الحوار المشهود والعذاب الموعود (2) لقد كشف الله -تبارك وتعالى- بعض مشاهد الغيب التي ستقع لا ...

الحوار المشهود والعذاب الموعود (2)

لقد كشف الله -تبارك وتعالى- بعض مشاهد الغيب التي ستقع لا محالة بين الكفار وهم يُعذَّبون في نار جهنم، والتي تتضمن الاتهامات المتبادلة بين الطواغيت والرؤساء المتبوعين، وبين أتباعهم وجندهم وأنصارهم الذين بنَوا سلطان الكفر لهم، وقد تكررت هذه الحوارات في كثير من آيات القرآن العظيم، فذكر الله -تعالى- أن أهل النار يتخاصمون ويتحاجون ويتَّهم بعضهم بعضا، ويتبرأ المتبوعون من التابعين لهم، كما في قوله تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ} [البقرة: 166]
قال الإمام الطبري رحمه الله: "والصواب من القول عندي في ذلك أنّ الله -تعالى ذكره- أخبرَ أنّ المتَّبَعين على الشرك بالله يتبرؤون من أتباعهم حين يعاينون عذاب الله. ولم يخصص بذلك منهم بعضاً دون بعض، بل عَمّ جميعهم. فداخلٌ في ذلك كل متبوع على الكفر بالله والضلال أنه يتبرأ من أتباعه الذين كانوا يتَّبعونه على الضلال في الدنيا، إذا عاينوا عَذابَ الله في الآخرة" [جامع البيان في تأويل القرآن].

وهذه المودة التي بينهم في الدنيا والتعاضد في نشر الكفر والرذيلة وحرب الموحدين والصد عن سبيلهم، تتحول إلى حسرة وندامة وتبادل للتُّهم بين الرؤساء والقادة المتبوعين، وبين جندهم وأنصارهم، قال الله تعالى: {ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} [العنكبوت: 25].

وفي ثنايا تلك الحوارات والخصومات بين الكفار حين يُعاينون العذاب تبريرات فاسدة لما كانوا عليه من الكفر وتعاونهم عليه والدفاع عنه، فأول تلك الحوارات حين يقفون بين يدي خالقهم جل في علاه، قال الإمام ابن كثير -رحمه الله- في تفسيره: "قال الله -تعالى- متهددا لهم ومتوعدا، ومخبرا عن مواقفهم الذليلة بين يديه في حال تخاصمهم وتحاجهم: {يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا} منهم وهم الأتباع: {لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا} وهم قادتهم وسادتهم: {لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ} [سبأ: 31]، أي: لولا أنتم تصدونا، لكنا اتبعنا الرسل وآمنا بما جاءونا به، فقال لهم القادة والسادة، وهم الذين استكبروا: {أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ}، أي: نحن ما فعلنا بكم أكثر من أنَّا دعوناكم فاتبعتمونا من غير دليل ولا برهان، وخالفتم الأدلة والبراهين والحجج التي جاءت بها الأنبياء، لشهوتكم واختياركم لذلك؛ ولهذا قالوا: {بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ * وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} أي: بل كنتم تمكرون بنا ليلا ونهارا، وتَغُرُّونا وتُمَنُّونا، وتخبرونا أنا على هدى وأنا على شيء، فإذا جميع ذلك باطل وكَذبٌ ومَيْن، قال قتادة، وابن زيد: {بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} يقول: بل مكرهم بالليل والنهار، وكذا قال مالك، عن زيد بن أسلم: مكرهم بالليل والنهار، {إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا} أي نظراء وآلهة معه، وتقيموا لنا شُبَهاً وأشياء من المحال تضلونا بها، {وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ} [سبأ: 31 - 33]، أي: الجميع من السادة والأتباع، كُلٌّ نَدم على ما سَلَف منه" [تفسير القرآن العظيم].

ومن الحقائق التي يقر بها الكفار وكانوا يستكبرون عنها في الدنيا أو يسموها بغير اسمها هي اعترافهم بما كانوا عليه من اتخاذ الأرباب وتسويتهم برب الأرباب سبحانه وتعالى، فهؤلاء الأتباع العابدون للطواغيت المشرعون لأحكام جاهلية كفرية، أو العابدون للحكام الحاكمين بشرائع البشر تلك، أو العابدون لأي طاغوت في العالم بأي نوع من العبادة، كل هؤلاء سيعترفون أنهم في ضلال مبين بعد أن كانوا يرمون خصومهم الموحدين في الدنيا بالضلال والظلم والظلامية، ويختصمون مع طواغيتهم ويقرون بتسوية طواغيتهم وشريعتهم وأمرهم مع رب العالمين وشريعته وأمره، كما قال الله -تعالى- عن مقولتهم تلك بعد معاينة العذاب: {قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ * تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 96 - 98]، قال الإمام ابن كثير: "نجعل أمركم مطاعا كما يطاع أمر رب العالمين، وعبدناكم مع رب العالمين" [تفسير القرآن العظيم].

وفي مشهد آخر يفزع الأتباع إلى سادتهم ليجدوا لهم منجى من عذاب الله، هؤلاء الأتباع الذين كانوا يأتمرون بأمر هؤلاء الطواغيت في حرب الله وأوليائه ودينه، والذين يلجؤون إليهم حين تحدق بهم أخطار المجاهدين، فيكونوا لهم ردءا وعونا فيعقدون التحالفات ويحتشدون جنبا إلى جنب، لحرب دين الله وعباد الله الموحدين، فيلجأ المرتد إلى طاغوته، ويلجأ الطاغوت المرتد إلى الطاغوت الصليبي، وهكذا يصور لنا القرآن مشهدا جديدا من الفزع، حين يهرع الأتباع إلى طواغيتهم ليخلصوهم

من عذاب الله ولات حين خلاص، قال الإمام الطبري في تفسير آيات هذا الحوار بين القادة والأتباع: "{فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا}، يقول: فقال التُّبَّاع منهم للمتبوعين، وهم الذين كانوا يستكبرون في الدنيا عن إخلاص العبادة لله واتباع الرسل الذين أرسلوا إليهم: {إنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا}، في الدنيا وإنما عنَوا بقولهم: {إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا}، أنهم كانوا أتباعهم في الدنيا يأتمرون لما يأمرونهم به من عبادة الأوثان والكفر بالله، وينتهون عما نهوهم عنه من اتِّباع رسل الله، {فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ}، يعنون: فهل أنتم دافعون عنَّا اليوم من عذاب الله من شيء، {قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ}، قالت القادةُ على الكفر بالله لتُبَّاعها: {لَوْ هَدَانَا اللَّهُ}، يعنون: لو بَيَّن الله لنا شيئاً ندفع به عَذَابَه عنا اليوم، {لَهَدَيْنَاكُمْ}، لبيَّنا ذلك لكم حتى تدفعوا العذابَ عن أنفسكم، ولكنا قد جزعنا مِن العذاب، فلم ينفعنا جزعُنا منه وصَبْرُنا عليه، {سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ} [إبراهيم: 21]، يعنون: ما لهم من مَراغٍ يرُوغون عنه" [تفسير الطبري].

