، وحكم بكفر الأميين من أهل الكتاب مع جهلهم، وحكم بكفر جهلة مشـركي العرب قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم.
قال العلامة ابن القيم رحمه الله: "من مات مشـركا فهو في النار، وإن مات قبل البعثة؛ لأن المشـركين كانوا قد غيَّروا الحنيفية دين إبراهيم واستبدلوا بها الشـرك وارتكبوه، وليس معهم حجة من الله به، وقبحه والوعيد عليه بالنار لم يزل معلوما من دين الرسل كلهم من أولهم إلى آخرهم، وأخبار عقوبات الله لأهله متداولة بين الأمم قرنا بعد قرن، فلله الحجة البالغة على المشـركين في كل وقت، ولو لم يكن إلا ما فطر عباده عليه من توحيد ربوبيته المستلزم لتوحيد إلهيته، وأنه يستحيل في كل فطرة وعقل أن يكون معه إله آخر، وإن كان سبحانه لا يعذب بمقتضـى هذه الفطرة وحدها، فلم تزل دعوة الرسل إلى التوحيد في الأرض معلومة لأهلها، فالمشـرك يستحق العذاب بمخالفته دعوة الرسل، والله أعلم". انتهى كلامه رحمه الله.
وأما الجهلة من المشـركين بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم من المنتسبين للإسلام وغيرهم فالأمر فيهم أشد؛ لأن غالب جهلهم جاء من جهة الإعراض عن رسالته صلى الله عليه وسلم، والإعراض بمجرده كفر، فكيف لو كان معه شـرك؟!
قال الشوكاني رحمه الله: "ومن وقع في الشرك جاهلا لم يعذر، لأن الحجة قامت على جميع الخلق بمبعث محمد صلى الله عليه وسلم، فمن جهل فقد أتي من قبل نفسه؛ بسبب الإعراض عن الكتاب والسنة، وإلا ففيهما البيان الواضح؛ كما قال سبحانه في القرآن: {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً} [النحل: 89]، وكذلك السنة: قال أبو ذر رضي الله عنه: " توفي محمد صلى الله عليه وسلم وما ترك طائرا يقلب جناحيه بين السماء والأرض إلا ذكر لنا منه علما"، أو كما قال رضي الله عنه؛ فمن جهل فبسبب إعراضه، ولا يعذر أحد بالإعراض". انتهى كلامه رحمه الله.
هذا وأدلة عدم عذر الجاهل في الشـرك والذي يناقض أصل الدين كثيرة.
منها قوله تعالى: {فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأعراف: 30].
قال الطبري رحمه الله: "يقول تعالى ذكره: إن الفريق الذي حق عليهم الضلالة، إنما ضلوا عن سبيل الله وجاروا عن قصد المحجة، باتخاذهم الشياطين نصـراء من دون الله وظهراء؛ جهلا منهم بخطأ ما هم عليه من ذلك، بل فعلوا ذلك وهم يظنون أنهم على هدى وحق، وأن الصواب ما أتوه وركبوا.
وهذا من أبين الدلالة على خطأ قول من زعم أن الله لا يعذب أحدا على معصية ركبها أو ضلالة اعتقدها، إلا أن يأتيها بعد علم منه بصواب وجهها، فيركبها عنادا منه لربه فيها؛ لأن ذلك لو كان كذلك، لم يكن بين فريق الضلالة الذي ضل وهو يحسب أنه هاد، وفريق الهدى فرق، وقد فرق الله بين أسمائهما وأحكامهما في هذه الآية". ([11]) انتهى كلامه رحمه الله.
ومن الأدلة على عدم عذر الجاهل في الشـرك: قوله تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف: 103، 104].
قال الطبري رحمه الله: "وهذا من أدل الدلائل على خطأ قول من زعم أنه لا يكفر بالله أحد إلا من حيث يقصد إلى الكفر بعد العلم بوحدانيته؛ وذلك أن الله -تعالى ذكره- أخبر عن هؤلاء الذين وصف صفتهم في هذه الآية، أن سعيهم الذي سعوا في الدنيا ذهب ضلالا، وقد كانوا يحسبون أنهم محسنون في صنعهم ذلك، وأخبر عنهم أنهم هم الذين كفروا بآيات ربهم، ولو كان القول كما قال الذين زعموا أنه لا يكفر بالله أحد إلا من حيث يعلم لوجب أن يكون هؤلاء القوم في عملهم الذي أخبر الله عنهم أنهم كانوا يحسبون فيه أنهم يحسنون صنعه، كانوا مثابين مأجورين عليها، ولكن القول بخلاف ما قالوا، فأخبر جل ثناؤه عنهم: أنهم بالله كفرة، وأن أعمالهم حابطة". ([12]) انتهى كلامه رحمه الله.
طيب: إذا حكمنا على شخص ما بالكفر والشـرك، ما الذي يترتب على ذلك؟
يترتب على حكمنا على أحد بالكفر والشـرك ولو كان جاهلا: قطع الموالاة الإيمانية بيننا وبينه حتى يتوب إلى الله تعالى، وعدم التناكح معه أو أكل ذبيحته، وكذا عدم الاستغفار له إن مات على ذلك، وأنه لا حظ له من الحقوق التي أوجبها الله للمسلمين، وغير ذلك من الأحكام.
وأما تعذيبه في الدنيا والآخرة فهذا متوقف على قيام الحجة الرسالية، وهذا على الصحيح من أقوال العلماء، ودليله قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15]، وقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15].
ونؤكد على: أن من وقع في الشـرك من هذه الأمة فهو مشـرك كافر أيضا، وإن كان مدعيا للإسلام ناطقا بالشهادتين.
قال تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر: 65].
وقال تعالى بعد ذكره لأنبيائه عليهم السلام: {ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 88].
وهذه الآيات من أقوى الأدلة على أن الإسلام يحبط بالشـرك، وأن من أشرك من هذه الأمة فهو كافر، وإن كان ناطقا بالشهادتين عاملا بشعائر الإسلام الأخرى.
ونختم بمسألتين:
الأولى: لو كان إنسان قائما بأصل الدين يعبد الله ولا يشـرك به شيئا، ويؤمن برسوله صلى الله عليه وسلم، لكنه يجهل مصطلح أصل الدين.
بمعنى أنك لو سألته: ما هو أصل الدين تلعثم أو لم يحر جوابا، فلا يضـره ذلك؛ لقيامه بأصل الدين، إذ لا يضـره عدم معرفة ما اصطُلح عليه في هذه المسائل والمعاني.
والدليل على ما ذكرنا: ما جاء في الصحيحين -واللفظ للبخاري-: عن معاذ بن جبل رضي الله عنه، قال: أنا رديف النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا معاذ)، قلت: لبيك وسعديك، ثم قال مثله ثلاثا: (هل تدري ما حق الله على العباد)، قلت: لا، قال: (حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشـركوا به شيئا).
فتصـريح معاذ رضي الله عنه بأنه يجهل حق الله على عباده لم يوقعه في الكفر أو الشرك؛ لأنه قائم بهذا الحق وإن لم يعلم الاصطلاح الشرعي الذي يدل على ذلك المعنى.
المسألة الثانية: أن إحدى المسائل التي ذكرنا أنها من أصل الدين قد يخفى على بعض طلبة العلم أنها من أصل الدين، وهي مسألة عداوة المشـركين، وموالاة المؤمنين؛ فيظن أنها من واجبات الدين لا من أصله، أو يتوقف فيها، فهذا لا يعد ناقضا لأصل الدين طالما أنه حقق البراءة من المشـركين، والموالاة للمؤمنين.
قال الشيخ سليمان بن عبد الله رحمه الله: "بحسب المسلم أن يعلم: أن الله افترض عليه عداوة المشـركين وعدم موالاتهم، وأوجب عليه محبة المؤمنين وموالاتهم، وأخبر أن ذلك من شروط الإيمان، ونفى الإيمان عمن يواد {مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة: 22]، وأما كون ذلك من معنى لا إله إلا الله أو لوازمها، فلم يكلفنا الله بالبحث عن ذلك، إنما كلفنا بمعرفة أن الله فرض ذلك وأوجبه، وأوجب العمل به، فهذا هو الفرض والحتم الذي لا شك فيه، ومن عرف أن ذلك من معناها، أو من لازمها فهو حسن، وزيادة خير، ومن لم يعرفه فلم يكلف بمعرفته، لا سيما إذا كان الجدال والمنازعة فيه مما يفضي إلى شـر واختلاف، ووقوع فرقة بين المؤمنين، الذين قاموا بواجبات الإيمان، وجاهدوا في الله، وعادوا المشـركين، ووالوا المسلمين". ([13]) انتهى كلامه رحمه الله.
ونكتفي بهذا القدر، ونسأل الله تعالى أن ينفعنا بما علمنا، وأن يجمع كلمتنا على الحق، وأن يجعلنا هداة مهديين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
[1])) مجموع الفتاوى (16/203).
[2])) منهاج السنة النبوية (5/255).
[3])) التبصير في معالم الدين (ص126-132).
[4])) مجموع الفتاوى (1/10).
[5])) مجموع الفتاوى (20/357).
[6])) مدارج السالكين (3/455).
[7])) الدرر السنية (8/359).
[8])) مجموع الفتاوى (15/438).
[9])) مدارج السالكين (1/253).
[10])) طريق الهجرتين (ص414).
[11])) تفسير الطبري (12/388).
[12])) تفسير الطبري (18/128).
[13])) الدرر السنية (8/166).
• المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 100
الخميس 15 محرم 1439 هـ ...المزيد
(أصل الدين)
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الملك الحق المبين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، إمام الأولين والآخرين، أما بعد:
ففي هذه الحلقة سنتناول الحديث عن أصل الدين، وهو موضوع في غاية الأهمية؛ وذلك لأنه لا يصح إيمان أحد إلا إذا أتى به.
• فما هو أصل الدين؟
أصل الدين هو الإقرار بالله، وعبادته سبحانه وحده وترك عبادة ما سواه، والبراءة ممن أشرك به سبحانه.
أربعة أمور ...
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وإبراهيم وموسى قاما بأصل الدين؛ الذي هو الإقرار بالله، وعبادته وحده لا شـريك له، ومخاصمة من كفر بالله".([1]) انتهى كلامه.
"والبراءة ممن أشرك به سبحانه" هو ما عبَّر عنه شيخ الإسلام ابن تيمية هنا بقوله: "ومخاصمة من كفر بالله"، فكلا العبارتين معناهما واحد: مخاصمة المشـركين والبراءة منهم.
فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وأصل الدين أن يكون الحب لله، والبغض لله، والموالاة لله، والمعاداة لله، والعبادة لله". ([2]) انتهى كلامه.
فنقول بناء على ما سبق: لو أن شخصا أتى بثلاثة أمور من أصل الدين ولم يأت بالرابع؛ كترك عبادة ما سوى الله تعالى، أو ترك البراءة ممن أشـرك به سبحانه، هل يصح إسلامه؟، الجواب: لا.
فماذا يسمى؟، يسمى مشـركا كافرا.
وهذا القدر الذي هو أصل الدين لا يعذر من لم يأت به أحد بلغ حد التكليف ولو كان جاهلا، سواء بلغته الحجة الرسالية أو لم تبلغه، أو بلفظ آخر سواء جاءه رسول أو لم يأته.
قال إمام المفسـرين ابن جرير الطبري رحمه الله بعد ذكره لشـيء من أصل الدين، قال: "لا يعذر بالجهل به أحد بلغ حد التكليف؛ كان ممَّن أتاه من الله تعالى رسول، أو لم يأته رسول، عاين من الخلق غيره، أو لم يعاين أحدا سوى نفسه".([3]) انتهى كلامه رحمه الله.
لم يعاين أحدا سوى نفسه؛ يعني لم ير إلا نفسه؛ كمن كان في جزيرة نائية ولم ير أحدا من الناس سوى نفسه.
نقول: فإذا جاءه رسول دخل في أصل الدين الإيمان به وبما جاء به على وجه الإجمال.
إذن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم منذ بعثته إلى الآن، وبما جاء به على وجه الإجمال يدخل في أصل الدين؛ لأن أصل الدين هو الشهادتان.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "أصل الدين: شهادة أن لا إله إلا الله، وشهادة أن محمدا عبده ورسوله". ([4]) انتهى كلامه رحمه الله.
• طيِّب ما معنى (الإقرار بالله)؟
يعني: الإيمان بوجوده تعالى، وأنه متصف بصفات الكمال، ومنزه عن النقائص والعيوب، وأنه سبحانه المتفرِّد بالخلق والأمر.
قال الله تعالى: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} [الأعراف: 54]
والأمر منه ما هو كوني؛ أي أنه سبحانه يقول للشـيء كن فيكون، ومن الأمر ما هو شرعي؛ ويتمثل بتفرده سبحانه وتعالى بالتحليل والتحريم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "فإن أصل الدين أنه لا حرام إلا ما حرمه الله، ولا دين إلا ما شرعه الله؛ فإن الله سبحانه في سورة الأنعام والأعراف عاب على المشـركين أنهم حرموا ما لم يحرمه الله، وأنهم شـرعوا من الدين ما لم يأذن به الله". ([5]) انتهى كلامه رحمه الله.
مرة ثانية: ما هو أصل الدين؟ هو الإقرار بالله، وعبادته سبحانه وحده وترك عبادة ما سواه، والبراءة ممن أشـرك به سبحانه، شرحنا الإقرار بالله.