وفي مشهد آخر أخبرنا به الله -تبارك وتعالى- أن هؤلاء القادة والأتباع سيتحاورون ويتحاجون بعد دخولهم النار، وذلك حين يضج الجمع الضال الغفير إلى قادتهم الطواغيت، ويحاجونهم أنهم كانوا لهم أوتادا وجندا يأتمرون بأمرهم ويقيمون سلطان باطلهم، قال الإمام ابن كثير في تفسير هذا الحوار: "يخبر -تعالى- عن تحاجِّ أهل النار في النار، وتخاصمهم، وفرعون وقومه من جملتهم {فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ} وهم: الأتباع {لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا} وهم: القادة والسادة والكبراء: {إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا} أي: أطعناكم فيما دعوتمونا إليه في الدنيا من الكفر والضلال، {فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ} أي: قسطا تتحملونه عنا، {قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا} أي: لا نتحمل عنكم شيئا، كفى بنا ما عندنا، وما حملنا من العذاب والنكال، {إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ} [غافر: 47 - 48] أي: يقسم بيننا العذاب بقدر ما يستحقه كلٌّ مِنَّا" [تفسير القرآن العظيم].

إن الله -تعالى- حكم بين هؤلاء بما يستحقونه، فكيف كان هذا الحكم ولماذا؟ كان هذا الحكم بعد أن طلب الأتباع بمضاعفة العذاب لقادتهم لأنهم أدخلوهم النار بسبب إضلالهم لهم وذاك في قوله تعالى: {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا * رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا} [الأحزاب: 67 - 68].

وفي مشهد عظيم من هذه المشاهد الرهيبة، تجتمع ملل الكفر كلها في نار جهنم، حينها يطلب آخر أمم الكفر مضاعفة العذاب لمن سبقهم في الكفر من تلك الملل، لأنهم زينوا لهم طريق الكفر والضلالة، كما تتواصى الأمم اليوم في إشاعة دين الكفر الديموقراطية، وتخلف أمة إثر أمة بهذا الدين الباطل في الكفر وإشاعة الشرك والرذائل والظلم والفساد الكبير، قال الله -تعالى- عن تلك الأمم من الجن والإنس: {قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 38].

قال الإمام الطبري في تفسير آيات هذا المشهد: "وهذا خبر من الله -جل ثناؤه- عن محاورة الأحزاب من أهل الملل الكافرة في النار يوم القيامة، يقول الله تعالى ذكره: فإذا اجتمع أهل الملل الكافرة في النار فادَّاركوا، قالت أخرى أهل كل ملة دخلت النار، الذين كانوا في الدنيا بعد أولى منهم تَقَدَّمتها وكانت لها سلفاً وإماماً في الضلالة والكفر، لأولاها الذين كانوا قبلهم في الدنيا: ربنا هؤلاء أضلونا عن سبيلك، ودعونا إلى عبادة غيرك، وزيَّنوا لنا طاعة الشيطان، فآتهم اليوم من عذابك الضعفَ على عذابنا".

هذا هو طلب الأتباع من الأفراد والأمم الذين ائتمروا بأوامر القادة المُتَّبَعين، طلبهم أن يضاعف العذاب لمن كان سبب إضلالهم، فجاء الحكم من الله -تعالى- بأن العذاب مضاعف لكل الكفار بقدر إضلالهم، قال الإمام ابن كثير في تفسيره: "قوله: {قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 38] أي: قد فعلنا ذلك وجازينا كلا بحسبه، كما قال تعالى: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ} [النحل: 88].


نسأل الله -تعالى- بمنِّه وكرمه أن يثبتنا على دينه ويجيرنا من العذاب والضلال، ومشاهد الخزي والنكال، والحمد لله على نعمة الإسلام.


• المصدر
صحيفة النبأ - العدد 122
الخميس 20 جمادى الآخرة 1439 ه‍ـ
...المزيد

تصدَّقَ على سارقٍ وزانيةٍ وغني عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ...

تصدَّقَ على سارقٍ وزانيةٍ وغني


عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: قال رجل لأتصدقنَّ بصدقة: فخرج بصدقته فوضعها في يد سارق، فأصبحوا يتحدثون: تصدَّقَ على سارق، فقال: اللهم لك الحمد، لأتصدقنَّ بصدقة: فخرج بصدقته فوضعها في يدي زانية، فأصبحوا يتحدثون تصدق الليلة على زانية، فقال: اللهم لك الحمد على زانية، لأتصدقنَّ بصدقة: فخرج بصدقته فوضعها في يدي غني فأصبحوا يتحدثون تصدق على غني، فقال: اللهم لك الحمد على سارق وعلى زانية وعلى غني، فأتي فقيل له أما صدقتك على سارق فلعله أن يستعف عن سرقته، وأما الزانية فلعلها أن تستعف عن زناها، وأما الغني فلعله يعتبر فينفق مما أعطاه الله" [متفق عليه].

وسبب تعجبهم هو أن الصدقة لم تقع في مكانها المعهود أي عند أهل الحاجات، ففي هذه القصة أن صدقة هذا الرجل قبلت وإن لم تقع في يد المحتاجين ما دامت نيته صالحة، وأن المرء يجتهد في الصدقة فإن وقعت في مثل هذه الأصناف فإن الأمر لا يخلو من الخير للمتصدق عليه كما هي الحكم المذكورة في الحديث، ومن الحكم في هذا الحديث عدم التضجر بل التسليم لقضاء الله واستحباب تكرار التصدق فإن موضع الصدقة كله خير أينما وقع، وإن قبول الأعمال عند الله -تعالى- مرتبط بالإخلاص له سبحانه، وفيه دفع لوساوس الشيطان في عدم التصدق بدعوى عدم معرفة حال السائل، فيُحرم من العطاء من هو مستحق.


• المصدر
صحيفة النبأ - العدد 122
الخميس 20 جمادى الآخرة 1439 ه‍ـ
...المزيد

تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ إن معصية الله تنقص الإيمان، ولكنها لا تزيل عن صاحبها ...

تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ

إن معصية الله تنقص الإيمان، ولكنها لا تزيل عن صاحبها الوصف به، ولا تمنع عنه الحقوق التي تجب لكل مؤمن، إلا أن تكون تلك المعصية شركا بالله أو كفرا به، فإنها تنقض الإيمان، وتمنع من اتصاف صاحبها بوصفه، كما تمنع عنه حقوق أهل الإيمان، وتوجب معاملته معاملة المشركين المعاندين.

وهذا الأمر من أهم أصول أهل السنة والجماعة، التي تفرق بينهم وبين أهل البدع من الخوارج وسواهم من أهل الأهواء، الذين يكفِّرون بمطلق المعصية، ويخرجون الناس من صف المؤمنين، ويعاملونهم معاملة المشركين بمجرد وقوع أحدهم في كبيرة.

ولا يخفى على مسلم أن القعود عن الجهاد والفرار من الزحف هما من الكبائر التي تُغضب الرب جل وعلا، ويترتب عليها الذنب الكبير لمن فعلها، ولكن رغم عظم هذا الذنب فإنه مشمول أيضا بمغفرة الله -عز وجل- لفاعله إن شاء، وتوبته عليه إن تاب منه، وتكفيره بفعل غيره من الحسنات.

وقد وقع في هذه المعصية نفر من خيار الناس، وهم صحابة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، كما حدث في غزوة أحد، حيث زلَّت كثير من الأقدام، وعاتبهم الله -سبحانه- على فعلهم بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [آل عمران: 155]، فالذين وقعوا في هذه الكبيرة من الصحابة قد مكَّنوا الشيطان من أنفسهم بما اكتسبوا من الذنوب فاستزلهم عن الثبات مع رسول الله، وانهزموا أمام المشركين، ولكن الله -عز وجل- حلم عليهم، فلم يسارع لهم بالعقوبة جزاءا على فرارهم، بل أخرهم ثم عفا عنهم وغفر لهم، وهكذا يعامل الله -جل جلاله- أولياءه المؤمنين، فهو الغفور الحليم.

وعلى هذه السنة ينبغي أن تكون معاملة المسلم لأخيه المسلم، ولو استزله الشيطان فوقع في كبيرة من الكبائر، كالتولي يوم الزحف، فإن هذه المعصية لا تزيل عنه صفة الإيمان الظاهر، الذي على أساسه تقوم المعاملة بين المؤمنين.

وإن كان بعض المسلمين قد استزلهم الشيطان هذه الأيام، فتركوا جهادهم، أو نقضوا هجرتهم، أو نكثوا عهودهم وبيعاتهم، فإن كل ذلك من كبائر الذنوب ولا شك، وإننا نبرأ إلى الله منها، ولكننا رغم ذلك نحفظ لمن فعلها حق ولايتنا لهم ما داموا متصفين بصفة الإيمان، ولم ينقضوا أصل دينهم، بطعنهم فيما كانوا به من أحكام الشريعة مقرين، أو إعانتهم لأعدائنا من المشركين، أو إظهار الكفر من بعد النفاق الدفين.

وعلى كل مسلم أن ينظر إليهم نظرته إلى أي من العصاة، وأن يجهد نفسه في تذكيرهم بالله عز وجل، ودعوتهم إلى التوبة والإنابة إلى الله سبحانه، فإن أكثرهم -بفضل الله- قد حيت قلوبهم طويلا بذكر الله، فإن ران عليها شيء، بسبب حب الدنيا وكراهية الموت، فإنه لن يكون صعبا جلاء تلك القلوب، وإحياؤها من جديد بذكر الله تعالى، والخوف منه سبحانه، لتعود نابضة بحب هذا الدين وأهله، والشوق إلى الجهاد في سبيل الله، وطلب الشهادة والمنازل العلى من الجنة، ولن يتعب المرء في إزالة الغشاوة التي ألقاها الشيطان على أبصارهم، فأعمتهم عن رؤية الخير الذي كانوا فيه، والفتنة التي يساقون إليها، فإذا أصابوا ذنبا تذكروا وأبصروا الهدى، وتمسكوا به.

قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف: 201].



• المصدر
صحيفة النبأ - العدد 122
الخميس 20 جمادى الآخرة 1439 ه‍ـ
...المزيد

أخي المجاهد: سادات الناس في الدنيا الأسخياء أخي المجاهد، للسخاء معانٍ عظيمة حثَّ عليها الإسلام ...

أخي المجاهد: سادات الناس في الدنيا الأسخياء

أخي المجاهد، للسخاء معانٍ عظيمة حثَّ عليها الإسلام ورغَّب بها، وأجزل العطاء لفاعلها، ووصف بالفلاح أصحابها، فقال تعالى: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9].

فالسخاء هو العطاء عن طيب نفس بدون أن تستكثر النفس ذلك العطاء أو تجد موجدة بعد إنفاقه، وإن أرفع درجات السخاء أن يجود المرء بنفسه في سبيل مولاه، فيقاتل أعداءه لتحكيم شرعه، ويتحمل في سبيل ذلك الأذى والجوع والنصب، ويقدم المال والأهل والولد، ومن جاد بنفسه هان عليه ما دون ذلك، ولذلك فإن الكرم والشجاعة صنوان.

قال الإمام ابن تيمية رحمه الله: "وبالشجاعة والكرم في سبيل الله فضَّل الله السابقين فقال: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [الحديد: 10]" [مجموع الفتاوى].

وعن جابر -رضي الله عنه- قال: (ما سُئل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن شيء قط فقال: لا) [متفق عليه].

ولنا في سيرة صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عند تجهيز جيش العسرة خير مثال، وقد قدَّم أبو بكر الصديق كل ماله، وجاء عمر بن الخطاب بنصف ماله، وجهَّز عثمان بن عفان ثلث الجيش، وتصدَّق عبد الرحمن بن عوف بمئتي أوقية من الفضة، وقدَّم عاصم بن عدي سبعين وسقاً من تمر، وتصدَّقت النساء بالمعاضد والخلاخل، وتصدَّق العباس بتسعين ألفاً.

وتروي لنا السير أن عثمان بن عفان -رضي الله عنه- اشترى بئر رومية من اليهودي الذي كان يبيع الماء للمسلمين بسعر مرتفع، وجعلها للمسلمين دون مقابل، واشتهر عنه -رضي الله عنه- أنه كان عتَّاقاً للرقاب.

قال الإمام عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: "ومقام الإنفاق من أشرف مقامات الدين وتفاوت الناس فيه بحسب ما جبلوا عليه من الكرم وضدهما من البخل والشح فالأول: محمود في الكتاب والسنة والثاني: مذموم فيهما، وقد حث الله -تعالى- عباده على الإنفاق لعظم نفعه وتعديه وكثرة ثوابه" [فتح المجيد].

وقال بعضهم للسخاء صور كثيرة غير مقتصرة على بذل المال فحسب، بل هي أعم وأشمل، منها سعي الإنسان في قضاء حوائج الناس وتنفيس كرباتهم، ومنها السخاوة بالجاه، بحيث يبذل المرء استطاعته في الشفاعات الحسنة، وبذل القدرة في إحقاق الحق، ونصرة المظلوم، وإعانة الضعيف، وسخاوة الإنسان بوقته في سبيل نفع الناس، كالتعليم والتدريب وغيره، والنصح والإرشاد، ومن صوره كذلك البشاشة في وجوه الناس، والتجاوز عمن أساء.

أخي المجاهد، أنفق وأبشر بالثواب، وأبشر فلا خوف ولا حزن، قال الله تعالى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 262].

أخي المجاهد، أنفق فقد تكفل لمن يعطي بأن يخلف له ويرزقه، كما في قوله تعالى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ: 39].

فتأمل أخي هذه النصوص المباركة وتذكرها دائما واجعلها دافعا لك على السخاء في جميع حالاتك، تنل عطاءً لا حدود له من الله تعالى.


• المصدر
صحيفة النبأ - العدد 122
الخميس 20 جمادى الآخرة 1439 ه‍ـ
...المزيد

عن عبد الله بن عبّاس -رضي الله عنه-: أَنّ أبا سفيان بن حرب أخبره، أنّ هرقل قال له: سألتك كيف كان ...

عن عبد الله بن عبّاس -رضي الله عنه-:

أَنّ أبا سفيان بن حرب أخبره، أنّ هرقل قال له: سألتك كيف كان قتالكم إيّاه؟ فزعمت أنّ الحرب سجال ودول، فكذلك الرسّل تبتلى ثم تكون لهم العاقبة.

[رواه البخاري]

مِن أقوال علماء الملّة قال الإمام ابن الجوزي -رحمه الله تعالى-: "ما رأيتُ أكثر أذى للمؤمن من ...