طيب، ما معنى: عبادته سبحانه وحده، وترك عبادة ما سواه، والبراءة ممن أشرك به سبحانه؟
معناه: توحيد الله، ومحبة التوحيد وتحسينه، وموالاة أهله، وتقبيح الشـرك، واجتنابه، ومخاصمة أهله.
قال ابن القيم رحمه الله: "واعلم أنه إن لم يكن حسن التوحيد وقبح الشـرك معلوما بالعقل، مستقرا في الفطر، فلا وثوق بشـيء من قضايا العقل؛ فإن هذه القضية من أجل القضايا البديهيات، وأوضح ما ركب الله في العقول والفطر". ([6]) انتهى كلامه رحمه الله.
وموالاة أهله: هذا هو الولاء؛ موالاة المؤمنين ...، ومخاصمة أهله -يعني أهل الشـرك-: هذا هو البراء من المشركين ...
ومن هنا يتبيَّن أن الولاء والبراء يدخل في أصل الدين.
ولكن ههنا مسألة؛
وهي الفرق بين وجود العداوة للكافرين وبين إظهار العداوة، فالأول -وهو وجود العداوة- من أصل الدين، والثاني: وهو إظهار العداوة فمن واجبات الدين لا من أصله.
قال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن آل الشيخ رحمه الله: "ومسألة إظهار العداوة غير مسألة وجود العداوة؛ فالأول: يعذر به مع العجز والخوف، لقوله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} [آل عمران: 28]، والثاني: لا بد منه؛ لأنه يدخل في الكفر بالطاغوت، وبينه وبين حب لله ورسوله تلازم كلي، لا ينفك عنه المؤمن". ([7]) انتهى كلامه.
أصل الدين كما قلنا: لا يُعذر بالجهل به أيُّ أحد؛ أي لا يصح إسلام من نقضه ولا يرتفع عنه اسم الكفر.
• لماذا لم يعتبر بجهل الرجل العاقل أو المرأة العاقلة في أصل الدين؟
لأنه مما علم وثبت بالميثاق وضرورة الفطرة والعقل.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وأصل الدين هو عبادة الله، الذي أصله الحب والإنابة والإعراض عما سواه، وهو الفطرة التي فطر عليها الناس". ([8]) انتهى كلامه.
وقال ابن القيم رحمه الله: "وأي شيء يصح في العقل إذا لم يكن فيه علم بقبح الشرك الذاتي، وأن العلم بقبحه بديهي معلوم بضـرورة العقل، وأن الرسل نبهوا الأمم على ما في عقولهم وفطرهم من قبحه". ([9]) انتهى كلامه رحمه الله.
ومن هنا نعلم أن أصل الدين لا يشترط فيه إقامة الحجة للحكم بالكفر على من لم يأت به؛ أي نحكم على من لم يأت بأصل الدين بالكفر، سواء أقيمت عليه الحجة أم لم تقم.
ونؤكد على أنه لا عذر لأي أحد بالجهل في هذه المسائل، التي هي من أصل الدين؛ لأنها من العلوم الضرورية المستقرة في جميع الفطر والعقول، وبالتالي فمن انتقض أصل دينه فهو مشـرك، ولكن عذابه في الدنيا والآخرة متوقف على بلوغ الحجة الرسالية إليه.
قال العلامة ابن القيم رحمه الله: "وأما كفر الجهل مع عدم قيام الحجة، وعدم التمكن من معرفتها؛ فهذا الذي نفى الله التعذيب عنه حتى تقوم حجة الرسل". ([10]) انتهى كلامه رحمه الله.
سؤال: ما الذي يناقض أصل الدين؟
الجواب: الشـرك ...
حيث قلنا في تعريف أصل الدين: أنه الإقرار بالله وعبادته سبحانه وحده وترك عبادة ما سواه، والبراءة ممن أشرك به سبحانه، إذن: الشرك بـالله يناقض أصل الدين وينافيه.
ومعنى الشـرك شـرعا: هو جعل الشـريك أو الند لله تعالى في ربوبيته أو ألوهيته أو أسمائه وصفاته.
فمثال شـرك الربوبية: أن يجعل مع الله خالق أو رازق أو مدبر أو حاكم أو مشـرع.
ومثال الشـرك في الألوهية: السجود أوالدعاء أوالنذر أوالذبح لغير الله.
ومثال الشـرك في الأسماء والصفات: تعطيلها مثل نفي العلم والسمع والبصـر عن الله، أو تشبيهه سبحانه وتعالى بخلقه.
وكل هذا الشـرك لم يعذر فيه أحد من المشـركين بجهله؛ لأنه يناقض أصل الدين، والله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم حكم بكفر الأتباع والمقلدين، وحكم بكفر الأميين من أهل الكتاب مع جهلهم، وحكم بكفر جهلة مشـركي العرب قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم.
قال العلامة ابن القيم رحمه الله: "من مات مشـركا فهو في النار، وإن مات قبل البعثة؛ لأن المشـركين كانوا قد غيَّروا الحنيفية دين إبراهيم واستبدلوا بها الشـرك وارتكبوه، وليس معهم حجة من الله به، وقبحه والوعيد عليه بالنار لم يزل معلوما من دين الرسل كلهم من أولهم إلى آخرهم، وأخبار عقوبات الله لأهله متداولة بين الأمم قرنا بعد قرن، فلله الحجة البالغة على المشـركين في كل وقت، ولو لم يكن إلا ما فطر عباده عليه من توحيد ربوبيته المستلزم لتوحيد إلهيته، وأنه يستحيل في كل فطرة وعقل أن يكون معه إله آخر، وإن كان سبحانه لا يعذب بمقتضـى هذه الفطرة وحدها، فلم تزل دعوة الرسل إلى التوحيد في الأرض معلومة لأهلها، فالمشـرك يستحق العذاب بمخالفته دعوة الرسل، والله أعلم". انتهى كلامه رحمه الله.
وأما الجهلة من المشـركين بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم من المنتسبين للإسلام وغيرهم فالأمر فيهم أشد؛ لأن غالب جهلهم جاء من جهة الإعراض عن رسالته صلى الله عليه وسلم، والإعراض بمجرده كفر، فكيف لو كان معه شـرك؟!
قال الشوكاني رحمه الله: "ومن وقع في الشرك جاهلا لم يعذر، لأن الحجة قامت على جميع الخلق بمبعث محمد صلى الله عليه وسلم، فمن جهل فقد أتي من قبل نفسه؛ بسبب الإعراض عن الكتاب والسنة، وإلا ففيهما البيان الواضح؛ كما قال سبحانه في القرآن: {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً} [النحل: 89]، وكذلك السنة: قال أبو ذر رضي الله عنه: " توفي محمد صلى الله عليه وسلم وما ترك طائرا يقلب جناحيه بين السماء والأرض إلا ذكر لنا منه علما"، أو كما قال رضي الله عنه؛ فمن جهل فبسبب إعراضه، ولا يعذر أحد بالإعراض". انتهى كلامه رحمه الله.
هذا وأدلة عدم عذر الجاهل في الشـرك والذي يناقض أصل الدين كثيرة.
منها قوله تعالى: {فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأعراف: 30].
قال الطبري رحمه الله: "يقول تعالى ذكره: إن الفريق الذي حق عليهم الضلالة، إنما ضلوا عن سبيل الله وجاروا عن قصد المحجة، باتخاذهم الشياطين نصـراء من دون الله وظهراء؛ جهلا منهم بخطأ ما هم عليه من ذلك، بل فعلوا ذلك وهم يظنون أنهم على هدى وحق، وأن الصواب ما أتوه وركبوا.
وهذا من أبين الدلالة على خطأ قول من زعم أن الله لا يعذب أحدا على معصية ركبها أو ضلالة اعتقدها، إلا أن يأتيها بعد علم منه بصواب وجهها، فيركبها عنادا منه لربه فيها؛ لأن ذلك لو كان كذلك، لم يكن بين فريق الضلالة الذي ضل وهو يحسب أنه هاد، وفريق الهدى فرق، وقد فرق الله بين أسمائهما وأحكامهما في هذه الآية". ([11]) انتهى كلامه رحمه الله.
ومن الأدلة على عدم عذر الجاهل في الشـرك: قوله تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف: 103، 104].
قال الطبري رحمه الله: "وهذا من أدل الدلائل على خطأ قول من زعم أنه لا يكفر بالله أحد إلا من حيث يقصد إلى الكفر بعد العلم بوحدانيته؛ وذلك أن الله -تعالى ذكره- أخبر عن هؤلاء الذين وصف صفتهم في هذه الآية، أن سعيهم الذي سعوا في الدنيا ذهب ضلالا، وقد كانوا يحسبون أنهم محسنون في صنعهم ذلك، وأخبر عنهم أنهم هم الذين كفروا بآيات ربهم، ولو كان القول كما قال الذين زعموا أنه لا يكفر بالله أحد إلا من حيث يعلم لوجب أن يكون هؤلاء القوم في عملهم الذي أخبر الله عنهم أنهم كانوا يحسبون فيه أنهم يحسنون صنعه، كانوا مثابين مأجورين عليها، ولكن القول بخلاف ما قالوا، فأخبر جل ثناؤه عنهم: أنهم بالله كفرة، وأن أعمالهم حابطة". ([12]) انتهى كلامه رحمه الله.
طيب: إذا حكمنا على شخص ما بالكفر والشـرك، ما الذي يترتب على ذلك؟
يترتب على حكمنا على أحد بالكفر والشـرك ولو كان جاهلا: قطع الموالاة الإيمانية بيننا وبينه حتى يتوب إلى الله تعالى، وعدم التناكح معه أو أكل ذبيحته، وكذا عدم الاستغفار له إن مات على ذلك، وأنه لا حظ له من الحقوق التي أوجبها الله للمسلمين، وغير ذلك من الأحكام.
وأما تعذيبه في الدنيا والآخرة فهذا متوقف على قيام الحجة الرسالية، وهذا على الصحيح من أقوال العلماء، ودليله قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15]، وقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15].
ونؤكد على: أن من وقع في الشـرك من هذه الأمة فهو مشـرك كافر أيضا، وإن كان مدعيا للإسلام ناطقا بالشهادتين.
قال تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر: 65].
وقال تعالى بعد ذكره لأنبيائه عليهم السلام: {ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 88].
وهذه الآيات من أقوى الأدلة على أن الإسلام يحبط بالشـرك، وأن من أشرك من هذه الأمة فهو كافر، وإن كان ناطقا بالشهادتين عاملا بشعائر الإسلام الأخرى.
ونختم بمسألتين:
الأولى: لو كان إنسان قائما بأصل الدين يعبد الله ولا يشـرك به شيئا، ويؤمن برسوله صلى الله عليه وسلم، لكنه يجهل مصطلح أصل الدين.
بمعنى أنك لو سألته: ما هو أصل الدين تلعثم أو لم يحر جوابا، فلا يضـره ذلك؛ لقيامه بأصل الدين، إذ لا يضـره عدم معرفة ما اصطُلح عليه في هذه المسائل والمعاني.
والدليل على ما ذكرنا: ما جاء في الصحيحين -واللفظ للبخاري-: عن معاذ بن جبل رضي الله عنه، قال: أنا رديف النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا معاذ)، قلت: لبيك وسعديك، ثم قال مثله ثلاثا: (هل تدري ما حق الله على العباد)، قلت: لا، قال: (حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشـركوا به شيئا).
فتصـريح معاذ رضي الله عنه بأنه يجهل حق الله على عباده لم يوقعه في الكفر أو الشرك؛ لأنه قائم بهذا الحق وإن لم يعلم الاصطلاح الشرعي الذي يدل على ذلك المعنى.
المسألة الثانية: أن إحدى المسائل التي ذكرنا أنها من أصل الدين قد يخفى على بعض طلبة العلم أنها من أصل الدين، وهي مسألة عداوة المشـركين، وموالاة المؤمنين؛ فيظن أنها من واجبات الدين لا من أصله، أو يتوقف فيها، فهذا لا يعد ناقضا لأصل الدين طالما أنه حقق البراءة من المشـركين، والموالاة للمؤمنين.
قال الشيخ سليمان بن عبد الله رحمه الله: "بحسب المسلم أن يعلم: أن الله افترض عليه عداوة المشـركين وعدم موالاتهم، وأوجب عليه محبة المؤمنين وموالاتهم، وأخبر أن ذلك من شروط الإيمان، ونفى الإيمان عمن يواد {مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة: 22]، وأما كون ذلك من معنى لا إله إلا الله أو لوازمها، فلم يكلفنا الله بالبحث عن ذلك، إنما كلفنا بمعرفة أن الله فرض ذلك وأوجبه، وأوجب العمل به، فهذا هو الفرض والحتم الذي لا شك فيه، ومن عرف أن ذلك من معناها، أو من لازمها فهو حسن، وزيادة خير، ومن لم يعرفه فلم يكلف بمعرفته، لا سيما إذا كان الجدال والمنازعة فيه مما يفضي إلى شـر واختلاف، ووقوع فرقة بين المؤمنين، الذين قاموا بواجبات الإيمان، وجاهدوا في الله، وعادوا المشـركين، ووالوا المسلمين". ([13]) انتهى كلامه رحمه الله.
ونكتفي بهذا القدر، ونسأل الله تعالى أن ينفعنا بما علمنا، وأن يجمع كلمتنا على الحق، وأن يجعلنا هداة مهديين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
[1])) مجموع الفتاوى (16/203).
[2])) منهاج السنة النبوية (5/255).
[3])) التبصير في معالم الدين (ص126-132).
[4])) مجموع الفتاوى (1/10).
[5])) مجموع الفتاوى (20/357).
[6])) مدارج السالكين (3/455).
[7])) الدرر السنية (8/359).
[8])) مجموع الفتاوى (15/438).
[9])) مدارج السالكين (1/253).
[10])) طريق الهجرتين (ص414).
[11])) تفسير الطبري (12/388).
[12])) تفسير الطبري (18/128).
[13])) الدرر السنية (8/166).
• المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 100
الخميس 15 محرم 1439 هـ ...المزيد
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، ...
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شـريك له الملك الحق المبين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله إمام الأولين والآخرين، أما بعد:
فهذه سلسلة إذاعية في بيان وتوضيح بعض مسائل المنهج والعقيدة، التي وقع فيها الالتباس والاشتباه على أبنائنا وإخواننا من جنود الدولة الإسلامية وسائر المسلمين في داخل دولة الخلافة وخارجها؛ وذلك بسبب التعميم الصادر عن اللجنة المفوضة المعنون له بالآية: {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} [الأنفال: 42]، الذي تم إيقاف وتعطيل العمل به؛ وذلك لما تضمنه من أخطاء علمية ومنهجية وعبارات موهمة حمالة أوجه، أدت إلى الوقوع في التنازع والاختلاف.
فكان لزاما علينا عدم تأخير البيان عن وقت دعت الحاجة إليه واشتدت، وأصبحت ضرورة ملحة؛ وذلك لجمع كلمة الدولة، وتأليف قلوب جنودها على الحق، وإفراغهم لصد عادية أمم الكفر عليها، والذب عن بيضة الإسلام وحرماته.
وقد حذرنا الله تعالى من التنازع والاختلاف أيما تحذير فقال سبحانه: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46)} [الأنفال: 46]
وفي الوقت ذاته أمرنا بالجماعة وعظم شأنها ..
قال النبي ﷺ: «عليكم بالجماعة»، وقال ﷺ: «يد الله مع الجماعة»، وقال ﷺ: «وإياكم والفرقة؛ فإن الشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد».
وجاء في الحديث الذي أخرجه الترمذي وصححه، قال ﷺ: «وأنا آمركم بخمس أمرني الله بهن، السمع والطاعة، والجهاد والهجرة والجماعة، فإن من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه».
وإن من أسباب الفتنة والاختلاف والتنازع:
1 - ترك الاعتصام بالكتاب والسنة بفهم سلف الأمة، والاعتماد على الأهواء وأقوال الرجال ..
قال تعالى: { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103].
وقال تعالى: {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (101)} [آل عمران: 101].
قال ﷺ: "تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبدا: كتاب ?لله وسنتي".
وفي صحيح مسلم، عن أبي هريرة ؓ قال: قال رسول الله ﷺ: «إن الله يرضى لكم ثلاثا، ويكره لكم ثلاثا؛ فيرضـى لكم أن تعبدوه ولا تشـركوا به شيئا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا، ويكره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال».
وكان النبي ﷺ يقول إذا خطب: «أما بعد: فإن أحسن الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد ﷺ، وشـر الأمور محدثاتها».
وقال ابن عباس: "أمر الله المؤمنين بالجماعة ونهاهم عن الاختلاف والفرقة، وأخبرهم أنه إنما هلك من كان قبلهم بالمراء والخصومات في دين الله تعالى".
وعن التابعي الجليل ابن شهاب الزهري ؒ، قال: كان من مضـى من علمائنا يقولون: "الاعتصام بالسنة نجاة".
وقال الإمام الأوزاعي ؒ: "عليك بآثار من سلف وإن رفضك الناس، وإياك ورأي الرجال، وإن زخرفوه بالقول؛ فإن الأمر ينجلي وأنت على طريق مستقيم".
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية ؒ: "وأهل السنة والجماعة يتبعون الكتاب والسنة، ويطيعون الله ورسوله، فيتبعون الحق، ويرحمون الخلق". ([1])
وقال أيضا ؒ: "والفتنة والفرقة لا تقعان إلا من ترك ما أمر الله به، والله تعالى أمر بالحق والعدل وأمر بالصبر، والفتنة تكون من ترك الحق أو من ترك الصبر". انتهى كلامه ؒ.
2 - ومن أسباب الاختلاف والتنازع عدم تمييز السنة من البدعة على بعض صغار المنتسبين للعلم أنصاف المتعلمين، الذين جعلوا أنفسهم في مصاف الأئمة المجتهدين، فتجد الواحد منهم يزعم أنه المهتدي، ويحسب أن السنة معه، وأن المخالف له ضال مبتدع وربما قال: كافر، فينشأ عن ذلك من التفرق والشـرور ما الله به عليم.
والسنة هي ما أمر به الله ورسوله، والبدعة هي ما لم يشرعه الله من الدين.
وقد قال سبحانه: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ } [النحل: 43].
وروى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالما، اتخذ الناس رءوسا جهالا، فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا».
وعن محمد بن سيرين ؒ، قال: "إن هذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم". انتهى كلامه.
ومن صفات رؤوس الضلالة (أهل البدع): أنهم يمررون باطلهم بعبارات شرعية رنانة، كحفظ جناب التوحيد، وملة إبراهيم، والتوحيد الخالص وغيرها؛ كما قالت الخوارج لعلي بن أبي طالب ؓ: "لا حكم إلا لله، وقالوا: "لا نحكم الرجال، نريد حكم الله".
وهذه الأقوال لا تروج على أهل العلم، كما لا تروج الدنانير الزائفة على الصيرفي الحاذق، فقد فهم علي ؓ مغزى كلام الحرورية، ولم يرج عليه قولهم: (لا حكم إلا لله) كما راج على الجهال، حيث قال ؓ: "لا حكم إلا لله، {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ} [الروم: 60]، فما تدرون ما يقول هؤلاء؟ يقولون: لا إمارة، أيها الناس، إنه لا يصلحكم إلا أمير بر أو فاجر".([2])
وفي صحيح مسلم عن عبيد الله بن أبي رافع مولى رسول الله ﷺ، أن الحرورية لما خرجت وهو مع علي بن أبي طالب ؓ قالوا: لا حكم إلا لله، قال علي: "كلمة حق أريد بها باطل، إن رسول الله ﷺ وصف ناسا إني لأعرف صفتهم في هؤلاء يقولون الحق بألسنتهم، لا يجاوز هذا منهم (وأشار ؓ إلى حلقه) من أبغض خلق الله إليه".
قال النووي ؒ: "قوله: (قالوا لا حكم إلا لله، قال علي: كلمة حق أريد بها باطل) معناه: أن الكلمة أصلها صدق، قال الله تعالى: { إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [يوسف: 40]، لكنهم أرادوا بها الإنكار على علي ؓ في تحكيمه". انتهى كلامه.
من أجل ذلك وجب على طالب الحق أن يبتغي الحق من مظانه، لا من المرجفين أنصاف المتعلمين، ولا من علماء الضلالة.
وكان سفيان بن عيينة وغيره من أهل العلم كالإمام أحمد وعبد الله بن المبارك يقولون: إذا اختلف الناس فانظروا ما عليه أهل الثغر؛ فإن الله سبحانه وتعالى يقول: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69].
فكيف تترك أخي المجاهد أهل الثغر من العلماء الذين نفروا إلى أرض الجهاد والإسلام، كيف تترك هذا المعين الصافي، ثم تذهب لتأخذ دينك عن القاعدين بين أحضان طواغيت جزيرة العرب وغيرها، وما كفرهم ولا أنكر عليهم، يخالط جنوده ورجال أمنه ومخابراته من غير أن يبين لهم ما ارتكبوه من نواقض.
ولا تغتر أخي بسجن الطاغوت لأحدهم، فقد يكون تلميعا وإشهارا له ولأقواله، وإدخالا له على الإخوة في السجون؛ لإحداث البلبلة وإلقاء الشبهات بينهم، وقد كانت لهم الفرصة سانحة إن كانوا أهل حق وصدق أن ينفروا إلى أرض الجهاد، ويهاجروا إلى دار الإسلام.
فإن الطاغوت الذي يؤوي أمثال هؤلاء المنظرين للغلو في التكفير، ويسمح برواج بدعتهم هو نفسه الذي يؤوي أهل التجهم والإرجاء ويعينهم على الترويج لبدعتهم، وما ذلك إلا لكون الطرفين والمنهجين يؤديان لنتيجة واحدة؛ وهي الطعن في أهل الحق وترك الهجرة والجهاد في سبيل الله تعالى.
أخي المجاهد: كيف بعد إذ نجاك الله من شباك علماء الطواغيت أهل الإرجاء، تعود فتقع في شباك علماء الطواغيت المروجين للغلو المصدرين للشبهات؛ لكي يقعدوك عن جهادك، ويردوك عن هجرتك، فيسلم من بأسك أولياؤهم من أعداء الله تعالى.
وقد قال بعض السلف: "ما أمر الله تعالى عباده بأمر إلا وللشيطان فيه نزعتان: فإما إلى غلو، وإما إلى تقصير؛ فبأيهما ظفر قنع".
كيف تترك علم من يحمل معك السلاح، ويقاتل معك في الصف من أهل العلم والفقه -لا أعني أنصاف المتعلمين-، وتسلم عقلك وذهنك إلى من لا يستأمن على دينه، وهو يعيش في دعة سالما مسالما للطواغيت، وينظر لك من بعيد؟!
3 - السبب الثالث من أسباب الاختلاف والتنازع: البغي، يقال بغى فلان على فلان؛ أي تعدى عليه بالقول أو الفعل وتجاوز حده.
قال الله تعالى: {وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ } [الشورى: 14].
وقال تعالى: {فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ } [الجاثية: 17].
وقال تعالى: { كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (213)} [البقرة: 213].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية ؒ: "الاجتهاد السائغ لا يبلغ مبلغ الفتنة والفرقة إلا مع البغي، لا لمجرد الاجتهاد ... فلا يكون فتنة وفرقة مع وجود الاجتهاد السائغ، بل مع نوع بغي، وكل ما أوجب فتنة وفرقة فليس من الدين، سواء كان قولا أو فعلا ...
وقال أيضا ؒ: "وعامة ما تنازعت فيه فرقة المؤمنين من مسائل الأصول وغيرها في باب الصفات والقدر والإمامة وغير ذلك: هو من هذا الباب؛ فيه المجتهد المصيب، وفيه المجتهد المخطئ، ويكون المخطئ باغيا، وفيه الباغي من غير اجتهاد، وفيه المقصر فيما أمر به من الصبر". ([3]) انتهى كلامه.
وإن من البغي الاستطالة على المخالف، واتهامه في نيته، وقذف المسلم بالكفر أو البدعة تعديا وظلما جزافا من غير بينة ...
أخرج ابن حبان في صحيحه عن حذيفة ؓ، قال: قال رسول الله ﷺ: «إن ما أتخوف عليكم رجل قرأ القرآن حتى إذا رئيت بهجته عليه، وكان ردئا للإسلام، غيره إلى ما شاء الله، فانسلخ منه ونبذه وراء ظهره، وسعى على جاره بالسيف، ورماه بالشـرك»، قال: قلت: يا نبي الله، أيهما أولى بالشـرك، المرمي أم الرامي؟ قال: «بل الرامي».
وقال الآجري ؒ: "إن الله عز وجل بمنه وفضله أخبرنا في كتابه عمن تقدم من أهل الكتابين اليهود والنصارى، أنهم إنما هلكوا لما افترقوا في دينهم، وأعلمنا مولانا الكريم أن الذي حملهم على الفرقة عن الجماعة والميل إلى الباطل الذي نهوا عنه، إنما هو البغي والحسد، بعد أن علموا ما لم يعلم غيرهم، فحملهم شدة البغي والحسد إلى أن صاروا فرقا فهلكوا، فحذرنا مولانا الكريم أن نكون مثلهم فنهلك كما هلكوا، بل أمرنا عز وجل بلزوم الجماعة، ونهانا عن الفرقة، وكذلك حذرنا النبي ﷺ من الفرقة وأمرنا بالجماعة، وكذلك حذرنا أئمتنا ممن سلف من علماء المسلمين، كلهم يأمرون بلزوم الجماعة, وينهون عن الفرقة". ([4]) انتهى كلام الآجري ؒ.
وننكر أشد النكير على من يبغي ويتعدى فيكفر العلماء أمثال ابن قدامة المقدسـي والنووي وابن حجر العسقلاني وغيرهم ô ممن لهم على أمة الإسلام أياد بيضاء في نشـر العلم ونصـرة الشـريعة، بل نحفظ مكانتهم ونترحم عليهم، ونعتذر عما بدر منهم من أخطاء وزلات.
قال الشعبي -أحد أئمة التابعين- ؒ: "كل أمة علماؤها شرارها، إلا المسلمين؛ فإن علماءهم خيارهم". ([5])
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية ؒ: دفع التكفير عن علماء المسلمين وإن أخطئوا هو من أحق الأغراض الشرعية". ([6]) انتهى كلامه ؒ.