مِن أقوال علماء الملّة

قال الإمام ابن الجوزي -رحمه الله تعالى-:

"ما رأيتُ أكثر أذى للمؤمن من مخالطة مَن لا يصلح، فإنَّ الطبع يسرق؛ فإنْ لم يتشبه بهم، ولم يسرق منهم، فتر عن عمله، فإنَّ رؤية الدنيا تحث على طلبها، وقد رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- سترًا على بابه، فهتكه وقال: (ما لي وللدنيا؟)، ولبس ثوبًا له طراز، فرماه وقال: (شغلتني أعلامه)، ولبس خاتمًا ثم رماه وقال: (نظرة إليكم، ونظرة إليه)، وكذلك رؤية أرباب الدنيا، ودورهم وأحوالهم، خصوصًا لمن له نفس تطلب الرفعة".

[صيد الخاطر]
...المزيد

سبيل النصر تتطلع أعناق المسلمين للنصر وتتوق نفوسهم إليه، لكن القليل من يبادر ويسعى جاهدا ليكون ...

سبيل النصر

تتطلع أعناق المسلمين للنصر وتتوق نفوسهم إليه، لكن القليل من يبادر ويسعى جاهدا ليكون سببا في تحقيقه، والكثيرون صاروا سببا في إعاقته وتأخيره، وأكثر منهم الذين يكتفون بالمشاهدة عن بعد ويتنقلون بين مقاعد المشجعين المصفقين أو مراصد المنتقدين المنتقصين هوى وعبثية، كأن الساحة لا تعنيهم والتكاليف لا تشملهم، من هنا تأخر النصر وحلت بالمسلمين الهزائم.

فتذكيرا لمن نسي، وتعليما لمن جهل، وإيقاظا لمن غفل، نسوق بعض عوامل النصر في ضوء الكتاب والسنة بفهم القرون المفضلة، توجيها للعامة ووصية للخاصة، إبراء للذمة ونصحا للأمة، واستنهاضا للهمم العاثرة والعزائم الخائرة التي ضلّت طريق النصر وطلبته في غير مظانه فلم تظفر بغير الهزيمة المضاعفة.

إن الله تعالى سطّر في كتابه وعدا لعباده لا يُخلفه سبحانه، فقال: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ... يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا}، وأكّد ذلك الوعد للباذلين أسبابه، وحسمه وبيّنه بقوله تعالى: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ}، قال إمام المفسرين: "يقولُ تعالى ذكرُه: وليُعِينَنَّ اللَّهُ مَن يُقاتِلُ في سبيله لتكونَ كلمتُه العُلْيَا على عدوِّه، فنَصْرُ اللَّهِ عبدَه؛ مَعونتُه إياه، ونَصْرُ العبدِ ربَّه؛ جهادُه في سبيله، لتكون كلمتُه العُلْيا". أهـ.

وعليه فلا نصر للأمة حتى تنصر ربّها سبحانه وتعلي كلمته على الوجه الذي ارتضاه سبحانه وشرَعه، لا على الوجوه المبتدعة التي أغرقت الأمة اليوم.

واعلموا أن كلمته -سبحانه- لا تكون هي العليا إلا بعلو شريعته على ما سواها من الشرائع الوضعية، وتحكيمها والرجوع إليها دون غيرها في سائر الأمور الدينية والدنيوية، ولا تكون كلمته هي العليا إلا بمحبته -تعالى- وتقديمها على سائر المحابّ، ومحبة أوليائه ونصرتهم وبغض أعدائه ومحاربتهم، وتكون كلمة الله هي العليا بتعظيم دينه وشعائره والقيام بها على أكمل الوجوه وأحسنها، كل هذه المعاني تنسلّ من مفهوم "نصرة العبد مولاه" بالجهاد في سبيله، إعلاءً لكلمته.

فهذا العامل الأول وهو القتال في سبيل الله صونا للتوحيد ومحقا للشرك، لقوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ}، قال البغوي: "أَيْ: شِرْكٌ، قَالَ الرَّبِيعُ: حَتَّى لَا يُفْتَنَ مُؤْمِنٌ عَنْ دِينِهِ، وَيَكُونَ الدِّينُ خَالِصًا لِلَّهِ لَا شِرْكَ فِيهِ". أهـ.

فالسبيل حتى يكون الدين كله لله، وحتى ينتهي الكافرون عن الكفر، هو الجهاد والقتال في سبيل الله تعالى، ولا سبيل غيره يحقق هذه الغاية مهما سلك الناس سبلا أخرى، بل إن من أخص صفات الطائفة المنصورة؛ القتال على الحق حتى يأتيهم أمر الله تعالى.

ويرتبط هذا العامل ارتباطا وثيقا بأمرين لا ينفكان؛ أحدهما: الجهاد بالمال في سبيل الله، ولئن عجز الكثيرون عن الجهاد بالنفس أو أحصروا عن الهجرة، فدونهم الجهاد بالمال فهو اليوم من أوسع أبواب الجهاد، والأمر الثاني هو الإعداد وهو متعلق بالأول، ولنا عبرة بصنيع عثمان رضي الله عنه، عندما جهّز جيش العسرة بألف دينار، وصبّها في حجر النبي -صلى الله عليه وسلم- فجعل يقلّبها بيده، ويقول: (ما ضر ابن عفان ما عمل بعد اليوم) يرددها مرارا. [أحمد والترمذي]

ومن عوامل النصر الهجرة في سبيل الله، وهي باقية ما قوتل الكفار، وما لم تطلع الشمس من مغربها، كما روى أبو داود عن عبد الله بن وقدان قال: وفدت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقلت: يا رسول الله، إني تركت مَن خلفي وهم يزعمون أن الهجرة قد انقطعت، قال -صلى الله عليه وسلم-: (لا تنقطع الهجرة ما قوتل الكفار)، ومعلوم أن الإسلام ما قام وعزّ إلا بعد الهجرة وانطلاق قوافل المهاجرين، في طليعتهم النبي -صلى الله عليه وسلم- وخيرة أصحابه من حوله.

ومن عوامل النصر الثبات على الدين والاستقامة عليه علما وعملا ولو تخلّف عنه الأكثرون واستثقلوه، أو تنكروا له، بل ولو حاربوه، وقد صحّ عن ابن مسعود موقوفا: "لا يكن أحدكم إمّعة، يقول: أنا مع الناس.. ألا ليوطن أحدكم نفسه على إنْ كفر الناس، ألا يكفر"، ورُوي قريبا من ذلك عن الإمام أحمد وغيره من أئمة السلف، وقد ذم سبحانه الأكثرية في غير موضع من كتابه كقوله: {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ}، فعُلم بذلك أن الثبات على الدين يخالف هوى الأكثرية خصوصا في زماننا هذا، وبمثل هذا الثبات ولزوم الجادة، يتحقق النصر ويتنزل.

ومن عوامل النصر اجتماع المسلمين والتفافهم حول إمام واحد وخلف راية واحدة ومنهاج واحد، ونبذ كل أسباب الفرقة والاختلاف من الحدود الوهمية والنعرات والعصبيات القومية والوطنية والحزبية، وإبدالها بالولاء والبراء وجعله حكما وقائدا.

وأما التوكل على الله فهو باب النصر ومفتاحه، فإذا اقترن بالصبر والتقوى وبذل الأسباب ومراعاة السنن؛ فحري أن يُمكّن صاحبه ويورثه -تعالى- أرضه يعمرها بالإسلام والتقوى، لقوله تعالى: {قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}.