وقال الشيخ عبد الله بن الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب ؒ: "ونحن كذلك: لا نقول بكفر من صحت ديانته، وشهر صلاحه، وعلم ورعه وزهده، وحسنت سيرته، وبلغ من نصحه الأمة ببذل نفسه لتدريس العلوم النافعة والتأليف فيها، وإن كان مخطئا في هذه المسألة أو غيرها". انتهى كلامه ؒ.
وممن نثني عليهم، ونحفظ حقهم علينا أمراء الدولة الإسلامية من أبي مصعب الزرقاوي؛ أمير الاستشهاديين، الصادع بالحق والتوحيد، وقتّال أهل الشـرك والتنديد، مرورا بالشيخ المجاهد أبي عمر البغدادي صاحب العقيدة الراسخة والمواقف الشامخة، ووزيره الشيخ المجاهد أبي حمزة المهاجر صاحب التآليف والتصانيف النافعة، والشيخ أبي محمد العدناني قامع المنحرفين، وكاسر حدود الكافرين، والعالم الرباني أبي علي الأنباري، وغيرهم من أمراء هذه الدولة الذين قضوا في سبيل الله، نحسبهم والله حسيبهم، ولا نزكي على الله أحدا.
وستشتمل هذه السلسلة بإذن الله تعالى على بيان أمور منها:
* حكم التوقف في تكفير المشركين أو الكفار.
* حكم الطوائف الممتنعة، وحكم المخالف فيها.
* حكم ساكني ديار الكفر الطارئ.
ونسأل الله تعالى أن يبارك في هذه السلسلة العلمية، وأن يجعلها سببا لجمع كلمة المجاهدين على الكتاب والسنة، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
[1])) مجموع الفتاوى (3/279).
[2])) مصنف ﭐبن أبي شيبة (7/562/37931).
[3])) الاستقامة (1/37(.
[4])) الشـريعة (1/270).
[5])) مجموع الفتاوى (7/284).
[6])) مجموع الفتاوى (35/103).
• المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 98
الخميس 1 محرم 1439 هـ ...المزيد
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شـريك له الملك الحق المبين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله إمام الأولين والآخرين، أما بعد:
فهذه سلسلة إذاعية في بيان وتوضيح بعض مسائل المنهج والعقيدة، التي وقع فيها الالتباس والاشتباه على أبنائنا وإخواننا من جنود الدولة الإسلامية وسائر المسلمين في داخل دولة الخلافة وخارجها؛ وذلك بسبب التعميم الصادر عن اللجنة المفوضة المعنون له بالآية: {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} [الأنفال: 42]، الذي تم إيقاف وتعطيل العمل به؛ وذلك لما تضمنه من أخطاء علمية ومنهجية وعبارات موهمة حمالة أوجه، أدت إلى الوقوع في التنازع والاختلاف.
فكان لزاما علينا عدم تأخير البيان عن وقت دعت الحاجة إليه واشتدت، وأصبحت ضرورة ملحة؛ وذلك لجمع كلمة الدولة، وتأليف قلوب جنودها على الحق، وإفراغهم لصد عادية أمم الكفر عليها، والذب عن بيضة الإسلام وحرماته.
وقد حذرنا الله تعالى من التنازع والاختلاف أيما تحذير فقال سبحانه: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46)} [الأنفال: 46]
وفي الوقت ذاته أمرنا بالجماعة وعظم شأنها ..
قال النبي ﷺ: «عليكم بالجماعة»، وقال ﷺ: «يد الله مع الجماعة»، وقال ﷺ: «وإياكم والفرقة؛ فإن الشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد».
وجاء في الحديث الذي أخرجه الترمذي وصححه، قال ﷺ: «وأنا آمركم بخمس أمرني الله بهن، السمع والطاعة، والجهاد والهجرة والجماعة، فإن من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه».
وإن من أسباب الفتنة والاختلاف والتنازع:
1 - ترك الاعتصام بالكتاب والسنة بفهم سلف الأمة، والاعتماد على الأهواء وأقوال الرجال ..
قال تعالى: { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103].
وقال تعالى: {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (101)} [آل عمران: 101].
قال ﷺ: "تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبدا: كتاب ?لله وسنتي".
وفي صحيح مسلم، عن أبي هريرة ؓ قال: قال رسول الله ﷺ: «إن الله يرضى لكم ثلاثا، ويكره لكم ثلاثا؛ فيرضـى لكم أن تعبدوه ولا تشـركوا به شيئا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا، ويكره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال».
وكان النبي ﷺ يقول إذا خطب: «أما بعد: فإن أحسن الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد ﷺ، وشـر الأمور محدثاتها».
وقال ابن عباس: "أمر الله المؤمنين بالجماعة ونهاهم عن الاختلاف والفرقة، وأخبرهم أنه إنما هلك من كان قبلهم بالمراء والخصومات في دين الله تعالى".
وعن التابعي الجليل ابن شهاب الزهري ؒ، قال: كان من مضـى من علمائنا يقولون: "الاعتصام بالسنة نجاة".
وقال الإمام الأوزاعي ؒ: "عليك بآثار من سلف وإن رفضك الناس، وإياك ورأي الرجال، وإن زخرفوه بالقول؛ فإن الأمر ينجلي وأنت على طريق مستقيم".
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية ؒ: "وأهل السنة والجماعة يتبعون الكتاب والسنة، ويطيعون الله ورسوله، فيتبعون الحق، ويرحمون الخلق". ([1])
وقال أيضا ؒ: "والفتنة والفرقة لا تقعان إلا من ترك ما أمر الله به، والله تعالى أمر بالحق والعدل وأمر بالصبر، والفتنة تكون من ترك الحق أو من ترك الصبر". انتهى كلامه ؒ.
2 - ومن أسباب الاختلاف والتنازع عدم تمييز السنة من البدعة على بعض صغار المنتسبين للعلم أنصاف المتعلمين، الذين جعلوا أنفسهم في مصاف الأئمة المجتهدين، فتجد الواحد منهم يزعم أنه المهتدي، ويحسب أن السنة معه، وأن المخالف له ضال مبتدع وربما قال: كافر، فينشأ عن ذلك من التفرق والشـرور ما الله به عليم.
والسنة هي ما أمر به الله ورسوله، والبدعة هي ما لم يشرعه الله من الدين.
وقد قال سبحانه: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ } [النحل: 43].
وروى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالما، اتخذ الناس رءوسا جهالا، فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا».
وعن محمد بن سيرين ؒ، قال: "إن هذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم". انتهى كلامه.
ومن صفات رؤوس الضلالة (أهل البدع): أنهم يمررون باطلهم بعبارات شرعية رنانة، كحفظ جناب التوحيد، وملة إبراهيم، والتوحيد الخالص وغيرها؛ كما قالت الخوارج لعلي بن أبي طالب ؓ: "لا حكم إلا لله، وقالوا: "لا نحكم الرجال، نريد حكم الله".
وهذه الأقوال لا تروج على أهل العلم، كما لا تروج الدنانير الزائفة على الصيرفي الحاذق، فقد فهم علي ؓ مغزى كلام الحرورية، ولم يرج عليه قولهم: (لا حكم إلا لله) كما راج على الجهال، حيث قال ؓ: "لا حكم إلا لله، {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ} [الروم: 60]، فما تدرون ما يقول هؤلاء؟ يقولون: لا إمارة، أيها الناس، إنه لا يصلحكم إلا أمير بر أو فاجر".([2])
وفي صحيح مسلم عن عبيد الله بن أبي رافع مولى رسول الله ﷺ، أن الحرورية لما خرجت وهو مع علي بن أبي طالب ؓ قالوا: لا حكم إلا لله، قال علي: "كلمة حق أريد بها باطل، إن رسول الله ﷺ وصف ناسا إني لأعرف صفتهم في هؤلاء يقولون الحق بألسنتهم، لا يجاوز هذا منهم (وأشار ؓ إلى حلقه) من أبغض خلق الله إليه".
قال النووي ؒ: "قوله: (قالوا لا حكم إلا لله، قال علي: كلمة حق أريد بها باطل) معناه: أن الكلمة أصلها صدق، قال الله تعالى: { إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [يوسف: 40]، لكنهم أرادوا بها الإنكار على علي ؓ في تحكيمه". انتهى كلامه.
من أجل ذلك وجب على طالب الحق أن يبتغي الحق من مظانه، لا من المرجفين أنصاف المتعلمين، ولا من علماء الضلالة.
وكان سفيان بن عيينة وغيره من أهل العلم كالإمام أحمد وعبد الله بن المبارك يقولون: إذا اختلف الناس فانظروا ما عليه أهل الثغر؛ فإن الله سبحانه وتعالى يقول: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69].
فكيف تترك أخي المجاهد أهل الثغر من العلماء الذين نفروا إلى أرض الجهاد والإسلام، كيف تترك هذا المعين الصافي، ثم تذهب لتأخذ دينك عن القاعدين بين أحضان طواغيت جزيرة العرب وغيرها، وما كفرهم ولا أنكر عليهم، يخالط جنوده ورجال أمنه ومخابراته من غير أن يبين لهم ما ارتكبوه من نواقض.
ولا تغتر أخي بسجن الطاغوت لأحدهم، فقد يكون تلميعا وإشهارا له ولأقواله، وإدخالا له على الإخوة في السجون؛ لإحداث البلبلة وإلقاء الشبهات بينهم، وقد كانت لهم الفرصة سانحة إن كانوا أهل حق وصدق أن ينفروا إلى أرض الجهاد، ويهاجروا إلى دار الإسلام.
فإن الطاغوت الذي يؤوي أمثال هؤلاء المنظرين للغلو في التكفير، ويسمح برواج بدعتهم هو نفسه الذي يؤوي أهل التجهم والإرجاء ويعينهم على الترويج لبدعتهم، وما ذلك إلا لكون الطرفين والمنهجين يؤديان لنتيجة واحدة؛ وهي الطعن في أهل الحق وترك الهجرة والجهاد في سبيل الله تعالى.
أخي المجاهد: كيف بعد إذ نجاك الله من شباك علماء الطواغيت أهل الإرجاء، تعود فتقع في شباك علماء الطواغيت المروجين للغلو المصدرين للشبهات؛ لكي يقعدوك عن جهادك، ويردوك عن هجرتك، فيسلم من بأسك أولياؤهم من أعداء الله تعالى.
وقد قال بعض السلف: "ما أمر الله تعالى عباده بأمر إلا وللشيطان فيه نزعتان: فإما إلى غلو، وإما إلى تقصير؛ فبأيهما ظفر قنع".
كيف تترك علم من يحمل معك السلاح، ويقاتل معك في الصف من أهل العلم والفقه -لا أعني أنصاف المتعلمين-، وتسلم عقلك وذهنك إلى من لا يستأمن على دينه، وهو يعيش في دعة سالما مسالما للطواغيت، وينظر لك من بعيد؟!
3 - السبب الثالث من أسباب الاختلاف والتنازع: البغي، يقال بغى فلان على فلان؛ أي تعدى عليه بالقول أو الفعل وتجاوز حده.
قال الله تعالى: {وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ } [الشورى: 14].
وقال تعالى: {فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ } [الجاثية: 17].
وقال تعالى: { كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (213)} [البقرة: 213].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية ؒ: "الاجتهاد السائغ لا يبلغ مبلغ الفتنة والفرقة إلا مع البغي، لا لمجرد الاجتهاد ... فلا يكون فتنة وفرقة مع وجود الاجتهاد السائغ، بل مع نوع بغي، وكل ما أوجب فتنة وفرقة فليس من الدين، سواء كان قولا أو فعلا ...
وقال أيضا ؒ: "وعامة ما تنازعت فيه فرقة المؤمنين من مسائل الأصول وغيرها في باب الصفات والقدر والإمامة وغير ذلك: هو من هذا الباب؛ فيه المجتهد المصيب، وفيه المجتهد المخطئ، ويكون المخطئ باغيا، وفيه الباغي من غير اجتهاد، وفيه المقصر فيما أمر به من الصبر". ([3]) انتهى كلامه.
وإن من البغي الاستطالة على المخالف، واتهامه في نيته، وقذف المسلم بالكفر أو البدعة تعديا وظلما جزافا من غير بينة ...
أخرج ابن حبان في صحيحه عن حذيفة ؓ، قال: قال رسول الله ﷺ: «إن ما أتخوف عليكم رجل قرأ القرآن حتى إذا رئيت بهجته عليه، وكان ردئا للإسلام، غيره إلى ما شاء الله، فانسلخ منه ونبذه وراء ظهره، وسعى على جاره بالسيف، ورماه بالشـرك»، قال: قلت: يا نبي الله، أيهما أولى بالشـرك، المرمي أم الرامي؟ قال: «بل الرامي».
وقال الآجري ؒ: "إن الله عز وجل بمنه وفضله أخبرنا في كتابه عمن تقدم من أهل الكتابين اليهود والنصارى، أنهم إنما هلكوا لما افترقوا في دينهم، وأعلمنا مولانا الكريم أن الذي حملهم على الفرقة عن الجماعة والميل إلى الباطل الذي نهوا عنه، إنما هو البغي والحسد، بعد أن علموا ما لم يعلم غيرهم، فحملهم شدة البغي والحسد إلى أن صاروا فرقا فهلكوا، فحذرنا مولانا الكريم أن نكون مثلهم فنهلك كما هلكوا، بل أمرنا عز وجل بلزوم الجماعة، ونهانا عن الفرقة، وكذلك حذرنا النبي ﷺ من الفرقة وأمرنا بالجماعة، وكذلك حذرنا أئمتنا ممن سلف من علماء المسلمين، كلهم يأمرون بلزوم الجماعة, وينهون عن الفرقة". ([4]) انتهى كلام الآجري ؒ.