وأخيرا؛ فليكن في الحسبان أن مقومات النصر كُلها مرتكزة على التضحية والبذل والصبر والمصابرة، ومن أراد نصرا بلا تضحية فهو مخذول يتمنى على الله الأماني ويخالف منطوق كتابه: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَىٰ مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّىٰ أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ}، وقال: {ذَٰلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ}، ولنا في النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه رضي الله عنهم أسوة حسنة، فقد ضحوا بالنفس والنفيس، وبذلوا الغالي والرخيص، ولم يترخَّصوا أو يستقيلوا يوما، حتى فتح الله على أيديهم البلاد وقلوب العباد ونصرهم نصرا مؤزرا، فهذا سبيل النصر في الأولين وهو ذاته في الآخرين، ولينصرن الله من ينصره.



• المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 509
السنة السابعة عشرة - الخميس 27 صفر 1447 هـ

المقال الافتتاحي:
سبيل النصر
...المزيد

توقُّوا هذه الخمس ◾ قال الفضيل بن عياض رحمه الله: "مَنْ وُقِيَ خَمْسًا فقد وُقِيَ شَرَّ ...

توقُّوا هذه الخمس

◾ قال الفضيل بن عياض رحمه الله:
"مَنْ وُقِيَ خَمْسًا فقد وُقِيَ شَرَّ الدنْيَا وَالآخِرَةِ: العُجْبُ والرِّيَاءُ والكِبْرُ والْإِزْرَاءُ والشَّهْوَةُ". [حلية الأولياء]

▪ 1 العُجْبُ:
قال -صلى الله عليه وسلم-: (بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي فِي حُلَّةٍ تُعْجِبُهُ نَفْسُهُ مُرَجِّلٌ جُمَّتَهُ إِذْ خَسَفَ اللهُ بِهِ فَهُوَ يَتَجَلَّلُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) [متفق عليه]. قال القرطبي: "إعجاب المرء بنفسه هو ملاحظته لها بعين الكمال مع نسيان نعمة الله" [فتح الباري].

▪ 2 الرِّيَاءُ:
قال -صلى الله عليه وسلم-: (من سمَّع سمّع الله به، ومن يرائي يرائي الله به) [متفق عليه]. قال النووي: "ومعنى: (من راءى) أي: من أظهر للناس العمل الصالح ليعظم عندهم، (راءى الله به) أي: أظهر سريرته على رؤوس الخلائق" [رياض الصالحين].

▪ 3 الكِبْر:
قال -صلى الله عليه وسلم- (لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ... الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ، وَغَمْطُ النَّاسِ) [رواه مسلم]. قال النووي: "ومعناه -أي غمط الناس-: احتقارهم.. أما بطر الحق: فهو دفعه وإنكاره ترفعا وتجبرا" [المنهاج].

▪ 4 الْإِزْرَاءُ:
ومعناه تحقير واستنقاص الغير والتقليل من شأنهم، وتصغير الشيء والتهاون به، قال -صلى الله عليه وسلم-: (بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ، كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ: دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ) [رواه مسلم].

▪ 5 الشَّهْوَةُ:
قال -صلى الله عليه وسلم-: (حُفَّتِ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ، وَحُفَّتِ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ) [متفق عليه]. قال ابن تيمية: "المتبعون لشهواتهم من الصور والطعام والشراب واللباس، يستولي على قلب أحدهم ما يشتهيه حتى يقهره ويملكه ويبقى أسيرا" [مجموع الفتاوى].



• المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 508
السنة السابعة عشرة - الخميس 20 صفر 1447 هـ
...المزيد

مِن أقوال علماء الملّة قال الإمام ابن الجوزي -رحمه الله تعالى-: "ينبغي لكل ذي لب وفطنة أن يحذر ...

مِن أقوال علماء الملّة

قال الإمام ابن الجوزي -رحمه الله تعالى-:
"ينبغي لكل ذي لب وفطنة أن يحذر عواقب المعاصي، فإنه ليس بين آدمي وبين الله تعالى قرابة ولا رحم، وإنما هو قائم بالقسط، حاكم بالعدل. وإن كان حلمه يسع الذنوب، إلا أنه إذا شاء، عفا، فعفَّى كل كثيف من الذنوب، وإذا شاء أخذ باليسير. فالحذر الحذر!".
[صيد الخاطر]
...المزيد

الدولة الإسلامية - صحيفة النبأ العدد 508 الافتتاحية: • عراق المراغمة عقدان أو يزيد لم توقف ...

الدولة الإسلامية - صحيفة النبأ العدد 508
الافتتاحية:

• عراق المراغمة

عقدان أو يزيد لم توقف فيهما الحكومات الرافضية المتعاقبة على العراق حملاتها بحثا عن الأمن المفقود، بينما يعيش مبدِّدو أمنها فصولا متتابعة من الجهاد والعطاء، لم يكلّوا ولم يملّوا رغم طول الطريق وشدة الخذلان وكثرة المناوئين وثقل المحنة التي ناءت بحملها الجبال، وحملها أولئك الأبطال الذين هضمت الأمة حقهم وتواصى الجميع بحربهم.

ونحسب أنهم كانوا قطب الرحى في إشعال جذوة الجهاد الأصيل الذي غيّر وجه المنطقة وغزا العالم، ودشّن عصرا جديدا من المراغمة والمفاصلة، بعد أن كاد الجهاد يضيع بين مشاريع الضرار الإخوانية والمتأخونة التي أرادوها بديلا لمشروع الدولة الإسلامية والخلافة على منهاج النبوة.

وخلافا لانتصاراتهم الكثيرة، انتصر أجناد العراق في موقعتين ضمن حروب المراغمة، كان لهما بالغ الأثر في حفظ مسيرة الجهاد من الزيغ والانحراف؛ الأولى كانت على "صحوات باتريوس" في العراق، والثانية على "صحوات توماس" في الشام، وبين هذه وتلك كادت صورة الجهاد النقي أن تختفي وتضمحل بين نموذجي "الضاري" و "الجولاني" لولا أنّ الله هيّأ له من يصونه ويحرسه، وهذا يحسب لأجناد العراق الذين تمالأ المنافقون قديما وحديثا على محاربة مشروعهم، فخيّب الله سعيهم وكشف سوأتهم وصاروا مضرب المثل في الخيانة والانتكاس، وتأمل عندما تذكر الخيانة والانتكاس، من يتبادر إلى ذهنك؟

ومع كل ما يحيط بهم، لم يحد أجناد العراق عن دربهم، صُبُر أباة يكابدون من المحن أشدّها ومن الظروف أمرّها، وثمرات جهادهم ما تزال تتصدر ميدان الصراع العالمي بين الإسلام والكفر، واذكروا إنْ شئتم يوما واحدا خلا من تقارير العدو، تحذّر وتنذر من أجناد العراق.

إنْ حضروا ارتعدت فرائص الأعداء وعاد الرافضة والصليبيون شركاء حلفاء، وإن غابوا لم تغب آثارهم ولم ينس الرافضة فعالهم فعكفوا يتذاكرونها في لطميات لا تنتهي، تحسب لهم أمريكا ألف حساب ووفقا لمقياس خطرهم تؤقّت جداول الانسحاب، ويشارك اليهود الملاعين في حربهم مكرا وتجسُّسا من وراء حجاب، لقد نُصروا بالرعب حقا ولا عجب بعد أنِ اقتفوا هدي نبيهم وساروا عليه، ووالوا وعادوا فيه، وعاشوا وقتلوا تحت لوائه، ولم يبالوا بكل من ناوأهم.

قوافل شهدائهم ماضية، ومحن أسراهم في السجون لا يضاهيها محنة ومعهم ذووهم الكرام البررة المغيبون عن ذاكرة الأمة، وجلَد جنودهم في القفار والوديان لا يطيقه الرجال، ولولا الموانع لسردنا ما تشيب له مفارق الرأس من الأهوال، ومع ذلك لم يتهاونوا في دينهم، ولم يبخلوا على أمتهم ولم يبادلوها الخذلان بالخذلان، يستعذبون الموت في سبيل الله تعالى، ويقدّمونه على التنازلات والمساومات، شعارهم التجلُّد خير من التبلُّد، والمنية خير من الدنيا، صمتوا ولم تصمت بنادقهم بعيدا عن عدسات الإعلام في ثبات ملحمي لم تُحط به الطبقات ولا سير الأعلام، وعذرا أجناد العراق فمؤرّخو زماننا لم يعتادوا سوى تأريخ النكبات والخيانات، لا المفاخر والمكرمات، أما الملائكة الكرام فقد فعلوا، فأبشروا وقروا عينا فوارس العراق، فما عند الله خير وأبقى.

شكّلوا نواة جيوش الفتح التي انطلقت قبل أكثر من عقدين وشيّدت صرح المشروع المقدس الذي اجتمع الروم والفرس والمنافقون على حربه منذ أول يوم أُسس فيه على التقوى، وما زال الكافرون والمنافقون يتواصون بحربه حتى هذه اللحظة، بينما واصلت جيوش الفتح طريقها منذ ذلك الحين لم تذل خيولها حتى وصلت سنابكها بلاد إفريقية وخراسان وما زالت مسيرتها ماضية بفضل الله تعالى.

تتسابق الجيوش والحكومات على مطاردة جنودهم قبل قياداتهم، وتُفتح قنوات التنسيق بين أجهزة المخابرات إنْ وردت إشارة ساخنة عن أحدهم، وتطير الوكالات والقنوات بنبأ مقتل عراقي في نزال، وأسر عراقي في إنزال، كأنّ أجناد العراق مادة الرعب ومنتهى الإرهاب الذي يحاول كل هؤلاء عبثا الخلاص منه وهيهات.

لأجل ما سبق، يتعرض مسلمو العراق لأبشع الجرائم الرافضية في السجون والمخيمات المنسية، وسط تغييب إعلامي ممنهج يمارسه إعلام الدجال، وهو نهج مقصود غير مستغرب، لكن ما يكرّسه ويفاقمه تجاهل عامة المسلمين لجرح إخوانهم في العراق كأنهم لا يرون فيه بأسا، مع أنّ ما فيه يفوق ما في كثير من الجراح مجتمعة، لكن الأحرار لم يعتادوا النواح والشكوى ولو بقوا في المحنة مئة عام! نتحدث بلسانهم لا نيابة عنهم، فمن ينوب عن هؤلاء ومن يطيق ما يطيقون؟

إننا نذكّر المسلمين بنصرة إخوانهم أهل العراق تحت مظلة الإسلام الذي يوجب عليهم ذلك، وتيقنوا أن من خذل أهل العراق لن ينصر أهل فلسطين، ومن باع بغداد الرشيد لن يشتري الأقصى.

ولأنه يُبتلى المؤمن على قدر دينه، فقد جاءت المحنة العراقية على قدر الجهد الذي بذله مجاهدو العراق في حفظ مسيرة الجهاد وتدويله وإخراجه من قمقم السواتر والحدود، وردفه بالرجال والمال، وقبل ذلك أطره على منهاج النبوة الذي انتصر على مناهج التمييع والترقيع التي اخترقت ساحات الجهاد وأنتجت مسوخا جهادية وخلائط منهجية لم تعرفها القرون المفضلة.

وإنّ لفوارس العراق حبا في قلوب المؤمنين، وغيظا ورعبا في قلوب الكافرين، وحسدا وحقدا في قلوب المنافقين، وما ذلك إلا لشدتهم على الكافرين وتقديمهم مصلحة العقيدة على كل المصالح الموهومة، ووقوفهم سدا في وجه المؤامرات التي تستهدف العقيدة والجهاد، حتى صار أجناد العراق مضرب المثل في الولاء والبراء، نحسبهم والله حسيبهم.

وننتهز الفرصة لنخاطب أجناد العراق خطاب الأخوة الإيمانية، ونرسل إليهم تذكيرا ووصية، فخذوها عنا واسمعوا وتدبروا بشارة ربكم لمن سبقكم: {فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِّنْ عِندِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ}، لن يضيّعكم الله يا فوارس العراق، ولن يتركم أعمالكم سبحانه، لن يضيّع إيمانكم وصبركم وتضحياتكم قديما وحديثا سرا وعلانية، وحسبكم أنكم كنتم أهل السبق إلى الجادة، وها أنتم اليوم أهل الصبر والمراغمة، فهنيئا لكم السابقة وهنيئا لكم اللاحقة، فالثبات الثبات والاحتساب الاحتساب، ونسأله تعالى لنا ولكم حسن العاقبة.


• المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 508
السنة السابعة عشرة - الخميس 20 صفر 1447 هـ
...المزيد

اسم الله (الغني) تكملة للكلام عن أسماء الله جل وعلا، نتدبر في هذا المقال اسم الله ...

اسم الله (الغني)


تكملة للكلام عن أسماء الله جل وعلا، نتدبر في هذا المقال اسم الله (الغني).

قال تعالى: {قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [يونس: 68] هذا الاسم من أسماء الله تعالى، يظهر جانباً من عظمة الله -تعالى- القائم بنفسه القيوم على عباده، فلله -سبحانه- الملك التام، وله خزائن السماوات والأرض، وهو على كل شيء قدير، وعباده لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض، وليس لله منهم شريك في ذرة من خلقه، ولا حاجة به إلى عون من مخلوقاته فقد استغنى الله -تعالى- عنها، هو الذي خلقها، وبقاؤها مفتقر إليه، هو الذي يدبر أمرها ويصلح شؤونها، لا يملك المخلوق لنفسه ضراً ولا نفعاً إلا ما شاء الله، كما أن إحسان الطائعين لا ينفع الله شيئاً ومعصية المسيئين لا تضر الله شيئاً، بل الطاعة تنفع صاحبها والمعصية تضر فاعلها، كما علمنا النبي -صلى الله عليه وسلم- أن نقول في دعائنا: (ولا ينفع ذا الجد منك الجد)، أي لا ينفع صاحب الغنى غناه وإنما ينفعه فضل الله ورحمته، وتنفعه طاعته إذا تقبلها الله عز وجل، والذي يوفق الطائعين هو ربهم ذو الفضل العظيم، والذي يضل الظالمين هو ربهم الحكيم العليم سبحانه، قال تعالى: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [الزمر: 7]، فالله -تعالى- غني عن عباده ولكنه -سبحانه- يجازيهم بأعمالهم، فيرضى عن المتقين ويثيبهم ويغضب على الكافرين ويعاقبهم.