وننكر أشد النكير على من يبغي ويتعدى فيكفر العلماء أمثال ابن قدامة المقدسـي والنووي وابن حجر العسقلاني وغيرهم ô ممن لهم على أمة الإسلام أياد بيضاء في نشـر العلم ونصـرة الشـريعة، بل نحفظ مكانتهم ونترحم عليهم، ونعتذر عما بدر منهم من أخطاء وزلات.
قال الشعبي -أحد أئمة التابعين- ؒ: "كل أمة علماؤها شرارها، إلا المسلمين؛ فإن علماءهم خيارهم". ([5])
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية ؒ: دفع التكفير عن علماء المسلمين وإن أخطئوا هو من أحق الأغراض الشرعية". ([6]) انتهى كلامه ؒ.
وقال الشيخ عبد الله بن الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب ؒ: "ونحن كذلك: لا نقول بكفر من صحت ديانته، وشهر صلاحه، وعلم ورعه وزهده، وحسنت سيرته، وبلغ من نصحه الأمة ببذل نفسه لتدريس العلوم النافعة والتأليف فيها، وإن كان مخطئا في هذه المسألة أو غيرها". انتهى كلامه ؒ.
وممن نثني عليهم، ونحفظ حقهم علينا أمراء الدولة الإسلامية من أبي مصعب الزرقاوي؛ أمير الاستشهاديين، الصادع بالحق والتوحيد، وقتّال أهل الشـرك والتنديد، مرورا بالشيخ المجاهد أبي عمر البغدادي صاحب العقيدة الراسخة والمواقف الشامخة، ووزيره الشيخ المجاهد أبي حمزة المهاجر صاحب التآليف والتصانيف النافعة، والشيخ أبي محمد العدناني قامع المنحرفين، وكاسر حدود الكافرين، والعالم الرباني أبي علي الأنباري، وغيرهم من أمراء هذه الدولة الذين قضوا في سبيل الله، نحسبهم والله حسيبهم، ولا نزكي على الله أحدا.
وستشتمل هذه السلسلة بإذن الله تعالى على بيان أمور منها:
* حكم التوقف في تكفير المشركين أو الكفار.
* حكم الطوائف الممتنعة، وحكم المخالف فيها.
* حكم ساكني ديار الكفر الطارئ.
ونسأل الله تعالى أن يبارك في هذه السلسلة العلمية، وأن يجعلها سببا لجمع كلمة المجاهدين على الكتاب والسنة، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
[1])) مجموع الفتاوى (3/279).
[2])) مصنف ﭐبن أبي شيبة (7/562/37931).
[3])) الاستقامة (1/37(.
[4])) الشـريعة (1/270).
[5])) مجموع الفتاوى (7/284).
[6])) مجموع الفتاوى (35/103).
• المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 98
الخميس 1 محرم 1439 هـ ...المزيد
العبودية الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتِم المرسلين، أما بعد... إذا عرف ...
العبودية
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتِم المرسلين، أما بعد...
إذا عرف المخلوق ربه، وأنه خالق الكون ومُدبِّره، وهو الذي يرزقه ويُنعم عليه النعم المتتالية، وجبت عليه عبادته والخضوع لأمره ونهيه.
• أهمية العبادة ومعناها
توحيد الله -تعالى- وعبادته وحده هي الغاية التي خلق الله -تعالى- لأجلها الخلق، وهي الأمر الأعظم والأوجب عليهم من خالقهم الذي يرزقهم ويدبّر أمورهم، كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات: 56 - 58]، ودعوة توحيد الله -تعالى- بالعبادة هي دعوة المرسلين لأقوامهم، فكلهم يقول لقومه: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 59]، وكما قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36]، ولقد ذمَّ الله المستكبرين عن عبادته فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60]، والعبادة تُصرف لله وحده، وصرف شيء منها لغيره يبطل إسلام المرء.
وحاجة العبد للعبادة لا تُقاربها حاجة، وهي أشد من حاجة الجسد للطعام والشراب، لأنها حاجة القلب والروح، وهما أهم من الجسد، ولا يطمئنان ولا يسكنان ولا يشبعان ولا يرتويان إلا بالعبادة، وكلما طابت العبادة طاب القلب وارتاح، وإذا أقبل على الله اعتزَّ وإن كان ذليلا، واستغنى وإن كان محتاجا.
وأركان العبادة هي امتثال أمر الله مع الخضوع والمحبة والتعظيم، والأمور التي تدخل في العبادة: كل ما رضِيَه الله من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، فالأقوال كالدعاء والاستغاثة وكالذكر وشهادة أن لا إله إلا الله والأقوال الداخلة في الصلاة من ذكر وقراءة القرآن ونحوها، والأعمال كالصلاة والجهاد والذبح والتحاكم في الخصومة وغير ذلك، والأعمال الباطنة مثل الرجاء والخوف والتوكل والتعظيم، وكل هذا إما أن يُفْعل لله فهو التوحيد، وإما أن يُفْعل لغيره فهو الشرك.
• لا تصِحُّ العبادة مع الشرك والبدعة
إن مقام العبودية من أعظم المقامات التي امتدح الله بها أنبياءه ومنها قوله -تعالى- في حق نبينا صلى الله عليه وسلم: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا} [الإسراء: 1]، وقال تعالى: {وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص: 30] فالعبد المسلم يشترط لصحة عبادته ووصفه بالعبودية الحقيقية لله -تعالى- أن يكون مخلصا متابعا، فما معنى الإخلاص والمتابعة؟
الإخلاص هو ضد الشرك، ولا تصِحُّ العبادة إلا بإخلاصها أي تخليصها من أي نوع من أنواع الشرك المبطل لها، قال الله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} [البينة: 5]، قال الإمام الطبري: "مفردين له الطاعة، لا يخلطون طاعتهم ربهم بشرك" [جامع البيان].
وأما المتابعة فتعني أن تعبُد الله -عز وجل- بما شرع -سبحانه- في كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [المائدة: 92]، وفي الصحيحين عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في أمرِنا هذا ما ليس فيه فهو ردٌ)، وكل عمل بلا اقتداء بالنبي -صلى الله عليه وسلم- فإنه لا يزيد عامِلَه من الله إلا بُعدا، وإن الله -تعالى- يُعبَد وفق أمره لا بالآراء والأهواء، عن الحسن البصري قال: "صاحب البدعة لا يزداد اجتهادا، صياما وصلاة، إلا ازداد من الله بعدا" [البدع لابن الوضاح].
• التوحيد وفضله والشرك وشره
فعبادة الله وحده هو توحيده، وعبادة غيره معه شرك، فعن معاذ بن جبل -رضي الله عنه- قال: كنتُ ردفَ النبي -صلى الله عليه وسلم- على حمارٍ يقال له عفيرٌ، فقال: (يا معاذُ، هل تدري حقَّ اللهِ على عبادِه، وما حقُّ العبادِ على اللهِ؟) قلت: الله ورسوله أعلم، قال: (فإنَّ حقَّ اللهِ على عباده أن يعبدوه، ولا يشركوا به شيئاً، وحقُّ العبادِ على اللهِ أن لا يعذِّبَ من لا يشرك به شيئاً). فقلت: يا رسول الله، أفلا أبشر به الناس؟ قال: (لا تبشِّرهم فيتَّكلوا) [رواه البخاري ومسلم].
والتوحيد هو تحقيق معنى لا إله إلا الله، وفضل هذه الكلمة عظيم جليل، لمن أعطاها حقها فآمن بها وعمل بمضمونها، فالموحِّد لا يُخلَّد في النار كما ورد في الصحيحين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فإن الله قد حرَّم على النار من قال: لا إله إلا الله، يبتغي بذلك وجه الله)، وللموحِّد الأمن التام يوم القيامة كما قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام: 82]، وروى الترمذي عن أنس وحسَّنهُ، قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (قال اللَّه تبارك وتعالى: ...يا ابن آدم إنَّكَ لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثمَّ لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة).
ومن أتى بالتوحيد بأعلى درجاته دخل الجنة بغير حساب ولا عذاب، كما في حديث ابن عباس عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (عرضت عليَّ الأمم، فرأيت النبي ومعه الرهيط، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي ليس معه أحد، إذ رُفع لي سواد عظيم، فظننت أنهم أمتي، فقيل لي: هذا موسى -صلى الله عليه وسلم- وقومه، ولكن انظر إلى الأفق، فنظرت، فإذا سواد عظيم، فقيل لي: انظر إلى الأفق الآخر، فإذا سواد عظيم، فقيل لي: هذه أمتك، ومعهم سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب). ثم نهض فدخل منزله، فخاض الناس في أولئك الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، فقال بعضهم: فلعلهم الذين صَحِبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال بعضهم: فلعلهم الذين وُلدوا في الإسلام ولم يشركوا بالله، وذكروا أشياء، فخرج عليهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: (ما الذي تخوضون فيه؟) فأخبروه، فقال: (هم الذين لا يرقون، ولا يسترقون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون)، فقام عكاشة بن محصن، فقال: ادع الله أن يجعلني منهم، فقال (أنت منهم)، ثم قام رجل آخر فقال: ادع الله أن يجعلني منهم، فقال: (سبقك بها عكاشة) [رواه البخاري ومسلم، واللفظ لمسلم].
فهذا فضل التوحيد، أما شرُّ نقيضه وهو الشرك فأمره جلل وخطبه عظيم مهول، فإن المشرك لا يغفر الله له، كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48]، بل مصيره إلى النار خالدا فيها، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من لقي الله لا يشرك به شيئا دخل الجنة، ومن لقيه يشرك به دخل النار)، فمن كان يصرف كل العبادات لله إلا عبادة يسيرة يصرفها لغيره فهو مشرك، وجزاؤه النار خالدا فيها فانتبه لهذا يا عبد الله.
وكثير من الناس يستهين بالشرك، ويظنُّ أن جهره بلا إله إلا الله أو حبَّه للرسول -صلى الله عليه وسلم- أو حُبَّه لأهل الدين أو بِرَّه بوالديه أو دعوته لدين الله وطباعة المصحف، أو حج بيت الله الحرام، يظن أن ذلك فقط ينجيه من النار! بل لا ينجيه من النار إلا إخلاص التوحيد لله وعدم صرف العبادة لغيره، فيعبد الله وحده ولا يتحاكم عند النزاعات إلى محاكم الطواغيت، ولا يوالي جندهم من شرطة وغيرها محبة ونصرة وإعانة، ولا يستغيث عند الشدائد بغير الله، ولا يطلب الشفاعة من غير الله، ولا يشارك في الانتخابات، ولا يذهب للسحرة ليحبِّبوا إليه زوجه أو ليرقوا له مريضه.
• المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 95
الخميس 2 ذو الحجة 1438 هـ ...المزيد
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتِم المرسلين، أما بعد...
إذا عرف المخلوق ربه، وأنه خالق الكون ومُدبِّره، وهو الذي يرزقه ويُنعم عليه النعم المتتالية، وجبت عليه عبادته والخضوع لأمره ونهيه.
• أهمية العبادة ومعناها
توحيد الله -تعالى- وعبادته وحده هي الغاية التي خلق الله -تعالى- لأجلها الخلق، وهي الأمر الأعظم والأوجب عليهم من خالقهم الذي يرزقهم ويدبّر أمورهم، كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات: 56 - 58]، ودعوة توحيد الله -تعالى- بالعبادة هي دعوة المرسلين لأقوامهم، فكلهم يقول لقومه: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 59]، وكما قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36]، ولقد ذمَّ الله المستكبرين عن عبادته فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60]، والعبادة تُصرف لله وحده، وصرف شيء منها لغيره يبطل إسلام المرء.
وحاجة العبد للعبادة لا تُقاربها حاجة، وهي أشد من حاجة الجسد للطعام والشراب، لأنها حاجة القلب والروح، وهما أهم من الجسد، ولا يطمئنان ولا يسكنان ولا يشبعان ولا يرتويان إلا بالعبادة، وكلما طابت العبادة طاب القلب وارتاح، وإذا أقبل على الله اعتزَّ وإن كان ذليلا، واستغنى وإن كان محتاجا.
وأركان العبادة هي امتثال أمر الله مع الخضوع والمحبة والتعظيم، والأمور التي تدخل في العبادة: كل ما رضِيَه الله من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، فالأقوال كالدعاء والاستغاثة وكالذكر وشهادة أن لا إله إلا الله والأقوال الداخلة في الصلاة من ذكر وقراءة القرآن ونحوها، والأعمال كالصلاة والجهاد والذبح والتحاكم في الخصومة وغير ذلك، والأعمال الباطنة مثل الرجاء والخوف والتوكل والتعظيم، وكل هذا إما أن يُفْعل لله فهو التوحيد، وإما أن يُفْعل لغيره فهو الشرك.
• لا تصِحُّ العبادة مع الشرك والبدعة
إن مقام العبودية من أعظم المقامات التي امتدح الله بها أنبياءه ومنها قوله -تعالى- في حق نبينا صلى الله عليه وسلم: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا} [الإسراء: 1]، وقال تعالى: {وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص: 30] فالعبد المسلم يشترط لصحة عبادته ووصفه بالعبودية الحقيقية لله -تعالى- أن يكون مخلصا متابعا، فما معنى الإخلاص والمتابعة؟
الإخلاص هو ضد الشرك، ولا تصِحُّ العبادة إلا بإخلاصها أي تخليصها من أي نوع من أنواع الشرك المبطل لها، قال الله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} [البينة: 5]، قال الإمام الطبري: "مفردين له الطاعة، لا يخلطون طاعتهم ربهم بشرك" [جامع البيان].
وأما المتابعة فتعني أن تعبُد الله -عز وجل- بما شرع -سبحانه- في كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [المائدة: 92]، وفي الصحيحين عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في أمرِنا هذا ما ليس فيه فهو ردٌ)، وكل عمل بلا اقتداء بالنبي -صلى الله عليه وسلم- فإنه لا يزيد عامِلَه من الله إلا بُعدا، وإن الله -تعالى- يُعبَد وفق أمره لا بالآراء والأهواء، عن الحسن البصري قال: "صاحب البدعة لا يزداد اجتهادا، صياما وصلاة، إلا ازداد من الله بعدا" [البدع لابن الوضاح].
• التوحيد وفضله والشرك وشره
فعبادة الله وحده هو توحيده، وعبادة غيره معه شرك، فعن معاذ بن جبل -رضي الله عنه- قال: كنتُ ردفَ النبي -صلى الله عليه وسلم- على حمارٍ يقال له عفيرٌ، فقال: (يا معاذُ، هل تدري حقَّ اللهِ على عبادِه، وما حقُّ العبادِ على اللهِ؟) قلت: الله ورسوله أعلم، قال: (فإنَّ حقَّ اللهِ على عباده أن يعبدوه، ولا يشركوا به شيئاً، وحقُّ العبادِ على اللهِ أن لا يعذِّبَ من لا يشرك به شيئاً). فقلت: يا رسول الله، أفلا أبشر به الناس؟ قال: (لا تبشِّرهم فيتَّكلوا) [رواه البخاري ومسلم].
والتوحيد هو تحقيق معنى لا إله إلا الله، وفضل هذه الكلمة عظيم جليل، لمن أعطاها حقها فآمن بها وعمل بمضمونها، فالموحِّد لا يُخلَّد في النار كما ورد في الصحيحين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فإن الله قد حرَّم على النار من قال: لا إله إلا الله، يبتغي بذلك وجه الله)، وللموحِّد الأمن التام يوم القيامة كما قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام: 82]، وروى الترمذي عن أنس وحسَّنهُ، قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (قال اللَّه تبارك وتعالى: ...يا ابن آدم إنَّكَ لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثمَّ لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة).
ومن أتى بالتوحيد بأعلى درجاته دخل الجنة بغير حساب ولا عذاب، كما في حديث ابن عباس عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (عرضت عليَّ الأمم، فرأيت النبي ومعه الرهيط، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي ليس معه أحد، إذ رُفع لي سواد عظيم، فظننت أنهم أمتي، فقيل لي: هذا موسى -صلى الله عليه وسلم- وقومه، ولكن انظر إلى الأفق، فنظرت، فإذا سواد عظيم، فقيل لي: انظر إلى الأفق الآخر، فإذا سواد عظيم، فقيل لي: هذه أمتك، ومعهم سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب). ثم نهض فدخل منزله، فخاض الناس في أولئك الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، فقال بعضهم: فلعلهم الذين صَحِبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال بعضهم: فلعلهم الذين وُلدوا في الإسلام ولم يشركوا بالله، وذكروا أشياء، فخرج عليهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: (ما الذي تخوضون فيه؟) فأخبروه، فقال: (هم الذين لا يرقون، ولا يسترقون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون)، فقام عكاشة بن محصن، فقال: ادع الله أن يجعلني منهم، فقال (أنت منهم)، ثم قام رجل آخر فقال: ادع الله أن يجعلني منهم، فقال: (سبقك بها عكاشة) [رواه البخاري ومسلم، واللفظ لمسلم].
فهذا فضل التوحيد، أما شرُّ نقيضه وهو الشرك فأمره جلل وخطبه عظيم مهول، فإن المشرك لا يغفر الله له، كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48]، بل مصيره إلى النار خالدا فيها، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من لقي الله لا يشرك به شيئا دخل الجنة، ومن لقيه يشرك به دخل النار)، فمن كان يصرف كل العبادات لله إلا عبادة يسيرة يصرفها لغيره فهو مشرك، وجزاؤه النار خالدا فيها فانتبه لهذا يا عبد الله.
وكثير من الناس يستهين بالشرك، ويظنُّ أن جهره بلا إله إلا الله أو حبَّه للرسول -صلى الله عليه وسلم- أو حُبَّه لأهل الدين أو بِرَّه بوالديه أو دعوته لدين الله وطباعة المصحف، أو حج بيت الله الحرام، يظن أن ذلك فقط ينجيه من النار! بل لا ينجيه من النار إلا إخلاص التوحيد لله وعدم صرف العبادة لغيره، فيعبد الله وحده ولا يتحاكم عند النزاعات إلى محاكم الطواغيت، ولا يوالي جندهم من شرطة وغيرها محبة ونصرة وإعانة، ولا يستغيث عند الشدائد بغير الله، ولا يطلب الشفاعة من غير الله، ولا يشارك في الانتخابات، ولا يذهب للسحرة ليحبِّبوا إليه زوجه أو ليرقوا له مريضه.
• المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 95
الخميس 2 ذو الحجة 1438 هـ ...المزيد
اغتنم صحتك قبل سقمك الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، وعلى آله ...
اغتنم صحتك قبل سقمك
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فقد جاء عن ابن عباس -رضي الله عنه- أنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لرجل وهو يعظه: (اغتنم خمسا قبل خمس، شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك) [رواه البيهقي وهو صحيح على شرط الشيخين].
وقد تكلمنا عن مفردات هذا الحديث، ولم يبق لنا إلا الحديث عن الصحة قبل السقم، وعند معاينة هذا الجزء من الحديث، تجول في النفس كثير من المعاني التي حققها المغتنمون من أهل الصحة فيما يكثرونه من الطاعات، وعلى رأسها الجهاد في سبيل الله، ثم قد يقف الواقف في معنى الاغتنام حيرانا أمام من قُطِّعت بعض أجسادهم، فلم يعجزوا ويقعدوا، بل أكملوا الطريق إلى نهايته، فلله درهم وعلى الله أجرهم.
ثم قد ترى بعض أهل الصحة من ينطبق عليهم وصف العجز بكل معانيه، فإنهم مع تمام صحتهم عجزوا عن تنفيذ مراد الله -تعالى- منهم، فأين عذرهم وقد جاهد أهل البلاء بما تبقى من أجسادهم، حتى عجز القلم أن يكتب عن جميل فعالهم وكريم خصالهم؟ أولئك الذي قُطِّعت أرجلهم فجاهدوا بأيديهم فلم يكن ذلك عائقا أمامهم لإكمال مسيرهم إلى الله -تعالى- بصدق وقوة عزيمة، قد تعالت نفوسهم على حطام الدنيا وبهرجها، فجادوا بما بقي من أجسادهم لله رب العالمين.
• العاجز من أتبع النفس هواها
فالعاجز في هذه الأيام ليس ذلك الذي فقد شيئا من جسده، بل العاجز من اتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأمانيّ، وقعد عن نصرة دين الله -تبارك وتعالى- في زمن الجهاد والذود عن الدين والحرمات، في زمان تكالب الأمم على أمة الإسلام في دولة الإسلام، فشمَّر لها أهل العزائم من أولئك الذين أبقى الله في أجسادهم ما يستطيعون به حمل السلاح أو قيادة سيارة مفخخة نحو أهدافهم، إن العاجز ليس ذاك الولي الصادق الذي أكمل طريقه إلى ربه، إنما العاجز هو الذي وهبه الله صحة وجسدا سليما فلم يغتنم هذه النعمة في ما يرضي الله تبارك وتعالى، ولم يستعملها في نصرة دينه وعباده المستضعفين، وهذا هو الذي نعجب منه في هذا الزمن، وكما قال الشاعر:
عجِبتُ لمن له قَدٌّ وحَدٌّ
وينبو نبوة القضم الكهامِ
ومنْ يجد الطريق إلى المعالي
فلا يذرُ المطيَّ بلا سنامِ
ولم أرَ في عيوب الناس شيئاً
كنقص القادرين على التمامِ
فلا عجب أن ترى مواكب المغتنمين ممن ابتلاهم الله بالإصابات والابتلاءات ناصبين صدورهم لعدوهم، تروسا لحماية جناب التوحيد، فلم يجد اليأس إلى قلوبهم طريقا، وهم لا يجدون عن المعالي محيصا، حتى يركبوا إلى المجد مراكبه، للسير إلى سعادتهم وطيب مقامهم، فمن العاجز أيها الصحيح الذي لم تسقم؟ ومن المغتنم أيها السليم المنعّم؟ هل فقهت معنى حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- حول اغتنامك صحتك قبل سقمك؟
• السقم الحقيقي هو سقم القلب
إن السقم الحقيقي هو سقم القلب وعجزه وضعف إرادته عن نيل المطالب العالية، التي لا تصلها إلا النفوس المرضية عند ربها، التي لا ترضى بعيش الدون، فإما الحكم لله، وإما نار لا تنطفئ أوراها حتى تحرق جموع الكفار والمرتدين، وهنا يسقط القلم فما عاد يجد الكلمات التي يصف بها فعال أولئك الموحدين المبتلين بقطع وبتر، من الذين ركبوا مراكب المنايا، فأحلُّوا بساحة أعدائهم المهالك والرزايا، ولكن لا يزال في الجعبة من كلمات الأسف على أولئك الذين سلموا من كل بلاء، وقد أنعم الله عليهم بنعمة الصحة وسلامة الأعضاء، فوا أسفاه عليهم حين لم يجد إخواننا المبتلون لأنفسهم عذرا فمضوا في طريق الجهاد، وهؤلاء قد وجدوا لأنفسهم أعذارا فنكلوا عن العز والسؤدد، فماذا أعددت لنفسك أيها السليم المسكين بين يدي الجبار؟ وأي غنيمة فاتتك أيها المعافى لتعتق رقبتك من النار؟
نعم، إنها الإرادة التي لا تعرف الانكسار، وتسعى بالصبر والمصابرة لنصرة دين الله تبارك وتعالى، تلك التي خالطت قلوب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يجدوا لمعنى الاغتنام إلا طلب الكفار ومقارعتهم، فهل سمعت بالأعمى الذي خرج ليحمل اللواء فقُتل في سبيل الله تعالى؟ إنه الصحابي الجليل ابن أم مكتوم، لم يتعذر بأنه أعمى بل ساقه قلبه البصير إلى خير كرامة، شهادة في سبيل الخالق جل وعلا، وهل سمعت بالأعرج الذي أراد أن يطأ بعرجته الجنة؟ إنه الصحابي عمرو بن الجموح، الذي كانت أمنيته أن يطأ بعرجته الجنة، فقُتل في سبيل الله -تعالى- ولم يعتذر لنفسه.
• جعفر ذو الجناحين قدوة كل مسلم
فيا أيها الجريح ويا أيها المبتلى اقتدِ بأولئك، ألا ترى مواكب المقتدين من إخوانك قد اقتدوا بهم بأبهى حلةٍ للاقتداء وقد شاهدتهم بأم عينيك؟ فسارع إلى جنة ربك، فنعم الغنيمة هذه، حيث يبدلك الله بجسد خير من جسدك وزوجة خير من زوجتك وصحبة خير من صحبتك، حيث لا تتمنى إلا أن تعود إلى الدنيا لتُقتل مرة أخرى، ولا يضرك بأي جسد تقتل، فقط لترى من كرامة القتل في سبيل الله.
نعم، إنها تلك الإرادة الجامحة التي تثور في قلب الموحد ليعلي صرح التوحيد، فينال رضا ربه الإله الواحد الأحد، إنها تلك النار التي توقدت في قلب الجيل الأول فضحَّوا تضحية منقطعة النظير حين كان القتال بالسيف والرمح، وهو قتال صعب شديد، فهذا جعفر بن أبي طالب -رضي الله عنه- يوم مؤتة، قُطعت يمينه فأخذ راية التوحيد بشماله فقطعت، فاحتضنها بذراعيه حتى قُتل، فلله دره، فماذا كان جزاؤه يا أهل البلاء ويا أهل العافية على حد سواء؟ الجزاء أن الله -تبارك وتعالى- أبدله بيديه أجنحة يطير بها في الجنة، وروى الإمام البخاري في صحيحه أن ابن عمر -رضي الله عنهما- كان إذا سلم على ابن جعفر، قال: "السلام عليك يا ابن ذي الجناحين".