• من كمال غناه سبحانه وتعالى:

أنه ما اتخذ صاحبة أي زوجة ولا ولداً، فهذان إنما يحتاجهما العباد الضعفاء الفقراء إلى الله المحتاجون إلى من يؤنسهم ويعينهم في قضاء حاجاتهم، قالت الجن: {وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدً} [الجن: 3]، جد ربنا أي غناه سبحانه.

وحاجة العباد إلى الله -تعالى- دائمة مستمرة، لا غنى بهم عن رحمة الله وعونه طرفة عين، يستجيب دعاءهم ويكشف ضرهم ويهدي بفضله ورحمته من يشاء منهم صراطه المستقيم في الدنيا، ويهديهم ربهم بإيمانهم تجري من تحتهم الأنهار في جنات النعيم.

ومن غناه -سبحانه- أنه لم يلد ولم يولد، وأنه هو الأحد الصمد الذي استغنى عن الطعام والشراب وسائر ما يحتاج إليه الخلق.

ويخبرنا الله -سبحانه- عن غناه وعن امتنانه علينا فيقول: {وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى} [النجم: 48]، أي هو -سبحانه- الذي يغني عباده ويملكهم أنواع المقتنيات.

وقال -تعالى- مذكراً لعباده بحقيقة افتقارهم إليه غاية الفقر، لا يستغنون عن فضله ورحمته ولطفه ومعونته وتدبيره لأمورهم طرفة عين ولا أقل من ذلك، وهو -سبحانه- الغني الغنى التام المطلق، ولا يشغله غناه عن حاجات خلقه وقيامه بشؤونهم، ولذلك هو -تعالى- الحميد أي المحمود على أسمائه الحسنى وصفاته العليا وأفعاله، التي منها اسمه الغني وصفة الغِنى وأنه المغني لعباده الذي يربيهم التربية العامة ويربي أولياءه الصالحين التربية الخاصة.


• سنة الاستبدال وعلاقتها باسم الله الغني:

وقد بين الله -تعالى- لخلقه كمال غناه، بأنه قادر على أن يذهبهم ويأتي بمن يخلفهم، كما جاء بهؤلاء المخاطبين من آبائهم، {وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ} [الأنعام: 133].

وهو -سبحانه- مع غناه رحيم، ومن رحمته أنه أنذر من لم يلبِّ دعوة الإنفاق في سبيله فسيستبدله بمن لا يكون مثله في التقصير في طاعة الله، {هَاأَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد: 38].
وأنذر -سبحانه- عباده المؤمنين حاثاً لهم على مواصلة طريق الجهاد لنصرة دين الله أنه غني عن جهاد المجاهدين، وأن من يجاهد فإنما يجاهد لنفسه كما قال سبحانه: {وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [العنكبوت: 6]، وأن من ارتد عن دينه أو قعد عن نصرته فإن الله -تعالى- سوف يستبدل به غيره، يكونون على ما يحب الله من الصفات، فيجعل لهم الغلبة على أعدائه، {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ

فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة: 54]، فالله -تعالى- غني وذو فضل عظيم يؤتيه من يشاء على مقتضى حكمته وعلمه بمن يستحق ذلك.


الذي أغناك -سبحانه- يأمرك بالإنفاق:

ومن حكمة الله -تعالى- أنه حين يأمر عباده بالإنفاق في سبيله يذكرهم بأن هذا الرزق من عنده {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [البقرة: 3]، فتطيب نفوسهم ويذهب الشح عنهم خاصة وأن ربهم الغني -سبحانه- يعدهم بالخلف الحسن: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ: 39] .

قال ابن جرير في قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} [البقرة: 267]، "واعلموا أيها الناس أن الله -عز وجل- غنيٌّ عن صدقاتكم وعن غيرها، وإنما أمركم بها وفرضها في أموالكم رحمة منه لكم ليغني بها عائلَكم ويُقَوِّيَ بها ضعيفكم، ويجزل لكم عليها في الآخرة مثوبتكم، لا من حاجة به فيها إليكم".

وقرن الله -عز وجل- اسمه الكريم باسمه الغني في قوله: {وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} [سبأ: 40] أي غني عن أعمال من يكفر به، وهو -سبحانه- كريم عمَّ خيرُه الكثيرُ المؤمنَ والكافرَ في الدنيا، ومن يشكر نعم الله يكرمه الله بزيادتها ومباركتها، وهو -سبحانه- واسع العطاء، وحتى نفهم سبب اقتران اسم الغني بالكريم، نتذكر أن كثيراً من الناس يقترن الغنى عندهم باللؤم، وقد تعالى الله عن ذلك فله -سبحانه- المثل الأعلى، أي الوصف الأعلى فهو الغني الكريم.


هو الغني سبحانه:

ويصف الله -عز وجل- عدله وغناه وكرمه في حديث قدسي عظيم، فعن أبي ذر -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما روى عن الله -تبارك وتعالى- أنه قال: (يا عبادي إني حرَّمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم مُحرماً، فلا تظالموا، يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته، فاستهدوني أهدكم، يا عبادي كلكم جائع، إلا من أطعمته، فاستطعموني أُطعمكم، يا عبادي كلكم عار، إلا من كسوته، فاستكسوني أكسكم، يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعاً، فاستغفروني أغفر لكم، يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي لو أن أوَّلكم وآخركم وإنسكم وجِنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم، ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، يا عبادي لو أن أوَّلكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم، ما نقص ذلك من ملكي شيئاً، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته، ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر، يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك، فلا يلومن إلا نفسه) [رواه مسلم]. وكان أبو إدريس الخولاني الراوي عن أبي ذر إذا حدث بهذا الحديث جثا على ركبتيه، وقال أحمد بن حنبل: ليس لأهل الشام حديث أشرف من هذا الحديث. وحتى يتضح لنا اقتران صفة العدل بصفة الغنى لله -عز وجل- نتذكر قول الله -تعالى- عن أكثر أصحاب الغنى: {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق: 7] تعالى الله ذو الجلال والإكرام عن كل نقص وعيب، سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم.

والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.



• المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 121
الخميس 13 جمادى الآخرة 1439 ه‍ـ
...المزيد

الدولة الإسلامية - قصة شهيد: أقدم على عمليتين استشهاديتين ولم يُكتب له تنفيذ أيٍّ منهما أبو ...

الدولة الإسلامية - قصة شهيد:

أقدم على عمليتين استشهاديتين ولم يُكتب له تنفيذ أيٍّ منهما

أبو الخير القرشي:
حافظٌ لكتاب الله.. رفيعُ الأخلاق.. شديدُ الحياء.. سخيٌّ


أقدم على عمليته الاستشهادية مرتين ولكن الله -تعالى- لم يكتب له تنفيذها، وكان رحيله عندما شارك في توثيق عملية انغماسية ضد أولياء الشيطان في منطقة "شبام" في اليمن، فلما اشتد الأمر على إخوانه، وضع آلة التصوير التي يستخدمها جانبا، وقذف بنفسه إلى مجموعة الانغماسيِّين، وبايعهم على الموت في سبيل الله، ونكل بالمرتدين، إلى أن قُتل، تقبله الله.

كان رفيع الأخلاق، سامي الروح، سخياً كريماً، كثير التصدق، كثير الصمت، شديد الحياء، شديد التواضع، هادئا، نصوحا، مُتقنا لكتاب الله، مكثرا لقراءته، حافظا له، جاهد بماله ونفسه إلى أن لقي ربه، نحسبه والله حسيبه.