فيا أخي السليم المعافى ماذا ستصنع بهذا الجسد إذا وافتك المنية، وقد أبليت صحتك بالذنوب واللهو، حتى أسقمت ذلك الجسد بسخط الله وغضبه، فهلا قمت لله قومة موحد صادق، فلعل تلك الأعضاء تشهد لك عند الله -تعالى- كما ستشهد لإخواننا المجاهدين الذين قُطِّعت أعضاؤهم في سبيل مرضاة ربهم، نحسبهم والله حسيبهم، فأعضاؤك إما أن تشهد لك أو عليك، قال الله تعالى: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النور: 24]، قال الإمام الطبري في تفسيره: "وذلك حين يجحد أحدهم ما اكتسب في الدنيا من الذنوب، عند تقرير الله إياه بها، فيختم الله على أفواههم، وتشهد عليهم أيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون، فإن قال قائل: وكيف تشهد عليهم ألسنتهم حين يختم على أفواههم؟ قيل: عني بذلك أن ألسنة بعضهم تشهد على بعض، لا أنَّ ألسنتهم تنطق وقد ختم على الأفواه".
• الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح
فيا صاحب الصحة والسلامة، أما آن لك أن تشهد لك أعضاؤك بالخير بعد أن أوردتها ما يغضب الله تعالى؟ وهلا التحقت وسابقت إخوانك سواء من عافاهم الله ومن ابتلاهم؟ ألا ترى أن السباق جار وأن الغاية سهلة المنال؟ فاغتنم صحتك قبل سقمك، وأقدم فنعم المغنم ونعم التسابق والتنافس، قال الله تعالى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ * تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ * يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ * خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين: 22 - 25]، وقال عليه الصلاة والسلام: (كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها) [رواه مسلم].
وهنا نذكِّر إخواننا الجرحى والمصابين الذين ابتلاهم الله على طريق الجهاد فنقول لهم، إن جرحى الصحابة يوم أحد كانت الجراح فيهم فاشية، وعندما أتاهم منادي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى حمراء الأسد نهضوا وتركوا الدواء، لأنهم أحق الناس بهذا الأجر العظيم، قال ابن هشام في سيرته: "قال ابن إسحاق: قال تعالى: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ}: أي الجراح، وهم المؤمنون الذين ساروا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الغد من يوم أُحد إلى حمراء الأسد على ما بهم من ألم الجراح: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 172]".
فيا أيها المجاهدون الجرحى ومن ابتلاهم الله -تعالى- في أجسادهم: أنتم أحق من غيركم بالتقوى والأجر العظيم، فأنتم أهل السبق وأهل العز في زمن الخنوع، فسارعوا قبل غيركم ولا تركنوا إلى الأعذار فإنها لا تأتي بخير في زمن المدافعة عن حياض الدين والحرمات، فأكملوا طريقكم إلى ربكم، واغتنموا الأجر، وسابقوا أولي العافية والسلامة إلى الجنة، فوالله إن هذا لهو الفوز العظيم، لمثل هذا فليعمل العاملون، وعلى فوات العمر فليبك العاجزون المقصرون، والحمد لله رب العالمين.
• المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 95
الخميس 2 ذو الحجة 1438 هـ ...المزيد
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فقد جاء عن ابن عباس -رضي الله عنه- أنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لرجل وهو يعظه: (اغتنم خمسا قبل خمس، شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك) [رواه البيهقي وهو صحيح على شرط الشيخين].
وقد تكلمنا عن مفردات هذا الحديث، ولم يبق لنا إلا الحديث عن الصحة قبل السقم، وعند معاينة هذا الجزء من الحديث، تجول في النفس كثير من المعاني التي حققها المغتنمون من أهل الصحة فيما يكثرونه من الطاعات، وعلى رأسها الجهاد في سبيل الله، ثم قد يقف الواقف في معنى الاغتنام حيرانا أمام من قُطِّعت بعض أجسادهم، فلم يعجزوا ويقعدوا، بل أكملوا الطريق إلى نهايته، فلله درهم وعلى الله أجرهم.
ثم قد ترى بعض أهل الصحة من ينطبق عليهم وصف العجز بكل معانيه، فإنهم مع تمام صحتهم عجزوا عن تنفيذ مراد الله -تعالى- منهم، فأين عذرهم وقد جاهد أهل البلاء بما تبقى من أجسادهم، حتى عجز القلم أن يكتب عن جميل فعالهم وكريم خصالهم؟ أولئك الذي قُطِّعت أرجلهم فجاهدوا بأيديهم فلم يكن ذلك عائقا أمامهم لإكمال مسيرهم إلى الله -تعالى- بصدق وقوة عزيمة، قد تعالت نفوسهم على حطام الدنيا وبهرجها، فجادوا بما بقي من أجسادهم لله رب العالمين.
• العاجز من أتبع النفس هواها
فالعاجز في هذه الأيام ليس ذلك الذي فقد شيئا من جسده، بل العاجز من اتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأمانيّ، وقعد عن نصرة دين الله -تبارك وتعالى- في زمن الجهاد والذود عن الدين والحرمات، في زمان تكالب الأمم على أمة الإسلام في دولة الإسلام، فشمَّر لها أهل العزائم من أولئك الذين أبقى الله في أجسادهم ما يستطيعون به حمل السلاح أو قيادة سيارة مفخخة نحو أهدافهم، إن العاجز ليس ذاك الولي الصادق الذي أكمل طريقه إلى ربه، إنما العاجز هو الذي وهبه الله صحة وجسدا سليما فلم يغتنم هذه النعمة في ما يرضي الله تبارك وتعالى، ولم يستعملها في نصرة دينه وعباده المستضعفين، وهذا هو الذي نعجب منه في هذا الزمن، وكما قال الشاعر:
عجِبتُ لمن له قَدٌّ وحَدٌّ
وينبو نبوة القضم الكهامِ
ومنْ يجد الطريق إلى المعالي
فلا يذرُ المطيَّ بلا سنامِ
ولم أرَ في عيوب الناس شيئاً
كنقص القادرين على التمامِ
فلا عجب أن ترى مواكب المغتنمين ممن ابتلاهم الله بالإصابات والابتلاءات ناصبين صدورهم لعدوهم، تروسا لحماية جناب التوحيد، فلم يجد اليأس إلى قلوبهم طريقا، وهم لا يجدون عن المعالي محيصا، حتى يركبوا إلى المجد مراكبه، للسير إلى سعادتهم وطيب مقامهم، فمن العاجز أيها الصحيح الذي لم تسقم؟ ومن المغتنم أيها السليم المنعّم؟ هل فقهت معنى حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- حول اغتنامك صحتك قبل سقمك؟
• السقم الحقيقي هو سقم القلب
إن السقم الحقيقي هو سقم القلب وعجزه وضعف إرادته عن نيل المطالب العالية، التي لا تصلها إلا النفوس المرضية عند ربها، التي لا ترضى بعيش الدون، فإما الحكم لله، وإما نار لا تنطفئ أوراها حتى تحرق جموع الكفار والمرتدين، وهنا يسقط القلم فما عاد يجد الكلمات التي يصف بها فعال أولئك الموحدين المبتلين بقطع وبتر، من الذين ركبوا مراكب المنايا، فأحلُّوا بساحة أعدائهم المهالك والرزايا، ولكن لا يزال في الجعبة من كلمات الأسف على أولئك الذين سلموا من كل بلاء، وقد أنعم الله عليهم بنعمة الصحة وسلامة الأعضاء، فوا أسفاه عليهم حين لم يجد إخواننا المبتلون لأنفسهم عذرا فمضوا في طريق الجهاد، وهؤلاء قد وجدوا لأنفسهم أعذارا فنكلوا عن العز والسؤدد، فماذا أعددت لنفسك أيها السليم المسكين بين يدي الجبار؟ وأي غنيمة فاتتك أيها المعافى لتعتق رقبتك من النار؟
نعم، إنها الإرادة التي لا تعرف الانكسار، وتسعى بالصبر والمصابرة لنصرة دين الله تبارك وتعالى، تلك التي خالطت قلوب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يجدوا لمعنى الاغتنام إلا طلب الكفار ومقارعتهم، فهل سمعت بالأعمى الذي خرج ليحمل اللواء فقُتل في سبيل الله تعالى؟ إنه الصحابي الجليل ابن أم مكتوم، لم يتعذر بأنه أعمى بل ساقه قلبه البصير إلى خير كرامة، شهادة في سبيل الخالق جل وعلا، وهل سمعت بالأعرج الذي أراد أن يطأ بعرجته الجنة؟ إنه الصحابي عمرو بن الجموح، الذي كانت أمنيته أن يطأ بعرجته الجنة، فقُتل في سبيل الله -تعالى- ولم يعتذر لنفسه.
• جعفر ذو الجناحين قدوة كل مسلم
فيا أيها الجريح ويا أيها المبتلى اقتدِ بأولئك، ألا ترى مواكب المقتدين من إخوانك قد اقتدوا بهم بأبهى حلةٍ للاقتداء وقد شاهدتهم بأم عينيك؟ فسارع إلى جنة ربك، فنعم الغنيمة هذه، حيث يبدلك الله بجسد خير من جسدك وزوجة خير من زوجتك وصحبة خير من صحبتك، حيث لا تتمنى إلا أن تعود إلى الدنيا لتُقتل مرة أخرى، ولا يضرك بأي جسد تقتل، فقط لترى من كرامة القتل في سبيل الله.
نعم، إنها تلك الإرادة الجامحة التي تثور في قلب الموحد ليعلي صرح التوحيد، فينال رضا ربه الإله الواحد الأحد، إنها تلك النار التي توقدت في قلب الجيل الأول فضحَّوا تضحية منقطعة النظير حين كان القتال بالسيف والرمح، وهو قتال صعب شديد، فهذا جعفر بن أبي طالب -رضي الله عنه- يوم مؤتة، قُطعت يمينه فأخذ راية التوحيد بشماله فقطعت، فاحتضنها بذراعيه حتى قُتل، فلله دره، فماذا كان جزاؤه يا أهل البلاء ويا أهل العافية على حد سواء؟ الجزاء أن الله -تبارك وتعالى- أبدله بيديه أجنحة يطير بها في الجنة، وروى الإمام البخاري في صحيحه أن ابن عمر -رضي الله عنهما- كان إذا سلم على ابن جعفر، قال: "السلام عليك يا ابن ذي الجناحين".
فيا أخي السليم المعافى ماذا ستصنع بهذا الجسد إذا وافتك المنية، وقد أبليت صحتك بالذنوب واللهو، حتى أسقمت ذلك الجسد بسخط الله وغضبه، فهلا قمت لله قومة موحد صادق، فلعل تلك الأعضاء تشهد لك عند الله -تعالى- كما ستشهد لإخواننا المجاهدين الذين قُطِّعت أعضاؤهم في سبيل مرضاة ربهم، نحسبهم والله حسيبهم، فأعضاؤك إما أن تشهد لك أو عليك، قال الله تعالى: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النور: 24]، قال الإمام الطبري في تفسيره: "وذلك حين يجحد أحدهم ما اكتسب في الدنيا من الذنوب، عند تقرير الله إياه بها، فيختم الله على أفواههم، وتشهد عليهم أيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون، فإن قال قائل: وكيف تشهد عليهم ألسنتهم حين يختم على أفواههم؟ قيل: عني بذلك أن ألسنة بعضهم تشهد على بعض، لا أنَّ ألسنتهم تنطق وقد ختم على الأفواه".
• الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح
فيا صاحب الصحة والسلامة، أما آن لك أن تشهد لك أعضاؤك بالخير بعد أن أوردتها ما يغضب الله تعالى؟ وهلا التحقت وسابقت إخوانك سواء من عافاهم الله ومن ابتلاهم؟ ألا ترى أن السباق جار وأن الغاية سهلة المنال؟ فاغتنم صحتك قبل سقمك، وأقدم فنعم المغنم ونعم التسابق والتنافس، قال الله تعالى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ * تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ * يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ * خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين: 22 - 25]، وقال عليه الصلاة والسلام: (كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها) [رواه مسلم].
وهنا نذكِّر إخواننا الجرحى والمصابين الذين ابتلاهم الله على طريق الجهاد فنقول لهم، إن جرحى الصحابة يوم أحد كانت الجراح فيهم فاشية، وعندما أتاهم منادي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى حمراء الأسد نهضوا وتركوا الدواء، لأنهم أحق الناس بهذا الأجر العظيم، قال ابن هشام في سيرته: "قال ابن إسحاق: قال تعالى: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ}: أي الجراح، وهم المؤمنون الذين ساروا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الغد من يوم أُحد إلى حمراء الأسد على ما بهم من ألم الجراح: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 172]".
فيا أيها المجاهدون الجرحى ومن ابتلاهم الله -تعالى- في أجسادهم: أنتم أحق من غيركم بالتقوى والأجر العظيم، فأنتم أهل السبق وأهل العز في زمن الخنوع، فسارعوا قبل غيركم ولا تركنوا إلى الأعذار فإنها لا تأتي بخير في زمن المدافعة عن حياض الدين والحرمات، فأكملوا طريقكم إلى ربكم، واغتنموا الأجر، وسابقوا أولي العافية والسلامة إلى الجنة، فوالله إن هذا لهو الفوز العظيم، لمثل هذا فليعمل العاملون، وعلى فوات العمر فليبك العاجزون المقصرون، والحمد لله رب العالمين.
• المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 95
الخميس 2 ذو الحجة 1438 هـ ...المزيد
الدولة الإسلامية - صحيفة النبأ العدد 95 الافتتاحية: مزيد من خسائر الحرب للدول ...
الدولة الإسلامية - صحيفة النبأ العدد 95
الافتتاحية:
مزيد من خسائر الحرب للدول الصليبية
علَّق أحد المسؤولين الصليبيِّين على قضية استهدافهم لجنود الدولة الإسلامية بقوله: لقد دخلوا حربا وعليهم أن يتوقعوا أن يكون موتهم أحد نتائجها.
إن ما أجراه الله -تعالى- على لسان هذا الكافر حقيقة لا تقبل النقاش، وخاصة عند جنود الدولة الإسلامية، بل الحقيقة أن المجاهدين عندما يمضون للقتال لا يكون الموت مجرد احتمال بالنسبة إليهم، وإنما أمنية يطلبونها ويسعون للحصول عليها، لأن الموت في هذه الحالة هو شهادة في سبيل الله، وبها ينال المؤمن أعلى الدرجات عند رب الأرض والسماوات.
ولكن يبدو أن الصليبيِّين ما زالوا غير مدركين لحقيقة تأثير ما نطق بها أحد مسؤوليهم، ولذلك نجدهم يُظهرون كمّاً كبيراً من الاستغراب والدهشة عند كل هجوم عليهم في أرضهم من قبل جنود الدولة الإسلامية، وكأنهم يعيشون في عالم آخر، هو غير العالم الذي تخوض فيه جيوشهم حربا طاحنة ضد جيش الدولة الإسلامية، ويسعون فيها جهدهم لتدمير ديار الإسلام، وقتل أكبر عدد ممكن من أطفال المسلمين ونسائهم، وشيبهم وشبانهم.
إنها ليست المرة الأولى التي تنساق فيها الدول الصليبية خلف حاملة لواء الصليب في هذا العصر، أمريكا، كما أنها ليست المرة الأولى التي يدفعون فيها الثمن الباهظ لهذه التبعية لطواغيتها في حربهم على المسلمين.
والظاهر أن طواغيت الدول الأوروبية في كل مرة يُخرجون فيها جيوشهم لقتال المسلمين وقتلهم تحت لواء أمريكا، يحسُبون فقط حجم العوائد التي ستعود عليهم من المشاركة في هذه الحرب، وينسون حساب التكاليف الباهظة التي عليهم دفعها للحصول على العوائد التي يحلمون بها.
وقد جربت إسبانيا (نفسها) هذا الأمر من قبل، فانساقت وراء الأحمق المطاع بوش في غزوه للعراق، وهي تحلم بحقول النفط، وأموال الإعمار، فوجدت جيشها الذي أرسلته إلى هناك في مقدمة الأهداف التي استهدفها المجاهدون، وأعظموا فيها النكاية ، حتى أُجبرت الحكومة الإسبانية على سحب جيشها من العراق خاسئة ذليلة، تلعق جراحها، وتتلقى اللعنات من رعاياها، ولكن يبدو أن ذلك الدرس لم يكن كافيا ليتعظ الصليبيُّون.
فعندما زعمت الحكومات اللاحقة أنها استوعبت الدرس الأول، وعزمت ألا يشارك جيشها في الحرب المباشرة على الأرض، قررت أن تشارك في حرب الدولة الإسلامية من خلال تدريب الجيش الرافضي، وتقديم الدعم الكبير له، وذلك في إطار دفعها لحصتها من التكاليف في إطار مشاركتها في التحالف الصليبي الدولي الذي أنشأته أمريكا لقتال الدولة الإسلامية.
وكما أنها لم تتعظ من تجاربها السابقة، فإنها أيضا لم تتعظ من تجارب غيرها من الدول الصليبية الأوروبية المحاربة للمسلمين، والتي هي أشد منها بأسا وقوة، وأحكم أمنا، وأمنع حدودا، كبريطانيا، وفرنسا، وألمانيا، وأمريكا، التي نالها جميعا بأس جنود الدولة الإسلامية، الذين هبوا مجيبين لتحريض ولاة أمورهم على قتل الكافرين في عقر دورهم، فاستمرت في حربها على المسلمين، وهي تحسب نفسها في منأى عما أصاب أخواتها.
واليوم يكرر جنود الدولة الإسلامية في أرض العدوة القصوى ما فعله إخوانهم الأبطال في بقية الدول الصليبية، ويعظمون النكاية في دولة إسبانيا الصليبية، ويصيبونها في أعظم مقاتلها وهو قطاع السياحة الذي يقوم عليه الجزء الأكبر من اقتصادها، ويقتلون ويصيبون أكثر من 100 من اليهود والصليبيِّين، ليقدموا للصليبيِّين درسا جديدا في السياسة، يُنبههم إلى ضرورة الاستعداد لدفع التكاليف البشرية والاقتصادية الباهظة في حربهم على الدولة الإسلامية، قبل أن يحسبوا العوائد المتوقعة من هذه الحرب.
وقد أثبتت متابعة الأحداث، أن الدول الأوروبية الصليبية ما زالت تدفع التكاليف الكبيرة حتى بعد شهور من العمليات المباركة لجنود الخلافة في أراضيها، من استنفار للجيوش، وتعزيز للإجراءات الأمنية، وانخفاض في عائدات السياحة والتجارة، وحالة الرعب التي ليس أكبر مظاهرها الدوريات المنتشرة في الساحات، والحواجز الإسمنتية المنصوبة في الطرقات.
إن الهجمات على إسبانيا وأخواتها من الدول الكافرة ستستمر -بإذن الله- ما دامت هذه الدول في حالة حرب ضد الدولة الإسلامية، ولن يتمكنوا من إيقاف هذه الهجمات -بإذن الله- مهما نظّموا من إجراءات، وزادوا من احتياطات، وهم يعلمون ذلك جيدا، وإن تصعيد هذه العمليات بدرجة أكبر هو المأمول من جنود الدولة الإسلامية خلال الفترة القادمة، فلتستعد الحكومات الصليبية لمزيد من خسائر الحرب، ولمزيد من النزيف في الأموال والأنفس، وإن غدا لناظره قريب، والحمد لله رب العالمين.
• المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 95
الخميس 2 ذو الحجة 1438 هـ ...المزيد
الافتتاحية:
مزيد من خسائر الحرب للدول الصليبية
علَّق أحد المسؤولين الصليبيِّين على قضية استهدافهم لجنود الدولة الإسلامية بقوله: لقد دخلوا حربا وعليهم أن يتوقعوا أن يكون موتهم أحد نتائجها.
إن ما أجراه الله -تعالى- على لسان هذا الكافر حقيقة لا تقبل النقاش، وخاصة عند جنود الدولة الإسلامية، بل الحقيقة أن المجاهدين عندما يمضون للقتال لا يكون الموت مجرد احتمال بالنسبة إليهم، وإنما أمنية يطلبونها ويسعون للحصول عليها، لأن الموت في هذه الحالة هو شهادة في سبيل الله، وبها ينال المؤمن أعلى الدرجات عند رب الأرض والسماوات.
ولكن يبدو أن الصليبيِّين ما زالوا غير مدركين لحقيقة تأثير ما نطق بها أحد مسؤوليهم، ولذلك نجدهم يُظهرون كمّاً كبيراً من الاستغراب والدهشة عند كل هجوم عليهم في أرضهم من قبل جنود الدولة الإسلامية، وكأنهم يعيشون في عالم آخر، هو غير العالم الذي تخوض فيه جيوشهم حربا طاحنة ضد جيش الدولة الإسلامية، ويسعون فيها جهدهم لتدمير ديار الإسلام، وقتل أكبر عدد ممكن من أطفال المسلمين ونسائهم، وشيبهم وشبانهم.
إنها ليست المرة الأولى التي تنساق فيها الدول الصليبية خلف حاملة لواء الصليب في هذا العصر، أمريكا، كما أنها ليست المرة الأولى التي يدفعون فيها الثمن الباهظ لهذه التبعية لطواغيتها في حربهم على المسلمين.
والظاهر أن طواغيت الدول الأوروبية في كل مرة يُخرجون فيها جيوشهم لقتال المسلمين وقتلهم تحت لواء أمريكا، يحسُبون فقط حجم العوائد التي ستعود عليهم من المشاركة في هذه الحرب، وينسون حساب التكاليف الباهظة التي عليهم دفعها للحصول على العوائد التي يحلمون بها.
وقد جربت إسبانيا (نفسها) هذا الأمر من قبل، فانساقت وراء الأحمق المطاع بوش في غزوه للعراق، وهي تحلم بحقول النفط، وأموال الإعمار، فوجدت جيشها الذي أرسلته إلى هناك في مقدمة الأهداف التي استهدفها المجاهدون، وأعظموا فيها النكاية ، حتى أُجبرت الحكومة الإسبانية على سحب جيشها من العراق خاسئة ذليلة، تلعق جراحها، وتتلقى اللعنات من رعاياها، ولكن يبدو أن ذلك الدرس لم يكن كافيا ليتعظ الصليبيُّون.
فعندما زعمت الحكومات اللاحقة أنها استوعبت الدرس الأول، وعزمت ألا يشارك جيشها في الحرب المباشرة على الأرض، قررت أن تشارك في حرب الدولة الإسلامية من خلال تدريب الجيش الرافضي، وتقديم الدعم الكبير له، وذلك في إطار دفعها لحصتها من التكاليف في إطار مشاركتها في التحالف الصليبي الدولي الذي أنشأته أمريكا لقتال الدولة الإسلامية.
وكما أنها لم تتعظ من تجاربها السابقة، فإنها أيضا لم تتعظ من تجارب غيرها من الدول الصليبية الأوروبية المحاربة للمسلمين، والتي هي أشد منها بأسا وقوة، وأحكم أمنا، وأمنع حدودا، كبريطانيا، وفرنسا، وألمانيا، وأمريكا، التي نالها جميعا بأس جنود الدولة الإسلامية، الذين هبوا مجيبين لتحريض ولاة أمورهم على قتل الكافرين في عقر دورهم، فاستمرت في حربها على المسلمين، وهي تحسب نفسها في منأى عما أصاب أخواتها.
واليوم يكرر جنود الدولة الإسلامية في أرض العدوة القصوى ما فعله إخوانهم الأبطال في بقية الدول الصليبية، ويعظمون النكاية في دولة إسبانيا الصليبية، ويصيبونها في أعظم مقاتلها وهو قطاع السياحة الذي يقوم عليه الجزء الأكبر من اقتصادها، ويقتلون ويصيبون أكثر من 100 من اليهود والصليبيِّين، ليقدموا للصليبيِّين درسا جديدا في السياسة، يُنبههم إلى ضرورة الاستعداد لدفع التكاليف البشرية والاقتصادية الباهظة في حربهم على الدولة الإسلامية، قبل أن يحسبوا العوائد المتوقعة من هذه الحرب.
وقد أثبتت متابعة الأحداث، أن الدول الأوروبية الصليبية ما زالت تدفع التكاليف الكبيرة حتى بعد شهور من العمليات المباركة لجنود الخلافة في أراضيها، من استنفار للجيوش، وتعزيز للإجراءات الأمنية، وانخفاض في عائدات السياحة والتجارة، وحالة الرعب التي ليس أكبر مظاهرها الدوريات المنتشرة في الساحات، والحواجز الإسمنتية المنصوبة في الطرقات.
إن الهجمات على إسبانيا وأخواتها من الدول الكافرة ستستمر -بإذن الله- ما دامت هذه الدول في حالة حرب ضد الدولة الإسلامية، ولن يتمكنوا من إيقاف هذه الهجمات -بإذن الله- مهما نظّموا من إجراءات، وزادوا من احتياطات، وهم يعلمون ذلك جيدا، وإن تصعيد هذه العمليات بدرجة أكبر هو المأمول من جنود الدولة الإسلامية خلال الفترة القادمة، فلتستعد الحكومات الصليبية لمزيد من خسائر الحرب، ولمزيد من النزيف في الأموال والأنفس، وإن غدا لناظره قريب، والحمد لله رب العالمين.
• المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 95
الخميس 2 ذو الحجة 1438 هـ ...المزيد
معلومات
المواد المحفوظة 171
- فَوَائِدُ الذِكر 2 قال أبو الدرداء رضي الله عنه: "لكل شيء جلاء، وإن جلاء القلوب ذكر الله" ...
- مِن أقوال علماء الملّة قال الإمام ابن الجوزي -رحمه الله تعالى-: "فالسعيد من لازم أصلًا واحدًا ...
- الدولة الإسلامية - صحيفة النبأ العدد 506 الافتتاحية: • رعاة خنازير الإفرنج! بينما تتدفق ...
- وقفات عند أحاديث الفتن والملاحم (5) تكلمنا في الحلقة السابقة عن اهتمام الأنبياء وأتباعهم ...
- انتصار المجاهد على المعوقات الحمد لله الذي شرع لعباده أن يجاهدوا أعداءه، ووعدهم الثواب الجزيل ...
المواد المفضلة 5
- بين الجهاد والقعود ولمّا كان الجهاد في سبيل الله ذروة سنام الإسلام؛ لم يقم به إلا الخُلَّصُ ...
- الدولة الإسلامية - صحيفة النبأ العدد 106 الافتتاحية: أي عبّاس نادِ أصحاب السَّمُرة منذ أن ...
- علاج مرض القلب من استيلاء النفس عليه قال ابن قيم الجوزية في كتاب (إغاثة اللهفان من مصايد ...
- سنضحي رغما عنك يا أهل المغرب الإسلامي؛ إن الأضحية سنة الخليل والمصطفى عليهما الصلاة والسلام، ...
- هديه صلى الله عليه وسلم في العيدين "كان صلى الله عليه وسلم يصلي العيدين في المصلى، وكان يلبس ...