سأله أحد إخوانه يوما عن أمنيته فأجاب: رؤية وجه ربي الكريم، ومرافقة نبيه، صلى الله عليه وسلم، والفوز بالفردوس الأعلى.

إنه أبو الخير القرشي، من مدينة الحديدة غربي اليمن، ولد في أبها، ونشأ وترعرع في الرياض بنجد، وقُتل ولم يتجاوز الحادية والعشرين من عمره.

• نشأته وشبابه:

نشأ في بيت صلاح وتقى، لكن ألهته الملهيات التي أضاعت كثيراً من الشباب، أحب الألعاب القتالية وتمرس بها، وكادت تودي به لولا أن صرفه الله عنها، ثم شُغل بمُلهٍ آخر وهو عالم كرة القدم حتى أنه احترفها، وعُرض عليه أن يلعب في أحد الأندية الخليجية، وصرفه الله مرة أخرى عنها، لم يكن بعيدا عن طريق الصلاح والصالحين، حيث كان ملتزما بحلقات القرآن الكريم، وبفضل الله -سبحانه- ثم بفضل أحد رفاقه الذين كانوا معه في الحلقة التزم فارسنا، وجَدَّ في حفظ كتاب الله، ثم بعد فترة من الالتزام والعكوف عليه حفظه بحمد الله، فأصبح مدرساً في إحدى الحلقات وإماما لأحد المساجد، وما زال رفيقه -الذي كان له الفضل بعد الله في هدايته- سببا في إرشاده إلى طريق الحق، طريق الجهاد والموحدين.

• قصة نفيره:

بعد أن أرشده صديقه إلى هذا الطريق وبعد مرور فترة من حياته، سافر رفيقه إلى ماليزيا ليتخصص في مجال الحاسوب، ورغم انشغاله في أمور الدراسة، إلا أنه ما فتئ ينسق ويبحث عن طريق يوصله لديار الإسلام، فمنَّ الله عليه أن وجد طريقاً لأرض الشام، ولكن الطواغيت المرتدين عرقلوا عليه طريق هجرته، وكان هذا الأمر في ظاهره شرَّاً، ولكنه في باطنه يحمل الخير الكثير، فكأنما أراد الله لهما وجهةً أخرى لتكون منطلق حياتهما الجهادية، فتم التنسيق والتخطيط للهجرة البديلة، حتى التقيا في ولاية صنعاء ثم اتجها نحو ولاية اللواء الأخضر (مدينة إب)، منطلق الموحدين آنذاك.

ثم بعد ذلك، انتقل فارسنا مع المجاهدين إلى ولاية شبوة، وأُمِّر على إحدى المضافات هناك، فلم يزده ذلك إلا تواضعا وتحملاً للمسؤولية، فكان يوزع المهام بين الإخوة ولا ينسى نفسه وهو أحرصهم على الخدمة، فكان لذلك الأثر الكبير على إخوانه، ومن المواقف التي حصلت أنه رسم جدولاً لعمل الإخوة في المطبخ، فاعترض الإخوة على هذا الجدول، كل منهم يريد أن يستأثر بالأجر في خدمة إخوانه، حتى رُفع ذلك إلى الأخ المسؤول ليفصل فيها.

ومما امتاز به الحرص على الجانب التوعوي للإخوة، فكان يُدرِّسهم في المضافةِ القرآنَ الكريم، ويعطيهم المواعظ الهامة وينصحهم ويبذل لهم مما منَّ الله به عليه في هذا الباب.

وأثناء وجوده في ولاية شبوة كُلِّف من قِبل الإخوة بالتدريب في أحد معسكرات الخلافة، حيث أنه كان يتمتع ببنية جسدية رياضية، فكان نِعم المدرب والمربي، تقبله الله.

• العمليتان الاستشهاديتان:

ثم عجِل إلى الله، كما نحسبه والله حسيبه، وطلب من الإخوة أن ينفذ عملية استشهادية ضد الحوثة المشركين، فوافق الإخوة على طلبه، وعندما أعدُّوا له السيارة، قدَّر الله لها أن تنفجر بسبب خلل فني قبل وقت العملية، فما يئس فارسنا وأراد الثانية، فجهَّز الإخوة له السيارة الثانية، ثم ركب فارسنا جواده وانطلق به مقبلا غير مدبر يبتغي القتل في سبيل الله مظانه، فقدر الله له تأخير أجله فلم يُوَفَّق بإيجاد هدفه، فانتظر يومين عسى الله أن ييسر له مبتغاه، حتى عاد فارسنا والحزن يعصر فؤاده، بعد أن ودع صحبه وأحبابه ليعيش معهم مرة أخرى.

• لكلِّ أجلٍ كتابٌ:

تعلم فارسنا من هذا الدرس الكبير أن الإنسان له أجل محتوم ويوم معلوم، وأن عمله في الدنيا زادٌ له يوم النعيم، فلم يكل أو ييأس، ولم يقعد لكونه استشهاديا وينتظر موعد عمليته، بل كان يحرض الاستشهاديين، وكان أكثرهم خدمة لإخوانه، ويُجدُّ ويجتهد حتى يتقبله الله، فبدأ العمل في مجال الإعلام.

انتقل فارسنا لولاية حضرموت، والتحق بالمجال الإعلامي فاختير إعلامياً ميدانياً، ولزم ذلك أن ينتدبه الاخوة ليأخذ دورة عسكرية لما يتطلب ذلك من لياقة ومرونة.

وكما يحكي إخوانه الذين رافقوه في الرحلة إلى المعسكر أنه كان مؤنساً لهم في الطريق، ينشد لهم بعض الأبيات المحرضة، ويسليهم ويذهب عنهم عناء الطريق، مضيفا أنه كان مشجعاً لإخوانه رافعا لهممهم، وكان نشيطاً في أول الصفوف، فكلفه الإخوة بإمارة إحدى السرايا.

• رحيله (تقبله الله):

كان -تقبله الله- قد أمضى ليله في تلاوة القرآن والدعاء والقيام، ثم صلى فجر صبيحة ذلك اليوم بإخوانه واستعانوا بالله ثم انطلقوا لغزوتهم.

قسمهم القائد العسكري إلى سريتين: سرية تغزو منطقة "سر" والأخرى منطقة "شبام"، وانطلق فارسنا مع سرية شبام "إعلامياً ميدانياً"، ويُذكِّر إخوانه بالله ويحرضهم ويحثهم على الإثخان في أعداء الله.

وأثناء تصويره للمعارك بين جند الرحمن وجند الشيطان، انطلق فارسنا مع الإخوة الانغماسيين ليصورهم، فانغمس الموحدون في أوكار المرتدين، وأثخنوا فيهم القتل والجراح، ثم انحازوا إلى موقع آخر قريب من المرتدين بعدما وصلت تعزيزاتهم، فاشتد الأمر على الإخوة، فأعطى فارسنا آلة التصوير التي كانت معه لأحد الإخوة وصاح بإخوانه يثبتهم ويشد من أزرهم، ثم قال: "لنتبايع على الموت"، فتبايعوا جميعا على الموت وانغمسوا، فخرج أحد المرتدين من مخبئه فانبرى له فارسنا فقتله، ثم انغمس فيهم وتقدم، لينال ما تمناه مقبلاً غير مدبر، تقبله الله.



• المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 121
الخميس 13 جمادى الآخرة 1439 ه‍ـ
...المزيد

معلومات

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً